ما زلت أذكر أنني كنت أنتبه أواخر سبعينيات القرن الميلادي العشرين، إلى براعة فاروق شوشة في محاورة ضيوف أمسيته الثقافية حتى ليكاد يستولي دونهم أحيانا على البيان، وإلى قول أمي -رحمها الله، وطيب ثراها!-: "الراجل دا ما بيسيبش حد يتكلم"! فأما برنامجه الإذاعي "لغتنا الجميلة" الذي صار اسمه على كل لسان وفي كل مكان، فقد كان باب مغارة "علي بابا" المسحور الذي ينفتح بصوته الضخم الرخيم الفخم؛ فتنثال انثيالا جواهر الأدب العربي المبين!

لم أكن أظن أنني سأتحول عن طريق العلوم الطبيعية إلى طريق العلوم الإنسانية بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة، التي تخرج فيها فاروق شوشة قبلي بثلاثين عاما تقريبا، لأحضر في الطلاب المحتشدين بمدرج علي مبارك، محاضرة توجيهية عارضة، حفزنا فيها محاضرها إلى محبة الكلية والاجتهاد فيها والصبر عليها، بتعليقنا بصورة فاروق شوشة أشهر خريجيها وأبهرهم -وكان هو عرفة عبد المقصود المعيد بقسم النحو والصرف والعروض، رحمه الله، وطيب ثراه!- لأجد قصيدته "يقول الدم العربي" ب"قراءة الشعر" كتاب أستاذنا الدكتور محمود الربيعي، الذي درسناه عليه في السنة الثالثة!

ثم رأيته مرارا في الأمسيات الشعرية، ولاسيما بمعرض القاهرة الدولي للكتاب مع رفيقي أمسيته الدائمين فاروق جويدة الصحفي المصري وسعاد الصباح الأميرة الكويتية. وما زلت أذكره في إحداها يقدم قصيدته "مهرجان العبير"، بقوله: دُعيت إلى مهرجان شعري كويتي؛ فاهتممت له، ثم لما حضرت وجدتني الرجل الوحيد في جمع من الحسان المشاركات؛ فقلت من وقتي هذه القصيدة!

ثم لقيته بمكتب الدكتور عبد الفتاح عثمان وكيل كلية دار العلوم مدعوا إلى أمسية شعرية، والطلاب بمدرج علي مبارك محتشدون صاخبون، والدكتور عبد الفتاح يسأله أن يذهب إليهم ليهدئهم؛ فيقول له: لا، بل لو ذهبت لازداد هياجهم؛ فيبتسم الدكتور عبد الفتاح معترفا للنجم بوهج سطوعه!

ثم لقيته بمكتب عميد كلية دار العلوم أستاذنا الدكتور محمد بلتاجي حسن -رحمه الله، وطيب ثراه!- أوائل تسعينيات القرن الميلادي العشرين، مدعوا بعقب أحد اجتماعات مجلس الكلية الذي كان أحد أعضائه الدائمين، إلى حلويات منمنمات، أبى أن يصيب منها قائلا على بديهته الحاضرة: لا صغيرة مع إصرار! ويسأله الدكتور محمد بلتاجي: أصحيح أن نزار قباني يكتب لسعاد الصباح شعرها؛ فلا ينكر، ولكنه يذكر بعمل ذلك صالح جودت -رحمه الله!- ثم يستطرد إلى أمثلة عجيبة من سرقة القصائد والتقدم بها إلى الجوائز! ثم جرى ذكر أحمد عبد المعطي حجازي الذي استضافه بأمسيته كثيرا بعد رجوعه من فرنسا؛ فقال: إنه يشعرك بأنه هو المثقف، وأنك يجب أن تسمع له وتتعلم منه!

ثم لما احتفلنا عام 1993، بعلي مبارك باشا مؤسس كلية دار العلوم احتفالنا الكبير، وقدمتُ أمسيتنا التاريخية (http://mogasaqr.com/?p=3243)- رتبتُ الشعراء ألفبيًّا، واصطنعت لكل منهم بيتين من مشطَّر الرجز، أدعوه بأحدهما، وأحييه بالآخر، فقلت في فاروق شوشة:

سابقت بين صوته وشعرهْ

فسبقا فنحن طوع أمرهْ

هاءتْ لك استمع حنين الدارِ

فإنها في العشق لا تداري

أشيرُ إلى ديوانه الصادر عندئذ "هِئْتُ لكِ"!

ثم لقيته أواخر التسعينيات بأحد مواسم جامعة السلطان قابوس الثقافية محاضرا بقاعة مؤتمراتها، يذكر أن حياة العربية من حياة العرب، ويمثل بكلمة "انتفاضة" التي بدماء الفلسطينيين دخلت لغات العالم كما هي!

رأيته في تلك المواقف وغيرها، فلم أر إعلاميا يَفري فريَّه! نعم؛ لقد احترف فاروق شوشة العمل الإعلامي، ولكنه احتمى من سخافاته ومهازله بالتثقف المنهوم، ولاسيما أنه كان مضطرا إلى تحصيل ما يبثه ببرنامجه الإذاعي وما يحاور به ضيوف برنامجه المتلفز، حتى لقد تطلع إلى استضافة محمود محمد شاكر أستاذنا أستاذ الدنيا -رحمه الله، وطيب ثراه!- فأبى عليه بأن فاروقا لا يعرفه، ودعاه على كرمه إلى بيته، فكأنما كان في هذا اللقاء ما أغنى كلا منهما عن اللقاء المتلفز!

لقد سطع نجم فاروق شوشة مبكرا بما أوتي من وسامة وأناقة وأبهة وثقافة وطلاقة ولباقة وفخامة، حتى كان لقاؤه أمنية المتمنين أيا كانوا! وانفتحت له المنابر العلمية والتعليمية والفنية والتثقيفية طوال عمره، حتى سخط عليه بعض المتطلعين ممن لا ذكر لهم معه! وحظي شعره بذلك كله عند متلقيه متثقفين ومثقفين وعلماء؛ فلم يستطع أحد أن يرد شفاعة مواهبه المختلفة في شعره!

نعم؛ فشعره على وجه العموم وسط لا رديء ولا جيد، لم ينبع عنده من فذاذة أهواء ولا تجارب ولا تعبيرات، ولاسيما إذا وُوزِن بشعر أمل دنقل مجايله الذي فضَّله فاروق على نفسه وهو أسبق منه إلى مجموعته الشعرية الأولى. ومن تأمل اللقاء المتلفز الفريد الذي اجتمعا فيه هما وعبد الرحمن الأبنودي، وقف على فرق ما بين الشاعر الكبير الآسر والشاعر الوسط الأسير!

لقد أصاب الدكتور عرفة عبد المقصود -رحمه الله، وطيب ثراه!- حين علقنا بمثال فاروق شوشة في أوليتنا بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة؛ فقد ظل طوال حياته كبيرا نزيها كريما رفيعا، يتشرف به الدراعمة وسائر المشتغلين باللغة العربية في كل مكان. وفي عزائه اجتمع المفترقون على حسن ذكره؛ فكأنما انتظم بهم في مماته من الشعر الجيد ما لم ينتظم له في حياته!

للعلماء مكانة كبيرة في نفوس المسلمين عامة، فهم ورثة الأنبياء في العلم، لا في الدرهم والدينار، وقد رفع الله سبحانه مكانتهم فقال: [يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ] (المجادلة:11)، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة. والعلم الذي يرفع مكانة صاحبه ليس هو مجرد العلم بالمسائل، وإن كان ذلك مهمّا، ولكنه هو العلم الذي يجعل صاحبه ربانيا عاملا بعلمه. وقد اشتهر في تاريخنا علماء من هؤلاء بعد عصر الصحابة والتابعين الذين هم خير القرون، مثل أئمة الفقه الأربعة، وكبار المحدثين، وأصحاب أولئك الفقهاء والمحدثين.

