clip_image002_baa24.jpg

clip_image003_4ede0.jpg

قصة "ملك الغابة "، تأليف الأديب والشاعر المخضرم حنا أبو حنا ، رسومات رعد عبد الواحد ، تقع القصة في 38 صفحة وهي غير مرقمة ، اصدار مكتبة كل شيء سنة الإصدار 2016، طبعة خاصة لمشروع مكتبة الفانوس والتي توزع مجانا على عشرات الاف الأطفال في الروضات ، بهدف تحبيب الأطفال بالكتاب ومشاركة الاهل في عملية القراءة لأطفالهم كما تحتوي على بعض الفعاليات المقترحة للقصة .

القصة : تتحدث القصة عن الأسد ملك الغابة ، الذي يشاهد الحيوانات المختلفة كالقيلة والغزلان والنمور فيقول انه اقوى منها وملك الغابة ويستطيع افتراسها وأن الحيوانات تهابه وتخاف منه ، وعلى شاطئ النهر كانت بعوضة تفتش عن طعام عندما سمعت زئير الأسد اقتربت من ذبابة وقالت لها " ما رأيك في هذا الأسد " قامت الذبابة والبعوضة بإزعاج الأسد بطنين قوي ، ودخلت الذبابة فتحة منخاره فاراد قتلها فضرب انفه بقوة أما البعوضة فدخلت في اذنه ولسعته بإبرتها فقفز وزأر متوجعا ، وتنتهي القصة " ووشوشته البعوضة ، قل لي من هو ملك الغابة " ؟.

رسالة الكاتب :

-         تتحدث القصة عن تعجرف والتكبر والتجبر ، والاستخفاف بالأخرين ، الأسد استخف بالفيل رغم ضخامته والنمر رغم قوته وسرعته ، بالغزال الجميل والسريع اصابه الزهو بزئيره الذي خافت وجفلت منه حيوانات الغابة ، ولم يتوقع أن تأتيه المصائب من اصغر المخلوقات كالبعوضة والذبابة ، حتى اصبح زئيره حزينا واخذ يقفز كالمجنون متوجعا ، فعلينا عدم الاستخفاف بقدرات الاخرين ومها كانوا ، فالحكمة قد تأتي من شخص غير متوقع .

-         عدم انكار نعم الله علينا .

-         التعاون سر النجاح .

-         التواضع نعمة ، كما قال الامام علي كرم الله وجهه " التواضع نعمة لا بفطن لها الحاسد " . التواضع قوة بعناية ربانية .

-         صغر حجم المخلوق لا يعني ضعفه ، قديما كان العرب لا يعرفون قيمة البعوضة فهي كائن صغير لكنها خطيرة بلسعتها ،بالأمراض التي يمكن ان تنقها الى الانسان فتفتك به تنقل طفيليات العديد من الأمراض مثل، مرض الملاريا والحمي الدماغية وغيرها ، وهنالك نحو 2000-3000 نوع من البعوض ، والبعوضة والذبابة تلقنان الأسد اصعب الدروس ، حتى أخذ يجر اذيال الهوان والذل ويتألم بشدة ، ورد في القران الكريم في سورة البقرة

-         " ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين ( 26 ) )

-          

-          ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين ( 26 ) )

القران الكريم حثنا على التواضع ونبذ التكبر

الآيات الواردة في معنى التواضع:

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ {159} لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ {88}

(3 وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً {37}

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً {63} وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {215} وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ {18}

احاديث نبوية تحث على التواضع

عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني، يومي هذا) الحديث، وفيه: (وإن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد). رواه مسلم. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من امرئ إلا وفي رأسه حَكَمة [الحكمة: بفتحات: حديد في اللجام تكون على أنف الفرس وحنكه تمنعه عن مخالفة راكبه ]، والحَكَمة بيد مَلَك إن تواضع قيل لملك: (ارفع الحكمة، وإن أراد أن يرفع قيل لملك: ضع الحكمة أو حكمته). رواه الهيثمي في مجمع الزوائد والبزار وإسناده حسن، والمنذري في الترغيب والترهيب وحسنه الألباني. 3) عن حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أخبركم بأهل الجنة ؟) قالوا: بلى. قال صلى الله عليه وسلم: (كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره) ثم قال: (ألا أخبركم بأهل النار؟) قالوا: بلى. قال: (كل عتل جواظ مستكبر). رواه البخاري ومسلم. العتل: الجافي الشديد الخصومة، وقيل: الفظ الغليظ. الجواظ: الضخم المختال في مشيته. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله). رواه مسلم. عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ترك اللباس تواضعاً لله، وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها). رواه أحمد في المسند والترمذي وحسنه الألباني.

إشارات ثقافية وردت في القصة :

هذه القصة تجعلنا تستذكر قصة نمرود الواردة في القران الكريم وفي سفر التكوين (ونمرود غير مذكور بالقران الكريم بالنص لكن معظم المفسرين قالوا انه الملك الذي جادل النبي إبراهيم الخليل وادعى الإلهية )، استكبر في حكم مملكة بابل ، فارسل الله اصغر الجنود " بعوضة " التي دخلت اذنه واسمعته الطنين القوي حتى صار بضرب بالنعال حتى مات .

ملاحظة : القصة غير مرقمة الصفحات الداخلية .

خلاصة : قصة جميلة وعميقة ، ملائمة للصغار والكبار رسوماتها جميلة وواضحة ، توصل رسالة قوية للبشر على لسان الحيوانات والحشرات .

الفصل الرابع

التصوير الفني في شعر الدول المتتابعة  

    حين تنفعل نفس الشاعر لحدث ما، وتتوهج الفكرة في مخيلته، وتستولي على مشاعره فإنه يعبر بلغة غير عادية، لغة تستمد من الطبيعة عناصرها، وتربط بين تراكيبها علاقات جديدة، ويضيف الشاعر إليها من العناصر الأخرى، ولا سيما الموسيقى ما يجعلها أقدر على التعبير عن مراده، وتبيان موقفة من الحياة وناسها ومبدعها، وإيضاح الهدف من وجوده على ظهر البسيطة، ويكون تعبيره هذا صدىً لحالته النفسية الداخلية، وما شيطان الشعر عند العرب إلا قوى اللاشعور تصطرع في مخيلة الأديب فتؤدي إلى إبداعه، وكلما تمكن الأديب من إبراز فكرته محملة بالأخيلة كان أقدر، وشعر بلذة عمله، وأثّر في الآخرين( 1 ) .

  وليس التعبير بالصورة جديداً على أدبنا العربي، فمذ بكى امرؤ القيس واشتكى، وشبه الليل والفرس غدت الصورة وسيلة تعبير، وإذا كانت الدراسة الحديثة تهتم بها على أنها وسيلة تكشف عن أغوار النفس، ولها دلالة على نفسية قائلها، فإن النظرة القديمة كانت تؤثر البيت المصنوع الذي يكثر فيه صاحبه من الأخيلة ليدل على براعته، ولهذا خزّن الشعراء صوراً وأساليب، ثم راحوا يعرضونها في أشكال تدهش العقول، ولكن كثيرا منها كان صورا باهتة لا حياة فيها ولا جمال( 2 )؛ على حين نرى عند بعضهم إبداع وإجادة، وإيثار للطبع على الصناعة.

وسوف أعتمد في دراستي للصورة الفنية في شعر هذا العصر على المفهومين: المعاصر، وهو الأغلب، وهو الذي يدعو إلى أن تتآزر قوى الخيال والإيقاع والأصداء والظلال([1])، لتؤدي المعنى قوياً مؤثراً، وعلى القديم الذي ينظر إلى الشعر على أنه وسيلة لإمتاع اللّب، وذلك لئلا أغبن الشعراء حقهم في وقت كانوا يتوجهون فيه بشعرهم إلى مجتمعاتهم، وهم يأملون أن تتقبله منهم بقبول حسن، وإن لكل عصر ذوقه، إضافة إلى أن المفاهيم النقدية تتغير من زمن إلى زمن، وما ألفه جيلنا قد يستهجنه جيل لا حق([2]) .

وسأبين أساليب التعبير بالصورة في شعر العصور المتتابعة ، ثم أنتقل إلى بيان الإبداع الفني فيه ، وإلى التقليد والسرقة ، ثم ما تهافت من صوره .

أولا -  أساليب التعبير التصويرية :

عبّر شعراء العصر عن أفكارهم وأحاسيسهم بمشاهد كلية تصف الطلل او تستمد من الحياة الواقعية اليومية، أو من عالم الوهم والخيال. كما عبروا بصور جزئية كانت كلقطات آلة تصوير تنم عن حالة مادية ، أو شعورية نفسية .

  1 – التعبير بالمشاهد :

كان الشاعر في وقفته الطللية، أو في تعبيره عن هجران أحبته، أو في وصفه لحرب صديقه لعدوه يرسم لنا مشاهد من الطبيعة المحيطة به، أو من جو المعارك الناشبة في عهده … ، وكان وصفه هذا سبيلاً إلى التعبير عن معاناته وآلامه، أو عن فرحته لانتصار ممدوحة ..، والشاعر في رسمه لهذا المشهد أو ذاك يعرض علينا صوراً جزئية عدة، مكونة من تشابيه واستعارات وكنايات، يتعاون بعضها مع بعض لتصوير الواقع ، أو الإفصاح عن الحالة الشعورية ، أو النظرة إلى الحياة .

 فالشاعر «عبد الحق الحجازي»([3]) يقف أمام أطلال صواحبه، ولعلهن أسرته الراحلة، فيتذكر نعيمه معهن يوم كنّ يعُمْرن الديار، وهو يخاف فراقهن ، أما الآن فقد غادرنها، وخلّف رواحهم في قلبه أشجاناً تتقد، وفي عينيه دموعاً تسيل كالأنهار؛ ويروح الشاعر بعد ذلك يرسم لنا مشهداً لهذه الديار المهجورة، فإذا هي مرعىً للحيوانات، ومصفق للرياح الهوج التي أثرت في معالمها، كما تؤثر الخمرة في عقول شاربيها؛ وينتقل المشهد بنا إلى طرف آخر لنرى النساء وسط الفيافي والقفار في جو حار لا هب، كانت الجبال فيه تبدو كغبار كثيف يتصاعد من مكان ما، والصحارى كصحائف، وآثار مسير النوق فيها أسطرها، وكأن هوادج النساء بثيابهن الزاهية الملونة أزاهير تتفتح في هذه الأراضي الممتدة. 

ولا ينسى الشاعر أن يقدم لنا صورة عن حالته النفسية إثر رحيلهن، تجمع النواحي المادية إلى جانب المعنوية، فهن الحييّات المضيئات كالبدور وسط شعور سود فاحمه، الفاتنات بعيونهن الواسعة، ولهذا لا يمكن للشاعر أن ينساهن أبد الدهر؛ يقول في ذلك:

وبخدّيَّ للبكا أنهارُ

 

بين جنبيَّ للتفرّقِ نارُ

هيَّجَتْها الأطلال والآثارُ

 

وبقلبي لواعجَّ من شجون

فهي الآن للكوانسِ دارُ

 

أَرْبُعٌ كُنَّ للأوانس مرعى

مثلما تَنْهبُ العقولَ العقارُ

 

نهَبتْها أيدي الروامسِ نهباً

جِزعاً، كيف أنتَ وهْي قفار

 

كنتَ والدورُ بالدمى آهلاتٌ

صَيْخَدٍ لا يُرى بها سُفّار ([4])

 

وترامَوْا بكلّ خَرْقٍ مَخُوفٍ

شامخاتِ الذرى غبارٌ مُثار

 

وكأن الأعلامَ إذ تتراءى

وكأن الركائبَ الأسطارُ

 

والفيافي كأنهن طروسٌ

ولها البيضُ والدمى أزهار ([5])

 

وكأن الأحداجَ أكمامُ طَلْعٍ

ووجوه كأنها الأقمار ([6])

 

قاصراتٌ عينٌ أوانسُ غيدُ

فالشاعر اعتمد في عرضه هذا المشهد على صور جزئية عبرت عن واقعه المر إثر رحيل الظعائن عنه، فقلبه يتقّد كالنار «استعارة تصريحية»، والدموع تسيل كالأنهار«استعارة تصريحية»، وقد تآزرت الصورتان إضافة إلى التصَريع لتوحيا بشدة وقع الفراق على نفسه، وجاء التقديم والتأخير في البيت «بين جنبي نار، وبخدي أنهار» ليؤكدا المعنى .

والشاعر بعد ذلك ينتقي من الصور الواقعية ما يدل على آلامه من هذا الفراق، فالديار غدت مقر الغزلان بعد أن كانت مرتع الفتيات، وفي اختياره المجانسة بين الأوانس والكوانس، وبهذه السين ذات النغمة الحزينة، إضافة إلى الصورة التمثيلية للرياح وهي تنهب الديار نهباً كسارق يريد أن يأتي على المال بسرعة، وذلك لتزيل معالمها، وتشبيه هذا النهب بالخمرة التي تؤثر في عقول شاربيها فتطمس تفكيرها.. بهذه العناصر الشعرية كلها يتضح وقع الفراق على نفس الشاعر.

ولنقرأ له معاً مدة الفعل «تراموا» في تركيب يحوي نغمة التنوين مكررة ثلاث مرات:

وترامَوْا بكل خرقٍ مخوفٍ                   صيخدٍ ..

إننا نحس بمشاركة الشاعر النفسية لهن في رحيلهن، فوزن تفاعل يشير إلى هذه المشاركة ، فكأنه معهن في كل خطوة يخطونها، وهن ينأَينَ عنه ويبعُدن، وكأن التنوين بنغمته الحزينة خفقات قلب الشاعر، وهو يراهن راحلات غيَر آيبات، وكذلك كان وقع الكاف والنون في قوله «وكأن» مكررة عدة مرات في بداية كل شطر دليلاً على الأسى وأثره، فهي في تكرارها كطرقات على نفسية الشاعر.

وكان للصور الجزئية الأخرى مشاركة في التعبير عن إحساس الألم، فالجبال وسط الفضاء الرحب بدت كغبار مثار «تشبيه تام»، والصحراء فيه صحائف «تشبيه مرسل»، وآثاره خفاف الإبل سطورها «تشبيه مرسل»، والهوادج أكمام طلع «تشبيه مرسل» أيضاً، والنساء فيها زهور «تشبيه بليغ» وهنا تبلغ الصورة أقصاها في التعبير عن بعدهن، فيفوه الشاعر بعبارات تنم عن حبه لهن، فهو لن ينساهن أبداً، وكيف؟ وهن الأوانس الفاتنات بعيونهن الواسعة، وشعورهن التي تبدو كالليل المظلم «تشبيه»؛ وقد جاء توالي الصفات في:  «قاصراتَُ  عينَُ   أوانسُ  غيدُ» مع هذا التنوين دليلا على إعجابه بهن، وحزنه على فراقهن، ولهذا قال بعد ذلك:

.................. «عن هواهن ليس لي إقصار »

وقدّم الهوى دليلاً على شدة تعلقه بهن.

وهكذا تآزرت اللغة والصورة والموسيقى لتقدم لنا لوحة شعرية تتحدث عن واقع مرّ عاشه الشاعر آنذاك ، والتاع قلبه للفراق .

وهذا مشهد واقعي آخر التقطه الشاعر «أبو دينار التونسي» من جو الحرب التي جرت بين باي تونس «رمضان المرادي»، ومن ناوأه، إنه يصور العداة المفسدين وقد صّبت عليهم الباي نيرانه فقتّلوا، وغدت أجسادهم طعمة للطيور والوحوش، أما أسراهم فقد كبّلوا بالأغلال، وطيف بهم في شوارع المدينة جزاء وفاقاً حتى أمن الشعب والسبل تحت رعاية هذا الباي اليقظ، ونام في طمأنينة، يقول:

أصابهَم وابلٌ بالقتل هتان

 

رأَوْا بروقاً فظنّوا الغيثَ فانتَجعوا

ومالهم غيرُ ريشِ الطير أكفانُ

 

قبورُهم في صدور الطير  طار بها

وصار تأكلُه ضبعٌ وديدان

 

كم من قتيلٍ تراب الأرض مفرِشُه

كأنه ماردٌ في الغلّ شيطان ([7])

 

وكم مصفد في الأغلال سيق به

قالوا أتى رمضانٌ أم سليمانُ ([8])

 

فالإنس لما رأوا الجن في صفد

صوموا على البغي هذا شهرحرمان ([9])

 

قد جاءكم رمضانُ مستعدُّ لكم

نمْ في أمان فإن الباي يقظانُ ([10]) 

 

يا سائراً في فيافي البيد في دعةٍ

فالشاعر هنا التقط عدة صور جزئية من واقع الثورة التي هبت في وجه باي تونس في ذلك العهد، وضمنها مشهده، فالأعراب رأوا بروقاً فظنوا الغيث «كناية عن الأمل بالخير»، والرصاص القاتل انصب عليهم كالمطر المتدفق «استعارة تصريحية»، و صدور الطير غدت قبورهم «تشبيه بليغ»، وريشها أكفانهم «تشبيه بليغ» وتراب الأرض مفرشهم «تشبيه بليغ» وأجسادهم يأكلها الضبع والديدان «صورة واقعية» لمصير هؤلاء البغاة، وفي عرض المفارقة بين رجائهم الخير، وتمنيهم الحصول على الغنائم كمن يرتجي الغيث، وبين صيرورة أجسامهم طعاماً للوحوش الضاريات، والطيور الكواسر، يدع الشارع القارئ يعي ويتيقظ، وقد شارك التشبيه التمثيلي بين المصفد في الأغلال، والشياطين المردة في القيود على توضيح المعنى، ثم كانت التورية المرشحة([11]) في ذكر رمضان، فكأن هؤلاء البغاة مردة جبابرة، ولكن الله سبحانه نصر الممدوح عليهم وأبطل كيدهم، كما قيد المولى تعالى الشياطين في شهر رمضان حين ذكر الصيام، وشهر الحرمان، فأتم بذلك جمال الصورة؛ وفي هذا الوصف أيضاً مراعاة نظير إذ ذكر رمضان والجان المصفدة في الأغلال، والصيام، وشهر الحرمان ، وهذا ما أضفى على النص وضوحاً وجمالاً؛ وكان الطباق بين «نم في أمان» و «الباي يقظان» يساعد أيضاً في توضيح الواقع، ويؤازر الصور، ويبين موقف الشاعر من هذا الباي الذي بذل جهوداً كبيرة في سبيل حماية شعبه و أمنه وراحته.

