clip_image001_2434f.jpg

الياسمين يحاور مواسم الصّقيع والحزن مجدّدا، ينادي الفرح ولا يستقيل حتى بعد سقوطه على أعتاب جراحه، إنّه الفلسطينيّ المعذّب وذاكرة أطفال ما لبثوا أن كانوا أطفالا، حتى كبروا مع أنين الثكالى والمقهورين، مع صرخات وطن مبتورة أطرافه، كما قالوا الكتابة تنشأ من الفقدان، نعم فقدنا ما نحبّ ومن نحبّ في ظلّ معركة غير عادلة، أبطالها أطفال كبروا وتجرّعوا الحسرات تلو الحسرات، الطفلة شهد محمد تحاور كلّ ما هو مقيم داخلنا نحن الفلسطينيين، كتبت المتوقّع والهواجس التي لازالت تعترينا كلما رأيناهم في بدلاتهم الخضراء، الماء و"الأكامول" مسكّنات لآلام الأسرى، ومسكّناتنا نحن الانتظار والأمل فجمعينا أسرى، أسرى جراحنا وذكرياتنا، والسّجان نفسه عدوّ لا يفهم سوى لغة الدّم، والتّعذيب، والحرمان.

بدأت معانات الطفلة ياسمين وهي في السّابعة من عمرها بعد اقتحام منزلها واعتقال أخيها  الكبير حسام، بعد أن كان مطاردا، وبعيونها التي تتربّص كلّ ما يدور حولها دوّنت ما حدث ذلك اليوم الشّتائي الحزين، الأسلحة والقنابل والدّمى المهشّمة حصيدة ما تبقى من ذاكرة، فارث الطفولة لم يسلم من الأيادي حاقدة،  فتقوم ياسمين بمحاولة اصلاح الدّمى التي اشتراها لها حسام، وتكبر ولا زالت دمى الطفولة مهشّمة وأصوات حقدهم تدور وتدور في رأسها . فتضعنا الكاتبة أمام التّأثير النّفسيّ وأبعاده على الطفل الفلسطينيّ، والمشاهد الذي يراها يوميّا وكلّ هذا كفيل بأن يزعزع أمنه واستقراره النّفسيّ، فالطفل الفلسطينيّ يتجرّع منذ صغره كأس المعاناة ومرارة الواقع الأليم .

نقلت إلينا معاناة الأسرى في سجون الاحتلال ومعاناة ذويهم في الزيارات والانتظار، وهنا تمنّيت لو أشارت الكاتبة إلى ما يحدث داخل السّجون على لسان حسام، ولو بنبذة صغيرة تنقل إلينا واقعهم المرير، خصوصا وأنّ القصة تسلّط الضّوء عليهم، من خلال حكاية أسير اعتقل لمدّة أحد عشر عاما ..ولكن  القصة مكتملة بجميع عناصرها والسرد جميل وسلس، تحدّثت الكاتبة عن معاناة أمّ الأسير المريضة، والتي ربّما تموت في أيّ لحظة دون أن  ترى فلذة كبدها، وذلك يحدث كثيرا، وأحيانا العكس حيث يموت الأسير داخل السّجون قبل أن يرى والدته وتراه، استطاعت شهد أن تحاور جلادها بالأمل وتتمرّد على واقعها بالفرح، فالأعراس الفلسطينيّة في ظلّ الاحتلال والأسر هي رسالة تحدٍ، فالفرح  والزغاريد لا يمكنهما مغادرة البيت الفلسطينيّ، فتضعنا الكاتبة أمام الفلسطينيّ المحبّ للحياة، ويمارس حياته الطبيعيّة رغم الظروف والمحن .

الكتب والحوارات الأدبية ومواصلة حسام الأسير المحرّر لتعليمه الجامعي، رغم تجاربه القاسية هي لفتة جميلة من الكاتبة، فأظهرت الصّورة الايجابية للشّباب الفلسطينيّ الواعي والمثقّف. وصورة الأخ المحبّ الذي يفرح لفرح أخيه بل وأكثر رغم معاناته في الأسر،ولم تنس الكاتبة الاستعانة بالحكاية الشعبيّة والحديث عن أجواء العائلة والمشاكسات وروح الدّعابة في البيت الفلسطينيّ .

الشّتاء وخذلانه والحزن والفرح والسّعادة التي لا تكتمل، وولادتها مجدّدا من رحم الأحزان والمآسي، فالأرض لا زالت تنجب، بهذا لخصت الكاتبة أحداث قصّتها الصّغيرة .

لم تكن النّهاية كما توقّعت، ولكن لكي أكون منصفة لجيل الكاتبة الصّغير سأقول: "من لم يمت بالسّيف مات بغيره" مع أنّني تمنّيت أن تكون النّهاية أجمل من ذلك .

أودّ التّنبيه لعبارة ذكرت بالقصة وهي كلمة "معبر" الأفضل لو قالت حاجزا، فالحاجز هي الكلمة الصحيحة، وهي تعبّر عن قساوة ما صنعه الاحتلال، فهناك تجتجز أحلامنا، وهناك ضاقت بنا السّبل.

وأخيرا أن تكتب طفلة بهذا العمر قصّة جميلة من حيث السّرد والمضمون، وعناصرها المكتملة، فهذا يعني أنّنا أمام جيل يعي تماما كلّ ما يدور حوله، جيل يعرف الشّكل الآخر للمقاومة، جيل القلم والفكر.

(الدين والظمأ الأنطولوجي) هو عنوان الكتاب الصادر مؤخراً للمفكر العراقي الشهير الدكتور عبدالجبار الرفاعي، حيث تضمن هذا الكتاب التجربة الروحية (الإيمانية والأخلاقية) الشخصية للدكتور الرفاعي نفسه، ولا أخفيكم بأني قضيت وقتاً ممتعاً في مطالعته وتأمل ما جاء فيه من رؤى وأفكار تستحق العناية والاهتمام، فلقد نجح الدكتور الرفاعي وببراعة في شد انتباه القارئ وجعله يحلق معه في فضاءات متعددة تتمحور حول أزمة العلاقة بالدين ونمط الالتزام الديني في مجتمعاتنا، حيث تطرق الدكتور الرفاعي لهذا الأمر ليس من أجل الدعوة لهجر الدين والتخلي عنه، كما هي الحلول الجاهزة التي يقدمها البعض أمام كل هذه الأزمات والإشكاليات التي نعاني منها، وإنما على العكس من ذلك تماماً، إذ جاء مشدداً على أهمية الدين وضرورته الحتمية في حياة الإنسان، وذلك لكي يُعطي للحياة معنىً كما يقول.