واشتهر في عصرنا من هؤلاء العلماء في كل بلد على امتداد العالم الإسلامي من أخلصوا دينهم لله، وكانوا ربانيين على منهج السلف الصالح رضي الله عنهم، وكان لوفاتهم أثر عميق في المسلمين في شتى بقاع الأرض، واهتز شاعرنا حيدر الغدير لوفاتهم، فعبر عن حزنه عليهم بقصائد تموج حرارة وألما وأسى، فرثى الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ أبا الحسن الندوي، والشيخ محمد السالم، ولنقف عند رثائه كل واحد من هؤلاء العلماء رحمهم الله تعالى.

رثاء الشيخ عبد العزيز بن باز:

تبوأ الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، مكانة عالية في قلوب المسلمين عامة، وفي المملكة العربية السعودية خاصة، فقد كان مفتي عام المملكة، ورئيس هيئة كبار العلماء، وتولى رئاسة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وهو عضو مؤسس في رابطة العالم الإسلامي، هذه المهمات الجسام جعلته على تواصل دائم مع علماء العالم الإسلامي في قضاياه المصيرية.

وقد أحبه الناس، ليس لتوليه هذه المناصب، وإنما لصفات أخرى خلقية ونفسية، في رأسها الورع والزهد في الدنيا، يقول الشاعر حيدر الغدير عنه في مقدمته النثرية لقصيدة الرثاء التي كتبها بعنوان (ترجلت في التسعين ص 57 من ديوان من يطفئ الشمس): "إلى الشيخ الصالح عبد العزيز بن باز رحمه الله الذي كان أعجوبة الصبر، ونموذج الزهد، ومثال النقاء والكرم، وبقية السلف الصالح."

ويصف لنا موكب جنازته المهيب فيقول:

مضى الشيخ عن دنياه فالموعد الحشر    وضم غواليه المطهرة القبر وسار به النعش المهيب وأكبد    حِرارٌ عليها من مهابته وقر يضوع الهدى منه نقياً ممسَّكا    كما ضاع من أغلى قواريره العطر

وقد ازدحم الناس في موكب جنازته بشكل لم يقع لأحد من المعاصرين، فعرف بذلك مدى تغلغل محبته في القلوب بصدق وإخلاص، يقول الشاعر مصورا ذلك:

ملايين تدعو والقلوب كسيرة    ويسعفها دمع ويخذلها صبر تقول مضى الشيخ العفيف إزاره    وخر من العلياء في ليله البدر

وقد حزن الكبير والصغير لوفاته، وصار لديهم ما يشبه اليقين أن مكان الشيخ سيبقى خاليا، ولن يعوض بمثله!

وقد عمر الشيخ عبد العزيز حتى بلغ التسعين، وكان عمرا مباركا مليئا بجلائل الأعمال، يقول الشاعر:

ترجل في التسعين فارس حلبة    وأفراسه الإيمان والعلم والذكر وصبر جميل لا يشان بشائن   تلازمه التقوى ويرفده الشكر وحب لكل المسلمين ونية    صفت فهي في أنقى مواسمه القطر ونصح لذي مال وجاه وصولة    ونصرة منكوب أضر به العسر

وقد عدد الشاعر مجموعة من الصفات التي تحلى بها الشيخ رحمه الله، من الإيمان والعلم والذكر، والصبر الجميل، والتقوى والشكر، ومحبته وحدبه على المسلمين، ونصحه للأغنياء بالبذل، ومساعدة المحتاجين، وغير ذلك من فضائل الأعمال والأخلاق.

ويصور الشاعر تحول الشيخ من طالب علم بمنطقة نجد داخل الجزيرة العربية، إلى عالم يراه المسلمون في مقام الأبوة عطفا وشفقة واهتماما، وحقيقة غلب على الشيخ في آخر عهده لقب الشيخ الوالد، فيقول:

وكان بنجد بدؤه بيد أنه    تسامى به للخير من عزمه مُهْر فصار أباً للمسلمين جميعهم    يروح إليه البيض والسود والسمر وعرب وأعجام وشرق ومغرب    وما ضاق بالغادين بيت ولا صدر

وتُذْكر قصص كثيرة عن كرم الشيخ وبذله من ماله الخاص لأصحاب الحاجة الذين ينزلون بساحته وداره، وربما لامه بعض من حوله في ذلك، وطلب منه أن يمسك قليلا، ولكن الشيخ لم يكن يلتفت لذلك، ليقينه التام بأن الله سبحانه وعد كل منفق خلفا، وكل ممسك تلفا، ويصور الشاعر كل ذلك قائلا:

وكان الندى للشيخ توأم روحه   إذا آده عسر وإن أقبل اليسر وما كنز الأموال فالبذل طبعه    كأن نداه النهر أو دونه النهر وما خاف من فقر فربك مخلف    وأملاكه من بعضها البر والبحر يقول لمن لاموه ما المال بغيتي    وفيَّ يقين لا يرام له ستر

ويتأسى الشاعر عن الشيخ الراحل بخلفه، بما يخفف بعض الحزن، ويعطي بعض الأمل، فيقول:

رحلت ولكن في الحمى ألف واعد   وألف صباح ملؤها الطيب والبشر وجيش بشارات حسان صوادح  

ألذ من النعمى غلائلها الخضر

 

وإذا نظرنا إلى الموضوع وهو رثاء عالم ديني ومعلم ومرب؛ نفاجأ بانحراف القصيدة في نهايتها عن الموضوع، فجيش البشارات، وألف واعد، وألف صباح ينبغي أن يكون من طلبة العلم والدعاة والمربين الذي يكونون على منهج الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، بينما الشاعر انساق بما هو مسكون به في معركته مع اليهود في فلسطين وفي القدس، لذلك جعل تلك البشارات فتوحا حربية، وسيوفا ورماحا ورجالها من أبطال الحروب؛ بدلا من الأقلام والمحابر والدفاتر والكتب التي هي ساحة الشيخ رحمه الله، فيقول:

وجيش من الفرسان راياته الردى    يروح به نصر ويغدو به نصر عليه فتى الفتيان خالد مصلتاً    يدك أعاديه إذا أمها الذعر له الظفر الميمون درب وصاحب    وعادته الإقدام ((والفتكة البكر)) وسعد يقود الخيل جرداً ضوامراً    يسابقه زيد ويصحبه عمرو

فالألفاظ التي تضمنتها هذه الأبيات من: جيش من الفرسان راياته الردى، وخالد (ابن الوليد) فتى الفتيان يدك أعاديه، والإقدام والفتكة البكر، وسعد (ابن أبي وقاص) يقود الخيل جردا، يسابقه زيد (ابن حارثة)، ويصبحه عمرو (ابن العاص)؛ هذه الألفاظ نقلتنا إلى ساحات المعارك الكبرى في العصر الأول! وإن كان لابد فالأولى استدعاء علماء الصحابة مثل ابن عباس وأبي هريرة ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبَيّ بن كعب وغيرهم رضي الله عنهم جميعا.

 

رثاء الشيخ علي الطنطاوي

كان الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله مختلفا عن غيره من العلماء بأمور عديدة جعلت منه فذا متفردا، فهو إلى جانب العلم الشرعي الذي عرف به؛ أديب بارع، وكاتب مجل، له إلمام بعدة لغات غير العربية التي يعد أحد فرسانها.