ولعل الإيحاء الذي جاء من معارضة الشاعر لنونية أبي البقاء الرندي، التي قالها في سقوط الأندلس، والتي مطلعها: 

فلا يُغَرَّ بطيبِ العيشِ إنسانُ([12])

 

لكل شيءٍ إذا ما تمّ نقصان

 يضفي على النص نغمة موسيقية حزينة تذكر بجرائم البغاة المعتدين، وتستدعي متابعة النص للاطلاع على هذه الجرائم التي تمكن الباي من القضاء عليها، فحقق بذلك بهجة النصر لشعبه، وقد بدت هذه البهجة مقترنة بنغمة الحزن في استهلال القصيدة وذلك في قوله:

وللزمان إساءات وإحسان([13])

 

لكل شيء مع التوفيق إبّان

 أما الشاعر «عبد الجليل الطباطبائي» فإنه يصور لنا مشهداً يمثل حالته النفسية إثر سماعة بقصف العمانيين لمدينته «الزبارة» القطرية في سنة 1217ه، إذ أمض الحزن والشوق إلى الأهل قلبه فغدا لا يستطيع النوم، فكأنه يبيت على شوك القتاد، وكأن جفنيه يحاربانه، وصار لا يحسن التفكير، ولا منادمة الجلساء، وكلما هب نسيم الجنوب اشتم منه روائح الأحبة، يقول في ذلك:

لفي لا عجٍ بين الأضالعِ لا هبِ ([14])

 

لكَ اللهُ إني من فراقٍ الحبائب

تَوَقَّدُ في جَنْبَيَّ نارُ الحباحِبِ ([15])

 

أكابدُ أشواقاً يكادُ لفرطها

فصرْتُ أخا قلبٍ من الوجد ذائبٍ

 

يبلبل بالي قادحُ البعد والهَوى

أكلّف جفني الغمضَ وهو محاربي

 

أبيْتُ على شوكِ القتاِدِ صبابةً

مقال جليسي أو كلام المخاطب

 

أروح وأغدو عادمَ اللبِّ لا أعي

أشمُّ الغوالي في مَهَبِّ الجنائبِ  

 

أتوق إذا هبَّ الجنوبُ لأنني

ومن دونها قد حال قرعُ الكتائب ([16])

 

نأتْ دار مَنْ أهوى وعزَّ مزارها

فالشاعر هنا يبين عن مشاعره في عدة صور واقعية وخيالية، فالشوق يلتهب بين جوانحه «استعارة مكنية»، وفي تقديم الجار والمجرور، والتأكيد باللام المزحلقة «إني من فراق الحبائب لفي لاعج» زيادة في التأكيد على شوقه، ثم أتبع هذا بقوله: «أكابد أشواقاً»، والمكابدة فيها مشقة وعناء، وكأن هذه الأشواق نار تتقد في جوانحه كنار الحباحب «تشبيه»، ولننظر إلى كلمة «يبلبل بالي» إنها كناية عن القلق والاضطراب النفسي الذي ولده البعد، فجعل قلبه يذوب «استعارة مكنية»، وبات على شوك القتاد «كناية عن الأرق والعذاب»، وهو لا يستطيع النوم لأن جفنه يحاربه «استعارة مكنية تشخيصية» فكأنه فارس يتصدى له بالعدوان، فيحرمه لذة النوم وراحته، وقد بات ذاهلاً من شدة التفكير، عادم اللب «كناية» أيضاً، فهو في عالم ومحدثه في عالم آخر، وهي صورة اشترك فيها السمع مع البصر، ثم جاءت صورة هبوب رياح الجنوب وهي تحمل بين طياتها روائح الأهل والأحبة «صورة شميه» لتدل على أن حواسه كلها قد ركزها لسماع أخبار الجنوب إبان القصف العماني لمدينته الزبارة؛ وفي قوله: «هب الجنوب» مجاز عقلي علاقته مكانية إذ نسب العمل إلى الجهة التي يقطن فيها أهله، ولم ينسبه إلى الفاعل الحقيقي وهو الرياح، وكذلك الحال في «نأت دار مَنْ أهوى» إذ نسب النأي إلى الدار، ولم ينسبه إلى مَنْ فيها، فكأنه لا يريد أن يذكر بعد الأهل لأنهم أحبة قرباء إلى نفسه، فذكر بعد الدار بدلا من ذلك.

وكان لموسيقا البحر الطويل ذي النَّفس الواسع، ولحرف الباء القوية روياً مسبوقة بألف التأسيس أثرها في تصوير حالته تصويراً طويلاً ممدوداً، مؤلماً، قوي التأثير في نفسه، كقوة حرف الروي الباء.

وبهذا التصوير تتحول القضية الاجتماعية إلى قضية سياسية، فالقصف العماني هو الذي سبب له هذه الأشواق لأنه حرمه العودة إلى ديار أهله، وبهذا تؤدي الصور الذاتية في ظاهرها غرضاً إنسانياً حين تكشف أخطار الإرهاب والعدوان على الحياة الفردية والاجتماعية.

وقد يعتمد المشهد على الخيال الوهمي، ويبدي  فيه الشاعر إبداعه الفني كما في  قصيدة للشاعر ابن منجك تحدث فيها عن رأيه في الشعر وجعلها تدور بين الشاعر وفتاة ، وكانت هذه رمزا لقصيدة موسى الرام حمداني الذي أرسل مدحة فعبر الشاعر عن رأيه فيها وموقفه ممن مدحهم الشاعر الرام حمداني .

   انقسم المشهد ( القصيدة ) إلى ثلاثة مشاهد جزئية ، تحدث الأول منها عن إرسال القصيدة ، وقد صورها فتاة تتزين بطوق الشكر والحمد ، ولكن الأبواب أغلقت دونها بسبب الشح الذي كان عليه الناس آنذاك ، وفيه يقول :

لقد وفدتْ للشامِ منه خريدةٌ       وفي جِيدِها طوقٌ من الشكرِ والحمدِ

وأمهرَها من ليس في الناس كفْؤُها     فضلَّتْ لدى تلك المنازل عن رشد

رأت كل دارٍ غلَّقَ الشُّحُّ بابَها     وسددَها بالجصِّ والحجرِ الصَّلْد([17])

   وفي المشهد الجزئي الثاني تلقانا الفتاة في الظلام في هيئة المذعورة وهي ترتجف من شدة الخوف وفقد الأهل ،وقد تعرت ووقفت تدعو المولى أن يضيع من ضيعها وهي ترجو من ينقذها ويغار عليها ويصونها :

وأدركها الليلُ البهيمُ فحيرت    ولا شك أن البكرَ تخشى من الجند

عرتْها لفقدِ الأهلِ دهشةُ غربةٍ     فقامتْ على الأقدام ترجفُ كالسعدي

       ممزقةَ الجلبابُ محلولةَ العُرى    مضيَّعةَ السروال باديةَ النهد

تقول أضاع اللهُ شيخا أضاعَني     ويهدي ولم يدرِ الهدايا لمن يهدي

وقالت ترى هل أُبصِرُ الآنَ غيرةً  أصونُ بها عرضي  فقلت لها عندي

فقالت لعل الدار دار ابنُ منجك       أميرُ دمشق الشام قلت نعم جدي

     وفي المشهد الثالث من هذه القصيدة نرى الشاعر يؤويها وقد أعجب بجمالها وغنائها فطمأنها، وبين لها أنه من أسرة عرفت بالكرم وشجعها على الإقامة قدر ما شاءت وأعطاها حرية التنقل، ولكن الفتاة لم تكن ذات حجاب مصون بل كانت شؤما كما أخبرت عن نفسها حين نسبت نفسها لطويس الفاسق([18])مما جعل الشاعر يطردها ويقول:

فقابلْتُها مني بكل تحية     وأمهرتُها روحي وأفرشْتُها خدي

فقلت لمن وافيْتِ قالتْ مَروعةً     إلى ذلك الجرذانِ في صحبة القرد

فقلْتُ انعضمي بالاً وقَرِّي أعيناً     فمن بُرِّ نادينا الأراملُ تستجدي

أقيمي إلى أن تشتهي السيرَ عندنا  وروحي لمن تبغي وخفي بلا طرد

فقالت ترفَقْ ما التحجبُ عادتي   ولا أنا في حجرِ الصيانةِ من مهدي

فغابتْ وآبت مثلَ لمحةِ بارق    وتبكي بكاءِ المُستهام من الوجد

فقلت على من تندُبين فولولتْ     وقالت لقد مات الحمارُ من الكد

وعندي شؤمٌ لو طرحتُ أقلَّه    على كل من يعدى لكان به يَعدي

فقلت إلى أيَّ المناحيس تنتمي    فقالت طويسٌ كان زوجي بلا عقد

فقلت اذهبي أيان شئتِ ذميمةً     وراجعةً من غير إرثٍ ولا نقد

    لقد عبر الشاعر في هذا المشهد الرمزي الوهمي عن ضيقه من الشاعر الرام حمداني الذي كان يمدح من لايستحق الثناء ، ويأتي بمعان غير مستحسنة في شعر قوي وذي موسيقى عذبة([19])، فأراد الشاعر أن يصحح له مفهومه عن الشعر ، فهو معنى ومبنى ، وقد صور رأيه النقدي  في صورة فتاة وجعلها تتحرك على مسرح الحياة ، وجعل نفسه يحاورها وتحاوره وبذلك أثبت مقدرته الفنية في التعبير عن رأيه بطريقة مشوقة ، فالشعر الذي يستحق الإكرام هو مايقدم إلى مستحقه ، وكان بعيدا عن الفحشاء والمنكر ، وما خرج من فيه نظيف لافسق فيه، وإلا اشمأزت النفس منه ونفرت وإن كان مطربا في موسيقاه عذبا في رنينه .

    وهذا المعنى النقدي للشكل والمضمون ماكان له أن يظهر بهذا الجمال الفني لو أن الشاعر قاله مباشرة، ولكن التصوير الفني فيه المعتمد على الرمز والتشخيص كان له أثره في الإعجاب بالقصيدة ، وكانت الصور فيه تتنامى لتشارك في البناء الفني و لتعبر عن الموقف مما أكسب النص وحدة عضوية متماسكة .

وهذا مشهد وهمي آخر لا يعتمد على عنصر المبالغة، وإنما على عرض خيالي من الدار الآخرة يتصورالشاعر «معروف الرصافي»([20])  فيه صديقه «محمود شوكت»([21]) يرتدي حلة خضراء فوق درع إلهي، وكانت الملائكة تحفه بأجنحتها، والجنود يحيطون به في موكب عظيم، وقد انتابت الشاعر قشعريرة من هول الموقف، فطمأنه المتوفى، ثم حمّله سلامه إلى أبناء الوطن، وأخبره أنه قد عفا عمن ظلمه لأنه لا يحمل حقداً على أحد. يقول في ذلك:

لدى العالمِ العلويِّ في ربوةِ الخُلْدِ

 

فما أنا إلا غَفْوةٌ فخيالةٌ

من النورِ مرفوعٍ الدعائمِ ممتَدّ ِ

 

رأيْتُ كأني قمت حول سُرادَقٍ

به فوق كرسيَّ الجلالةِ والمجدِ

 

وقد لاح لي محمودُ شوكتُ جالساً

على أنه من صنعة الله لا الهند 

 

وفي يدهِ سيفٌ أجيْدَ صقالُه

فُوَيْقَ جبينٍ مشرقٍ بسنا الحمدٍ

 

وفي الرأس تاجٌ بالثناء مرصَّعٌ

ومن تحتها درعٌ إلهية السرد

 

وقد جَلَّلَتْهُ بردةٌ سندسيةٌ

مجنَّحةِ الأيدي غرانِقَةٍ مُرْدِ

 

وبين يديه زمرةٌ من ملائكٍ

عظيم به اصطفت ألوف من الجند 

 

وقد قام من حول السُّرادَقٍ موكبُ

كما يرجُفُ المقرور من شدة البرد

 

فجئْت وجسمي قد تغشَّتْهُ رجفَةٌُ

عهدناكَ في زوّارنا مخلصَ الودّ

 

فقال : لقدآ نسْتَ إذ جئْتَ إننا

سعَيْتُ إلى إعلائه باذلاً جهدي

 

فأبلغ تحياتي إلى الوطنِ الذي

وإن قتلوني ظالمين على عمد ([22])

 

وإني لأرجو منك مرحمةً لهم

   فالشاعر هنا اعتمد في رثائه على عرض مشهد ينم عن علوّ كعب صاحبه، واقتبس صوره من عالم الآخرة، وعقد بينها بعلاقات وهمية، فالسرادق من نور «تشبيه بليغ»، والكرسي من الجلالة «تشبيه بليغ»، والتاج من الثناء، والمشبه في هذه الصور أمور مادية، أما المشبه به فأشياء معنوية، وزاد في تعظيم المرثي حين جعل سيفه من صنع الله لا البشر، وكذلك درعه، وجاء بوصف الموكب الذي أحاط به ليتم صورة العظمة والأبهة التي يتمتع بها في الدار الآخرة، كما صور خوفه بمن يرتجف من شدة البرد «تشبيه»، وبهذا التصوير الخيالي يكشف الشاعر عن موقفه السياسي من الاتحاديين الذين قتلوا صديقه لأنه ناوأهم في منهجهم السياسي.

   ولكن بعض المشاهد الوهمية اعتمدت على المبالغات فغدت غير مقبولة فنيا ، من ذلك قول الشاعر اليمني «علي بن المهلا»([23])  في مديح الإمام «الحسن بن القاسم» الذي أخذ مدينة زبيد من العثمانيين:

غارَ على الإسلام أن يُهملا

 

الحسنُ بنُ القاسمِ الندبُ مَن

ت الشام بله الروم والموصلا ([24])

 

ودوخ الأرض فلو رام تخ

لأمره أسرع من لا و لا

 

لأقبَلَتْ بالطَّوْع منقادةً

عندك يا مَنْ قدرُه قد علا ؟

 

وما هي الأرضُ وما قدرها

نحوك لا تلبَثُ أن تنزلاً

 

ولو أمرْتَ الشهبَ إقبالَها

جعلْتَ من فروته أنعلاُ

 

وضَيْغمُ الأفلاك لورُمْتهَ

بالحُرَّ لا ستُعبْدِ واستمثَلا ([25])

  ولو نهيْتَ الدهر عن فعله

فالشاعر في عرضه لهذا المشهد يأتي بصورة وهمية لا يربط بينها علاقات حقيقية، فالأرض لو أمرها لجاءته طوعاً لا كرهاً بأسرع ما يمكن، والشهب تنصاع لأوامره، والكواكب تأتيه بإشارة منه، والنجوم غدت حذاءه، والزمان أسيره؛ وهذه صور فيها مبالغة غير مستحبة، إذ لا تقبل شرعاً ولا عرفاً، وإن كان الشاعر قد خففها بكلمة «لو»، وقد اختار البحر السريع ليناسب سرعة استجابة الكون لأوامر الممدوح، وكانت اللام الموصولة بالألف تشير إلى اتساع حركته ونشاطه، وعلو قدره .

وهكذا كان للموسيقا أثرها في التعبير، وقد شاركت الصورة في الكشف عما يكنه الشاعر في نفسه من إعجاب.

وقد يكون سبب جمال التصوير دلالته على سلبية من سلبيات الحياة، فالشاعر «أحمد الفلاقنسي» يرسم لنا مشهداً لأولي الشر والفساد، تبرز فيه صور جزئية عدة في علاقات تقابلية، تعرّفنا على مَنْ نكب بأخلاقه، يقول فيه :

ولقد بُليت من الزمان بعصبة          ألفوا الخنا وفِعالَ ما لا يجمل

من كل من نبذ الحفاظ خيانة           وغدا يؤنب بالمقال ويعذل

يرضيك ظاهره وبين ضلوعه            حقد يئز كما يئز المرجل

ثم يتوجه إلى من يخاصمه فيقول له :

وتظنُّ يَخفى ما تُسِرُّ ويُجْهَلُ([26])

 

تُبدي الودادَ وأنت وغدٌ كاشحٌ

لعلمْتَ أنك في مقالِك تجهلُ

 

لو كنْتَ تدري ما تقولُ سفاهةً

ينبو المهندَّ وهو ماضٍ صيْقل ([27])

 

لا تخد عنَّك من لسانٍ نَبْوةٌ

لقد اجتمعت الصور السمعية والبصرية للتعبير عن خلق امرئ يرضي مظهره من يعاشره، ولكن يطوي بين جنباته حقداً يغلي كغلي المرجل، فكأن للحقد فوراناً يسمع صوته كما يسمع صوت غليان القدر، وفي هذا التشبيه التام، والصورة التقابلية بين يرضيك ظاهره، وقلبه ينطوي على حقد دفين طباق خفي يزيد في إيضاح الصورة، و «الضد يظهر حسنه الضد»، وكان لأسلوب الخطاب بما يحمله من تأنيب المهجو بيان لحمقه وضعفه؛ ومجيء الصفات المتوالية أفعالاً مضارعة يظهر استمرار هذه الصفات عنده، والجملة الاسمية «وأنت وغد كاشح» وصمة ثابتة تبين عن حال دائمة، وقد ختم هذا التصوير بالتشبيه الضمني، فالشاعر يربأ بنفسه أن يؤذيه وأن يرد جهله بمثله، وإن كان يقدر على ذلك، كالسيف يبعده صاحبه عن الإضرار بالآخرين، وهو الحاد القاطع، وبذلك يكشف الشاعر عن موقفه من أمثال هذا المنافق، ويبين عن سمو أخلاقه إزاء الجاهلين الحمقى.

أما أحمد بن عمر الحموي([28]) فإنه يرسم في مشهد له صورة إيجابية لأناس صالحين أتقياء راحوا يناجون الله سبحانه علّه يغفر لهّم سيئاتهم التي تكاثرت، وهي صورة تمثل شريحة من المجتمع في لحظات صفاء نفوسها، وهي تخاف الله وترجو عفوه، وكان الشاعر واحداً من هذه الفئة قد «هوى في غمرات الفساد، وتخطفته الأهوال، وتعرّى من الخير، وضلّ ضلالاً بعيداً».. ويقابل هذه الصورة السلبية له لوحة أخرى تمثله باكياً شاكياً أمام الله سبحانه،يطلب منه الهداية ويرجو ألا يخيب مأمله،وهو الذي لا يرد سائله:

من زمانٍ صعبِ اللقاءِ معارِكْ 

 

جاء يشكو إليك ما يلْتقيهِ

فاهدهِ للهدى بنور منَارِكْ

 

يدّعي الخيرَ وهْو في الشرّ هاوٍ

واءِ فانجدْه سيَّدي باقتدارك ([29])

 

خطفته الأهوالُ من ساحة الأه

نفسه ، والضلالُ يعُمي المدارك

 

قد تعرّى من الفلاح وضلَّتْ

عائذاً لائذاً بطول فخارك ([30])

 

حاشَ للهِِ أن يخيِّب عبداً

فالشاعر هنا في عملية صراع نفسي مع الزمان، فهو يعاركه ويصرعه حيناً «استعارة مكنية»، وهو يهوي في دركات الشر «كناية عن فساده»، ولذلك فهو يطلب الهداية «صورة تقابلية» بين انغماسه في الشر وطلبه الهداية تبين عن حالته الإيمانية، والأهوال ساحة «تشبيه»، فيها أهوال وأشرار تخطف القادم إليها «استعارة مكنية» تشخيصية للأهوال ، والفلاح ثياب تعرّى منها «استعارة مكنية تجسيمية»، وقد أعماه الضلال «استعارة مكنية»، وفي تكرار وصف ضلاله ب «تعرى من الفلاح، وضلت نفسه، والضلال يعمي» تعبير عن آلامه ومعاناته لسيرة على نهج غير قويم ، ولذلك جاءت بعده «حاش لله» لتشير إلى شدة تعلق قلبه بالمولى سبحانه، وقد ساعدت الموسيقى الداخلية في التنوين في «عبداً عائذاً لائذاً» في إبداء صورة التلهف الحزين، وكان حرف الروي الراء بما فيه من تكرار يشير إلى نفسه القلقة المضطربة، وكأن الكاف بوصلها بعد حرف الروي تعبر عن الضغط النفسي الذي يعاني منه المذنب، وهو يرجو غفران ربه.