أجل، فالدكتور الرفاعي في هذا الكتاب يشدد على أهمية الدين وقيمته في حياة الإنسان، ولذلك جاء كتابه بهذا العنوان (الدين والظمأ الانطولوجي)، ورغم تأكيده على ذلك إلا أنه وجه سهام نقده لبعض أنماط التدين التي تقوم بأدلجة الدين، محذراً من المخاطر التي يتعرض لها الدين بسبب ذلك، وبعبارته التي استعملها في نقده للدكتور علي شريعتي يرى بأن هناك مشكلة في "ترحيل الدين من الأنطولوجيا إلى الأيديولوجيا". ولا يكتفي الدكتور الرفاعي بذلك فحسب، بل يُؤكد على ضرورة مراجعة ما تم توارثه من نظريات ونصوص المعارف الدينية في علوم القرآن والحديث وعلم الكلام (العقائد) وعلم الفقه والأصول (أصول الفقه)، ويذكر مثالاً يختص بعلوم القرآن قائلاً: "أود أن أشير هنا إلى مثال قرآني، طالما تحدثنا عنه واستندنا اليه كدليل لتبرير حرية الإعتقاد في الإسلام، ونفي إكراه أي إنسان على أي دين أو معتقد خاص. وهو الآية الكريمة: "لا إكراه في الدين". لكننا حين نعود لمدونة التفسير الإسلامية، نلاحظ إن معظم المفسرين لا يؤسسون لمبدأ حرية المعتقد، استنادا لهذه الآية، كما نفعل نحن اليوم، ذلك إن تمسك المفسرين بقواعد التفسير وعلوم القرآن المتوارثة، انتهى بالكثير منهم إلى القول بنسخها، وتعطيل دلالتها، لأن نسخ الآية يعني نسخ حكمها ونفيه، كما هو مبدأ الناسخ والمنسوخ"[1].

كذلك نجد الدكتور الرفاعي يشدد على أهمية وضرورة تجديد علم الكلام بشكل خاص، ويرى أن ارتباطه بالفقه ارتباط وثيق، إذ بدونه لا يمكن التجديد في علم الفقه أيضاً، وفي ذلك يقول: "إن الاجتهاد الفقهي يعتمد على الاجتهاد الاصولي، ولا إجتهاد في أصول الفقه ما لم يتجدد علم الكلام، أي إنه لا معنى لتحديث الفقه من دون تحديث مرجعياته الكلامية"[2].

لعلي لا أغالي لو قلت بأن ما قرأته في هذا الكتاب يُعد من أجمل وأفضل ما قرأته من كتب تتحدث عن تجارب فكرية وروحية، ولكني مع ذلك   – أي مع إعجابي بالكتاب وبكاتبه- كنت أتوقع منه أمراً آخر، فأول ما وقع في يدي هذا الكتاب كنت أعتقد بأنه سوف يحاول التأصيل منهجياً لهذا الأمر، حيث كنت أتوقع أن الدكتور الرفاعي سوف يأخذنا في جولة معرفية شاملة يبدأ فيها بالحديث عن مفهوم الدين ومفهوم الانطولوجيا والسياقات التاريخية لهذين المفهومين، كما كنت أتوقع بعدها أن يعرج بنا لما يريده من نحته لهذا المصطلح (الظمأ الانطولوجي للدين) أو (الظمأ الانطولوجي للمقدس) كما هو الحال في الدراسات والأبحاث العلمية المنهجية، ولكني عندما اطلعت على الكتاب وجدته لا يتطرق لهذا الموضوع بهذه الكيفية، وإنما يستعرضه كتجربة شخصية خاضها الدكتور الرفاعي في مراحل ومحطات مختلفة من حياته، وتوصل فيها إلى بعض النتائج المعروضة فيه.

لعل أبرز ما داعني لانتظار قيام هذا الكتاب بهذا الدور التأصيلي يعود للآتي:

§      أولاً: أن عنوان الكتاب (الدين والظمأ الأنطولوجي) لا يوجد به أية إشارة إلى أنه سيكون في مجمله عبارة عن تجربة روحية (إيمانية وأخلاقية) شخصية خاصة بالدكتور الرفاعي.

§      ثانياً: انشغالات الكاتب وهو الدكتور الرفاعي بالقضايا الفكرية لفترة طويلة من حياته، وهذه التجربة الطويلة تؤهله لخوض تجارب تأصيلية من هذا النوع بكفاءة واقتدار.

§      ثالثاً: أن عنوان الكتاب (الدين والظمأ الانطولوجي) اشتمل على مصطلح قد يبدو غريباً على عموم القراء الذين تنقصهم الدراية الكافية بالفلسفة بشكل عام وبالفلسفة الوجودية بشكل خاص، وهذا ما يتطلب عادةً القيام بتحديد المراد من هذا المفهوم بدقة لرفع ما قد يكتنفه من غموض والتباس.

طبعاً ما ذكرته في النقطة الثالثة أشار إليه الدكتور الرفاعي في افتتاحيته لهذا الكتاب بقوله: "لذلك جاء هذا الكتاب بعنوان: (الدين والظمأ الأنطولوجي) لعله يكشف غموض المفهوم، ويفصح عن شيء من إبهامه"[3]، ولكنه مع ذلك  لم يتعرض لبيان المراد من هذا المفهوم إلا بصورة موجزة وسريعة بقوله: "أعني بالظمأ الأنطولوجي الظمأ للمقدس، أو الحنين للوجود، إنه ظمأ الكينونة البشرية، بوصف وجود الإنسان وجوداً محتاجاً إلى ما يثريه، وهو كائن متعطش على الدوام إلى ما يرتوي به"[4]، وهذا باعتقادي غير كافٍ لدفع الغموض ورفع الالتباس عن هذا المفهوم.