وليست هذه ما ميزته، إنما أسلوبه الذي كان يعرض به معارفه ويخاطب مستمعيه، ومهاراته الشخصية في التواصل جعلته محل إعجاب لدى كل من عرفه على مستوى العالم الإسلامي فضلا عن العالم العربي.

وفي المملكة العربية السعودية التي قضى شطر عمره الأخير اشتهر ببرنامجه التلفزيوني (على مائدة الإفطار)، وبرنامجه (نور وهداية)، وبرنامجه الإذاعي (مسائل ومشكلات). وله مؤلفات كثيرة يغلب عليها السمة الأدبية، وقل أن يقرأ له قارئ ولا يتعلق به!

وشاعرنا حيدر الغدير أحد المعجبين به وبأدبه وكتاباته وأسلوبه، ويمكن لقارئ شعره أن يكتشف ذلك بسهولة. وكان لوفاة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله أثر كبير على شاعرنا فكتب قصيدته (شاهد القرن، ص60، من ديوان من يطفئ الشمس)، وقدم لها قائلا: "كان الشيخ علي الطنطاوي من أبرز شهود القرن ودعاته، علماً وحكمة، وعقلاً وذكاء، وبياناً وفصاحة، وطرفة بديعة، وثقافة واسعة، وقدرة على مخاطبة جميع المستويات والأعمار والتأثير فيهم. رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وعوضهم عنه خير العوض. كانت حياته غنية متنوعة، وهو ما يتيح لأصحاب الأقلام الكتابة عنه من جوانب كثيرة في أعمال علمية، أو أدبية على السواء." 

ومطلع هذه القصيدة يشعر القارئ أنها قيلت قبل وفاة الشيخ، ثم استكملت، أو كان فد زاره قبل أيام من وفاته، فهو يصف لحظات الحياة قبل الوفاة بالحوار بينه وبين الشيخ، يقول حيدر الغدير:

حُمَّ الرحيل وما رأيتك تشفق   وأجبته والوجه طلق مشرق فعجبت يا شيخي وجئت مسائلاً   فيم البشاشة والرضا والرونق كيف ابتسمت وكان بشرك كالسنا   ولمن هششت ومن لقيت ومن لقوا

وأمام هذه التساؤلات من الشاعر عن صفاء الشيخ وهدوئه وطمأنينته في مواجهة الموت، يجيبه الشيخ قائلا:

فأجبت إني للرحيم مسافر   فعلام أشكو يا بني وأقلق والله رحمته ملاذي مُشْرعاً   أبوابَه وبي الرجاء المطلق أني ظفرت بها فماتت خشيتي   قبلي فقل أنـّى أخاف وأشفق

فيأتي جواب الشيخ مطمئنا برحمة الله سبحانه، واثقا من تحقق رجائه بربه، ومن كان كذلك فلماذا يخاف ويخشى من الموت!؟

ويأخذنا الشاعر الغدير إلى الحياة الحافلة التي أمضاها الشيخ الطنطاوي في العلم والدعوة والكتابة دفاعا عن الأمة ومقدساتها، فيتحدث عن سبعين سنة من عمره؛ مجتزئا منها ثلاثة عقود، فقد قارب الشيخ مئة عام، وما اقتطعه الشاعر يزيد على وقت التكون والتشكل العلمي والتربوي الذي يسبق الحياة العملية، لذلك يعد الرقم سبعين مقاربة، وكناية عن الكثرة من السنين، فيقول:

سبعين عاماً عشت فارس حلبة   لك في المحافل شدة وترفق أبداً بيانك كالحسام مظفر   وثباتك المعهود عزم يبرق واللين أنت وأنت فيه نضارة   فإذا عدا العادي فأنت المحنق ويعينك الإيمان وهو حمية   ويعينك القول الجميل الأليق ويعينك العلم الغزير وحبه   ويعينك العقل الذكي الأسبق ويعينك الحب الذي قد نلته   بين الأنام فإن رأوك تحلقوا( مطروفة أبصارهم مأخوذة   فيهم هيام الطفل حين يحدق وبهم إلى الرائي(   إن قيل جـاء الألمعي المفلق

ويعدد الشاعر وسائل الشيخ علي الطنطاوي في مواجهة من يتصدى لهم في حلبة العلم والأدب والكتابة والحديث..، وهي الشدة والرفق، وقوة البيان، والثبات، والإيمان، والقول الجميل، والعلم الغزير، والعقل الذكي، وحب الآخرين، وهذه الصفات مجتمعة جعلت منه محط الأنظار عندما كان يظهر في التلفاز الذي كان يسميه (الرائي)، فيحلقون حوله والعيون مشدودة إليه، والسماع مرهفة لسماع حديثه.

وكان رحمه الله يعطي إجابات غير متوقعة أحيانا يدهش السائل والسامع مع احتفاظه دائما بابتسامته ودعابته، يقول الشاعر الغدير:

عقل يجوب المعضلات فيجتلي   أغوارها وخبيئها ويدقق ويزفها للناس تزهر كالضحى   والسامعون تشوف وتشوق وعلى الوجوه إذا رأوك مودة   وعلى القلوب بشاشة وتعلق

وكان الدفاع عن اللغة العربية الفصحى أحد أبرز مجالاته، ولكنه كان مع ذلك يدعو إلى تبسيط اللغة، وتخليصها من تعقيدات النحو، وله في ذلك مقالات في كتبه، معروفة، يقول الشاعر الغدير:

كنت البيان سريه وجليه    يتلى فيطرب أو يقال فيعشق تبكي الفصاحة بعده أمجادها    وتظل من حزن شجاها تطرق وتقول هل من فارس من بعده    يهب الروائع كالسنا ويحلق أم أن أغربة البيان وبومه    خلت الديار لها فراحت تنعق

وإذا كان الناس قد اعتادوا على كنز الأموال التي تفنى؛ فإن الشيخ علي الطنطاوي ترك كنزا من العلم لا يفنى، وحري به أن يهنأ بكنزه، فيقول:

ولقد تبددها سفاهة وارث   يعدو عليها أو يضل ويفسق فاهنأ بكنزك يا علي فإنه   أغلى الكنوز الباقيات وأسمق

ويذكر اهتمام الشيخ الطنطاوي بقضايا الأمة الإسلامية العربية وغير العربية، وجهاده في الدفاع عنها، فيقول:

المسلمون عشيرة لك كلهم   إن يحزنوا أو يفرحوا أو يقلقوا تأسى لهم وتذود عن حرماتهم   وتكاد من آلامهم تتمزق فإذا انجلت عنهم وعنك همومهم   ضحكت بوجهك بسمة تتألق

فهو يحزن بأحزانهم، ويفرح بأفراحهم، وهو مصداق تشبيه الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بالجسد الواحد.