2- التعبير بالصور الجزئية :

وهي صور جزئية مبددة أو متجمعة بدت كلقطات مصورة في أساليب متعددة حسب النظرة إليها :

أ- من حيث طرفا الصورة :

 تكون تشبيهاً أواستعارات أوكنايات :

1.                                                  -التشبيه

وله أهميته في أدبنا العربي، وقد فضل امرؤالقيس غيره لما أجاد فيه، ذلك لأنه يوضح المعنى ويعمقه، ويزيد الإحساس بالصورة لما فيه من ظلال وألوان، وهو ينفذ إلى صميم الأشياء فيجعل القارئ يزداد تأثراً، ونفسه تتوق إلى المشبه بعد أن غذته صورة المشبه به، فغدا مشرقاً حياً ؛ وقد شرط النقاد أن يكون التشبيه مرتبطاُ بالمحسوسات، ولذلك كانت الصورة البصرية عندهم الأجود ([31]) .

هذا أحمد الكوكباني([32]) يقول في صورة تمثيلية :

كتائب قد صفقت للقتال

 

كأنما العارض لما بدا

بنادقا في الصوت والاشتعال ([33])

 

ورعده والبرق قد أشبها

ويرى «عبد الغفار الأخرس» في  القضاء على العدو شيئاً ترتاح له النفس، فيروح يصور الخيول تدوس القتلى بسنابكها ميدان الوغى في نشاط وحمية كنشاط لاعب الكرة وحماسه، يقول في صورة تمثيلية أيضاً:

لعبَ الصوالج يومَ الروع بالأُكَر([34])

 

والخيل تفعل بالقتلى سنابكها

وقد اتخذ الشاعر من هذه الصورة التقابلية وسيلة لتعميق فكرة القتل، فالطرف الأول يمثل دوس الخيول للقتلى في حركة نشطة، والطرف الثاني يرسم صورة لاعب الكرة المتحمس لها؛ وصورة القتل منفرة إلا في هذا المجال ولهذا كان مجيئها مع اللعب ملائماً للصورة .

  وللشاعر «صارم الدين إبراهيم بن صالح» تشبيه تمثيلي موفق أيضاً بدا في صورة تقابلية إذ جعل الخلافة عروساً تسفك الدماء في سبيل الحفاظ عليها يقول:

عروس، وما غير الدماء خضاب([35])

 

واحرِص على هذي الخلافة إنها

وقد اتخذ الشاعر من الصورة التقابلية بين العروس والدماء، بين البهجة والقتل وسيلة لتعميق فكرة الدفاع عن الخلافة، وكان الطرف الأول «الخلافة» شيء معنوي شبهه بالعروس ذات الخضاب الذي يزينها ويحببها إلى صاحبها فيزداد بها تعلقاً وتمسكاً ، ولهذا بدا الطرف الثاني القتل والدماء ملائماً للصورة.

وتعد الاستدارة التشبيهية أو " التفريغ " ([36]) من الأنواع التمثيلية أيضاً، فالشاعر «عبد الرحمن التاجي»([37]) يتحدث عن «عبد الغني النابلسي» الذي كان يجتمع معه كل ليلة في المسجد ويتداول معه ومع صحبه آيات الله وذكره، ويروح يصفه لنا في إحدى جلساته، فإذا هو يفوق في جمال خلاله المادية والمعنوية جمال حديقة غناء ذات جداول، تتدفق مياهها بسرعة كما تنساب الأفعى الحذرة حينما ترى ما تخافه، وكانت أشجارها موئلاً للبلابل، وهي تصدح بأنغام عذبة طربة، فتزيل الأشجان عن النفس، وقد غطى الربيع الأرض بأثواب زاهية بأبهى الألوان، وحجبت الشمس أشعتها، ولذّ للشاربين شربهم في هذا اليوم الربيعي الفتان، يقول في ذلك:

سعَيْن بها كالصَّلَّ يطلبُ مَهْربا([38])

 

فما روضةُ غنّاء ذاتُ جداولٍ

شؤوُن تذودُ الهمَّ إن شاء أو أبى

 

علاها لتغريد البلابلِ في الحمى

مدبَّجَةً والأفقُ أضحى مقطّباً

 

وقد نسجَتْ أيدي الرَبيعِ مطارفاً

يقولُ انهضوا فالراحُ قدراق مَشْرَبا

 

وقام خطيبُ الطيرِ فوقَ منابرٍ

تثنى فأزرى بالرماحِ وأَعْجَبا([39])

 

بأحسنَ مرأى من شمائلهِ وقد

لقد صدر الشاعر كلامه ب «ما» النافية، ثم وصف الحديقة، وقصد بها شمائل الممدوح، ثم جاء بخبر ما اسم تفضيل مؤكد بالباء الزائدة ليؤكد جمال خلال صاحبه النابلسي 

ومن الصور التمثيلية التي أجاد عرضها شعراء هذا العصر واحدة للشاعر «جعفر البرزنجي»([40]) بدت في قصيدة له قرظ فيها الوزير «عبد الله الجته جي»، وقد اقتبسها من قصة الفيل الواردة في القرآن الكريم، إذ جعل في الطرف الأول أبرهة وجيشه وفيله، وما حلّ بهم بالطير الأبابيل حين صاروا كالعصف المأكول، وفي الطرف الثاني من التشبيه جاء ب "عيد" قائد قبيلة حرب وجيوشه التي قضى عليها الوزير حين صب عليهم رصاصه، فتناثرت الجثث العدو كالعصف المأكول؛ يقول في تشبيه بدا على شكل «تشبيه مفروق»([41]) لتكرار المشبه والمشبه به في عرض جزيئات الحدث الواحد :

في ساعةٍ من نهارٍ ما لها طول

 

سبعون ألفاً لعَمْري منهم هلكَوا

كأنَّ عيدَهم العاتي هو الفيلُ

 

كأنهم جِيفَاً أصحابُ  أَبْرُهَةٍٍ

كأن أبطالِنا طير أبابيلُ

 

كأنَّ مترسَهم وادي محسّرهم

حجارةُ قذفَتْها اليوم سجّيلِ

 

كأن حبّاتِ رمي من بنادقِنا

ومُزَّقَتْ في الثرى عصفٌ ومأكول([42])

 

كأن أوصالهم بالتُرب إذ طُرِحَتْ

وقد أجاد الشاعر في عرض هذه الصور مستعيناً بتكرار أداة التشبيه «كأن» عند عرض كل صورة جزئية، وكان وقع هذا الحرف يشابه قعقعة السلاح في المعركة، وإذا أضفنا إلى ذلك استخدام الشاعر للحروف القوية في كلمات جزلة على نحو «الجيم والميم والقاف والطاء والصاد» أدركنا دور الموسيقى في مساعدة الصورة على إبراز المعنى بشكل أتم وأجود .

ومن الصور التمثيلية التشبيه الضمني، وهو تشبيه تمثيلي حذفت منه الأداة ليخفى مراده، وليترك للسامع أن يجول بخياله ليكشف العلاقة بين طرفيه، وهو لذلك أمتع للفكر وأبلغ في الدلالة على مقدرة الشاعر؛ وقد كثر في الشعر العثماني.

هذا عبد الجليل الطباطبائي يشبه طالب المجد وهو يصبر على المتاعب والمشقات بجاني العسل وهو يتحمل لسعات النحل في سبيل الحصول على حلو مراده، يقول:

واعدُدْ لنيلٍ العُلى صبراً على مضضٍ       مذاقةُ الشهدِ تنسي لسعة النحل([43])

وهذا آخر وهو " عبد الغني النابلسي " يشبه إخفاق الداعين في الحصول على بغيتهم بسبب كثرة جرائرهم بالسهام المعوجة التي لا تحقق الغاية المرجوة منها ، يقول في تشبيه ضمني مؤثر ينم عن حالته النفسية إثر هذه التجربة الشعورية الحادة ، لما لها من دلالة على العلاقة بين البشر العاصيين وخالقهم سبحانه :

رُدَّتْ مُنَكَّسَةً من الآثام

 

ودعَوْا فحين تصعَّدَتْ أنفاسهمْ

نِعَمُ الإلهِ ومنَّةُ الإسلام

 

ولو استقاموا في الأمور تتابَعَتْ

عادَتْ فأثّر عودُها بالرامي([44])

 

إن السهامَ إذا تعوَّج نَصْلُها

  وعبد الغفار الأخرس يجعل ممدوحه يتسنم ذرا المجد، وعدوه لا يستطيع إيذاءه، وإن حاول ذلك، فمثله كمثل من يحاول الارتقاء إلى السماء، وذلك أمر استحال في ذلك الأوان، يقول في ذلك:

لا تنال العداة منكم مراماً          أفير جون للنجوم وصولاً ([45])

ومن أنواع التشبيه التشبيه المقلوب، وهذامحمد بن عبد الرحمن الغزي يأتي به لتجويد صورة الفتاة لما فيه من مبالغة ، وذلك في قوله :

والمسكُ من نفحاتهِ

 

البدرُ من لمحاتهِ

والوردُ من وجناتهِ

 

والندُّ من أخلاقهِ

والشهدُ من رشَفاتِه

 

والدرَّ من ألفاظَهِ

ءُ البانِ من لفَتاتِه ([46]) 

 

وإذا مشى سرقَتْ ظبا

فالشاعر يشبه البدر بوجه الفتاة في تشبيه مقلوب جعل فيه المشبه مشبهاً به، وكذلك شأن الصور الأخرى التي جمعت في تشبيه مفروق أيضاً، فالمسك يستمد نسماته المنعشة من رائحتها العطرة، والند يقتبس من شمائلها، ويستعير الورد من خديها حمرته، والدرّ من حديثها، وفي ذلك لفته إلى جاذبيته ، وكأنه قد أعجب بها لجمالها المادي والمعنوي معاً، ولعله أيضاً قصد جمال أسنانها أما رضابها فقد سرق العسل حلاوته، وقلدّ الظبي رشاقتها .. وهذه التشابيه المقلوبة بالغت في إضفاء الجمال المادي والمعنوي على فتاته، وكان لاخيتار مجزوء البحر الكامل أثره أيضاً في الدلالة على ذلك بما يحمله من رشاقة العبارة وإظهار البهجة التي تنم عن الحالة النفسية للشاعر، وكان روي التاء المردوف يشير إلى مدّ هذه الصفات ثم كانت الهاء وصلاً معبرة عن لهثات الشاعر وراءها بعد أن ملكت لبه وأحاسيسه، وبذلك تكون العناصر الموسيقية والتصويرية قد تآزرنا في الدلالة على جمال هذه الفتاة .

     ومن تشبيه الجمع([47]) قول سليمان الحموي([48]) :

   وانثر الدر من حديثك حتى               أتخذه عقدا وقرطا وشنفا ([49])

فقد شبه الحديث في جماله بالعقد يزين جيد الحسناء ، وبالقرط تحلي به أذنيها

ويعد الرمز من التشبيه الضمني، وإن عده بعضهم من الكناية، ذلك لأن الشاعر يرمز إلى الشيء بشيء آخر فكأنه يشبهه بالمرموز إليه، من ذلك قول بولس سلامة يشبه العدو بفرعون وبجنكيز وبأتيلا الذي قال(حيثما يمر حصاني لا ينبت العشب)إشارة إلى تدميره للعدو، يقول :

كنت جلف الجنان غث المواهب

 

كنت ليثا يا ابن الرشيد ولكن

أوتاد والرافع الجذوع الصالب

 

بين جنبيك قلب فرعون ذي ال

وأتيلا ضراوة في المغارب([50])

 

فقت جنكيز في المشارق ظلما

 

-  الاستعارة   

ساعدت الاستعارات بحيويتها ورشاقتها، وعمق دلالتها على أداء المعنى مصوراً، وذلك لأنها تحول الجماد إلى ناطق، وتبرز دور الكلمة في تأثيرها في الآخرين، لما فيها من حذف يترك القارئ يتملى الصورة ويعمل فكره فيها .

فالشاعر «عبد الرحمن التاجي» يتحدث عن جلساته التي قضاها مع النابلسي وسط حديقة غناء في فصل الربيع، إذ أحس بأن عيشه قد صار كالربيع الخصب في نضارته، ويروح بعد يصف هذا الربيع الفتان فيقول:

وعيشاً مضى ما كان أهنا وأطيبا

 

تذكرْتُ أيامَ الصبابةِ والصبَّا

نسائل فيه الصحبَ شرقاً ومغرباً

 

ويجمعنا بين العشاءَيْن جامعٌ

جواد بها في حلقة السبق ماكباً

 

يطارحناها كالجمان قصائداً

نؤم رياض الزاهدينَ أولي النبا 

 

 ويوماً ترانا حول مرجة جلقِّ ٍ

وقوله " رياض الزاهدين أولي النبا " تشير إلى أن القصيدة وإن كان ظاهرها في وصف الطبيعة والخمرة إلا أني أرى أنها ترمز إلى معان صوفية، فالشاعران صوفيان نقشبنديان ، والتاجي يذكر جلسات ذكر الله في الجامع، وعند رياض الزاهدين، وهي قبور الصوفية أولي النبا أوالأنباء ، وقد رد عليه النابلسي في مطارحة مماثلة ذكر فيها الخمرة والليل على سبيل الرمز أيضا ،والنابلسي يحكى عنه أنه من الأقطاب، ولا يعقل أن يشرب مثل هذا خمرة حقيقية، فضلاً عن أن يكون شربها في مجلس يضم أناساً، ولا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار ما قاله النابلسي عندما سمع الشاعر المملوكي الشاب الظريف يذكر الخمرة والغزل والتهتك في شعره: «ينبغي أن يحمل كلامه في الخمرة هنا عند كل كامل نبيه على الكناية على الخمرة الإلهية لمعاني كلام أبيه، فإن أباه عفيف الدين التلمساني كان فارس ميدان المعارف الإلهية وترجمان حضرات الحقايق الربانية عليهما الرحمة والرضوان من خير البرية ([51]) .

وبذلك يكون تفسير امتطاء الليل في شعره رمزا أو كناية عن العبادة في جوفه حتى الصباح ، وهذه العبادة أزالت الهمّ عن قلبه وقلوب صحبه، فازدادوا شوقاً إلى الله سبحانه، وأحسوا عند الصباح بنشوة هذه العبادة ولذتها، بعد أن أفاض الله سبحانه عليهم من نوره ما بدا أثره في وجوههم إشراقاً بعد أن سبحوّا الله كثيراً، وقد حار الشاعر في أمره، أكانت نشوته وسعادته هذه من كثرة العبادة أم من سماع أشعار صاحبه التاجي ، ويستعين بالاستعارات لإيضاح صفاته فيقول :

يرفُّ ظلالاً حيث عيشي أخصبا

 

ودوحٌ الأماني بالشبيبة مورقٌ

إلى اللهوِ حتى نركبَ الصبحَ أشهبا ([52])

 

أويقاتُ كنا نمتطي الليل أدهماً

نحاولُ عنه للمسرة مهرباً

 

وداعي الأسى والهمَّ عنا بمعزلٍ

حدائق يزهو كلما هبَّتِ الصبا

 

وقد رمقَتْ عين الربيعِ، ومعطف ال

تذكرّ من يهوى فزاد تَلهَّبا

 

وللطير في الأفنان صدحةُ وامق

فحيّا وداعي اللهو ينتظر النبا ([53])

 

وقد بكر الساقي بكأس مدامةٍ

إذا كان قد أمسى لها الفم مغرباً

 

وطاف بها شمساً لها الخدُّ مشرقٌ

تمطَّيْتُها قيدَ الأوابدِ سَلْهَبا ([54])

 

كميْتُ بها جبْتُ الهمومَ كأنني

أصخْتٌ لنظمِ اللَّوْذعيِّ تأدبا([55])

 

ثِمْلتُ فلم أدر بها ، أم لأنني

فالشاعر جعل أمانيه كالربيع في إيراقه «تشبيه بليغ إضافي»، وعيشه كخصوبته «استعارة مكنية»، وقد امتطى الليل الحالك «استعارة مكنية» ليلهو في أجوائه حتى ركب الصبح «استعارة مكنية» وزالت عنه أحزان قلبه، فكأنها إنسان اعتزله «استعارة مكنية تشخيصية»، والربيع يحيط بهم كمعطف يلفهم «تشبيه بليغ»، وهذا الربيع «المعطف» يزهو كلما هبت النسائم «استعارة مكنية تشخيصية» وكانت الطيور تغني كإنسان محب «استعارة مكنية تشخيصية»، فيزداد السامعون تلهباً «كناية عن شدة الشوق» وكان من دعاهم إلى اللهو ينتظر سماع الأخبار، وقد شربوا الخمرة شمساً منيرة «تشبيه بليغ» وكذلك الخد مشرق، والفم مغرب، وكانت الخمرة تزيل الهموم «استعارة» .

فكأنه في سعادته بها فارس يمتطي خيلاً طويلة: «استعارة مكنية»، وينتقل بها في الفيافي بسرعة تقيد الوحوش؛ وقد سكر الشاعر في هذا الجو، وحار في معرفة سبب سكره، أهو من الخمرة أم من سماعه أشعار صاحبه.

لقد عملت هذه الصور الفنية ولا سيما الاستعارات على تقديم لوحة فنية جميلة عبر الشاعر من خلالها عن السعادة التي حازها مع صحبه في هذا الجو الربيعي الفتان، وكانت الاستعارات تضفي على النص حيوية وحياة كحياة الخيل في نشاطها، والطيور في تغنيّها، والأشجار في زهّوها، والخمرة في تأثيرها .. وبذلك تحول الجماد إلى كائن حي يتحرك، وهنا يكمن جمال الصورة، وفيها يكون التأثير والاستمتاع.

وهذه استعارات أخرى مقتبسة من عالم الطبيعة أيضاً، لكنها تعبر عن فرحة النصر باستعادة الدولة العثمانية لمدينة بلغراد([56]) على يد الصور الأعظم أحمد الكوبريلي، يقول الشاعر «علي الكيلاني»:

والوقتُ طابَ فأسدى للنفوس صفا

 

تنفَّسَ الدهر والعيشُ الكدُور صفا

يُجلي نضيَر عروسٍ زانها صَلفاَ ([57])

 

وأصبح الكون منه الثغر مبتسماً

فالدهر إنسان يتنفس «استعارة مكنية تشخيصية»، والعيش، وقد وصفه بمبالغة اسم الفاعل «كدور» ثم جاء بعد بكلمة صفاء ، ينم عن أن المعاناة قد زالت بهذا الفتح المبين، والوقت شيء يطيب «تجسيم»، وإنسان يقدم الصفاء والمحبة «تشخيص»، والكون يبتسم فرحاً بالنصر «استعارة مكنية» وهو يري الناس مدينة بلغراد عروسا ذات دلّ ونضارة بعد أن أعيدت إلى حوزة الدولة «استعارة تصريحية».