في رأيي المتواضع أن هذا الكتاب يتناول التجربة الروحية (الإيمانية والأخلاقية) الشخصية للدكتور الرفاعي أكثر من أي شيء آخر، ولذا لو كان عنوان الكتاب يشير إلى هذا المعنى كما صنعنا في عنوان هذا المقال (الدين والظمأ الأنطولوجي.. من خلال التجربة الشخصية للدكتور الرفاعي) لكان أفضل، وذلك لأن الكتاب هو في الأعم الأغلب ليس محاولة تأصيلية جادة لهذا الأمر، وإنما هو مجرد تأملات فكرية لنتاج تجربة روحية ذاتية للدكتور الرفاعي، وهذا الأمر هو ما سوف ينكشف لنا وبكل وضوح من خلال النصوص التي اخترناها للدكتور الرفاعي في جولتنا التالية في فصول هذا الكتاب.

جَوْلَةُ مُوجِزَةٍ فِي فُصُولِ الْكِتَابِ

في الفصل الأول الذي عنونه بـ (نسيان الذات) تحدث الدكتور الرفاعي عما أسماه (الأنا الخاصة) مشدداً على أهمية الذات الفردية والهوية الخاصة، كما تحدث عن خطورة تنميط الكائن البشري، ولذا انتقد أدبيات الأحزاب اليسارية والقومية والجماعات الإسلامية لسعيها لهذا الأمر، لأنها كما يقول "تتعاطى مع الفرد بوصفه عنصراً يذوب في مركب هو الجماعة، ليس له وجود حقيقي مستقل خارج إطارها، وتشدد في مقولاتها وشعاراتها وتربيتها على أن مهمة كل شخص في الحياة هي: الامتثال لما يؤمر به، والتنكر لذاته، والذوبان في المركب، والكف عن أية محاولة لاسبطان الذات واكتشاف فضاءات ومديات عالمها الجواني. أما قيمة الفرد، ومكانته، وحاجاته الذاتية، الروحية، والعاطفية، والوجدانية، والعقلية، فلا أهمية لها، إلا في سياق تموضعها في إطار هذا المركب، الذي هو الجماعة ومتطلباتها"[5].

ولذا نجده يؤكد على أن الإيمان خيار شخصي للفرد بقوله: "الإيمان شخصي، وهو خيار فردي، كذلك الإلحاد شخصي، وهو أيضاً خيار فردي، وهكذا هو الموت ومصير الإنسان بعد الموت. الكلام الكثير عن الدين والتبشير به، وتحشيد كتائب عددية من البشر، من أجل تلقينهم الإيمان، سيفضي إلى نتائج منافية لروح الإيمان والضمير الديني العميق، فإن "الانهيار الديني ناجم عن كثرة الكلام في الدين" كما يشدد على ذلك كيرككورد"[6].

وأما في الفصل الثاني الذي عنونه بـ (نسيان الإنسان)، والذي هو أطول فصول الكتاب، فتحدث الدكتور الرفاعي عن سيرته الذاتية وتجاربه الروحية (الإيمانية والأخلاقية) الخاصة، واصفاً إياه بـ: "محاولة أولية لكتابة سيرة ذاتية"، وقبل الولوج في تفاصيل هذه السيرة ومراحلها يتحدث الدكتور الرفاعي عن ما أسماه بـ (صعوبة الاعتراف) بقوله: "أسعى لأن أكون أشد جرأة في الاعتراف والبوح أمامكم، بالرغم أني جئتكم من محيط يتغلب فيه التكتم، والإضطراب عن الاعتراف، والكشف عن الحياة والتفكير الشخصي، فقلما كتب شخص في عالمي الذي عشت وتعلمت فيه سيرة ذاتية تبوح باعترافات وأسرار خاصة، أو تتحرر من التبجيل والتمجيد والثناء على الذات"[7].

وهكذا يتابع الدكتور الرفاعي في هذا الفصل سرد سيرته الذاتية باستعراض أبرز المحطات المهمة في حياته، واصفاً البيئة التي نشأ فيها وعاداتها الاجتماعية وأبرز الشخصيات التي عاصرها، ومسجلاً انطباعاته الشخصية حول كل هذه الأمور والأحداث، وعندما يتحدث عن حياته الروحية الأخلاقية نجده يقول: "حياتي الروحية الأخلاقية هي أثمن رصيد أمتلكه، يمكنني التفريط بكل شيء إلا بالإيمان، الأخلاق، والإنسانية، إنها ثوابت شخصيتي الأبدية. تفكيري بل كل شيء في حياتي يخضع للتحول والتغيير، ذلك أن عقلي لا يكف عن التساؤل والمراجعة والنقد والتقويض والغربلة، لكن ضميري الديني يتمثل في هذه العناصر الثلاثة المتضامنة: "الإيمان، الأخلاق، والإنسانية"، انطفاء أي منها يعني انطفاءها بتمامها"[8].

ويصف الدكتور الرفاعي نمط التدين الذي يتبناه بقوله: "الدين الذي أعتنقه هو الإسلام الرحماني الإنساني، الدين فيه هو الحب والحب هو الدين. "المحبة أصل الموجودات" كما يقول ابن عربي"[9].كما يصف إيمانه بقوله: "إيماني حالة أنطولوجية لا أستطيع الإطاحة بها، حتى لو قررت التخلي عنها. إنها نحو من الإشراق الروحي الذي لا يمكنني توصيفه بوضوح، لأنه مما يوجد، لا مما يدرك، وكما نصطلح في المنطق هو نوع من الحضور الوجودي الذي يتوطن القلب، وليس نوعاً من العلم والتصور والفهم المرتسم في الذهن"[10].

في الفصل الثالث: (المثقف الرسولي علي شريعتي) ينقد الدكتور الرفاعي الدكتور علي شريعتي بسبب أدلجته للدين أو لقيامه بـ (ترحيل الدين من الانطولوجيا إلى الأيديولوجيا) كما يُعبر، وحول الأدلجة يقول: "ما زلت أدرك أن الدين يهدف لتحقيق العدالة، لكن العدالة لا يمر من خلال (أدلجة الدين)، لأن (الأدلجة) تفسد الدين. الدين يتمحور هدفه العميق حول تأمين ما يفشل العقل والخبرة البشرية في تأمينه للحياة. الإنسان كائن لا يشبه إلا الإنسان، وهو الكائن الذي يفتقر إلى ما هو خارج عالمه المادي الحسي، خلافاً للحيوان الذي تتجاوز احتياجاته عالمه المادي الحسي. الإنسان في توق ووجد أبديين إلى ما يفتقده في هذا العالم، وذلك ما تدلل عليه مسيرة هذا الكائن منذ فجر تاريخه إلى الآن، بل أزعم أن هذه الحاجة مزمنة، وستستمر حتى آخر شخص يعيش في هذا العالم. وهو ما يُعبر عنه (الظمأ الأنطولوجي للمقدس) في حياة الكائن البشري"[11].