وكان الشيخ رحمه الله يقلق لما يحصل بين الدعاة إلى الله من خلافات، فيحاول قدر جهده الإصلاح بينهم بشفقة الأب ونصحه، يقول الغدير في ذلك:

أمّا الدعاة فأنت فيهم والد    يحنو ويصلح بينهم ويوفق(

وهو بعد ذلك شديد الصلة بكتاب الله يتلوه ويستنبط لطائف المعاني، ويختلي بنفسه مع الله سبحانه فتأخذه الخشية والخوف، وتسيل دموعه، يقول الغدير:

وإذا عكفت على الكتاب فآية   تجلى لديك فليس فيها مغلق وإذا خلوت بربك الملك الذي     يهب الحياة كما يشاء ويرزق راعتك قدرته فقلبك واجف     من روعة تربو ودمعك مهرق

ويطوف بنا الغدير مع الشيخ الطنطاوي في رحلة هجرته من بلده الحبيب الذي ما انفك يذكره ما بقي فيه عرق ينبض، ولم تغادر لسانه عبارة: عندنا في الشام! فلما أخرج منها كارها، تمنت كل ثنية من الأرض أن تكون وطنا لهذا الأديب العالم، والعالم الأديب، هكذا يصور لنا الشاعر حيدر الغدير محبة البلاد العربية والإسلامية لهذا الإنسان، ولكن الله سبحانه اختار له أفضل بلد في الأرض قاطبة، إنها بلد الله الحرام، إنها مكة المكرمة، يقول الغدير:

ومضيت حين مضيت كل ثنية   في الأرض ودت أنها لك نُمْرق( لكن ظفرت بمكة ولقد رجت   أن وسَّدتك مع المحبة جلق يا طالما غنيتها وعشقتها   ودمشق( وحباك ربك عن دمشق مكة   وهي الأجل جلالة والأعرق

وكما كانت حياته في مكة؛ كانت وفاته ومثواه الأخير فيها:

وسكنتها حياً وميتاً بوركت   سكناً تظل له النفوس تشوّق وسكنت جار المروتين وزمزم   وحراء جارك وهو هدي يعبق والكعبة الزهراء منك قريبة   وحفية فيها السنا والرونق يا طيب حظك بالجوار وأهله   لما أتوك بشائراً تتدفق

وأخيرا يودعه في مثواه الأخير، مهنئا له بهذا الجوار الذي حصل عليه، فيقول:

نم حيث أنت لك الملائك مؤنس   في روضة بنعيمها تتأنق

وعبارة الشاعر الأخيرة تذكرنا بالبيت الذي قاله في رثاء الشاعر عمر بهاء الدين الأميري، حيث يقول:

نم في جوار الأكرمين يحفهم   ويحفك الرضوان والإستبرق

فما أعظم المكانين، وما أحسن الجوارين، وما أكرم المرثيين الشيخ الأديب علي الطنطاوي في مقبرة المعلاة بمكة المكرمة، والشاعر الداعية عمر بهاء الدين الأميري في مقبرة البقيع بالمدينة المنورة!.

 

رثاء الشيخ أبي الحسن الندوي

للشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله مكانة أثيرة عند الشاعر حيدر الغدير، ويكن له محبة جمة، وذلك أن الله سبحانه وضع للندوي القبول عند المسلمين عربهم وعجمهم، وجولاته في العالم زادت من هذه الآصرة، إذ عرفه الكثيرون عن قرب، وقد عرف في البلاد العربية بكتابه: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ قبل أن يعرفوه بشخصه. وكان لشخصيته العلمية والأدبية والسياسية في بلده الهند تأثير كبير في الوقوف أمام كثير من المخططات التي حيكت ضد المسلمين هناك.

 ومكانته رحمه الله في رابطة العالم الإسلامي جعلت صلاته قوية برجال العلم والدولة في المملكة العربية السعودية. وهو فوق ذلك كله سليل النسب الحسني الشريف، وندوة العلماء التي تولى رئاستها دهرا من الزمن تعد درة إنجازاته، إضافة إلى رابطة الأدب الإسلامي العالمية.

كل هذه العوامل جعلت من الرجل العلامة علامة بارزة في حياة المسلمين في القرن العشرين، ولما توفي حزن العالم الإسلامي كله عليه، إذ إن ذلك العام شهد وفاة عدد من كبار العلماء حتى سماه الكثيرون عام الحزن.

وقد رثاه شاعرنا حيدر الغدير بقصيدة جعل عنوانها: (لوحت للناس، ص67، من ديوان من يطفئ الشمس)، وكتب لها مقدمة نثرية قال فيها: "كان الشيخ الصالح أبوالحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، من أجل الدعاة مكانة، ومن أصدقهم زهداً، ومن أصبرهم على الدعوة، ومن أعفهم نية ولساناً وسلوكاً. عاش مسكوناً بهموم المسلمين، محباً لاجتماعهم، كارهاً لخلافهم، باذلاً في ذلك كل ما يستطيع. وكان مشغوفاً بالربانيين والزهاد، مقتفياً آثارهم. كان معنا بجسمه، وكان معهم بروحه، فكأنه بقية من السلف الصالح جاءت تقيم علينا الحجة."

وقد بدأ قصيدته كما غالب قصائد الرثاء بالحكمة من الحياة والموت، والصبر على المصائب، لأن الحزن لا يعيد الميت الراحل، يقول:

لا الحزن يرجع من غابوا ولا الجلد   يفنى الجميع ويبقى الواحد الأحد هذي الحياة مطايا الموت دائبة   والشاهد الشمس والخضراء والأبد والليل والصبح والحدباء بينهما   تمشي بركبانها تهفو وتتئد والناس مذ خلقوا والأرض مذ عمرت   سلها ففي جوفها الآباء والولد

والندوي رحمه الله عرف ببساطة حياته رغم ما توافرت له من أسباب النعيم، فلذلك وصف بأنه بقية السلف الصالح، تقوى وزهدا وصدقا ورشدا وحلما وصبرا وجلدا ونصحا، يقول في ذلك:

بقية السلف الأبرار قد كرموا   وأنت فيهم ومنهم نجمة تَقِد أنت المجلي إذا التقوى زهت فرحاً   بالأتقياء وبان الصدق والفند وواحة بالهدى والصدق عامرة   وقد تلاقى عليها الفضل والرشد والحلم في دأب والحزمُ في أدب   والنصح فـي حدب والصبر والجلد وصولة الأكرمين الغر إن غضبوا   وخشعة الأكرمين الغر إن زهدوا

وهذا الزهد منه ليس زهد الحرمان، ولكنه زهد المستغني الذي تأتيه الدنيا فيرفضها، وتكون بين يديه فيدفعها براحته برفق، بعد أن يأخذ منها بُلْغته، يقول الغدير مشبها زهده بزهد الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والغزالي رضي الله عنهم:

رضيت طبعَ الألى عزت معادنهم   إذ جاءك العيش فيه اللين والغيد فقلت كلا لقد آثرتُ آخرتي   فهي الغنى والذي تحبونه زبد كأنك الحسن البصري أو عمر   أو الغزاليُّ زانوا الدهر إذ زهدوا لأن زهدك زهد الصادقين لهم   عزم على صهوة الإخلاص منعقد  

والندوي مثل أخويه السابقين الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ علي الطنطاوي لم يأبه بما يترك من متاع الدنيا، ولكنه ترك علما ينتفع به، ومؤسسة علمية كبرى تخرج العلماء، وهذا أنفع له وأبقى من المال الفاني، يقول الغدير:

أبقى من المال ما أبقيت من عمل   يزهو به وهو في عليائه الرأد في ((ندوة)) قدتها غراء عامرة   بالمتقين على ساحاتها احتشدوا صرح أقمت على التوحيد رايته   وقام يعليه أبناء له نجد

فهذه الندوة هي جامعة ندوة العلماء في الهند التي ينتسب إليها أبو الحسن الندوي، وأجيال من طلبة العلم الذي حملوا نسبة الندوي.