وهذه خطوب وأرزاء تنتاب دمشق ثقيلة الوطأة على أهالي المدينة؛ ويعبر الشاعر«السيد مصطفى العلواني»([58]) عن جسامتها، وعن الفرحة بالقضاء عليها على يد «الوزير مصطفى الجته جي» فيقول:

وبسهم الردى رمتْنا الخطوب

 

عَرَكَتْنَا عركَ الأديمِ الكروبُ

دون كشفٍ عما تُسِرُّ القلوب ([59])

 

أقسم السيفُ لا يقِرُّ بجَفْنٍ

فالخطوب غدت إنساناً يصارع الشعب «استعارة مكنية»، وهي ترمي «استعارة مكنية»، والموت سهام «تشبيه بليغ»، وقد صور الشاعر بهذه الاستعارة مدى المعاناة التي يعاني منها الشعب من جراء هذه الفتنة الهو جاء، ومدى القوة التي اتخذها الوزير لقمعها.

و«إسماعيل بن خليل الطهوري»([60]) يهنئ الأمير المصري حسن حينما عاد من منفاه، فيجعل مصر تضحك طربة، والنسيم يرتدي أبهى حلته، ويروح يجرها في خيلاء بعد أن ابتلت بمياه النهر، والأرجاء تفوح روائحها العبقة، وذلك كله على سبيل الاستعارات المكنية، يقول:

وأوضحَتْ بها الأرجاءُ باسمةَ الثغرِ

 

لقد ضحكَتْ مصر إذا ما حلَلْتَها

ففاحَ عبيرٌ من شذاه الذي يسري([61])

 

وجرّ نسيمُ الروضِ ذيلاً مبلّلاً

وهذه استعارات تصريحية متوالية جاءت في شعر «محمد أمين المحبي» وهو يقرظ صديقا له أرسل إليه رسالة ، وذلك في قوله :

هرُ أنجمٍ ، أم دُرُّ عِقْدِك

 

هل زهرُ روضٍ أم زوا

رياّ رباها عرف ندَّك

 

أم روضة قد فاح من

بالود زاكية بحمدك

 

وإليك مني روضة

تبغي الورود لعذب وردك([62])

 

وافت على ظمأٍ بها

فالشاعر يستعير للقصيدة التي أرسلهاله صديقه صفة زهر الروض على سبيل «الاستعارة التصريحية» ثم يروح يعدد الاستعارات التصريحية ، فإذا قصيدته زواهر نجم، ودر عقد، وروضة ذات عبير، أو طيب ذو رائحة ذكية.

كما يستعين بالاستعارة التصريحية أيضاً حين يجعل جوابه روضة عاطرة بمحامد صديقه .

   والمدافع يعلوها الوقار، وقلبها يتقد من شدة الحقد، وهي تحمل في جوفها الموت الأحمر الذي ينقضّ كالصاعقة على العدو، يقول «أحمد الكاشف»([63]) في ذلك في استعارات متواليات معبرات :

قد علاها الوقارُ في الهيجاء

 

وركوزٌ لدى القتال سكونٌ 

بالمنايا الصواعقِ الحمراء([64])ِ

 

حاقداتُ قلوبُها تتلظَّى

وهذه استعارة عنادية تفاؤلية يعرضها الشاعر «محمد العرضي» حينَ يشبه اللديغ بالسليم تفاؤلاً، ويعبر من خلالها عن الأرق الذي حلّ به، يقول :

أُمسي كما يُمسي السليمُ مُسَهّداًّ           لا بالطليقِ أُرَى ولا الموثوقِ([65])

وأخرى عنادية تهكمية بدت من قول الشاعر «محمد بن سعيد» ([66]):

هي النفُس العدوُّ إذا توَّلَتْ                  تذيقُ مطيعَها أبداً وبالَه ([67])

فهو يشبه الوبال الذي يحل بمن يطيع شهوات نفسه بالطعام الذي يأكله مشتهية ليلتذ به على سبيل الاستعارة العنادية التهكمية ، وذلك للسخرية منه .

-الكناية :

 التعبير الكنائي أبلغ في الدلالة، إذ ينفذ إلى صميم المجتمع الذي يعيشه الشاعر ويستمد صوره من قيم المجتمع وعاداته، ولهذا فإن الكناية تتطلب فهم المجتمع والحياة التي عاشها الشاعر، واللغة التي تكلم بها لتفسر بشكل صحيح([68])، وتكون الكناية قريبة واضحة، أو بعيدة غامضة، والنقاد القدامى يفضلون الأولى .

وقد وفق الشاعر «فتح الله بن النحاس» في التعبير عن مصيبة الموت عن طريق الكناية، وذلك في قوله:

فاستوقَعَتْك وكنتَ أيَّ شريد

 

نصَبَتْ لك الأيامُ أيَّ حبائلٍ

ضيف يقطَّع خيط كل وريد ([69])

 

بعداً لطارقةِ الهمومِ فإنها

   فالأيام تترصد للناس لتوقعهم في شركها «كناية عن الموت»، وطارقة الهموم «كناية عن الموت» أيضاً لأنه يجلب الهم " ويقطع حبل كل وريد كناية ثالثة عنه أيضاً.

 ومن الكناية عن النسبة قول" حسين غنام[70]"في رثاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب:

فيالك من قبر حوى الزهد والتقى      وحل به طود من العلم مشرع ([71])

فقد نسب الزهد والتقى والعلم إلى القبر، ويقصد به الشيخ الذي دفن فيه.

ومنه أيضا قول "صارم الدين إبراهيم بن صالح"  في مدحة له:

عليهم، وماء الود ليس يشاب

 

دعوتهم نحو الهداية مشفقا

روابض أسد تتقى وتهاب([72])

 

فظنوك سلما عند ذاك وما دروا

والشاعر «بولس سلامة» يعبر عن ضيق ممدوحه بعدما أخفق في الحرب فيقول:

    بلغَ الفاجعُ الرياضَ فأنَّتْ             واكفَهَّرتْ بعد الشروق الحواجبْ([73])

فالرياض تتألم، والمراد أهلها «مجاز مرسل علاقته مكانية»، والحواجب تكفهر، وفي هذا كناية عن الحزن والغضب الذي حل بالممدوح إثر خسارته في المعركة.

والشاعر «طه بن مهنا الجبريني[74]» يكني عن شدة شوقه وسعيه المتواصل من أجل زيارة قبر الرسول r بقوله :

   يا رسولَ الورى سمِيُّك طه          قد سعى في الهوى مُكَبِاً مِجداً ([75])

و «ناصيف اليازجي»([76]) يكني عن اشتعال الفتن في بلاد الشام بالنار المتقدة التي أضرمها الفساد، وعن دور الوزير المشير فؤاد باشا في الإصلاح وإخماد الفتنة بالبحر يسكبه على النار حتى تنطفئ، وعن رعايته للمنكوبين فيها بإلقاء بُرْده ومهادِه، وعن حسن رعايته لهم بأبوته لهم، فكأنهم عياله، وذلك في قوله:

في الأرضِ إذ أورى الفسادُ زنادَه

 

قدم الوزير وقد تضَّرمَتِ اللَّظى

فوراً فأطفأ جمرها وأبادَه

 

فأفَاضَ لجتَه على أركانِها

وإلى العراة بُرودَه ومِهَادَه

 

ألقى على نارِ الضغينةِ بُرْدَةٍ

إذ كان يرزُقُ كلَّها إمدادُه ([77])

  قد أصبَحَتْ كلُّ العيال عياله

ومجموع هذه الكنايات عبرت عن رعاية الدولة العثمانية للمنكوبين في الفتن، وكانت الموسيقى تشارك في التعبير عن هذه الدلالة، فالدال المردوفة تشير إلى قوة السعي في سبيل توطيد الأمن، والهاء تشير إلى المتاعب التي قام بها الوزير المذكور حتى نشر العدل والأمن في ربوع البلاد .

أما «عبد الجليل الطباطبائي» فقد كنَّى عن الكرم حين نسبه إلى فناء بيت ممدوحه ، كما نسب العفة إلى إزاره، وذلك على سبيل الكناية عن نسبة([78])في قوله :

يجاورُهُ بؤسٌ وهضمٌ لجانب

 

منيعُ الحِمَى لم يرضَ يوماً يصيبُ مَنْ

وبِشْراً وجوداً هاطلاً بالرغائب

 

جوادٌ فمن يقصِدْهُ يلْقَ بشاشةً

فلم يخشَ عند الجدب بؤسَ المساغب

 

وإن حلّ عافٍ في رحيب فنائه

لمرضاةِ مولاهُ برغبةِ راغب ([79])

 

حليفُ التُّقَى عفُّ الإزار لقد سعى

فالشاعر يجعل من حلَّ في ديار الممدوح أو في جواره ينأى عنه الفقر «كناية عن نسبة» و ويلقى عنده الترحاب والكرم الواسع، كما يكني عن عفته بطهارة ثيابه، وهو لم ينسب إليه الصفة مباشرة، وإنما نسبها إلى ما يتعلق به وهو إزاره .

ويعدّ «الرمز»([80]) نوعاً من الكناية، وهو يعتمد على الإحالة إلى شخصية معروفة في التاريخ دينية أو غير دينية، ويكون استدعاؤها في مخيلة الأديب وسيلة للتعبير عن حالة مادية أو معنوية، وذلك لأن المشبه به يكون أقوى دلالة وتأثيراً، من ذلك قول الشعر الشيخ «عباس الأعسم»([81]) في حديثه عن واقعة جرت بين عشيرتين في العراق، وقد رمز بفرعون للظالم الذي اعتدى على قبيلته، ولكنها ردته على أعقابها خاسراً خاسئاً، يقول:

فيه سمرُ القنا وبيضُ الصوارمْ

 

يومَ وافى فرعونُ فيه بجيشٍ

وثبَتْ وثبةَ الليوثِ الضراغمْ  ([82])

 

فاستشاطت غيظاً خزاعةُ حتى

   وهذا رمز مكاني بدا موفقا في قول «موسى الرام حمداني» في معرض تقريظه لممدوحه، فالمزار والطور دل بهما على الأماكن التي كان يتلقى فيها علومه الدينية على يدي هذا العالم الممدوح، ورمز بالكليم إلى نفسه في مبالغة وغرور، وذلك في قوله :

واعذرْ حليفَك بل أليفَك في الدروسِ الأحسنيَّةْ

واعذر كليمك ما طوى تلك الدروسَ الطوروية

وادي المزارِ، ولا مزارَ، إذا تعرضتِ المنية ([83])

وأما الخمرة الصوفية فرمز للحب الإلهي أو النبوي، والشاعر «الطباطبائي» يرمز بكأس الخمرة إلى لذة العبادة في معرض حديثه عن تقوى ممدوحه، يقول:

تمسك بعراهم محكم الزرد

 

في مسلك القوم أهل الله صح له

كأسا تدوم بها الأفراح للأبد ([84])

 

حيث احتسى فانتشى من صفو خمرتهم

 

ب-الصورة من حيث الحواس :

   وهي بصرية أو سمعية أو شمية، أو ذوقية أو لمسية :

فمن جمال التصوير البصري والسمعي معا وقد اشتركا في أداء معنى البطولة، قول الشاعر «حميد بن محمد بن رزيق» يمدح السلطان العُماني «ثوينياً» :

ركبَ الردى، وله تدرّع بالكفَنْ

 

إن العدوَّ إذا أراد كفاحَه

إلا حسام من سناهُ الرعدُ حنّْ

 

ما وَبْلَهُ إلا الدما ، ما برقُه

نفضَتْه رعداتُ فخَرَّ بها وأنّْ ([85])

 

وإذا ذكرْتَ إلى عدو بأسه

فالشاعر هنا اتكأ على حاستي البصر والسمع في عرض بطولة الممدوح حين جعله يركب الردى ويرتدي الكفن درعاً ،وكان سيفه كالسحاب يمطر دماً وحسامه يبرق، والرعد وهو كناية عن قعقعة السيوف، يحن إلى قدّ هامات الأبطال، وعدوه ينتفض من شدة الذعر، ثم يرتمي على الأرض طريحاً يئن من شدة خوفه .

    وهذه صور بصرية وسمعية  أيضاً تآزرتا للتعبير عن جمال دمشق في قول الشاعر المقري إذ جعل الرياح تصافح الشجر، فيحاول السرو أن يقبل مثيله ولهذا مالت الطوال منها للقصار لتتمكن من ذلك، وهي تعتذر وتعاتب ، يقول :  

ومالت طواله للقصار

 

صافحتها الرياح فاعتنق السرو

في عتاب مكرر واعتذار([86])

 

لائذ بعضها ببعض كقوم

وهذه صورة سمعية أخرى ومن المألوف أن يرهب المرء الموت، ولكن المنية في قول «عبد الله المنوفي» تهاب الممدوح، وتعبر عن ذعرها بصرخة مدوية كالرعد، وكذلك الآساد والجان، يقول :

والموت يرعد خيفة من بطشه       والأُسد في آجامها والجانُ ([87])

وهذه صورة ذوقية فيها جمال أيضا فالأمير «فيصل بن تركي آل سعود» يطعم ضيفانه المحاربين له سيوفا ورماحا، ويجعل مجيئهم لقتاله كزورة الضيفان، إذ يحتاجون إلى قرى، وقراهم من جنس عملهم، سيوفا قاطعة، ورماحا مخزية، ويكني بذلك عن قدرته على البطش بهم، وفي ذلك أيضا استعارة عنادية تهكمية يسخر فيها ابن مشرف من مناوئي ممدوحه الذين جاؤوا إلى الموت لا إلى الطعام، يقول معبرا عن هذا :

كالمستضيفين صمصاما وعسالا

 

أقريتهم عاجلا لما بكم نزلوا

روّيتهم عللا منها وأنهالا([88])  

ومن حياض المنايا بعد أن طعموا

   ومن جماليات الصورة اللمسية قول ابن النحاس يحذر من سلوكيات بعض الناس ممن يتظاهر باللين ويبطش بقسوة فيكون كالموت الزؤام، شأنه في ذلك شأن  لسان الرمح الذي لان للقتل به :

لايعجبنك لين من أبصرته سهلَ القياد

  وأبيكَ مالانتْ لغير الطعن ألسنة الصعاد([89])

    وهذه صورة نشتم منها عبير الزهور في تصوير واقعي لرياض حلب الشهباء  في قول الشاعر موسى الرام حمداني :

بلدٌ تكنَّفها الحدائق والرياض الأَرْيَضِية

فاحت على أرجائها نفحاتُ أزهار زهية

 وترنحت عرصاتها بالرائحات المندلية([90])

ج-الصورة من حيث تناسب عناصرها :

   تنبه حازم القرطاجني إلى فاعلية التخيل الشعري القائم على نوع من التناسب بين العناصر المشكلة لبنية العمل الفني من مسموعات ومفهومات، وأن القصيدة إنما هي مجموعات من الصور المنتظمة في بنية إيقاعية ذات محتوى ينفعل المتلقي لتخيلها وتصورها([91]) ، كما تنسجم والحركة النفسية والوجدانية للشاعر، ولذلك فإنها تبدو من حيث طرفاها إما متوافقة الطرفين أو متخالفة، وقد يكون التخالف مبنيا على مفارقة الضد أو الازدواج ، وأعني به نظرة المؤلف إلى الحياة بشكل يخالف المعهود([92]) ، أو على مفارقة الصور التقابلية التي تعرض حالين متخالفين :

-الصور ذات الشكل المتوافق :

من ذلك تصوير عبد الرزاق البيطار عبد الرزاق البيطار للعلوم تعلوها كآبة، وتصاب بالذل والانكسار بعد أن رحل عنها صاحبها،يقول في ذلك :

كادت له شم الجبال تزول

 

خطب ألم بكل قطر نعيه

وعلى الحقائق ذلة وخمول([93])

 

فعلى المعالي والعلوم كآبة

      وهذا إبراهيم اليازجي([94])  يصور هرب العدو فيجعلهم كمن يسير فوق النار بسرعة ليتخلصوا منها :

وغدوا كأن الأرض تطرد فلهم         وكأنهم يسعون فوق ضرام ([95])

والشاعر أحمد الكاشف يصور قلب الظالم قد امتلأ بالحقد وفاض بالضغينة، يقول :

وقلوب أهل البغي باقية كما             خلقت تفيض ضغائنا وتفور([96])

-الصور ذات الشكل المخالف :

   وبعض الشعراء لم يحسنوا عرض صورهم في سياق منسجم يوائم بعضه بعضا لفظا ومعنى، ومن هؤلاء عبد الرحمن التاجي، حيث شبه انسياب الماء في الجداول بانسياب الأفعى الوجلة ليعبرعن سرعة جريانها، وذلك في قوله:

فما روضة غناء ذات جداول      سعين بها كالصل يطلب مهربا ([97])

فصورة الروضة توحي بالجمال خلافا لصورة الأفعى التي تذكر بالألم والضرر .

  والاختلاف قد يبدو في صورة تضاد أو تقابل أو ازدواج :

1- الصورة التقابلية :

   ومنها ما صور به الشاعر عبد الغفار الأخرس وقار ممدوحه وسكينته وحلمه، إذ جعل سكينته أقوى من كل حركة لأنها تزلزل أقوى الجبال وذلك في قوله :

      عليكم إذا طاش الرجال سكينة         تزلزل رضوى أو تبيد يلملما ([98])

   وابن عثيمين يصور في مفارقة لطيفة حاكمين أحدهما تشغله عظائم الأمور فيحارب من أجلها، وآخر ينام على الفراش الوثير وهو يلهو في حياته، يقول في معرض ثنائه الملك  عبد العزيز آل سعود :

إذا الملوكُ استلانوا الفرش واتكؤوا     على الأرائك بين الخرد واللعب

ففي المواضي وفي السمر اللدان وفي ال     جُرد الجياد له شغل عن الطرب([99])

2-صورمن مفارقة الأضداد :

  فالأعداء في قول أمين الجندي الحمصي قد خالفوا شرع الله وبغَوْا وتجبروا في الأرض بغير الحق، واتبعوا البدع لا السنة المطهرة، فارتدوا في حروبهم خاسئين، يقول مصوراً حالهم :

وطغَوْا وزادوا في الضِلالِ توغُّلا

 

نبذوا الشريعةَ من وراءِ ظهورهم

بالسُّنةَّ الغراءِ فارتدوا على ([100])

 

وتمسُّكوا بالبدعةِ السوداءِ لا

فالهدى والشريعة شيء يطرح وراء الظهر ويتمسك أصحابها بالضلال، والبدعة غدت جسماً أسود، والسنُّةُ بيضاء، وبهذه المقابلة بين البدعة السوداء والسنة الغراء يكني الشاعر عن فساد العدو، وبعده عن الصواب، ولذلك ناسبه أن يقول بعد ذلك " فارتدوا على " أي على أدبارهم خاسرين، وهو لم يكمل صورة نتيجة أعمالهم بل ترك القارئ يتملاها من خلال قوله تعالى: «ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين»([101])، فتكون هذه النهاية جزاء وفاقاً لمن طغى وزاد «في الضلال توغُّلا» .

   ومن ذلك أيضا قول منجك وهو يتحدث عن الأعداء، فهم زهر يُقطَف بحد السيف :

قسماً بابتهاجِ وجهكَ في الحر    ب وبيض الظبا إذا النقع جنا

مانفوسُ العداة عندكَ إلا     زهراتٌ بحد سيفِك تجنى([102])

    وتبدو الصورة للوهلة الأولى متخالفة الطرفين ففرق كبير بين العدو والحروب والرماح والزهور وقطفها ، ولكن الشاعر أراد من ذكر الزهور مع السيف الفاتك التعبير عن فرحته لانتصار السلطان .