وفي الفصل الرابع تحدث الدكتور الرفاعي عن (التجربة الدينية والظمأ الأنطولوجي للمقدس)، ومن ضمن ما جاء في كلامه قوله: "التجربة الدينية تمثل البعد الأنطولوجي في الدين، وجوهره وذاته وروحه وباطنه العميق. التجربة الدينية جوانية، غاطسة في الذات، بل متماهية معها، لا يمكن بلوغها بأدوات ووسائل حسية، وربما لا تشير اليها ظواهر التدين الخارجية، أو قد تشي بعكسها أحياناً، كما لدى بعض رجال الدين، الذين ربما يؤشر خطأ ما يمارسونه من قداسات وطقوس وشعائر، إلى عمق تجاربهم الدينية، رغم أن عالمهم الباطن بعيد عن الله"[12].

وبعد أن يتحدث عن ما أسماه بـ (إرواء الظمأ للمقدس) يقول: "الدين الذي أتحدث عنه، هو ذلك الإيمان الغاطس المتوحد بالذات، بل هو كينونة المؤمن الوجودية. سواء أسميت ذلك ديناً أو إيماناً. أفضل التعبير عنه بـ "الإيمان"، حذراً من الالتباس بمفهوم ومصطلح "الدين" بمضمونه المؤسسي المجتمعي"[13].

ويعود الدكتور الرفاعي في هذا الفصل مجدداً للحديث عن "دين الأنطولوجيا" و"دين الأيديولوجيا"، ولنقد دين الايدلوجيا فيقول: "معنى كون الدين يشتغل على إرواء الظمأ الانطولوجي، هو أنه يشبع حاجات لا يمكن أن يشبعها العقل والخبرة البشرية، انه يهتم بأزمة المعنى وسبل معالجتها، انه يعالج فقدان معنى الحياة في عالم اليوم، وكيفية إنتاج هذا المعنى. وأية محاولة لنسيان مهمته في بناء الذات، وإقحامه في مجالات أخرى، يتحول معها إلى وحش مفترس، وسم زعاف يفسد كل شيء"[14].

وتحت عنوان (الإيمان يروي الظمأ الأنطولوجي للمقدس) يتحدث الدكتور الرفاعي قائلاً: "تجربتي الروحية ان الايمان هو الأمان. بل يمكنني القول في سياق تجربتي الشخصية، اني لم أعثر على أمان في حياتي خارج فضاء الايمان. إيماني مثلما أتذوقه هو ايمان انطولوجي متوحد بكينونتي. العلاقة بالله فيه أفقية لا عمودية. انها علاقة جوهرها الحب والحرية، لا تتضمن: استرقاقاً وقهراً وانتهاكاً لكرامتي واضطهاداً. حقيقة الحب في ضميري هي الصلة بالحق، أو من يوصلني بالحق"[15].

          وأما في الفصل الخامس والذي جاء بعنوان: (أية دولة بلا حياة روحية وقيم أخلاقية؟) يواصل الدكتور الرفاعي نقده لأدلجة الدين من خلال نقد ما أسماه بـ (تكفير الآخر المختلف) ويتعرض لفكر ابن تيمية بالنقد ثم يتحدث قائلاً: "لم أعثر على كتاب أو بحث أو مقال، كتبه شخص ينتمي للمؤسسة الدينية السلفية، أو باحث أكاديمي متخصص في الشريعة والدراسات الإسلامية، أو اعلامي، أو مثقف، تناول فيه شيئاً من آثار ابن تيمية ومدرسته، بالمراجعة والتحليل والنقد، بل كل ما عثرت عليه من كتابات على وفرتها، تتمحور حول التبجيل والثناء، والشرح والتلخيص والتنظيم لأفكاره. ولو وجدنا بعض الكتابات النقدية، فإنها تنطلق من مواقف دفاعية مذهبية، تقتصر على بيان ونقد مواقفه حيال ذلك المذهب أو تلك الطائفة، من دون أن تهتم بالكشف عن أصول التكفير في تفكيره، وأثر ذلك في تشييد مدرسة عقائدية فقهية راسخة، شديدة التأثير في الإسلام المعاصر، استطاعت أن تتمدد ويتكرس حضورها، وتهيمن على التفكير الديني، وحياة مجتمعات عديدة في عالم الإسلام اليوم"[16].

ثم يعبر عن مخاوفه من أن يفهم كلامه هذا ونقده للسلفية ولابن تيمية بشكل طائفي بقوله: "أخشى أن يتم تفسير ما أقول تفسيراً طائفياً، أود التوضيح أني عندما تحدثت عن ابن تيمية، كنت أود الإشارة إلى الأثر الفتاك لميراثه، ومحورية مرجعيته وسلطته الدينية وسطوته على الإسلام السلفي، الذي هو الأوسع حضوراً، والأشد تأثيراً، والأخطر اجتياحاً لعالم الإسلام اليوم"[17].

من مجموع هذه النصوص السابقة التي اخترناها للدكتور الرفاعي من الفصل الأول إلى الفصل الخامس يلاحظ القارئ الكريم بأن عباراته ومفرداته تكشف لنا وبكل وضوح بأن كتابه يتمحور في الدرجة الأولى حول تجربته الشخصية، ويتجلى ذلك بوضوح أيضاً في الفصول اللاحقة، أي الفصل السادس والسابع، والذين هما عبارة عن حوار مع الدكتور عبدالجبار الرفاعي نفسه، ولهذا لا يستطيع القارئ قراءة هذا الكتاب بعيداً على شخصية كاتبه الدكتور الرفاعي، وذلك لأن الكتاب في مجمله يحكي سيرته الذاتية وتجربته الروحية في ظمئه الأنطولوجي للدين أو للمقدس.