وقد عانى الشيخ أبو الحسن من عدد من الأمراض والأسقام لكنه كان صابرا شاكرا، لا يتضجر ولا يتسخط، طالبا رضاء الله سبحانه بالرضا بقضائه وقدره، يقول الشاعر الغدير:

رضيت أسقامك الغرثى فلا صخب   ولا شكاة ولا حزن ولا كمد شكرتها وجذاها فيك حارقة   وأنت بالصبر والتسبيح تبترد رأيتها محنة في طيها نعم   ومنة حفها الإحسان والرغد   لأنك المرء بالأقدار قد رضيت   نفس له فهناء كل ما تجد

ولما توفي الندوي رحمه الله حزن الناس، وأقيمت عليه صلاة الغائب في الحرمين الشريفين في ليلة من ليالي العشر الأخير في رمضان، وتناقلت الألسنة والصحف خبر وفاته، يقول الشاعر مصورا أثر وفاته:

أبا البهاليل من عرب ومن عجم   شبوا على سمتك الميمون واجتهدوا بكتك أفئدة منهم وألسنة   وقبل أدمعهم وهي السها الكبد   بكوا أبوتك الزهراء صافية   وعاينوا الرزء لما جل وافتقدوا

وهنا يرق قلب حيدر الغدير رقة شديدة ويغلبه الحزن، فيتغير أسلوبه تعبيره ليأخذ منحى بنويا مؤثرا، فيخاطب الشيخ الندوي بالأب الأجل والأستاذ - وحق لمثله ذلك - فيقول مودعا: 

أبي الأجلَّ وأستاذي إليك يدي   مددتها وأنا أزهو وأحتشد بها كتبت بكل الحب قافيتي   فهل شفت بعض ما أشكو وما أجد   يا ليت لي مثل قبر أنت ساكنه   عساي ألقى الذي لاقيت إذ أفد

ونكاد نلتهب معه في بيته الأخير، ونرجو ما رجاه من الخير في صحبة الصالحين في الدنيا والآخرة، ونسأل الله سبحانه أن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة.

وفي خاتمة القصيدة، يرى الشاعر الغدير وفاة الندوي تلبية دعوة الكريم الواحد الأحد، كان الندوي ينتظرها ويتشوق لها، ويتشوف إليها، فلما حان موعد اللقاء تهلل وجهه بالبشر، وأمل من الخير القادم مثل مضى، ورفع يده لأهله وأحبابه ملوحا مودعا كما يفعل الناس في أسفارهم في الدنيا غالبا، وهي صورة حركية جميلة أخاذة، ولفتة شعرية بديعة من حيدر الغدير في حسن الخاتمة والختام، فيقول:

لبيت أحلى نداء عشت ترقبه   لما دعاك إليه الواحد الصمد وقلت والبشر ريان ومؤتلق   قد طاب أمسي وأرجو أن يطيــب غد لوحت للناس إذ ودعتهم بيد   لما دعتك إلى دار البقاء يد

رحم الله الشيح أبا الحسن الندوي، وأحسن مثوبته، ونفعه بما قدم من علم ودعوة في سبيل الله عز وجل.

 

رثاء الشيخ محمد السالم:

هذه القصيدة مخلتفة إلى حد كبير عن قصائد الرثاء الثلاث السابقة، فالمقدمة النثرية جاءت مقتضبة غير دالة على شخصية المرثي، فالقارئ بعد السنين التي مرت على وفاة الشيخ محمد السالم ليس هو القارئ الذي عاصره وسمع به، وإذا دخلنا في سطور القصيدة فإننا لا نجد فيها ما يدل على المرثي، وأعماله، واهتماماته، وصفاته الشخصية الخلقية والنفسية، غير البيت الذي ورد فيه اسمه (محمد)، وبذلك تفقد القصيدة كثيرا من ملامح الرثاء سوى شعر الحكمة الذي يرافق كل قصائد الرثاء، خصوصا حديث الشاعر عن زوال الدنيا، وتذكر الآخرة وما يتعلق بهما من معان.

فقد اختار الشاعر حيدر الغدير لقصيدته عنوان (ابتهال، ص77، من ديوان من يطفئ الشمس)، والعنوان ليس له علاقة بالموضوع، وكتب جملة نثرية جاء فيها: "في رثاء الفقيد الطيب الشيخ محمد السالم رحمه الله."

وافتتح القصيدة بالحديث عن زوال الدنيا، وخداعها للإنسان، وأن الإنسان يكون أسيرا لأمانيه فيها، وينسى الموت الذي هو قرين الإنسان ورقيبه الذي لا يفارقه، ثم يأخذه على غفلة، وعند ذاك يشعر أنه كان في حلم نائم فانتبه، يقول الغدير:

عزاءك هذه الدنيا ارتحال   وآل خادع يتلوه آل وسرب من أمانينا اللواتي   تخب بنا وقد ينأى النوال وقد يدنو ونحن له أسارى   ولا ندري ويغرينا المحال وننسى الموت وهو لنا قرين   رقيب ليس يدركه الملال يسالمنا وتفجؤنا رحاه   فتطحننا إذا كان الزوال هي الدنيا منام ثم صحو   ومكث سويعة ثم انتقال

ويأخذ الشاعر بعد ذلك في كشف المزيد من أوصاف الدنيا الخادعة، ثم يرغبنا في الجنان التي أعدها الله سبحانه للصالحين من عباده، فيقول:

هي الدنيا كما قد قيل دنيا   لها في الغدر أخبار طوال وخير من متارفها وأبقى   جنان لا يحيط بها مقال

ويدعو الله أن يبوئنا هذه الجنان فيقول:

أيا رباه بوئنا جناناً   حساناً يزدهي فيها الجمال وبوئنا ذراها طيبات   فأنت المرتجى ولك الجلال

ويختم القصيدة ببيتين يدعو فيهما للمرثي، ويذكر من صفته أنه كان برا، كريم الخصال، طاهر القلب، عفيفا، صادق القول، حسن الأفعال، فيقول:

وبوئها ((محمد)) فهو بر   له في كل مكرمة خصال يزكيه فؤاد عاش عفاً   وتحمده مع القول الفعال

ويلفت نظرنا في هذه النهاية أن الدعاء للمرثي جاء تبعا لدعاء الشاعر لنفسه بصيغة جمع المتكلم: (أيا رباه بوئنا)، ثم قال: (وبوئها "محمد" فهو بر)، وهذا الترتيب أفقد المرثي أهميته في القصيدة، فضلا عن وقوع الشاعر في ضرورة شعرية في منع اسم العلم (محمد) من الصرف مع أنه يملك التصرف والالتفاف على هذه الضرورة الشعرية.

وتذكرني هذه القصيدة بمرثية أبي العلاء في صديقه أبي حمزة الفقيه:

غير مجد في ملتي واعتقادي             نوح باك ولا ترنم شاد

 حيث غلب عليها شعر الحكمة، ولا يكاد القارئ يجد فيها ذكرا للمرثي. وأرى أن الشاعر الغدير لو استقبل من أمر رثائه للشيخ محمد السالم رحمه الله؛ ما استدبر؛ لغير الكثير حذفا وإضافة، وتقديما وتأخيرا.

([2]) ((الرائي)) كلمة اقترحها الشيخ بديلاً عربياً عن ((التلفزيون)).

([4]) النمرق: الوسادة الصغيرة.

([5]) كان الشيخ عاشقاً للشام عامة، ولدمشق خاصة.

شيء من الترويح !