3- صور من مفارقة الازدواج :

 فالمعهود أن المرء يفرح في الأعياد، ولكن شاعرنا ابن منجك يرى العيد في غربته أيام حزن وكرب فيقول :

نوروزُ لاكنتَ قلبي فيك مكروبُ     الشمسُ طالعةٌ والبدر محجوب

         أرى الحسانَ ومالي بينهم حسَنٌ    ماكل مانظَرته العين محبوب

     صفر الفؤاد من الأفراح ممتلئ    بالحزن قلبي وفيض الدمع مسكوب([103])

- الصورة النامية والتقليدية :

    الشاعر إذا كان يتحدث عن ذاته وما نكبه به دهره أو أسعده يعبر عن مأساته أو فرحه من خلال الصورة فتكون هذه وسيلة تشارك في بناء القصيدة، وتبرز العاطفة من خلالها جلية،ولذلك نستطيع أن نقول إن الصورة تبدو في شكلين هما الصورة النامية والأخرى التقليدية :

1-الصورة النامية :

فالشاعر ابن منجك  في مدحة له يصور معاناته ويعتمد في تصويرها على الصور فيقول :

فانظرْ إليَّ برأفةٍ بل رحمةٍ     أنجو بها قد مسَّني الإهلاكُ

قد كادني الزمنُ الخؤونُ وإن لي     حظا كسيحا ليس فيه حراك

إني أنا البازِيُّ قُصَّ جناحُه     فعسى يُراشُ ويعتريه فكاك

إني أنا الذهب الذي قد شابه     كدرُ الرغام يزيلُه الحكاك([104])

    هذه الصور المتعددة تحمل هموم الشاعر ومشاعره، وتعكس مدى الصراع الذي يعاني منه فتعمق إحساسنا بمشكلته فهو يرى(الزمان يخونه) ويجعله ( كسيحا لاقدرة له على الحراك)، فكأنه ( الصقر الذي قص جناحه ) و(الذهب المشوب بالتراب)، وقد جاءت هذه الصور في نص متماسك،ولم يك جمال التصوير ناجما من كثرة التشابيه أو الاستعارات أو من تكلف الصورة، وإنما من قدرتها على الكشف عن نفسية الشاعر وأحاسيسه، و" مقدار نجاح الخيال في مدى تعبيره عن العواطف في صدق وقوة وجمال، ولاتظهر هذه القوة إلا من خلال التأثير في نفوس المتذوقين([105]) " .

   

2-الصورة التقليدية غير النامية :

    كان ميزان النقد في ذلك العصر يركز على إمتاع العقل بصور شكلية لا رواء فيها، وكان كثير من شعراء العصر يتبارون في تقديم صور ترضي أذواق جيلهم، وقد نسي هؤلاء أن الشعر تعبير عن تجربة شعورية يحسها الوجدان وتنفعل لها النفس، وتتآزر فيها اللغة مع الموسيقا والتصوير للدلالة على المعنى الذي يجول في نفس الشاعر، ولذلك بدا التكلف والشكلية  في بعض الصور وقدمت نماذج شعرية لا جمال فيها ولا رواء .

   وأستطيع أن أقسم هذه الصور التقليدية الشكلية إلى :

أ-الصورة التقليدية الذهنية :

  وهي المحفوظة في أذهان الشعراء لطول تعايشهم مع القصائد العربية القديمة ، من ذلك قول صادق بن محمد الخراط([106]) يصف سهره الطويل، ومناجاته للقمر والنجوم مقلدا بذلك القدامى مستمدا صوره مما خزنه في ذهنه من صورهم فيقول :

بدة النوى وعدمت رشدي

 

يا غائبا طالت مكا

يا بدر أوجب طول صدي؟

 

بالله قل لي ما الذي

م، فإنها أدرى بسهدي([107])

 

سل أنجم الليل البهي

فمكابدة العاشق ومعاناته، وصدود الفتاة، وسهر الليل في مناجاة القمر والنجوم أمور عهدها أدبنا العربي .

ب-الصورة التقليدية النمطية :

      وهي صور تصلح لكل ممدوح أو حبيب، إذ تطلق صفات الشجاعة كالأسد، والكرم كالغيث، والحلم والعلم والمجد دون تمييز بين ممدوح وآخر، وصفات المرأة هي هي ، قد رشيق وشعر فاحم ، وعينان حوراوان، يقول محمد البكفالوني في مدحة له :

غيوث إذا أعطوا، ليوث إذا سطوا      مناقبهم جلت عن الحد والعد

 فمن مجدهم يستقبس المجد كله     ومن جودهم أهل المكارم تستجدي([108])

ج-الصورة التقليدية التقريرية :

كقول أحمد الحصكفي في مرثية له وهو يقرر الخسران الذي حل بالآخرين بعد وفاة مرثيه، مع مبالغة غير مقبولة :

وبنْتَ، فما يوم الهنا باسمَ الثغر

 

نأيْتَ، فما غصنَّ بروضته انثنى

وزلْتَ، فحلَّ الحزن بالأنجمِ الزهر

 

مضْيتَ، فما للجود بعدك باذلٌ

فهذا بلادُرّ، وتلك بلا دَرَّ ([109])

 

وأوحشْتَ بحر العلم بل سُحُبَ الندى

 

د-الصورة التقليدية الوصفية :

 وهي صور شكلية وصفية كقول خليل بن أسعد الصديقي([110]) وهو يرسم زهر البنفسج:  

من الطيب أنفاسك المشرقة

 

كأن البنفسج مع ما حوى

فصوصا من الفضة المحرقة ([111])

 

يلوح فتحسب أوراقه

ومن ذلك قول حسين بن الجزري يصف كرم ممدوحه :

كأن نارك يامولاي قلب شج      به الصبابة تعلو حين تشتعل

ومن أشعتها في الجو ألسنة     تدعو الإله ببقياكم وتبتهل([112])

   فقد غدت نار ممدوحه لكرمه مشتعلة بقوة كاشتعال قلب الحزين ، وكانت ألسنتها كالشعاع أو كأيد تمتد إلى الله عز وجل لتدعو له بطول الحياة وامتداد العمر .

   والصورة  إلى ذلك على تكلفها فيها تنافر لاتوافق معه ولا انسجام، فالنار للكرم وهذا لايجتمع عادة مع الحزين .

ه- التقليدية المتراكمة المكثفة

من ذلك قول «أحمد العناياتي»([113]) :

طير على الغصن أم همز على الألف

 

قلبي على قدك الممشوق يا لهفي

خويدم أسود في الروضة الأنف

 

وهل سويداء أم خال بخدك أم

أم بدر تم بدا في ظلمة السدف([114])

 

وهذه غرة في طرة طلعت

 فالصور لا جمال فيها، والتكلف بين ظاهر، وقد جاء فيه مصطلحات الحروف كالهمز واللف ، ولم أر في هذه الصورة ولا استفهاماتها جمالا ما وإن أعجب بها شعراء من العصر لزخرفتها .

و-التقليدية الجمالية المزركشة :

   كقول علي الكيلاني يصف الزهور وصفا متكلفا لاحلاوة فيه ولا طلاوة :

مذ رأى الأقاح ثغر ابتسام

 

شق قلب الشقيق حرقة غيظ

حدق النرجس الصحاح السقام ([115])

 

خضب الورد خده خجلا من

   وتكثر الصور الشكلية والمزخرفة في المقطوعات الشعرية .

ثانيا : الصورة الفنية بين التأثر والسرقة :

 وأقصد به ما جاء من صور جديدة أو كالجديدة في شعر هذا العصر، وأنا لا أدعي اطلاعي على الشعر العربي القديم كله، فذلك شبه محال، ولكن بعض الصور تبدو لي جديدة أو كالجديدة، وقد أجاد فيها أصحابها فدل ذلك على أصالتهم الشعرية.

ولا يمكننا أن نعد كل تقليد سرقة([116]) ذلك لأن التأثر والتأثير دائمان في المجالات الأدبية، ولا سيما إن عرض الآخذ أقواله في قالب جديد، كأن يزيد أو ينقص في الصورة أو يأتي بتعليل، فيكون بذلك أحق بالصورة من سالفه، لأنه بث حياة وروحا جديدة فيها تشير إلى أصالته ومقدرته الأدبية، وشخصيته الفنية.

ثم إن هناك معاني وصورا مشتركة بين الناس، وهناك أخرى شاعت في التراث، فاكتسبها قارئوه بطول المران، حتى غدت جزءا من تراكيبهم وأخيلتهم، وأخرى عرفها أبناء المجتمع الواحد، إضافة إلى التلمذة والأستاذية، وقد تكون شهرة معنى أو صورة سبباً في تقليده، والفضيلة في ذلك كله للأجود والأفصح، والبعيد عن التكلف، ولمن أضاف إلى الصورة ما جعلها جديدة أو كالجديدة([117]) . ولهذا يقول ابن الوردي :

فإن فقت القديم حمدت سيري

 

وأسرق ما أردت من المعاني

مساواة القديم، وذا لخيري

 

وإن ساويته نظما فحسبي

فهذا مبلغي ومطار طيري

 

وإن كان القديم أتم معنى

أحب إلي من دينار غيري([118])

 

وإن الدرهم المضروب باسمي

وعلى هذا فإن الشاعر العربي في عصر الدول المتتابعة يشبه المرأة بالقمر وبالشمس كما شبهها السابقون، ويجعل طولها كالرمح والبان، ويتحدث عن وصالها وهجرانها كما يتحدث الأقدمون، كما يتحدث عن الشيب وأحزانه … وهذا لايعد سرقة بل ألفة لهذه المعاني وتقليدا، فإبراهيم الطيبي العاملي يعد الهجرة أفضل من المقام مع الذل، مقلدا في ذلك الشنفرى، يقول هذا :

وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى      وفيها لمن خاف القلى متعزل

ويقول الطيبي :

وليس مقام الذل ضربة لازم         وفي الأرض حزن واسع وسهول([119])

 وممن قلد وأضاف إلى الصورة "محمود سامي البارودي"([120])، إذ أخذ من امرئ القيس قوله :

وأيقن أنا لاحقان بقيصرا

 

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه

نحاول ملكا أو نموت فنعذرا([121])

 

فقلت له لاتبك عينك إنما

ويقول البارودي بعد أن جعل صاحبه يبكي خوفا عليه أن يقتل في ميدان المعركة، مما جعله يوصيه بالرفق بنفسه، وعدم إيقاعها في المهالك :

بأبنائها، واليوم أغبر كالح

 

بكى صاحبي لما رأى الحرب أقبلت

توهم أني في الكريهة طائح

 

ولم يك مبكاه لخوف وإنما

لنفسك حربا إنني لك ناصح([122])

 

فقال اتئد قبل الصيال ولا تكن

 ويستوحي الطباطبائي أيضا قول قول بشار بن برد الشهير :

كأن مثار النقع فوق رؤوسنا        وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه([123])

فيقول في وصف حروب والي بغداد :

للنقع سحب ولمع البيض بارقها       وللمدافع رعد فاطر الكبد([124])

وهذا أيضاً لايعد سرقة لأن شاعرنا أضاف إلى الصورة أصوات الرعد التي تفطر القلوب ألما، كما تأثر أحمد الكاشف بالصورة نفسها في قوله :

وسيوف تلوح تحت مثار ال         نقع كالبرق لاح في الظلماء([125])

وإبراهيم بن حجاج الأبناسي([126]) يتأثر بصورة ابن الرومي في خوفه من البحر فيقول:

وعند قلبي نفور من مراكبه

 

خلقت طينا وماء البحر يتلفني

والبر مثل اسمه برُّ براكبه([127])

 

والبحر ليس رفيقا بالرفيق له

كما قلده المقري في قوله :

لا جعلت حاجتي إليه

 

البحر صعب المرام جدا

فما عسى صبرنا عليه([128])

 

أليس ماء ونحن طين

وتشبيه حمرة نبات الشقيق بالدم، والأسنان بنبات الأقحوان كثير، وكذلك تشبيه خدود الخجل بالورد، ولكن الشاعر «علي الكيلاني» جعل الشقيق إنسانا يتفطر قلبه حسدا، فيسيل الدم منه، ذلك لأن الأقحوان تبسم من سعادته، فأبرز أسنانه فغار منه، يقول :

شق قلب الشقيق حرقة غيظ            مذ رأى في الأقاح ثغر ابتسام([129])

وبذلك قدم الصورة في معرض جديد  فأبان عن مقدرته التصويرية، وأصالته الفنية .

   وأمر آخر يدخل في معرض التقليد الشعري لا السرقة ، وإن كان ظاهره كذلك، فقد وجد في هذا العصر مباريات ومساجلات شعرية، إذ يبدأ أحد الشعراء بقول فيه صورة جديدة، ثم يطلب من مجالسيه، أو من شعراء يعرفهم في منطقته، أو في غيرها أن يأتوا بمثله، فيتبارى كل في تقديم مقطوعات تحوي هذه الصورة الفنية، وقد يغير بعضهم فيها أو ينقلها في سيلق جديد، وقد أورد محمد خليل المرادي في كتابه سلك الدرر إبان ترجمته لإبراهيم المرادي([130]) أن محمد بن أحمد الكنجي ابتدع تشبيها لحب الآس في قوله:

يتهادى بقده المياس

 

ظبي أنس بدا برونق حسن

هو أحلى من ماء حب الآس

 

وحباني من ثغره برضاب

ثم قلده كثيرون، ومنهم حامد العمادي في قوله، وقد غير سياق كلامه :

عز نقلا وفيه نفع الناس

 

يا حبيبي إذا سألت سؤالا

ونهارا مع اجتماع حواس

 

انشر الكتب كالجداول ليلا

هو أحلى من ماء حب الآس

 

فسروري بنقل قول صحيح

وغير بعضهم تغييرا طفيفا في الأسلوب كما فعل الشاعر «محمد الأيوبي» في قوله

والثم لمى ذاك الثغير لأنه        أزكى شذا من ماء حب الآس([131])

وهناك بعض الصور يستوحيها شاعر من شاعر، «فحسين بن مهنا الزيات»([132]) يقول :

معذر راشق سهما من المقل

 

كأنما الخال قرب الثغر من رشأ

صلا يدور حواليه فلم يصل ([133])

 

شحرور ورد أراد الورد ثم رأى

ويعلق محمد أمين المحبي على بيتيه هذين فيقول: حام على معنى الحرفوشي في:

وقد غدا فتنة الألباب والمقل

 

كأنما الخال فوق الثغر حين بدا

لمنهل راجيا ريا فلم يصل

 

هزار أيك سعى في روضة أنف

وبعض الصور المأخوذة تقل في جمالها عن قول مبتدعها، فالحرفوشي مثلا استوحى بيته الثاني في قوله:

فيه سراب أو لموع الآل

 

فإلام أظمى في الهوى ومواردي

ألقى وقلبي عند ذات الخال

 

ولم اختياري عن فؤادي كل من

من قول الباخرزي كما يقول المحبي:

لاقيته من حاضر أو باد

 

قالت وقد فتشت عنها كل من

ترني فقلت لها وأين فؤادي([134])

 

أنا في فؤادك فارم طرفك نحوه

وأرى أن المقلد الباخرزي كان أقوى في سبك ألفاظه وأقوى دلالة، ولا سيما بهذا الاستفهام الاستبعادي، وعلى هذا يعد قول الحرفوشي من السرقات المذمومة([135]) .

 ولكن لا يعد قول المحبي في وصف القسطنطينية :

وبقعتها من الدنيا جميعا        بمنزلة الربيع من الزمان ([136])

سرقة من المتنبي، وإن لم يشر إليه لأن بيت المتنبي :

مغاني الشعب طيبا في في المغاني       بمنزلة الربيع من الزمان ([137])

معروف لايخفى .

   وكذلك الحال في قول صفي الدين الحلي:

عليكم بعد فضل الله يعتمد

 

يقبل الأرض عبد تحت ظلكم

يوما وأنتم له العلياء والسند([138])

 

ما دار مية من أسنى مطالبه

لأن قول النابغة:

يا دار مية بالعلياء فالسند        أقوت وطال عليها سالف الأمد ([139])

 معهود أيضا .

أما قول الشاعر «محمد التقوي الحراكي» :

ونسر الجو مبلول الجناح

 

سرت والليل محلول الوشاح

كثغر البيض يبسم عن أقاح([140])

 

وعقد الزهر منتظم الدراري

فمقتبس من قول الفتح بن خاقان :

وثغر النجم يبسم عن أقاح

 

خيالي زارني عند الصباح

فأصغى النجم منه إلى الصياح

 

وقد حشر الصباح له فنادى

فطار النسر مبلول الجناح([141])

 

وفاض على الكواكب وهو طام

والتغيير البسيط لا يعفي من الاتهام .

   وأسوأ منه قول «محمد بن أحمد المنوفي» في وصف العدو :

وأنهم فئة غلب ذوو غلب

 

ظنوا بأن الجبال الشم نافعة

شاهت وجوههم خوفا من العطب([142])

 

قلوبهم خشيت أبصارهم عميت

فقد أخذه من قول فيض الله بن الرومي :

قلوبهم خشعت ، أبصارهم عميت        شاهت وجوههم خوفا وقد خسروا([143])

إذ لم يغير فيه إلا تغييرا طفيفا ، فضلا عن حفاظه على النغمة الموسيقية أيضا، ولعلها هي التي جذبت انتباهه .

ومن السرقات البينات قول حسن بن الأعوج في مدحة له لموسى بن حرفوش، وكان يحرضه على الثورة ضد الدولة العثمانية :

وأنت موسى وهذا اليوم ميقات

 

«غرير» طور ونار الحرب موقدة

ولا تخف ما حبال اليوم حيات

 

ألق العصا تتلقف كل ما صنعوا

وقد ذكر المحبي أنها من قول الشاعر ابن النبيه في موسى الشرف :

وأنت موسى وهذا اليوم ميقات

 

«دمياط» طور ونار الحرب موقدة

ولا تخف ما حبال اليوم حيات([144])

 

ألق العصا تتلقّف كل ما صنعوا

وهذه السرقة لا يمكن تبريرها بأي حال .

ثالثاً : انحرافات في الصورة الفنية :

الشعر ماأمتع ونفع أما أن ينحرف قائله بصوَرِه عن العقيدة الصحيحة أو أن يخوض في المنكر فهذا مالا يقبل منه وإن وافقه على ذلك بعض النقاد ، وإذا كان القاضي الجرجاني قال : " فلو كانت الديانة عاراً على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سبباً لتأخر الشاعر لوجب أن يمحى اسم أبي نواس من الدواوين…. ولكن الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشعر"، فغنه يقصد من ذلك الاهتمام بالصياغة الفنية، ومع ذلك فإن  أباعمرو الشيباني والأصمعي، والآمدي والثعالبي يرفضون الانحراف في الشعر، يقول الشيباني: " لولا ما أخذ فيه أبو نواس من الإرفاث لاحتججنا بشعره"، كما لام الأنباري ابن المعتز لروايته شعر أبي نواس، وقال إن من حق شعر هذا الخليع ألا يتلقاه الناس بألسنتهم ولا يدونوه في كتبهم، ولا يحمله متقدمهم إلى متأخرهم. وكان الأصمعي لا ينشد شعراً فيه هجاء ([145])، وعاب الباقلاني أبيات امرئ القيس لما فيها من فحش، وعد ابن القيرواني النظرة إلى الشعر من زاوية خلقية من صميم الحكم الفني([146]) ورأى الآمدي ضرورة الالتزام بالإسلام وأخلاقه، وعدم الخروج عن قيمه، وإلا كانت مغامرة غير محمودة العواقب([147])، كما تعرض بعض الشعر الصوفي الذي حاد عن السبيل القويم إلى النقد لما فيه من مخالفة للتصور الإسلامي لله سبحانه والكون والحياة، من مثل تائية ابن الفارض في سلوك القوم إذ كانت تدعو إلى الحلول ووحدة الوجود، وكذلك  شعر محيي الدين بن عربي، وقد أثارت أشعارهما وأقوال من شابههما حركة نقدية كبيرة بين مؤيد لهذا الأدب ومعارض له، و دعا الفقيه ابن الوردي إلى حرق كتاب فصوص الحكم لابن عربي لما فيه من انحرافات( ([148].