 

ختاماً أقول: حتى لو كانت كتابة هذا الكتاب ترتكز في مجملها على جانب التجربة الروحية الشخصية للدكتور الرفاعي وليس على الجانب التأصيلي الممنهج، فإنه لا يخلو من أهمية وفوائد، إذ يكفي أن يتعرف القارئ على تجربة روحية فريدة ومميزة لشخصية كبيرة وعملاقة بحجم الدكتور عبدالجبار الرفاعي، وعليه فإن كل ما ذكرته في هذا المقال ليس للتقليل من قيمة هذا الكتاب وأهميته، وإنما لوضعه في إطاره الصحيح وسياقه الطبيعي، ولبيان بأن عنوانه يُوحي بخلاف مضمونه ومحتواه، فالكتاب لم يكن واضحاً من عنوانه كما في المثل المشهور، لأنه إذا لم يفهم كتجربة شخصية فإنه سوف يواجه العديد من المؤاخذات والنقد، وذلك لعدم تماميته واكتماله من الناحية المعرفية والمنهجية.

[1] الدين والظمأ الأنطولوجي، للدكتور عبدالجبار الرفاعي، نشر مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، دار التنوير للطباعة والنشر، لبنان، مصر، تونس، الطبعة الأولى، 2016م، ص199.

[2] المصدر السابق، ص201.

[3] المصدر السابق، ص5.

[4] المصدر السابق، ص5.

[5] المصدر السابق، ص17-18.

[6] المصدر السابق، ص25.

[7] المصدر السابق، ص31.

[8] المصدر السابق، ص71-72.

[9] المصدر السابق، ص82-83.

[10] المصدر السابق، ص 83.

[11] المصدر السابق، ص123-124.

[12] المصدر السابق، ص155.

[13] المصدر السابق، ص169.

[14] المصدر السابق، ص173.

[15] المصدر السابق، ص175.

[16] المصدر السابق، ص189.

[17] المصدر السابق، ص190.

clip_image001_880bc.jpg

لطالما كان الموت قريبا، لكنني لم أترك له فرصة ليلمسني، وتركت نفسي كنهر يخاف أن يغفو، فتُغيّر الأرض مجراه، أو كشجرة ارتعبت أن تُصنع منها يدُ الفأس التي تموت بها أختها. لعلَّ مساري الأزليّ قادني إلى حياة ليست لي، فلم تنسجم أقداري مع القلب المفتون بالجمال وحب الأرض والحريّة. إن الكاتب "أمين دراوشة" في كتابه "الأنا والآخر في الرّواية الفلسطينيّة"، الصادر عام 2016 والذي يقع في 138 صفحة من الحجم المتوسط، تكلّم بلسان حالنا حين غنّينا وأحببنا وعانينا، وصرخ بكلماته الحارقة لأجسادنا، حتى لو لم تسمعها إلاّ الرّيح المُحمّلة برائحة أشجار البرتقال. وهذه أصابع شعب كتب على الجبين وعوده الأزليّة، ودفن تحت أغصان الزّيتون أسراره الأبديّة، لكنه أضاع طريق بيته وعبثوا له بالبوصلة.

الكاتب "دراوشة" وصل إلى دهشة حقيقيّة تستحق كل أفكار حياة "الأنا" وميزاتها، فكانت بمثابة رعشة التجربة الصّعبة في دمه، تارة يخاف الطرف "الآخر"، وتارة أخرى تفوته لذّة الخوف منه. سمح لروحه أن تعلن رفضها، أن تتبع شوقها، وتتّخذ طريقها الذي اختارته، دون أن يمنعها حنين أو تردّد. يخلق الفلسطينيّ لنفسه في الرّواية القوّة، الجرأة، العنفوان والشّجاعة، وكذلك التمرّد الثّوري الذي يأتي كلّه من جحيمه الدّاخليّ الغافي في أعماقه منذ عشرات السّنين. كما وجدنا أنَّ الكاتب في مقدّمة كتابه تعمّق في مفهوم "الأنا" ومفهوم "الآخر" إستنادا إلى ما يُفسّره علم النّفس الإجتماعيّ وسلوك الأفراد. أخذ يُشرّح الرّواية الفلسطينيّة بين صاحب حق وبين دخيل مُحتل، كلٌّ له نظرته العلويّة تجاه الآخر، وكلٌّ يدافع عن نفسه بأسلحته المشروعة والمبرّرة. تناول عدد من الرّوايات بالقراءة العميقة، والنّظر إلى الشّخصيات والأحداث والأماكن من زوايا مختلفة؛

١- البحث عن وليد مسعود / جبرا إبراهيم جبرا.

٢- الوجوه / وليد أبو بكر.

٣- سيرة العقرب الذي يتصبب عرقا / أكرم مسلم .

٤-مرايا إبليس / منى الشرافي تيم .

٥- حياة ممكنة / إسراء عيسى .

قد يُسرف الكاتب في التضمين والتوثيق وإقتباس مبادئ المفكرين النفسانيين، وسكب الكثير من كلماتهم وأفكارهم في محتويات كتابه، فكان هناك حوالي (٣٠) مرجعًا دعّم بها "دراوشة" نفسه ونظريته. القارئ هنا يلاحظ تراكم الجمل المتكرّرة في المقدّمة التي تتكلّم عن مفاهيم الذات والآخر في علم النفس، وكذلك يلاحظ تكرار الفقرات والقصص وأحداث الرّوايات أثناء تحليلها.

كتب الأديب "إنَّ مجتمعا قويا وذا قناعة وطنيّة صلبة، وحرا وديمقراطيا، ويفرد مساحة شاسعة للتعدّد، ويسمح بالتعبير عنه دون خوف، وينطلق من مبدأ الإعتراف بشرعيّة الآخر .. حتى وإن كان عدوّا حقيقيّا لا وهميّا" وهذا بالتالي بتناقض مع مبدأ وأخلاقيات المواطن الفلسطينيّ المُنتمي "الأنا"، ونظرته إلى "الآخر" الذين علقوا في أبديّة يائسة يتخبّطون وينتظرون نهايتهم. نحن الفلسطينيين قضينا السّنين كلّها بحثا عن تلك الحلول الشّرعيّة، ونادينا أنقذونا بكل لغات العالم. كتبنا بمشاعرنا وعواطفنا "نحن" الرّوايات المعبّرة بجميع أطيافها، لتعكس مرارة العيش وقساوته في ظلّ "الآخر" الظّالم، الذين جرحونا في أجسادنا وأرواحنا.