أ.د. حلمي محمد القاعود

في غمرة الأحداث الدامية والمأساوية التي تعيشها أمتنا التعيسة ، وما يتطلبه ذلك من قراءات وكتابات عن المذابح والآلام التي يكون ضحيتها في الغالب أبرياء لا ناقة لهم فيها ولا جمل ، يبدو الخروج عنها حالة من النشاز التي قد يراها بعض الناس غير مناسبة ، ولكن النفس تمل والوجدان يمتلئ ، ولابد حينئذ من الترويح وتغيير الموضوع حتى تتجدد الأذهان وتصفو النفوس .

تعودت أن أراجع كتابات أدبية ذات قيمة عليا في الصياغة والتصوير والأداء . الأدب في أساسه فن لغوي ، ولكن تكاثرت في العقود الأخيرة كتابات رديئة لا تملك مقوما من مقومات الأساليب الأدبية الفائقة أو المتميزة ، ووصلت الآن إلى حد أنك تجد صحفا عريقة في أخبارها وموادها الأخرى ومنها الأدب ؛ تغص بأخطاء الإملاء والنحو والصرف ، فضلا عن الركاكة والضعف التعبيري. قلت لبعض الأصدقاء ممن يملكون بعض الصحف الإلكترونية: عيّن مصححا للغة العربية يراجع المادة الصحفية قبل نشرها . غضب منّي غضبا مكتوما ، وكأن لسان حاله يقول : يا عم . دع الخلق للخالق ، فالوسط كله كذلك . أي إن الآخرين يخطئون ويرفعون المفعول وينصبون الفاعل ، والمجرور ، ولا مكان لدور علامات النصب والجزم والأفعال الخمسة والأسماء الستة وكسر همزة إن وفتحها .. إلخ !

ولماذا نذهب بعيدا وجوائز الدولة التقديرية وما فوقها وما تحتها تُمنح لأشباه الأدباء ، ومن يكتبون العامية ، ومن لا يفرقون بين الفاعل والمفعول ، ويطلقون عليهم لقب الأديب الكبير والكاتب العظيم ، و.. غير ذلك من ألقاب !

أرجع إلى الإمام الرافعي لأطالع وحي القلم أو رقائقه التي تفوق شعره وشعر كثيرين في التصوير والهندسة البلاغية وعمق المعاني . وأعود إلى محمود حسن إسماعيل وعلي محمود طه وهاشم الرفاعي ، وأقرأ من حين لآخر ما يكتبه محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ فأرى لغة تشفيني من لغة هجين صنعتها مواقف السيارات وفرْشات الأسواق وثقافة الشوارع التي لا تعرف أن هناك شيئا اسمه الآداب العامة والأخلاق الفاضلة .

سأقدم لكم بعض ما كتبه نجيب محفوظ في أواخر حياته ،واعتمد فيه التكثيف والمجاز والإيجاز والمفارقة ، واللمحات الخاطفة التي يمكن أن تكون أساسا نموذجيا لما يسمى الآن بالقصة القصيرة جدا ، ويحسم الجدل حول طبيعتها ..

وقبل ذلك أود أن أشير إلى  أنني كنت من أوائل من كتبوا عن نجيب في الستينيات وما بعدها . كتبت عن رواياته الفرعونية وقلب الليل ، واللص والكلاب والطريق، والكرنك وأمام العرش والباقي من الزمن ساعة، وكنت تقريبا أول من كتب عن ملحمة الحرافيش دراسة طويلة ، ورأيتها تفوق روايته الشهيرة أولاد حارتنا الباردة الثقيلة ، وبعدها كتب عنها رجاء النقاش في المصور مقالا من حلقتين بعنوان : نجيب محفوظ يكتب بالفارسية ، متخذا من أبيات التكية التي كان ينشدها الدراويش وأثبتها نجيب بالفارسية عنوانا لمقاله .

ثم كتبت عن رواية ابن فطومة التي تجاهلها نقاده اليساريون لأنها تتناول أمرا يزعجهم وهو الإسلام . وكففت عن الكتابة عنه حين رأيت سماسرة المشهد الثقافي من أصحاب المواهب الضحلة يتاجرون بنجيب ويأكلون به ، ويتنازعون على قربهم منه وأولويتهم لديه ، والرجل لا بيدي تبرّما بما يفعله السماسرة الذين يبنون شهرة زائفة على حسابه ، ولأنه مجامل فقد تكاثروا حوله في حياته وبعد رحيله بكتابات غثة أو حوارات لا يعلم إلا الله مدى صدقها أو حقيقتها .

لم أكتب بعد رحيله إلا دراسة طُلبتْ مني في كتاب مشترك حرّرت فيها موقفه من الدين ، وهو الموقف الذي كثر فيه اللغط وصدرت فيه أحكام بالسماع والعنعنة روّج لها السماسرة وصغار الصحفيين الذين لا يحسنون المطالعة .

في كتابه أصداء السيرة الذاتية ( أعتمد هنا على طبعة مكتبة الأسرة 2004) ، ينسج مجموعة من المواقف القصصية بعضها واقعي والآخر متخيل ، والثالث منامي أو رؤيا في المنام ، وينتظمها في الغالب عنصر التحسر على الزمن والعمر الذي مضي ، والجدل حول الحياة والموت ، والخير والشر ، والعاطفة والعقل ، والطفولة والكهولة ، والخوف والشجاعة ، ويلتقط من سيرته الذاتية ما يومض ويلمع وينعكس على الفكرة ، ويؤثر في وجدان القارئ بذكاء الموهوب وقدرة المحترف على الصياغة .

تأمل مثلا أول لقطة في الكتاب ، حيث يوظف صورته وهو طفل يذهب إلى المدرسة لأول مرة . لقد جعل عنوانها " دعاء" وهو الطلب من الله ، فيكتب أول سطر فيها مثيرا للتشويق قائلا : " دعوت للثورة وأنا دون السابعة " وهي فاتحة تجعل القارئ يتساءل عن طبيعة هذه الثورة ، وكيف لطفل صغير أن يدعو لها .. يأخذنا نجيب إلى الذكرى التي لا تنسى في حياة كل منا وهي ذكرى دخول المدرسة لأول مرة. فقد ذهب محروسا بالخادمة وسار كمن يساق إلى سجن " بيدي كراسة وفي عيني كآبة ، وفي قلبي حنين للفوضى ، والهواء يلسع ساقيّ شبه العاريتين تحت بنطلوني القصير .وجدنا المدرسة مغلقة ، والفراش يقول بصوت جهير : بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا .

غمرتني موجة من الفرح طارت بي إلى شاطئ السعادة .

ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد" ص 8.

الثورة التي شهدها نجيب وهو طفل (ثورة 1919) . تفاعل معها وأحبها وكتب عنها أكثر من مرة فتتقاطع مع رغبته طفلا متمردا محبا للفوضى لا يريد أن يخضع لنظام المدرسة الصارم الذي يبعده عن أحضان أسرته ولعبه الحر ، ورؤيته كاتبا يدعو للثورة والتمرد على الفساد والاستبداد فيكون دعاؤه لله أن تدوم الثورة إلى الأبد !

 يستخدم نجيب المفارقة في كثير من قصص أصداء السيرة وخاصة تلك التي تجري في أواخر العمر . في موقف بعنوان "شكوى القلب" يفتتحه بقول شاعري حزين " ثَقُل قلبي بعد أن أعْرَض الزمن " فيذهب لطبيب معالج ينظر في الأشعة ، ويشعر أنه يرى القلب كأنه يعاتبه ويتبادلان النظر:

-         طالما حَمَّلْتك ما لا يُطاق من تباريح الهوى .