ولكن بعض شعراء هذا العصر فاهوا بصور يستنكرها الشرع كقول عبد الحي الخال:

وظاهره مضيء كالسراج

 

ورب منافق باطنه قبر

وباطنها ظلام في اعوجاج([149])

 

كمئذنة فظاهرها قويم

ولست أدري كيف طوعت له نفسه مثل هذا التشبيه والمئذنة من شعائر الإسلام ؟

فضلا عما ورد عند المتصوفة من انحرافات .  

رابعا - سمات التصوير الفني : 

التصوير الفني وسيلة للتعبير عن الأحاسيس والمشاعر ، وليس غاية في حد ذاته، ولقد أجاد الشعراء في عصر الدول المتتابعة في كثير من صورهم الفنية ، ولا سيما في تقديمهم لمشاهد تمثل حالات مادية أو معنوية، وتتآزر فيها الألفاظ والصور والموسيقا لتؤدي الفكرة والأحاسيس ، ولتكشف عن مواقف الشعراء من الكون والإنسان والحياة .

 وكان في كثير من الصور الجزئية إبداع فني، وقد جاءت في تشابيه واستعارات وكنايات و… وبدا فيها التأثر بالشعر العربي القديم وبالمعاصرين أيضاً، وكانت بعض الصور متوافقة وأخرى لاتناسب بينها لما فيها من تكلف ، وهناك صور مسروقة، إلا أن بعضها الآخر يبدو جديدا أو كالجديد، وذلك حين يضيف إليه الشاعر من العناصر الشعرية ما يجعله معبرا عن التجربة الشعورية .

واستخدم بعضهم صورا في مجالات غير شرعية .

( 1 )  ينظر : الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي / 320 ، 324  ؛ والصورة بين البلاغة والنقد / 17 .

( 2 )  ينظر حاضر النقد الأدبي / 87 ، والأسس الجمالية في النقد / 213 – 218 .

([1]) ينظر النقد الأدبي أصوله ومناهجه / 131 .

([2])ينظر : فن الشعر / 16 – 19 ، وكمثال لاختلاف الآراء النقدية ما قاله الاتباعيون من محاكاة الطبيعة ، ثم نقصه الإبداعيون، وقالوا بمحاكاة الشعر للنفس الداخلية ، فلما جاء الواقعيون قالوا إن الشعر تعبير عن المجتمع وأوضاعه .

([3]) عبد الحق الحجازي شاعر دمشقي يلقب بزين الدين ( ت 1020ه)، ينظر لترجمته في:خلاصة الأثر 2/310

([4]) صيَخْد : عين الشمس: القاموس مادة «صخد»، ولعله قصد حرارة  الشمس.

([5]) الأحداج: ج حدج، وهو مركب النساء: القاموس المحيط مادة «حدج».

([6]) خلاصة الأثر 2/311-312 .

([7]) الشطر الأول غير مستقيم الوزن .

([8]) الشطر الأول غير مستقيم قطعت فيه همزة أل التعريف في «الجن» ليستقيم الوزن، ونونت رمضان للضرورة الشعرية أيضاً في الشطر الثاني من البيت نفسه .

([9]) في هذا البيت إقواء  بكسر «حرمان» مع أن الروي مضموم.

([10]) الحلل السندسية 2 / 593 – 594 .

([11]) هي التي اقترنت بما يناسب المورّى به، وهو المعنى القريب من خصائص أو صفات: البلاغة العربية ص305

([12]) نفح الطيب 6 / 232.

([13]) الحلل السندسية 2 / 592 .

([14]) اللاعج: الهوى المحرق، يقال: هوى لاعج: لحرقه الفؤاد من الحب، ولعج الحب والحزن الفؤاد: استحّر في القلب، ولَعَجه لَعجْاً: أحرقه: القاموس: مادة لعج.

([15]) نار الحباحب: ما اقتدح من شرر النار في الهواء من تصادم الحجارة، والحٌباحب أيضاً: ذباب يطير في الليل كأنه نار له شعاع كالسراج، ويقال للخيل إذا أوردت النار بحوافرها: هي نار الحباحب، وهي نار ضعيفة، والحبحبة: الضعف: القاموس مادة «حبحب».

([16]) ديوان السيد عبد الجليل الطباطبائي / 1 – 2.

([17] ) ديوان الأمير منجك / 66- 67

([18] ) طويس وصف امرأة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم لرجل جاء خاطبا فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم لقد دققت النظر يالعين ونفاه إلى المدينة فسمي طويس الفاسق : السيرة النبوية لابن هشام الأنصاري /

([19] ) في كتاب الحركة الشعرية في القرن الحادي عشر الهجري. دراسة للشاعر الرام حمداني مضمونا وشكلا متناثرة فيه ، وتظهر انحرافه في معانيه انحرافا غير مستحسن  وإن كانت موسيقاه الشعرية عذبة ، ينظر الكتاب ص   80-81 و208  و305-306 و 407  

([20]) الشاعر معروف الرصافي ( 1294 – 1364 ه / 1877 – 1945 م ) عاش ما ينيف على أربعين سنة في العهد العثماني، وكان يناوئهم، إذ كان من رجال الاتحاد والترقي، وشارك في الجيش الذي عزل السلطان عبد الحميد الثاني؛ ومرّثيه محمود شوكت كان معه، ثم قتله الاتحاديون في عهد السلطان محمد رشاد لتطرفهم ضد العرب، ينظر لترجمة الرصافي: المعاصرون/ 440 - 441، ومقدمة ديوان؛ وينظر لمحمود شوكت في: الأعلام 7 / 174 والنص يتحدث عن قتله «في العهد العثماني».

([21]) المرجع السابق نفسه.

([22]) ديوان الرصافي / 300 – 301 .

([23])علي بن عبد الله بن المهلا ( ت 1049 ه ): شاعر يمني في عهد الإمام محمد المؤيد بن الإمام القاسم، ينظر لترجمته في: خلاصة الأثر 3 / 168 .

([24]) تخت كلمة تركية بمعنى سرير الملك .

([25]) خلاصة الأثر 3 / 169 .

([26]) الوغد: الرذل الدنيء، والأحمق الضعيف العقل: لسان العرب 6 / 465 ، وكاشح عدو يضمر عدوانه ويطوي عليه كشحه أي باطنه: لسان العرب مادة كشح 5 / 407

([27]) سلك الدرر 1 / 163.

([28]) أحمد بن عمر بن شاكر الحكواتي الحموي (1121-1165ه) شاعر متصوف من حماة: سلك الدرر1/155

([29]) جعل همزة القطع في " أنجده " همزة وصل للضرورة الشعرية .

([30]) سلك الدرر 1 / 156 – 157 .

([31]) ينظر : الصورة الفنية في التراث / 376 – 377 ، وتاريخ النقد الأدبي عند العرب 439 – 440

([32]) أحمد بن محمد الكوكباني شاعر يمني ت 1181ه : البدر الطالع 1/105

([33]) البدر الطالع 1/ 105.

([34]) الصوالج : ج صوالجة وهي المحجن ، وصلج بالعصا: ضربها : القاموس مادة صلج؛ الأكر: ج أكره وكره: القاموس « أكر»

([35]) سلافة العصر / 483 ، والبيت مضطرب عروضياً ، ولو كان " عِرسُ " لصح البيت .

([36]) التفريغ هو أن يصدر الشاعر كلامه باسم منفي ب (ما) خاصة، ثم يصف الاسم المنفي الذي هو المشبه به. بما يوضحه، ثم يخبر عنه بأفعل التفضيل ومعه المشبه، ويربط هذه الصورة المركبة بالنص العام ليعبر من خلاله عن تجربته الشعورية، وقد عده «د.فايز الداية» في كتابه «جماليات الأسلوب» من الصور البيانية، ينظر لذلك ص100 .

([37]) عبد الرحمن التاجي شاعر صوفي من الطريقة النقشبندية ، وهو من شعراء إنطاكية في القرن الثاني عشر الهجري ، كان صديقاً للشاعر عبد الغني النابلسي : سلك الدرر 2 / 285 ، وسأذكر للنابلسي جواب مطارحته الشعرية هذه ، ورأيي فيها .

([38]) الصلِّ: الحية التي تقتل إذا نهشت من ساعتها: لسان العرب 4/65 .

([39]) سلك الدرر 2/287 .

([40]) ينظر الشاعر ولمعركة الوزير مع قبيلة حرب سنة 1170ه في النفح الفرجي /376 .

([41]) التشبيه المفروق هو أن يؤتي بالمشبه ثم بالمشبه به ، ثم بآخر وآخر ، ينظر لذلك علوم البلاغة / 200 .

([42]) النفح الفرجي / 376.

([43]) ديوان الطباطبائي / 133 .

([44]) خلاصة الأثر 2 / 198 ، وكان على الشاعر أن يقول : " فأثّر عودها في الرامي " .

([45]) ديوانه / 222 .

([46]) سلك الدرر 4 / 56 .

([47]) تشبيه الجمع : هو أن يأتي المشبه واحدا ، والمشبه به متعددا : علوم البلاغة / 201

([48]) سليمان بن نور الله الحموي المعروف بالسواري : أديب دمشقي ت 1117ه : سلك الدرر 2/ 167

([49]) سلك الدرر 2/ 168

([50]) مسائل من تاريخ الجزيرة / 137

([51]) الحقيقة والمجاز /21 .

([52]) الدهمة : السوداء ، والأدهم : الأسود ، يكون في الخيل والإبل وغيرهما : لسان العرب 2 / 424 ، والشهبة: البياض إذا غلب على السوداء ، وفرس أشهب ، قال ابن الأعرابي : ليس في الخيل ، واشهابّ رأسه : غلب بياضه سواده : لسان العرب 3 / 484 .

([53]) النبا : الخبر ، خففت الهمزة فصارت ألفاً .

([54]) جبت الهموم : قطعتها ، والجب : القطع ، والاستئصال والمحو ، مادة جبب : لسان العرب 1 / 367 ، والسلهب : الطويل من الخيل : لسان 3 / 329

([55]) اللوذعي : اللسان الظريف كأنه يلذع من ذكائه : مادة لذع : لسان العرب ، والأبيات في سلك الدرر

2/288.

([56]) بلغراد عاصمة يوغوسلافيا " الصرب حالياً " : أطلس العالم / 77 .

([57]) المرجع نفسه 3 / 252 .

([58]) هو مصطفى بن إبراهيم المعروف بالأويسي العلواني : حموي نزل دمشق واستقر بها ، وتوفي سنة 1193 ه . ينظر لترجمته في سلك الدرر 4 / 142 .

([59]) نفسه 4 / 148 .

([60]) إسماعيل بن خليل الطهوري شاعر مصري ت 1211 ه ، ينظر لترجمته وللشعر في حلية البشر 1/312.

([61]) المرجع السابق نفسه.

([62]) عرف البشام /85

([63]) أحمد الكاشف شاعر مصري ( 1878 – 1948 م ) عاش جلّ حياته في العصر العثماني ، والبيتان من قصيدة يتحدث فيها عن حروبهم ضد الثورة المهدية في السودان ، ينظر لترجمته في الأعلام 1 / 124 .

([64]) ديوانه 1/47، والركوز : المدافع كما فسرها الشاعر في ديوانه .

([65]) نفحة الريحانة 2 / 499 .

([66]) محمد بن سعيد الشاعر من نجد من قبيلة سبيع ، ولد سنة 1160 ه ، وتوفي في أوائل القرن 13 ه ، ينظر لترجمته في : علماء نجد خلال ثمانية قرون 5 / 541.

([67]) علماء نجد 5/542

([68]) جماليات الأسلوب /143، والصورة الشعرية في الكتابة الفنية/69 .

([69]) العقود الدرية 2 / 71 .

([70]) حسين غنام شاعر سعودي وهابي النزعة ، له كتاب تاريخ نجد ، ينظر له في مقدمته 

([71]) علماء نجد خلال ثمانية قرون / 154.

([72]) سلافة العصر /483

([73]) مسائل من تاريخ الجزيرة / 137 .

([74]) طه بن مهنا الجبريني : شاعر حلبي له مدائح نبوية : سلك الدرر 2/219

([75]) سلك الدرر 2/219 .

([76]) ناصيف بن عبد الله اليازجي (ت 1287 ه)  شاعر من حمص قطن بيروت : معجم المؤلفين 4 / 10.

([77]) ديوان الشيخ ناصيف اليازجي / 278 .

([78]) الكناية عن نسبة هي ثبوت أمر لأمر أو نفية عنه : علوم البلاغة / 282 .

([79]) ديوانه / 5 .

([80]) سمى القرطاجني الرمز إحالة لأن الشاعر يحيل بالمعهود على المأثور ، وعدّه من وسائل تحسين الكلام : ينظر منهاج البلغاء / 189 – 190 .

([81]) عباس الأعسم شاعر عراقي ت 1323 ه ، ينظر لترجمته في أعيان الشيعة 7 / 414 .

([82]) أعيان الشيعة 7/414 ، وينظر للرموز أيضا في الروض النضر 3/193، إذ يذكر الشاعرعنترة وحاتما وإياسا والسموءل في مدحة لعبد الله الجته جي .

([83]) خلاصة الأثر 4/439، وإعلام النبلاء 6/336 .

([84]) ديوانه / 71.

([85]) المرجع نفسه 1 / 131 – والفتح المبين / 205 – 206

([86]) نفح الطيب 1/73 وديوان المقري  1/66 .

([87]) النفح الفرجي / 389، وحذفت نون الجان للضرورة الشعرية.

([88]) العلل والعل : الشربة الثانية ، وقيل الشرب بعد الشرب تباعا : لسان العرب 4/413 .

[89] ) العقود الدرية / 17 وسلافة العصر / 284

[90] ) خلاصة الأثر 4/ 439

([91] ) الأسس الجمالية للإيقاع البلاغي /

([92] ) الرباعي ، عبد القادر ، الصورة الفنية في شعر أبي تمام ، جامعة اليرموك ،إربد ، الأردن ط1400ه 1980م 

([93]) حلية البشر 1/242

([94]) إبراهيم بن ناصيف اليازجي شاعر لبناني ( ت 1324 / 1906 ) ، عاش حياته كلها في العهد العثماني : الأعلام 4/ 76 .

([95]) العقد ديوان الشيخ إبراهيم اليازجي / 117.

([96]) ديوان الكاشف  2/31

([97]) سلك الدرر 2/ 287

([98]) ديوان عبد الغفار الأخرس / 397.

[99] ) ديوان العقد الثمين / 34

([100]) حلية البشر 1 / 331 ، وخطط الشام 3 / 54 .

([101]) المائدة / 21 ، وهي قوله تعالى : " يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين "

([102] ) ديوان ابن منجك / 34

([103] ) نفحة الريحانة 1 / 139

([104] ) ديوان الأمير / 25

([105] )  الصورة بين البلاغة والنقد ، د. بسام ساعي ، المنارة للطباعة والنشر 1984م ص 30

([106]) صادق بن محمد الخراط شاعر دمشقي ت 1143 : سلك الدرر 2/192

([107]) سلك الدرر 2/193

[108] ) خلاصة الأثر 4/ 209-210، ونفحة الريحانة 2/ 646 .

([109]) در الحبب ج 2 قسم 1 / 175 .

([110]) خليل بن أسعد الصديقي شاعر من دمشق ت 1273ه : سلك الدرر 2/83

([111]) سلك الدرر 2/83

[112] ) العقود الدرية / 19

([113]) أحمد العناياتي من شعراء القدس في القرن الحادي عشر الهجري : معادن الذهب /120

([114]) معادن الذهب / 121

([115]) سلك الدرر 3/254

([116]) عد ابن وكيع التنيسي في كتابه " المنصف للسارق " عشر حالات للسرقات المذمومة ، وعشرا للسرقات المحمودة بين فيها المواطن التي يبدو فيها التأثر ، أو ترجح فيها السرقة ، ينظر  لذلك في ص 10-36

([117]) الوساطة بين المتنبي وخصومه / 25-27 ، و186، 214، والصبح المنبي / 194-195  قضية عمود الشعر العربي القديم / 63

([118]) إعلام النبلاء 5/8

([119]) أعيان الشيعة 2 /247

([120]) محمود سامي البارودي شاعر عثماني عد رائد الشعر الحديث (ت1904) : الأعلام 7/171

([121]) ديوان امرئ القيس / 47

([122]) ديوان البارودي 1/162

([123]) ديوان بشار بن برد 1/ 167

([124]) ديوانه /72

([125]) ديوان الكاشف 1 / 47

([126]) إبراهيم بن حجاج الأبناسي شاعر مصري ولد بعد 780 ه : الضوء اللامع 1/39

([127]) المرجع نفسه

([128]) نفح الطيب 1/44

([129]) سلك الدرر 3/ 254

([130]) إبراهيم بن محمد المرادي شاعر دمشقي ، وهو عم مؤلف سلك الدرر ، ت 1142ه : المرجع نفسه / 25

([131]) ينظر لهذه المباراة الشعرية كلها في سلك الدرر 1/25-29 ، وقد بلغ عدد المقطوعات التي قالها المشاركون اثنتين وعشرين ، وشعراؤها جميعا من دمشق ، وينظر لمثلها في المرجع نفسه 1/ 230-235 .

([132]) حسين بن مهنا الزيات شاعر من حلب ولد 996ه ، ينظر لترجمته في تراجم الأعيان 2/195.

([133]) الصل : الحية التي تقتل : لسان العرب 4/65 ، والشعر كله في نفحة الريحانة 2/626

([134]) خلاصة 4/50 ، والنفحة 1/198

([135]) ينظر لأنواع السرقات المذمومة في المنصف للسارق والمسروق /21

([136]) سلك 4الدرر/ 88.

([137]) ديوان المتنبي 4/251.

([138]) أعيان العصر 3/68

([139]) ديوان النابغة /9 .

([140]) الخلاصة 4/305 وإعلام النبلاء 6/286 .

([141]) الخلاصة 4/305، والفتح بن خاقان وزير المتوكل العباسي

([142]) سلافة العصر / 131

([143]) خلاصة 3/ 288، ونفحة الريحانة 2/94 .

([144]) الخلاصة 2/47.