clip_image002_54c53.jpg

لم يجد الشاعر محمد علي شمس الدين ، متّسعًا من الوقت خارج حركة عقارب الشعر... فلم يستطع أن يعلن عن دمه الأبيض، المتأرجح بين وجع الجرح ولذة الكشف عنه، إلا عبر جملة من المحاورات، عرف الممسك بدفة أسئلتها كيف يديرها ويسبر الأغوار مستقرئًا العصيّ على القول والبوح من دون تلميح وإيماء ومواربة وما يجد في القصيدة ملاذا للتستر والتواري في تلافيفه... هذا ما يعلنه الشاعر، حين يسأله المحاور ( اسكندر حبش ) منذ البداية، وعبر المحاورة الأخيرة زمنيًّا، والأولى عبر ترتيبها في الكتاب.. إذ يرى أنّ المحاورة، التي تحمل دلالة التعددية في الرؤية، والتي تسهم في التدخل من أجل التعديل بين حين وآخر، هي ما يفضّله الكاتب لاطلاق نصّ شبيه بسيرة شعرية ذاتية.. وفي هذا يكرّس فكرة التصارع الرياضي بين العديد من المتناقضات، شكّلت مشواره الحياتي فكريًّا وابداعيًّا وبحثيًّا، مسرحًا أو ميدانًا للتّقاطب والتّوازي والتّقاطع بينها. في هذا الكتاب « دم أبيض »، يضعنا المتحاوران أمام مرآة تعكس لجّة الشعر لدى (شمس الدين)، حيث انبثاق القصيدة من قاع ثقافيّ فيه خلطة وجبلة من الفلسفة والتّاريخ والعلم.. وبهذا يعلن عن عمارة الشّعر وهندستها القائمة على مداميك ثابتة عدّة، لكنها قابلة للتغير والتحوّل إذا تغيرت معطيات وجودها وظروفها.. تلك العمارة التي تشكّل الكلمات لبناتها الأساسية، والتي تعمل على عرض الحاضر والاتكاء على ما يمكن أن يكون، بالاضافة إلى قدرتها على استعادة الزمان المنتهي، معترفًا أنّ مرض الشاعر وعصابه لا يعرفان الشفاء إلا عبر الكلمات... كلّ هذا يجعل الشعر بحثًا عن عمق الجروح الموغلة في الغيب، ما يجعل تعريفه صعبًا مستحيلا كتعريف الله. يعلن الشاعر والباحث عن مواقف حياتيّة عدة انعكست في الشعر، وعالجها بطريقة ابداعية عبر طرحه العديد من الرؤى، كيف لا وهو الواقف في منتصف الميزان، بين القديم والمعاصر، بين الطقسي الحاضر دائما، والوثني والآلي. شعره كحياته، خليط من أنسجة نبوية وابليسية. إنه المتلذّذ في اقامته وسط مدينة الحيرة، يتمرّد على المألوف من داخله، فيتدجج بعروض الخليل من دون أن يصل إلى مرحلة التبعيّة، ليصبح هذا المكتسب العلمي طوع يديه الشعريتين، يلغيه أو يثبته، ويستطيع أن يكسره إذا ما كان في الأمر ضرورة. هذه النظرة ربما استقاها من روافد عديدة ألمح إلى بعضها، حين رأى أنّ الدين نفسه خليط من أمور سابقة أخرجها الدين بروح اسلامية كالكعبة والحجر الأسود وغيرهما من مظاهر ما قبل الاسلام فقد قدّمها الدين الجديد مغسولة بروح جديدة.. وهذا ما يؤكّد رؤيته في توالد الأشياء بعضها من بعضها الآخر، وهذا يطبّق على القصيدة المتناسلة والمتوالدة كتناسل الحياة. إنها غريزة لا تشبع إلا من ذاتها، فالقصيدة تقتات من القصيدة وتبقى فاتحة فاها جائعًا من الصعب اشباعه. الحداثة العربية وهذا ينسحب على اللغة أيضًا، إذ يرى أنّ الحداثة العربية، العبارة عن كتلة من الابداع لم تدرس بما فيه الكفاية بعد، لن تجعله خارجًا على اللغة بقدر ما هو متمرد في اللغة وبها.. معلنًا عن رؤية شعرية وعلمية في آن، وهي أنّ الغموض في الشعر سيّده كما هو سيّد الكائنات. الغموض الذي يجعل المتلقي ايجابيًّا مشاركًا الكاتب في اعادة ولادة نصّه، إذ ينبغي أن تكون كلّ قراءة ميلادًا جديدًا للنص.. وهذا يتوقّف على مدى التوفيق بين الفنيّة والطّرح الفكريّ والثقافيّ، إذ يشترط توفير مخزون ثقافي لدى الكاتب، لكنّه مخزون يجب أن يكون متواريًا خلف القصيدة، عبر الانزياحات والتلميح المستفزّ والمحرّض للقارئ والمؤوّل على تعبئة الفراغات والبياضات لانجاز النص وتحقّقه، لأنّ تدفّق الثقافة والطرح الفكري دفعة واحدة يجعل القصيدة تنوء تحت وزر المعرفة لأنّ جمال المعارف في كمونها... كل هذا يجعلنا أمام نصوص شعريّة، شكّلت بحثًا حياتيًّا لمّا ينته بعد.. نصوص لا تلتفت إلى المعاني الشعرية المستباحة والمعروضة في الطرق والبرامج ونشرات الأخبار...إنما هي نصوص لا يرويها سوى المضمون الشعري الذي يعدّ تعبيرًا عن مواقف حياتية بطريقة فنيّة قريبة من الصورة لدى الفلاسفة.. إنّه المضمون المعادل للبرهان في المنطق.. وهذا يجعل الشاعر (شمس الدين)، يقف فوق ركام ما كتب باحثًا عن قصيدة القصائد، كما البجعة التي ينتهي مشوار تحليق جناحيها بتغريدة.. وهذا لا يكفيه عمر واحد كما يشير الشاعر في احدى المحاورات.. كلّ هذا يجعله مزيجًا من أسباب تفجير النبع الشعري، عبر التفاف الفقراء حوله، لكنّه لا يكتب لغة الشعراء المقهورين والعاشقين والمصلوبين على أخشاب مواقفهم، بل يعيد كتابة أحوال هؤلاء الذين ينبعثون من موتهم وقهرهم وصلبهم..

 * دم أبيض : صّادر عن «دار الأمير»، بيروت المصدر: جريدة السفير اللبنانية - العدد 13317 الصادر بتاريخ 14/3/2016

يوميات أدبية وثقافية بجدارة، وسياسية بامتياز!