فإذا به يقول :

-         والله ما أسْقَمَني إلا الشِّفاء !" ص 90

إن المفارقة هنا تذهب في عمق الحياة الماضية والعمر الذي أوشك على النهاية ، فقد راح يعالج القلب ، ولكن القلب يؤكد أن علّته هي الشفاء وليس المرض . ويتركنا نجيب للتأويل والتفسير وفقا لثقافتنا وقدراتنا .

ثم تأمل هذه اللقطة بعنوان " الغباء" . قال الشيخ عبد ربه التائه :

لا يوجد أغبى من المؤمن الغبي ، إلا الكافر الغبي . ص 158

الله مولانا . اللهم فرج كرب المظلومين . اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم . 

عدسة: زياد جيوسي

clip_image002_fe3a1.jpg

clip_image004_36a94.jpg

clip_image005_e8db0.jpg

   من جديد تألقت د. نهلة الشقران في مجموعة قصصية جديدة لها، "أنثى تشبهني" في فضاءات عمَّان الثقافية وفي رواق قاعة المكتبة الوطنية وبحضور جيد من المهتمين، كانت د.نهلة تعتلي المنصة مع حفل اشهار ترأس عرافته الدكتور باسم الزعبي وتحدث فيه وقدم قراءات نقدية كل من د. عماد الضمور/ الأردن، د. محمد المحفلي/ اليمن، والمجموعة القصصية الجديدة للكاتبة تقع في 96 صفحة من القطع المتوسط، تجول في فضاءات إحدى عشرة قصة، تدور حول الأنثى باشكال حضورها المختلف، الصمت والصراخ، وأخذت المجموعة اسمها من قصة تحمل الاسم وتتحدث عن امرأة في الخمسينات من العمر تعيش على الذكرى وتبحث عن صحبة امرأة تشبهها.. لكنها من ورق.

   قدم للرواية الروائي والقاص هاشم غرايبة وقال في بعض من تقديمه الذي اعتلى ألق صفحة الغلاف الأخيرة: (في هذه القصص نقرأ ضجيج الصمت، ونرى ظلا لامرأة من رماد، ونحتمي بعينين غارقتين بالصمت، ونرتشف الشاي في طقس يُغيّب ملامح المكان، ونشم رائحة الظل..).

   تحدث د. عماد الضمور عن المجموعة القصصية الجديدة وقال من ضمن قراءة نقدية متميزة تحت عنوان "البحث عن الذات الانثوية في أنثى تشبهني لنهلة الشقران": (تهدف الدراسة الى استنطاق الخطاب الانثوي في المجموعة القصصية للكشف عن كيفية تشكل رؤاه الحلمية وطرائقه الفنية ومعجمها المتوهج في حالتي الفقد والوصال)، (لقد سيطر على القصص التي شملتها الدراسة مساران سرديان مستحكمان على الذات الانثوية هما مسار الذاكرة الذي يرتد الى الماضي وذكرياته فنلمس فعل البوح والنزف معا واما المسار التخر فهو الحلم الذي تمارس فيه الذات الانثوية فعل العشق الذي يجنح إلى اقصاء الماضي والانتصار للذات المقهورة وصولا الى اقصى درجات الاتحاد بالمحبوب)، (لعل اهم ما تمتاز به هذه القصص هو الايجاز والتكثيف السردي في النص والاعتماد على اسلوب الحوار مما عزز من انتاجية البناء الدرامي للنصوص السردية واكسبها جمالية عالية فضلا عن استخدام واضح للافعال الحركية التي تضفي على النص ايقاعا سريعا مختزلا يمتح من الذات القاصة وروحها المعذبة)، (ينطوي العنوان على بعد تأثيري نفسي وانفعالي مخصب بالابعاد الدلالية والزمانية والمكانية وبالابعاد السياقية كذلك لان العنونة تركيبة معقدة من الشحنات النفسية والاجتماعية والدينية واللغوية منبثقة من ميثولوجيا الانا واحلامها وامالها) .

وتحدث الدكتور محمد المحفلي عن المجموعة القصصية قائلا في بعض من قرائته النقدية: (في مجموعة أنثى تشبهني للكاتبة نهلة الشقران، نجد الكثير من الأنساق الثقافية التي تصدت لها في متن المجموعة محاولة ليس كشفها وتبيين نسقيتها فحسب، بل العمل على مواجهتها والتنبيه من خطرها وتوضيح نتائجها ومآسي سلبيتها على الذات وعلى المجتمع. فهناك أنساق ثقافية من منظور نسوي بمعنى أنها تركز على الانساق الثقافية الموجهة بسلبية نحو المرأة، وهناك أنساق ثقافية أخرى تتناول الكثير من الانحرافات المجتمعية التي حاولت تبيينها بصورة عامة. ولأن تلك الأنساق كثيرة، ومحالة الوقوف عليها وتحليلها بصورة دقيقة تحتاج إلى مساحة زمنية ومكانية أوسع من هذا المقام، فإن هذه القراءة العابرة ستحاول التركيز على جانب دقيق ومحدد بوصفه نموذجا لكشف تلك الأنساق الثقافية، ستركز هذه المقالة على مقارعة الصمت، ليس بصورة شاملة إنما بوصفه صمتا ونسقا ثقافيا مكرسا من المجتمع من وإلى المرأة، وسنتبين كيف اشتغل المتن القصصي على هذه النقطة المركزية متجاوزين البناء الفني وبالتركيز على الدلالة واشتغال اللغة السردية.

   إن مقارعة النسق الثقافي في بواطن هذه المجموعة لا يأخذ بعدا واحدا ولا شكلا واحدا في المواجهة، بل يتخذ عدة خطوات كلها تتكامل لتشكل في الأخير منظومة مواجهة مكتملة، ستبين هذه القراءة كيف تشتغل وكيف صنعت لنفسها استراتيجية لتحقيق هذه الغاية الثقافية، في باطن هذا العمل الفني الجمالي).

    ثم تحدثت الاستاذة زهرية الصعوب وقدمت ملخصا عن السيرة الذاتية للدكتورة القاصة نهلة الشقران، ليختتم حفل الاشهار بكلمة للقاصة نهلة قالت في بعض منها: (لا أستطيع وصف سعادتي وكل هذا الحب يحيط بي، الحب ذاته الذي أنبت "أنثى تشبهني" حب تراب الأردن وأول عصرة زيت رمثيّة وعبق الصباح في حوران، ورائحة دقّ الهال في "هاون" جدتي، ولفافة زيت وزعتر في برد كانون..

   أمّا عن بداياتي في الكتابة فلا أدري أكتبت قبل ولادتي، أم ولدت لأكتب، أم كتبت لأولد . كتبت القصة في الصفوف المدرسية، وعلى مقاعد الدراسة الجامعية حصلت على جوائز على مستوى الجامعات الأردنية، ثم أخذني طريق العلم منها فأبحرت في أدب الرحلات واللغة والنحو، درست الخطاب اللغوي فيه، فمزجت بين حبي للأدب وتخصصي في اللغة، ثم حين اغتربت بعد إنهاء رسالة الدكتوراة عام 2010م إلى السعودية أعادني الشوق لبلادي إلى القصة من جديد، كتبت قصصا كثيرة زادت على خمسين قصة، فازت منها عشرة في مسابقة دبي الثقافية للإبداع عام 2012م، الأمر الذي دفعني أن أفكّر في نشر "أنثى تشبهني" عام 2015م، فكان العام الذهبي لي، به نشرت وزارة الثقافة الوجه الآخر للحلم وقد أضفت للعشرة السابقة سبعة نصوص، وكانت كتب الرحلات.