[145] ) الكامل في اللغة والأدب 2 / 504

[146] ) الوساطة بين المتنبي وخصومه /64

[147] ) الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي  / 235

[148] )إعلام النبلاء 2 / 329

([149])سلك الدرر 2/244

الخاتمة

الحمد لله رب العالمين حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى r الذي دعا إلى الهدى والعلم، فشجع بذلك على مواصلة ما فيه خير للعباد..

وبعد

فإني قد بذلك في هذا الكتاب جهوداً لا يعلم مداها إلا الله، وقد أودعت فيه خبرة ما ينيف عن ثلاث عشرة سنة تعاملت فيها مع أدب العصور المتتابعة، وألفت خلالها ثلاثة كتب شهد بنجاحها ذوو الخبرة والتحكيم، كما كتبت أبحاثاً منشورة.

وقد انتهيت من هذا الكتاب إلى الملاحظات الآتية:

1- كان الشعر الديني متعدد الجوانب، وقد أثبت نظرة المسلمين الشمولية إلى الحياة، ديناً ودولة، وعبادة وعلماً، وسعياً للجهاد ومحاربة للفساد.

2- كان يحيى الصرصري (ت656هـ) لا البوصيري ولا صفي الدين الحلي رائد فن البديعيات والسباق إلى هذا المضمار، ولكن الرؤيا التي رافقت البديعتين وقصة البردة، وطول قصيدتي البوصيري والحلي أدى إلى شهرتهما من دونه.

3- أشرت إلى أن المدائح النبوية ولاسيما البديعيات أثرت في الشعر العربي والغربي، إذ كثر تخميسها ومعارضاتها وشروحها، وقد عرفها الغرب عن طريق المسلمين الذين تغنوا بها في حلقات الصوفية، وظهر تأثيرها عند الشاعر دانتي الذي يعد رائد الشعر الديني عند الفرنجة.

4- أبدت المدائح النبوية تطرفاً تجلى في الاستغاثة بالرسول r وبصحبه، كما تبدى في فكرة النور المحمدي التي تزعم أن الله سبحانه كوّن الرسول r من نوره، ولولاه لما كان عرش ولا كرسي ولا لوح، لأن مدار الوجود كله يتعلق به، وكان من علمه – بزعمهم – علم اللوح والقلم.

5- أبدت المدائح تجديداً في المضمون، وفي بنية القصيدة وموسيقاها الشعرية، وفي التشكيل اللغوي لها، ففي المجال الأول نرى ظهور مطولات تحكي سيرة (البشرية بدءاً من أبيها آدم عليه السلام، وانتهاء بالرسول r وسيرته، بل إن بعضها تابع بالحديث عن سير الخلفاء حتى غدت المدائح النبوية كالشعر التعليمي في تأريخها للحوادث.

ووجدت مدائح نبوية تحكي شمائل الرسول r من خلال الحديث عن آثاره  .

كما وجدت أيضاً مدائح لأنبياء آخرين كسيدنا زكريا ويحيى وإبراهيم وسواهم عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام، ووجدت مدائح مستقلة للصحابة رضوان الله عليهم.

أما التجديد في البنية فكان أن استهلت بعض القصائد بمناجاة المولى سبحانه، أو بوصف الطبيعة على غرار القصائد الأخرى، كما وجدت مقطعات نبوية، وفي بعض القصائد وحدة عضوية فضلا عن الوحدة الموضوعية .

أما التجديد في موسيقا القصائد النبوية فقد برز في ظهور رباعيات ومخمسات وموشحات نبوية، بل وجد عند السبتي قصائد مخمسات التزم فيها حرف روي واحد في مطالع وقوافي أبياتها الخمسة.

ومن التجديد في التشكيل اللغوي في هذه القصائد معارضة قصائد نبوية لقصائد مشهورة في المديح النبوي أو غيره، وتشطير قصائد أيضاً، كما وجدت مساجلات نبوية في هذا العصر، وتبين أن كثيرا من شعراء العصر لجؤوا إلى الرموز المتعددة وإلى التناص وسيلة تعبيرية.  

6- في الشعر الصوفي: أوضحت أن بعضه دلّ على تقوى قائله وورعه، ولكن بعضه ابتدع فيه ما لم ينزل به من سلطان، ووصل بعضهم في انحرافاته إلى درجة الإلحاد الذي لا يقبل التأويل حين زعم الاتحاد أو الرؤيا أو قال بوحدة الوجود، أو نسب إلى الأقطاب ما لا يجوز إلا للمولى عز وجل، أو قال بالنور المحمدي، أو بإسقاط التكاليف، وقد تصدى العلماء لهؤلاء الملاحدة، ودعوا إلى نصرة الدين بزجر ذوي الأهواء قبل أن يستفحل الداء ويعم البلاء، وقد أوضحت هذا كله من خلال الشعر.

أما الفصل الثاني فكان لفن المديح في شعر الدول المتتابعة، وقد قسمته إلى قسمين، أبرز الأول المدائح الرسمية التي بانت من خلال الثناء على السلاطين وأعوانهم الذين قاوموا التتر والصليبيين حتى نهاية العهد العثماني في بلادنا العربية وفي الأصقاع الأوربية، كما قاوموا الفرس في الجبهة المشرقية.

كما ظهرت هذه المدائح من خلال الحديث عن الثورات السياسية والدينية والاجتماعية وقد أوضحت المدائح الصراع الديني ضد الصليبيين، وتعاطف بعض النصارى من ساكني البلاد العربية مع بني عقيدتهم من المستعمرين.

وكان هناك مدائح تحكي اهتمام المسؤولين بالعلم وبراحة الشعب مما حدا بالشعراء أن يثنوا عليهم.

أما المدائح غير الرسمية فقد بدا فيها تجديد إذ صارت تقدم في إخوانيات أو في تقريظ للكتب، أو على شكل أسئلة للعلماء، أو تأريخ شعري أو ألغاز .

ووجدت مدائح للمدن يشيد الشاعر من خلالها بساكنيها وشمائلهم.وقد حوت المدائح فنوناً شعرية متعددة، كما أبرزت القيم التي يعجب بها المجتمع ويتطلبها من مسؤوليه أو علمائه.

وكانت هذه المدائح تتمتع بالوحدة العضوية غالباً وتبرز الجمال المعنوي والأسلوبي وقد أوضحت هذا من خلال دراسة أنموذج للمديح الرسمي.

وفي الفصل الثالث «الرثاء في عهد الدول المتتابعة» بينت أن منهج القصيدة هو هو، استهلال بالدموع، وحديث عن سبب الوفاة وتأبين الميت ثم دعاء له، وقد كشفت مراثي المدن والممالك الزائلة جرائم العدو، أو وصفت نكبات الطبيعة.

ووجد تجديد في هذا اللون الشعري تبدى في الوقوف على أطلال المرثي، ووروده عن طريق مطارحات خيالية مع الجماد أو النبات، ورثاء لنساء عالمات، ومداعبات رثائية ، وذكر سيئات المتوفى للعظة والاعتبار و…، وجمع بعض المراثي بين الشعر والنثر.

وفي الفصل الرابع «الهجاء في شعر العصور المتتابعة» تحدثت عن مظاهر الهجاء كالترفع عنه وعدم ذكر اسم المهجو غالباً، ومجيء بعضه على شكل رمز، كما تحدثت عن أنواعه وهو الهجاء السياسي والاجتماعي والعقائدي ، وهناك هجاء للمدن وهو مما جد في هذا العصر .

أما الفصل الخامس وهو الشعر الاجتماعي فقد أتم الصورة الاجتماعية خاصة لهذا العصر، إذ تحدث عن أوضاع العاملين الإيجابية والسلبية، وأشار إلى وضع أهل الذمة في الوظائف وتغلغلهم فيها، كما أظهر شعر الإخوانيات علاقة المودة بين الأصحاب في التهنئة أو في المواساة، أو في رسائل علمية متبادلة، وكذلك شعر العتاب والاعتذار وشعر الغربة والحنين، وقد أبدى هذا أيضاً أسباب الهجرة عن الوطن، وأنواع هذا اللون الأدبي واحتواء قصائده على موضوعات أخرى كان لها علاقة بالشوق والحنين.

أما العلاقة بين الرجل والمرأة فقد كشف عن مواقف الزوجين من بعضهما بعضاً، ونأي بعضهم عن الغزل الذي لا طائل وراءه، أو لكبر سنهم، وأظهر بعض شعر الحب أنه كان رمزا لحب الله ورسوله ، أو توقاً للأساتذة والعلماء، أو للأهل والأصدقاء، أما شعر الغزل فقد بدا معظمه تقليدياً يحكي ما حكى السالفون من وقوف على الأطلال ونسيب أبان ما يعجب به الشاعر من صفات فتاة أحلامه المادية والمعنوية، وكان في بعضه شذوذ وانحراف في قصصه وفي ألفاظه.

ولعلّ من جديد هذا الشعر الحديث عن ذوات الحجاب اللواتي يحفظن أنفسهن عن الأعين واستنكار بعض الشعراء لمواقف المجون، وإشادتهم بالسلاطين الذين يعاقبون مرتكبي هذه المنكرات.

أما شعر المكيفات القهوة والدخان والمخدرات والخمرة فقد أوضح ترصد الدولة لمحتسيها، ومواقف الشعراء بين مؤيد لبعضها ومنكر لجميعها، وقد درست قصيدة أفيونية «لفتح الله بن النحاس» تكشف عن أضرار المخدرات على الفرد، ويظهرفيها مشاعر إنسانية .

أما الفصل السادس فكان للفنون الشعرية الأخرى: الوصف والفخر والحكمة والآراء، والشعر التعليمي.

وبدأ بالوصف وتبين أنه كان في مجمله تقليدياً، وكان الشاعر يرسم لوحاته للطبيعة الجامدة والمتحركة رسماً خارجياً، وإن بدا فيها تشخيص أحياناً، كما تبين أن الوصف غدا أحياناً مجالاً للشوق والحنين، أو للذكرى، أو لمجالس الخمرة، وهناك أوصاف مستحدثة لأمور حضارية مستجدة.

وأما الفخر فكان حديثاً عن النفس والأهل، وإشادة بالانتماء الدولي، وقد وجد فيه تجديد في فن المفاخرات الأدبية حين صور الشعراء تفاخر الجماد متأثرين بأصحاب المقامات النثرية، وقد كشفت هذه الدراسة سمات الفخر أيضاً، وهي تكمن في ارتباطه بالفنون الشعرية الأخرى وتأثره بالقدامى.

أما شعر الحكمة والآراء فقد نمّ عن تأثره بالقرآن الكريم والحديث الشريف وكتب التراث خاصة، وبين المجالات التي تبدت فيها هذه الحكم والآراء، وهي عالم الإنسان، والحياة، والموت، والمجال السياسي والعلمي.

وكان الشعر التعليمي يبين أنه نظم حاد عن مهمة الشعر إلى التعليم والتثقيف ولهذا خلا من العواطف والأخيلة وجماليات الشعر إلا ما جاء عفو الخاطر، وقد بدا في أنواع متعددة هي الأراجيز التعليمية والأسئلة الثقافية والإجازات العلمية.

انتقلت بعد ذلك إلى الباب الثاني وكان بعنوان «دراسة فنية لشعر العصور المتتابعة» وكان الفصل الأول منه لبنية القصيدة، وقد تبين أنها بنية تقليدية إجمالاً راعى فيها الشاعر أحياناً الوحدة العضوية لأنه يترجم عن أحاسيسه وانفعالاته تجاه موقف ما، وقد استهل معظمها بمطلع غزلي إلا الشعر الديني إذ كان يبدأ بمناجاة للمولى تعالى أو بغزل رمزي غالبا، وقد ضربت نماذج لأنواع القصائد المستقلة بالبيت التقليدية ، وذات الوحدة المنطقية، والوحدة الموضوعية، والوحدة العضوية، وكان ختام القصيدة حديثاً عن تقديم الشعر للممدوحين في المدائح الرسمية، أو صلاة وسلاماً على سيد المرسلين في الشعر الديني غالباً.

وطالت بعض القصائد حتى شابهت الملاحم، إذ وصل بعضها إلى خمسة آلاف بيت، وقصر بعضها حتى صار مقطعات من بيتين أو ثلاثة.

وفي الفصل الثاني: «الظواهر الموسيقية» تبين أنها كانت تسير في اتجاهين: تقليدي خليلي درست فيه موسيقاه الخارجية العروضية، والداخلية، كما درست موسيقا القافية الموحدة، ومستحدث بان من خلال المزدوجات والمثلثات والمسمطات، وقد تبين أن للأخيرة أقساماً متعددة، فمنها الرباعيات والمخمسات بأنواعهما والمسدسات حتى المعشرات، وقد طور شعر العصور في الدوبيتات وفي وزن السلسلة إذ أطالهما حتى صارا كالقصيدة، بل جاء الدوبيت وزنا لموشحة.

ثم تحدثت عن الموشحات، وأبديت رأيي في نشأتها بتأثير تغير النغم في المشرق، وقد بينت أنه وجد في العصر الجاهلي رباعيات ومخمسات قليلة وأن التغيير في الأنغام برز بتأثير القرآن الكريم ، ثم جاءت محاولات الشعراء لتقليده مما أدى إلى استحداث المسمطات بأنواعها، فلما انتقل زرياب إلى الأندلس نقل معه هذه الأنغام، وهناك كوّن مدرسة غنائية أدت إلى تطور الموسيقى المشرقية وظهور الموشحات، فهي إذاً ذات جذور مشرقية لا أندلسية ولا غربية، وقد عرضت للغنائية في الموشحات، كما تحدثت عن تغيير هيكلها وأوزانها، ووجود معارضات وتضمينات فيها، وهذا ما لم يعهد من قبل.

وانتقلت بعد ذلك إلى فن المواليا بأنواعها، فالبند الذي يشبه الشعر الحديث إلى حد كبير، ثم تحدثت عن الأوزان المخترعة، وكنت قد سميت واحداً منها  في كتابي الحركة الشعرية في حلب في القرن الحادي عشر الهجري بالمتسع، فلما رأيت الأمر عاماً وكثيراً أعرضت عن التسمية منعاً للتكلف، كما أشرت إلى المآخذ العروضية في شعر العصور سواء ما يتعلق منها بالضرورات الشعرية أم بعيوب القافية، وأنهيت حديثي عن هذه الظواهر بتبيان سماتها في هذا العصر.

وفي الفصل الثاني، وكان بعنوان «التشكيل اللغوي» بينت أن آراء القدامى في النقد لها أثرها على إنتاج الشعراء، ومن ثمّ يجب مراعاتها، ثم أوضحت الأساليب التي اعتمدوا عليها وهي الملاءمة بين الأسلوب والموضوع والمتلقي، والاتكاء على المحسنات اللفظية والمعنوية، والمعارضات والمساجلات والتوقيعات الشعرية، والمبالغات أحياناً، كما ورد في أساليبهم استخدام الحوار والقصة والأسلوب التمثيلي، وقد نظموا ملاحم وقصصا سياسية وتاريخية، واجتماعية ، وكان منها قصص واقعية وتأملية ورمزية، وهناك قصص للأطفال، وتبين لي أن «أحمد بن مشرف» كان رائد أدب الأطفال بما كتبه من أناشيد وقصص تأثر فيها بتراثنا العربي لا بالأدب الفرنسي، وقد عاصر رفاعة الطهطاوي ومحمد عثمان جلال رائدي أدب الأطفال في مصر، وقد سبقت قصصه قصصهم وقصص أحمد شوقي، ويعود الخطأ في نسبة الأمر إلى غير أهله، والادعاء بالتأثر بالغرب إلى عدم الاطلاع على الشعر النجدي،ولأن شعراء مصر سافروا إلى فرنسا، وعلى هذا يعد عصر الدول المتتابعة الرائد في الأدب الطفولي، كما أنه الرائد في فن المسرح إذ كتب الشاعر المملوكي محمد بن دانيال مسرحيات اجتماعية عالج فيها قضية الغش في الزواج بأسلوب بسيط ، ولست أدري لمَ عُدّت مسرحيات «ابن دانيال» من الأدب الشعبي ثم أهملت لذلك مع أنها خطت بالفصحى، وما علم هؤلاء أن الأدب الشعبي آنذاك هو الأدب المرسل الذي كتب بأسلوب سهل بعيد عن الصنعة والتكلف ، وكان أدباء العصر وشعراؤه، يلجؤون إلى هذا الأسلوب السهل المرسل إلا إن أرادوا التعبير عن مقدرتهم الأدبية، ولاسيما في الأدب الرسمي فإنهم حينذاك يعمدون إلى الصنعة يزينون بها آدابهم، وخير دليل على هذا أسلوب البوصيري في شعره الاجتماعي مقارناً ببديعيته النبوية، ولعل هذه الظاهرة قد كُشِفَ عنها النقاب لأول مرة أيضاً، إذاً مسرحيات «ابن دانيال» سبقت المسرح العربي الحديث، الذي يعد "مارون النقاش" و"أبو خليل القباني" رائديه، بل إن «مارون النقاش» و «خليل القباني» كانا من رعايا الدولة العثمانية وقد ماتا في ظل دولتها، ولكن عقدة النقص نحو الغرب تجعلنا ننسب كل شيء إلى الأدب الغربي أو إلى التأثر به… حتى «حافظ إبراهيم» الذي كتب مشاهد مسرحية عن ضرب الطليان لبيروت كان يكتب عن حوادث جرت في العهد العثماني إبان وجوده في الأراضي العربية ، وقد كشف هذا الكتاب اهتمام أدباء العهد العثماني وفنانيه بالمسرح حتى نظم فيه ومثل ما يزيد عن ثلاثين ومئة مسرحية متعددة الموضوعات .

كما تحدث هذا الفصل أيضاً عن نظرات الشعراء النقدية ، وتبدو في اهتمامهم بالشكل وبالمضمون معاً، كما تحدث عن قضية التكسب بالشعر، وقد ندد الشعراء بهذا، ثم انتقل إلى الحديث عن القضايا اللغوية التي ظهرت عند شعراء هذا العصر، وهي قضية اللغة العامية والأعجمية وتسربها إلى لغتنا وآدابنا، وكان هذا التسرب ألفاظاً لا تراكيب، وهذا لا يضير اللغة، وقد جرى أمثاله منذ القديم لأن الخطر يكمن في استخدام تراكيب أجنبية لا مفردات غير عربية، وهناك أخطاء لغوية ونحوية، وقد كثرت هذه وتلك عند شعراء لبنان والمغاربة، كما تحدث الفصل أيضاً عن سمات التشكيل اللغوي.

أما الفصل الرابع فكان عرضاً لرأيي في أهمية التصوير كوسيلة تعبيرية سواء أكان مشاهد كلية أم صوراً جزئية بان منها كثير من الإبداع الفني سواء أنظر إليها من حيث طرفاها أو من حيث الحواس، كما أشرت إلى الصور التي بدا فيها تناسب بين طرفي الصورة أو كان فيها مفارقات، وإلى الصور النامية والذهنية والتقريرية والتي فيها تكلف مقيت، وهناك تأثر وتأثير، وسرقات شعرية، وقد أوضحت الفرق بينهما، وذكرت أخيراً سمات التصوير الفني في شعر العصور المتتابعة .

ثم كان بعد الخاتمة الفهارس .