كتابة اليوميات فنّ قديم، ربما قِدم الكتابة. قد يلجأ إليه أيّ شخص، سواء كان قريبا من حقل الأدب أو بعيدا عنه. إنّها نوع من السيرة الذاتية اليومية، يُسجّل فيها الكاتب، نشاطه اليومي المعيش، أو بعضه الذي يترك في نفسه وحياته، وفي محيطه أيضا، أثرا يرى حاجة في الاحتفاظ به أو في نشره وتعميمه. وكتابة اليوميات، تختلف عن كتابة المذكرات رغم التشابه بينهما. فهي ليست تدوين ما نمتحه من الماضي والذاكرة، في لحظة راهنة ولأسباب مختلفة، وإنما هي كتابة اليومي الذي نريد أن نتذكّره أو أن يتذكّره غيرنا. ولولا إيمان الكاتب بأهميّته في الراهن، وأهمية تذكّره لاحقا، لما كتبه، سواء كتبه لنفسه، أو لفئة قليلة، أو للنشر والتعميم على الملأ.

تعتمد كتابة اليوميات على الأحداث اليومية التي يعيشها أو يُعايشها الكاتب، من أبسطها إلى أكثرها تعقيدا. قد يُسجّل الكاتب، تبعا لأهدافه، كل الأحداث أو ينتقي منها ما يُحرّك فكره ومشاعره، ويخلق لديه أفكارا وتساؤلات ومواقف، يشعر بضرورة تقاسمها مع القراء الذين يراهم عنوانه الصحيح للتّقاسم والمشاركة، سواء ضاقت شريحتهم أم اتسعت. ويمكن تصنيف اليوميات، والأفكار والتساؤلات والمواقف التي تنتج عنها، بحسب الاهتمامات الشخصية للكاتب نفسه. لذلك قد تكون اليوميات أدبية أو سياسية أو كليهما معا، أو غير ذلك. وقد تنعكس فيها أبعاد أخرى كثيرة. أمّا دافع الكتابة وهدفها، فقد يكون الإفراغ والراحة النفسية، أو فوائد أخرى يرجوها الكاتب لنفسه أو للمحيط الذي يكتب له.

تتيح كتابة اليوميات ولوج عوالم ومجالات مختلفة، فهي تجمع بين الرسالة والقصة والخبر والخاطرة، وأمور أخرى كثيرة قد تنبع من ذات الكاتب، ويراها ذات فائدة، قد يستفزّ القارئ بها، بالإضافة إلى متعته في القراءة واطلاعه على عالم الكاتب الشخصي الذي لا يعود ملكه، حيث تُصبح اليوميات بعد نشرها، وثيقة أو مجموعة وثائق ذات أهمية بالغة، لأنّها لا ترصد، حركات وانفعالات الكاتب فقط، وإنما ترصد حركات وانفعالات فترة زمنية معينة، أو مرحلة يُسجّل الكاتب تاريخها من خلال رصده وتسجيله لليومي والشخصي الذي يعيشه بتفاصيله، وبعلاقاته المختلفة مع الأحداث، بإنسانها وزمانها ومكانها. ولذا قد تُصبح تلك اليوميات، كما أسلفت، ذات فائدة عظيمة في مجالات كثيرة، قد يجنيها الكاتب أو القارئ.

قد يكتب شخص يومياته لنفسه، وقد يكتبها لشريحة ضيّقة، ولكن ليس هذا ما فعله إبراهيم جوهر في أقحوانة روحه، أو يومياته المقدسية! فقد كتب للقارئ بنوعيه: ذلك الذي يعرف مكانة القدس في الوجدان الفلسطيني، وذلك الذي يجهلها، فلسطينيا كان أو غير فلسطيني. لم يكتب إبراهيم جوهر لنفسه فقط، ولا لشريحة ضيّقة، ولا حتى للفلسطينيين فقط، وإن كانوا هدفه الأساس، وإنّما يكتب لدوائر أوسع بكثير من الدائرة الفلسطينية، وقد تتعدّى الدائرتين العربية والإسلامية. وذلك لأنّ الألم الذي يكشف عنه إبراهيم جوهر، ربما يبدأ في القدس ويتجسّد فيما يحدث فيها ولها، ولكنّه ألم أكبر من القدس، لأنّ القدس هي ليست الجرح الذي يسبّب الألم وإنّما هي عاصمته التي تستقطب أطرافه، فهو جرح شاسع بمساحة الوطن العربي، ويمتدّ إلى العالم الإسلامي أيضا، وربما إلى العالم بأسره. فالجرح قد تعفّن، وبدأ صديده ينزّ ويتدفّق من عاصمة الجسد المثقل بالجراح، القدس. يستجمعه من شرايين أجسام متعدّدة كان يجب أن تكون جسما واحدا، ومن دوائر قد تشتّتت رغم تداخلها، قد يكون أهمّها الثلاث الأقرب: المقدسية، الفلسطينية والعربية. والمؤلم أكثر، وهو ما يُعطي لهذا الألم تميّزه، هو أنّ ما يحدث للقدس وفيها، يحدث تحت عين الدوائر الثلاث، وبمباركة أصنامها.

من المؤسف حقّا، أنّ العنوان الذي اختاره الكاتب ليومياته، "أقحوانة الروح"، قد سقط سهوا، أو عمدا، من صفحة الغلاف، كما يرى الكاتب المقدسي، جميل السلحوت، صديق جوهر، حيث قال: "لكن يبدو أن الناشر قد اجتهد وغيّر عنوان الكتاب كما يروق له، دون الرجوع الى صاحب الكتاب، وهذا أمر يدعو الى التساؤل، ولو ترك الناشر عنوان الكتاب كما اختاره صاحبه لأراح واستراح".[2] والعظيم يهيج فعلا من كل حدث يُسجله الكاتب، مهما كان صغيرا، لأنّه يحدث في زهرة المدائن التي يُخيم عليها الحزن، على كنائسها ومآذنها وشوارعها، منذ عقود طويلة. فهل يُريد إبراهيم جوهر في يومياته أن يُحرّر القدس، أو حتى يمسح الحزن عنها؟ يُدرك إبراهيم جوهر أنّه لا يستطيع. يظهر ذلك في ردّه على صديقه "إبراهيم عبيدات" الذي "لا يرى في الشعر أي قدرة على تحرير ولو حارة" (ص، 185). فيُذكّر صديقه وغيره، بأنّ "هذا صحيح تماما. فالشعر لا يُحرّر البلاد ولكنّه يُحرّر العقول، ويزرع الانتماء والجمال. فالعاشقون وحدهم هم الأكثر قدرة وتأهيلا على التحرّر والتحرير" (ص، 185). ويظهر في تقييمه لديوان الشاعر، الدكتور معتز قطب، "الصورة الأخيرة لمولاتي"، الذي "يحمل عشقا وهياما كبيرين للقدس ... أنّ سلاح الشاعر والأديب لغته، وعشقه. إنّه يُجمّل الجميل ويدعو إلى عشقه، وحين يعشق العاشق فإنّه يُضحّي من أجل عشيقته، ويسعى لإنقاذها. الشعر يُرسّخ الحلم ويعيش فيه. يدعونا إلى إحياء أحلامنا الغاطّة في سباتها ... لا عدوّ للأحلام إلّا الكسل والسبات والتسليم بالواقع" (ص، 193). وربما يكون أكثر ما تُظهره يوميات إبراهيم جوهر، بعد عشقه للقدس، هو تمسّكه بالحلم، وعدم تسليمه بالواقع، ودعوته للقارئ أن يكون كذلك أيضا.