   في "أنثى تشبهني" إحدى عشرة قصة، وفي كل قصة أنثى ربما تشبهني وربما أشبها، وربما تشبه زيتون بلادي. ولكل أنثى صوت مكتوم وقيد لا يزول لكنها ترنو إلى أمل بقادم تنتظره، تكابد الحاضر بوجع صامت، وتحلم بامتلاك صوت واحد فقط لتقول: لا.. البطلة في كل قصة تبحث عن ذاتها، وتتفقّد صوتها لأنها توقن تماما أنّه سبيلها إلى الحياة الكريمة).

   الدكتورة نهلة عبد العزيز الشقران حصلت على البكالوريس ثم الدبلوم العالي ثم الماجستير ثم الدكتوراة بدرجة الامتياز باللغة العربية وتمارس التدريس كمحاضر متفرغ في الجامعة الهاشمية وقبلها في جامعة اليرموك، ولها العديد من الاصدارات والأبحاث العلمية والأدبية المنشورة ومن اصداراتها: خطاب أدب الرحلات في القرن الرابع الهجري، 2015م. رحلة ابن جبير، دراسة تركيبية ووصفية، وأخيرا المجموعة القصصية الوجه الآخر للحلم، ليليها اصدارها الأخير: أنثى تشبهني، مجموعة قصصية،   لتختتم الأمسية بتوقيع الكاتبة نسخ من المجموعة للراغبين باقتنائها.

تبدو مجموعة “كناري” لأحمد الخميسى جامعة بين طرفى نقيض فى الأسلوب، فهى تمزج أدوات أدبية واعية بذاتها بالتلقائية الصحفية العامة داخل تكثيف شعري، أى تجمع بين التلقائية والتدبر الصياغى مما أدى إلى الاقتصاد والتلميح بالتضمن البديهي. وذلك يضع القراء فى حالة ذهنية راضية. وتسهم تلك القصص القصيرة بتحقيق مباشرتها وتركيزها وحيويتها ومشاركتها فى ذلك مع الصحافة فى أعلى مستوياتها، مزج الغنائى والحكائي. وقصص المجموعة كل منها ذات تأثير مفرد مهيمن وتمتلك عناصر صراع درامي، فالتوتر عنصر بنائى أساسى فيها. وشكل القصص شديد الوعى بنفسه يستطيع أن يحتفى بالتلقائية وأن يضفى طابعًا دراميًأ على لحظة كشف قصصية شكلها عمدى ومحسوب ويستطيع أن تكون له العرضية الظاهرية للقطة يكون وحدة التأثير فيها هو معيار الإنتاج الشعري. فلشكل القص عند الخميسى قوة الجمع بين الثراء والإيجاز والقيام بمهمة مركبة من خلال خلق وضوح. حقًا لا تغطى القصة الواحدة سوى مجال محدود من التجربة، بيد أن المجموعة تعكس تنوع الحياة، ولكنها تعكس أيضًا حس دراما اللحظة، ولها كثافة الشعر. فالشكل الموجز يحكى مباشرة التجربة الحديثة لأن يكون الفرد حيًا.

والكنارى عصفور حسن الصوت أصفر اللون أخضر يربى فى الأقفاص، وعلى الرغم من ذلك يطلقه أحمد الخميسى فى القصة التى تحمل المجموعة عنوانها محلقًا داعيًا إلى السير يسارًا رمزً للتغيير والتقدم، يجتاز الراوى به الأنهار. ورغم ثقل الراوى وضخامته ارتفع إلى الأعالي.

وقد قيل عن المجموعة بحق إنها تتسم بشمول التأمل فى آلام وأشجان القضية العربية ومذابح الطفولة الفلسطينية التى يتجاهلها عالم غربى مخاتل، وفى البشر الذين يشيّد لهم الرعب المسيطر سجونًا خانقة. ففى قصة “بط أبيض صغير” هناك تلك الكائنات البيضاء الصامتة التى يلازم الراوى شعور مضن أن عليه أن يعيدها إلى هيئتها الأولى، إلى أطفال بشرة كل منهم غضة وإلى وقفاتهم أمام فترينات اللعب. ومن قبل كان الراوى يتابع كل شيء، ثم توقف عن متابعة أى شي، عن متابعة الصحف كلها والتليفزيون وتوقيع بيانات الاحتجاج السياسى والكلام فيما يحدث حوله. لقد أحال القصف اليومى مدن فلسطين إلى شجرة عيد ميلاد تزينها بيوت صغيرة تطفح نوافذها بالموت. ويسيطر عليه اليأس لكن الأمل يتوثب ويلقى شباكه فى بعض الأحيان، فيهمس لنفسه أنه مخطئ وأن ثمة ما يتحرك نحو الأحسن. ولكن ما أن يبدأ القصف من جديد حتى يفر الأمل مذعورًا. ولكنه بحكم العادة المتأصلة كان يشاهد مقدمات نشرة الأخبار التى تستغرق نصف دقيقة تتدفق خلالها نعوش الأطفال الفلسطينيين إلى الشاشة مثل ماء رفعت عنه السدود مرة واحدة من شاشة التليفزيون إلى أرض الصالة فى بيت الراوي. ولكن كومات الأطفال التى تسربت من الشاشة تكون قد شغلت كل فراغ فى شقته ولا يدرى ما بوسعه أن يفعل. فالأطفال (البط المسحور) يألفون المكان ولا يغادرون لأن الدنيا فى الخارج مرعبة. وفى الليل يملأ البط الأبيض كل موضع فى حجرة النوم والراوى يهرب منه متحججًا بالعمل كما يتجول فى الشوارع قبل أن يتجه إلى منزله ليجد صفوف البط تتطلع إليه فى نظرة مبهمة وهو وحيد عاجز عن الفعل يتمنى أن تدق الباب يد بشرية. وهذه الحكاية عن الواقع شديدة الغرابة، وتقنية السرد وظيفة لمعرفة الواقع لتكثيفه وترميزه.

وفى قصة “انتظار” التى كتبت قبل 25 يناير 2011 وكأنها تستشرف المستقبل تتردد حكايات كثيرة حول الجماهير، أما الحقيقة فلا يكاد يعلمها أحد لأن لها مئات الأعين والأوجه واستخلاصها صعب. وربما بدأ الحشد بخروج رجل مسن من منزله فى شبرا ذات صباح وسار مسافة فى اتجاه الميدان، وتوقف هناك بحقيبته المتوسطة وذقنه النابتة وجلس على الرصيف وظل فى جلسته طويلاً حتى أخذت المحلات وتغلق أبوابها. وهو يقول للسائلين إنه لا يتذكر ما الذى كان ينتظره طوال اليوم. ففى الجو يتلبد الانتظار عند كثيرين. ثم جاء آخرون وجاءت فرقة شرطة فرقت بعصيّها الثلة فتناثر أفرادها واقفين فى منتصف الطريق. وواصلت صفوف الوافدين تدفقها حتى صاروا قوة من الأمل فى المستقبل وساد شعور فى الحشد بأن شيئًا لابد أن يقع تتبدل بعده الحياة.. وينهض رجل لم يعرف أحد اسمه ولا قصته ويمد بصره مأخوذًا بموج الرؤوس البشرية المترجرجة بلا نهاية، وينحنى على الأرض ببطء ملتقطًا فرع شجرة ثم يعقد على طرفه خرقة صغيرة تطلع الحشد الصامت إليها وهى ترفرف بتراخ ثم وهى تخفق فى الريح بكل قوتها، راية تختلج بالانتظار للأمنيات الجماعية ورفض القيود.

المزيد من المقالات...