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رُؤى ثقافيّة 211

متى عاش (موسى، عليه السلام)؟ وأي خطّ كتابيّ كان في العالم أجمع في عهده؟ أكانت هناك في عصر موسى كتابة عِبريَّة أو سريانيَّة أصلًا؟ نحن هنا نتعامل مع التاريخ، ولتاريخ نشوء الكتابة في العالم مسار معروف. وفنّ الكتابة في عصر موسى كان إمَّا الكتابة التصويريَّة، أو الكتابة المقطعيَّة، أو الكتابة الحروفيَّة الأبجديَّة. الأُولى هي الهيروغليفيَّة التصويريَّة المِصْريَّة، والثانية المسماريَّة المقطعيَّة العراقيَّة، والثالثة الأبجديَّة الفينيقيَّة. فأيّ كتابة عِبريَّة، وأيّ سريانيَّة، كانت في عصر موسى؟! بل أيّ كتابة أو قراءة كانت في الجزيرة العربيَّة في عصر موسى؟! تلك هي الضروب الثلاثة من الكتابة التي كانت متاحة في العالم خلال الحقبة التي عاش فيها موسى، أو قُل خلال القرن 13 و14ق.م. وكانت الكتابة الأبجديَّة قبل القرن العاشر قبل الميلاد في بداياتها، وبالفينيقيَّة تحديدًا، وهي محدودة الاستعمال، وفي الأغراض التجاريَّة غالبًا. إن القفز على هذه الحقائق قفزٌ على العِلْم والتاريخ إلى ضروب من الأساطير المجّانيَّة.

حين نتأمَّل في تاريخ كتابة "التوراة"، إذن، سيتبدَّى جليًّا عوارُ أيِّ فرضيَّة لتاريخ (بني إسرائيل) في الجزيرة العربيَّة. إذ يأتي التساؤل الحتمي: بأي فنٍّ كتابي كان يكتب موسى أو يقرأ؟ أ بالمسماريَّة المقطعيَّة العراقيَّة؟ أم بالهيروغليفيَّة التصويريَّة المِصْريَّة؟ أم بالأبجديَّة الفينيقيَّة؟ فهذه الضروب الثلاثة من الكتابة كانت هي المعروفة في عصره لدى البَشَر. وقد كانت الكتابة الأبجديَّة، نشأت قُبيل القرن العاشر قبل الميلاد، في مدينة (جبيل/ بيبلوس) اللبنانيَّة، الواقعة على ساحل المتوسِّط شمال (بيروت).(1) فكانت فتحًا حضاريًّا، اقتبسته الثقافات الكتابيَّة شرقًا وغربًا. وأمّا المسماريَّة، فبَعيدة الاحتمال جدًّا في استعمال موسى وبني إسرائيل في ذلك الطور المبكِّر. فإنْ كانت من كتابة في بني إسرائيل إذ ذاك، فبالكتابة التصويريَّة المِصْريَّة، لا غير. و"التوراة" تشير إلى أن وسيلة ذلك كانت النقش على الحجر.(2) ومؤدَّى ذلك أن الاعتماد الأكبر كان بالضرورة على الحِفظ والترديد، بحسب الثقافة الشفاهيَّة البدائيَّة. ومن هنا كان لا بدّ من النظم الموسيقي، والإنشاد الشِّعري، والمزامير والغناء، في ذلك الجيل وما تلاه. ومثالب الذاكرة الشفاهيَّة، والرواية السماعيَّة، وآليَّات عملهما- القابلة للخلط والنسيان، والإضافة والنقصان، وترديد الصِّيَغ الجاهزة- أمور يعرفها ذوو الاختصاص.(3) وهي إلى ذلك آليَّة جماعيَّة، تذوب فيها الفرديَّة غالبًا في اللسان الجمعيّ. ولها تأثيراتها في أنماط الوعي والتفكير والتعبير، المنعكسة بدورها على مخرجات هذه الثقافة الشفاهيَّة بشتَّى حقولها وأشكالها. وبذا كانت عوامل الاضطراب متظافرة جدًّا، وأسباب الضياع كثيرة، وطُرق التناقض واردة، وبخاصَّة مع عدم الاستقرار، والكوارث التي تتالت على بني إسرائيل. أمَّا تلك الأسفار المسطورة في مجلَّدها الضخم، فنتاج قرون لاحقة من التدوين التاريخي الجماعي، تمخّضت عن معظمه سنينُ السبي البابليّ وما أعقبته من ذكريات، كانت ترتبك بها الأقلام والأساليب بين كاتب وكاتب. وخذ مثالًا على ارتباك الأسلوب، الدالّ على تعدّد الكَتَبة، وترقيع النصّ من واحد إلى آخر. وردَ في (سِفر الخروج، الإصحاح الرابع: 21- 26)، ما يأتي:

"وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: "عِنْدَمَا تَذْهَبُ لِتَرْجعَ إِلَى مِصْرَ، انْظُرْ جَمِيعَ الْعَجَائِبِ الَّتِي جَعَلْتُهَا فِي يَدِكَ وَاصْنَعْهَا قُدَّامَ فِرْعَوْنَ. وَلكِنِّي أُشَدِّدُ قَلْبَهُ حَتَّى لاَ يُطْلِقَ الشَّعْبَ. فَتَقُولُ لِفِرْعَوْنَ: هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ: إِسْرَائِيلُ ابْنِي الْبِكْرُ. فَقُلْتُ لَكَ: أَطْلِقِ ابْنِي لِيَعْبُدَنِي، فَأَبَيْتَ أَنْ تُطْلِقَهُ. هَا أَنَا أَقْتُلُ ابْنَكَ الْبِكْرَ". وَحَدَثَ فِي الطَّرِيقِ فِي الْمَنْزِلِ أَنَّ الرَّبَّ الْتَقَاهُ وَطَلَبَ أَنْ يَقْتُلَهُ. فَأَخَذَتْ صَفُّورَةُ صَوَّانَةً وَقَطَعَتْ غُرْلَةَ ابْنِهَا وَمَسَّتْ رِجْلَيْهِ. فَقَالَتْ: "إِنَّكَ عَرِيسُ دَمٍ لِي". فَانْفَكَّ عَنْهُ. حِينَئِذٍ قَالَتْ: "عَرِيسُ دَمٍ مِنْ أَجْلِ الْخِتَانِ"."

فمَن الذي التقاه الربُّ؟ وطلب ممَّن؟ ويقتل مَن؟ شُرّاح "التوراة" يقولون: إن المطلوب قتله هو موسى! لماذا؟ مع أن الربّ كان مذ قليل قد وجّهه إلى (مِصْر) لدعوة فرعون لإطلاق سراح بني إسرائيل للخروج معه، وهو في طريقه لتنفيذ الأوامر؟! لأن موسى لم يختُن ابنه؛ فبادرت امرأته (صَفُّورَة) إلى إنقاذ الموقف "الانقلابي" بين موسى وربّه، بختان الطفل، واسترضت بدمه موسى وربَّه معًا! ذلك أنه قد كان جاء في (الإصحاح الثاني: 21- 22) من هذا السِّفر، عن كاهن (مَدْيَن): "فَأَعْطَى مُوسَى صَفُّورَةَ ابْنَتَهُ. فَوَلَدَتِ ابْنًا فَدَعَا اسْمَهُ (جَرْشُومَ)." فانظر إلى هذا المضطرب العجيب، مبنىً ومعنًى! ونظائر هذا متنوِّعة.

 إن مسألة الكتابة هذه مسألة مهمَّة في سَبر إمكانيَّة أن يكون بنو إسرائيل قد عاشوا في الجزيرة العربيَّة أصلًا. إذ هل كانت هناك لغة مكتوبة في الجزيرة العربيَّة في عصر موسى، من أيّ نوع؟ فمع التسليم بالمتواتر، وبالمذكور في "التوراة" و"القرآن"، من أن موسى كان يقرأ ويكتب، بل إنها قد جاءته الألواح مكتوبة جاهزة، لا بدّ من السؤال: بأيّ خطّ كُتبتْ؟ كانت الكتابة عصرئذٍ، في بلاد الرافدين وفي مِصْر، على الصخر، وألواح الطين، والخشب، ورقائق البَرْدِي. فلا عِبريَّة كان لها خطٌّ في ذلك الزمن ولا عربيَّة، وإنما نشأت خطوط هاتين اللغتين فيما بعد، وتطوَّرت تدريجيًّا، وببطء شديد على مدى قرون. الأرجح، إذن، أن كتابة بني إسرائيل كانت بالهيروغليفيَّة المِصْريَّة، التي تمثِّل ثقافة البيئة الأُمّ إبّان إقامة القوم بمِصْر. وما عَثَرَ عاثر، ولا سمع سامع، أن الهيروغليفيَّة كان لها وجودٍ في (عسير) أو (جبال السَّراة)، أو غيرهما من جنوب الجزيرة العربيَّة، على مدى التاريخ. وعليه، فلا مناص من أن نبحث عن "توراة" أخرى تتفق مع السياقات الثقافيَّة والحضاريّة والتاريخيَّة التي كانت قائمة في الجزيرة العربيَّة قبل الألف الأول قبل الميلاد بقرون، كي تتعقلن النظريَّة المبتدعة لدى (كمال الصليبي) و(أحمد داوود)، وغيرهما من التبابعة! وحتى نعثر على تلك "التوراة" الخاصَّة، سيظلّ القول بنقل البيئة الكتابية للتوراة المعروفة من (مِصْر) و(الشام) و(العراق) إلى (جزيرة العرب) ضربًا من الهرطقة الرومانسيَّة، معرفيًّا وتاريخيًّا، نربأ بالبحث العلمي عنها. أمَّا الاكتفاء بمقارنة أسماء الأماكن، فما أسهله من مركب!

من هنا- كما يقول كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي- يلزم وضع المزاعم الذاهبة إلى أنه عُثر في مكان ما على نسخةٍ من "توراة" موسى في ضوء الحقائق التاريخيَّة لمراحل الكتابة نشوءًا وارتقاءً في العالم.(4) فإنْ كانت لموسى من توراة مكتوبة، فلا بُدّ أنها كانت بسيطة جدًّا، ومحدودة، ومعتمدة على التصوير الهيروغليفي. ونحن نعلم، حتى من خلال القصص التوراتي والقرآني، بدائيَّة الأدوات الكتابيَّة إذ ذاك، وأن موسى كان يعتمد في الكتابة على الألواح الحجريَّة، حتى إنه حين نزل من الجبل، في أعقاب علمه باتِّخاذ قومه العِجلَ معبودًا، ألقى الألواح فتكسَّرت.(5) على الرغم ممَّا تذكره "التوراة" من أنهما: "لَوْحَانِ مَكْتُوبَانِ على جَانِبَيْهِمَا، مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا... واللَّوْحَانِ هُمَا صَنْعَةُ اللهِ، والكِتَابَةُ كِتَابَةُ اللهِ مَنْقُوشَةٌ عَلَى اللَّوْحَيْن."(6) وهما من حجارة، كما في نصّ "التوراة": "اصْعَدْ إِلَيَّ إِلَى الْجَبَلِ، وَكُنْ هُنَاكَ، فَأُعْطِيَكَ لَوْحَيِ الْحِجَارَةِ وَالشَّرِيعَةِ وَالْوَصِيَّةِ الَّتِي كَتَبْتُهَا لِتَعْلِيمِهِمْ."(7) وكانا: "لَوْحَيْ حَجَرٍ مَكْتُوبَيْنِ بِإِصْبعِ اللهِ!"(8) فكيف بما كان من صنعة البَشَر، وما هو مكتوب بأصابعهم الهزيلة؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) عن الفينيقيّة يمكن الرجوع إلى كتاب (مازيل، جان، (1998)، تاريخ الحضارة الفينيقيَّة (الكنعانيَّة)، ترجمة: ربا الخش (اللاذقيَّة: دار الحوار). 

(2) انظر: سِفر الخُروج، 24: 12.

(3) يُنظر في هذا مثلًا: Lord, Albert B., (1974), The Singer of Tales, (New York: Atheneam))؛ أونج، والتر ج. Walter J. Ong، (فبراير 1994)، الشفاهيَّة والكتابيَّة، ترجمة: حسن البنا عزّالدِّين، مراجعة: محمَّد عصفور (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب).

(4) ولعلَّ من هذا ما حدثَ في عهد المَلِك (يُوشِيَّا بن آمون)، ملك يهوذا، الذي حكم حوالَى 638ق.م، من زعْم (حِلْقِيَّا)، الكاهن الأكبر، أنه قد وجد فجأةً سِفر الشَّريعة في بيت الرَّب. (انظر: سِفر الملوك الثاني، 22).

(5) انظر: سِفر الخُروج، 32: 19.

(6) م.ن، 15- 16.

(7) م.ن، 24: 12.

(8) م.ن، 31: 18.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «"التوراة" في ضوء تاريخ الكتابة»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الأحد 5 يونيو 2016، ص40].

فِكرٌ إجتماعيٌّ سياسيٌّ جريء

خرج عن المألوف بحروفه الجريئة، وأفكاره التّحرّريّة، وأقوال أبت إلاّ أن تُعارك الحقيقة. لقد سرق لحظات حياته من الوجود، وراح يُغازل بياض الأوراق بريشته الخاصّة، وكتبَ أنَّ الشّرف الإنسانيّ لا يُقاس بما يُغطّي أجسادنا من الأقمشة، ويدُكُّ جدار الزّمن بمعوله فيُسمع العالم الحُر صدى وهَول المصيبة. كتبَ الأديب "مشهور البطران" في لحظات قلق جميلة، كتبَ وظهرهُ للعراء يخافُ المكيدة، وقف عند الحواف، فلا مكان آمن لخطواته المسلوبة، وكل المناطق أمامه باتت ملغومة. في هذه اللحظات النّادرة خطَّ قلمهُ رواية "السّماءُ قريبةٌ جدًا" الصادرة عن دار فضاءات في الأردن للعام 2016 والتي تقع في 223 صفحة من الحجم المتوسط. تحمل هذه الرّواية قصصًا من عمق المجتمع الفلسطينيّ، تُحاكي نبض الشّارع اليوميّ، فهي لم تأتِ بمأساة جديدة، سوى أنها كانت تُخاطب الهواجس الدّاخليّة المُتردّدة والمُتخبّطة في فِكر وقلب الفلسطينيّ. حاول الكاتب إستدراج القارئ من بين السّطور والفقرات، إمّا عن طريق الحوار بين الشّخصيات أو عن طريق بعض الحِكم والمواعظ. تألّق هنا في التّشابيه البلاغيّة والمحسنات البديعيّة، فخاطب الجسد والرّوح معا، ولقد هام بالخيال المنطقيّ الذي نستطيع أن نحصد من بذوره رُطَبًا جَنيّا.

"زيدون الرّافعي" تلك الشّخصيّة المحوريّة في هذه الرّوايّة، إبن بلدة "الدّير" الخليليّة، قرّر السّير على خُطى الثّوار، فجاب البراري طريدًا ومطلوبا، يُعاقر جنود الإحتلال من ناحية، ويتربّص للعملاء من ناحية ثانية، وتم إعتقاله والحكم عليه بالسّجن لمدّة طويلة جدا. يُحدّثنا الأديب "البطران" عن التّغييرات النّفسيّة والعقليّة التي تحدث مع السّجين داخل المعتقل وإعادة الحسابات، ويكثر الحديث عن الأمل الذي لا بدَّ أن نؤمن فيه دوما، وقد تحقّق الحلم بخروجه مبكّرًا من خلال صفقات تبادل الأسرى. لم يتردّد الكاتب في إقحام دور المرأة في عمليّة التّحرّر والقيادة  وانخراطها في الثّورة ضد المحتل؛ عاشت "نبيلة" في جلباب زوجها وانتعلتْ خُفَّيه لتُكمل المسير وتبني له منزل أحلامه بالقرب من "جبال العلالي" حيث السّماء تلامس الأرض. عملتْ على تربية أطفالها كما أرادت وارتأتْ لهم، فكان "عزّت" الإبن الأكبر الذي درس التّاريخ، وفهم أصل الحكاية، وفرّق بين المزيّف منها والحقيقة، وصار على درب أهل السِّلم والتّروي والعقلانيّة. تعرّف على "أمل" اليافويّة وأحبّها، وبعثت في روحه الأمل إلى إسترداد الجزء المسلوب والمنكوب من حياة الشعب الفلسطينيّ. كذلك دمج الكاتب الأديان في روايته، وجعل من الرّاهبة القدّيسة المُخلّصة ملاك رحمة، إذ داوتْ جراح "زيدون" وجبّرتْ له كسره وأطعمته وخبّأته في كنيسة بالقرب من مدينة رام الله. لقد أثار فينا قلمه عاطفة عامّة، وأثار في الرّاهبة عاطفة خاصّة، لتجسَّ قوة إيمانها وعيش المغامرة خارج جدران المعبد. إنَّ الأديب لم يخرج قيد أنملة عن الثّوابت الوطنيّة، إلاّ أنه في نفس الوقت كان يطرح أيدولوجيّة غائرة في الكثير من هذا الشّعب. طرح في الرّواية مسألة السّلام وليس الإستسلام، وتكلّم عن "إسرائيل" بأنّها فرضت نفسها بالقوّة، وكذلك فرّق الكاتب بين الصّهيونيّة، وهي رأس الأفعى، وبين اليهوديّة كديانة عاشت مع العرب منذ قديم الزّمان.

تعدّدت الحبكات في الرّواية، وعنصر التّشويق متواصل، في الوقت الذي يصعب على القارئ ترك صفحات الأحداث، ويستعجل الزّمن ليسير به عبر السّطور لمعرفة مصير الإبن "عزّت" الذي يراقبه جهاز الشاباك ليوقع به في شباك العمالة. في هذه اللحظات، خلق أديبنا فكرة الإنتقام حين رأى "عزّت" دبّورًا يزِنُّ من بعيد، وقد تعثّر فجأة بحبائل عنكبوت، تخبّط الدّبور بكبرياء عقيم، لكن العنكبوت هبطت من عليائها بهدوء وأجهزت عليه بلسعات قاتلة، ثم لفّته بخيوطها الجهنّمية. فكانت هذه نهاية "شاؤول" الذي حاول العبث مع الإبن، فسبح في بحر دمائه من رصاصة قاتلة، فأصبح بعدها طريدًا كما كان والده. يخجل الموت أحيانًا من الأبطال إلاّ أنه يعانقهم بلهفة وإشتياق، أُستشهد "زيدون" ثأرًا لأحد العملاء الذي تم تصفيته قبل سنين طويلة، ولم تهنأ "نبيلة" بمنزلها الجديد بعد أن هدمه الإحتلال في أبشع صور الحقد الذي تحمله الصّهيونيّة ضد شعبنا.

أثرانا الكاتب "مشهور البطران" بالكثير من المفاهيم الفلسفيّة والمنطقيّة التي تلمس مشاعرنا وأرواحنا وحقيقة تواجدنا، فكانت الرّواية مليئة بالأحداث ذات المغزى البنّاء، وأفكار وحلول إيجابيّة قد تكون غابت عن ذهن النّاس. "السّماءُ قريبةٌ جدا" رمز للعدالة حين يُدرك الشّرفاء أنَّ الأرض، يومًا ما، ستعانق السّماء عناقًا أبديا، حينها لا داعي للمطر لأن الأرض لن تعطش، وسترضع مباشرة من أثداء السّماء، والنّاس سيحلبون الغيوم بأيديهم.

المزيد من المقالات...