يتجه إبراهيم جوهر في يومياته، اتجاها أدبيا واضحا في الشكل والمضمون. ففيها، وكما يجب أن يكون، لكل يوم تاريخه المحدّد باليوم والشهر والعام، ما يُؤكّد التوثيق إلى جانب الأهداف الأخرى التي لا تخفى على القارئ. ولا أدري لماذا اختار الكاتب تلك الفترة من حياته وحياة القدس، من يوم الخميس 23/2/2012 حتى يوم الاثنين 30/4/ 2012؟ هل في هذه الفترة بالذات، ما يُميّزها عن غيرها مما نعرفه من حياة القدس واتساع جرحها يوميا؟ قد يكون لذلك أسباب كثيرة، تكشف اليوميات بعضها، وأهمّها في رأيي، هو أنّ تعميق الجرح أصبح ذاتيا، الأيدي التي تعبث به لم تعد من خارج الدوائر المذكورة، وإنّما من صميمها، من أولئك الذين يتباكون على القدس ويصرخون لفضّ بكارتها ويُشرّعون للغاصب رجليها وكل أبوابها. فيُصبح الجرح أعمق بما لا يُقدّر. وعلى حدّ تعبير غوار الطوشة، والدموع تملأ عينيه في مسرحية ضيعته الضائعة: "يا ابني يا نايف، إذا ضربك الغريب شكل، وإذا ضربك ابن بلدك شكل ثاني".

يُقدّم إبراهيم جوهر الأخبار والأحداث اليومية، البسيطة والأقلّ بساطة، بلغة مباشرة وبصراحة متناهية، ولكنّه فيما يتعلّق بمشاعره ومواقفه التي تفرضها الأخبار والأحداث، يُصرّ على اللغة المباشرة والصراحة غالبا، ولكنّه يلجأ أحيانا، إلى اللغة الشعرية شديدة الكثافة والترميز، وذلك لأسباب أدبية جمالية بالأساس، ولكنّها تحتمل أسبابا أخرى، أهمّها السياسية التي يفرضها الواقع الاحتلالي خاصة، أو السلطوي عامة. وهو في الحالين: اللغة الأدبية الشعرية التي تراعي جماليات الأدب، أو اللغة الرمزية الكثيفة التي يحتال بها الكاتب على القهر السياسي، يعتمد على ذائقة القارئ وذكائه من جهة، ومن جهة أخرى على علاقة القارئ الذاتية، يومية نفسية، أدبية أو سياسية أو غيرها، بالقدس أو بما يقرأ. وفي كل الأحوال، تفيض لغة إبراهيم جوهر، صدقا وحميمية نلمسهما في كل عبارة من عباراته، حيث يشعر القارئ أنّها صادرة من أعماق قلبه الجريح، ومن صميم جرحه المقدسي الفلسطيني النازف، تتشرّب بالألم الذي يفيض من كليهما.

لا شكّ أن الأوضاع المزرية التي تعيشها مدينة القدس، وهذا التنكّر والإهمال والتهميش لمدينة كان يجب أن تكون القلب النابض للعروبة والإسلام، هي ما يُقلق الكاتب إبراهيم جوهر، تُؤرّقه وتقضّ مضجعه، لذلك رأى ضرورة ملحّة، وربما أكثر من أيّ وقت مضى، أن يزيل عن انتمائه للقدس، أيّ ذرة رمل أو غبار قد تكون علقت به، عبر السنين وفي مأساة تفاقم الأوضاع الفلسطينية والعربية والإسلامية. فهو يرى أنّ تعزيز الانتماء وتثبيته، أمر ملّح الآن، الآن الآن وليس غدا. وهو يمرّ بالأشياء اليومية البسيطة، قد يعتبرها البعض صغيرة، ولكنّها أفضل ما يكشف العلاقة بين المكان ومحتوياته، من أبسطها إلى أهمّها، الإنسان. ولذلك اهتمّ الكاتب في معظم يومياته بطبيعة القدس، فذكر المكان الذي يسكن فيه، جبل المكبر، وكيف يُطلّ منه على المساحات الشاسعة التي تمتدّ حتى البحر الميت، وأجزاء أخرى من فلسطين، تتصل اتصالا وثيقا بالقدس، كتأكيد على ضرورة تلاحم فلسطين بكل أجزائها التي يرى الكاتب القدس مركزها وقلبها الذي يجب أن يظلّ نابضا.

تحتلّ طبيعة القدس، حيّزا واسعا في يوميات جوهر، فمن جبالها وأشجارها ونباتاتها وزهورها وطيرها وحيوانها. إلى صفاء سمائها واعتدال طقسها ربيعا، واشتداد حرارته صيفا، وإلى تكدّر سمائها وتجهّمها خريفا وثلجها وبرودة طقسها شتاء. ولا ينسى بيئته في جبل المكبر والقدس كلّها، وما فيها من أسباب قليلة للفرح الحزين، وأسباب كثيرة للحزن والقلق والتنغيص.

مواضيع كثيرة توقّف عندها الكاتب، لا يمكن ذكرها جميعا هنا، ولكن ما لا شك فيه، هو أنّها جميعا تحمل هموم الكاتب وهموم مدينته وشعبه. وما من موضوع يطرقه، إلّا لأنّه يُثقل عليه ويترك أثره في نفسه. لكل شيء لغته، ولكل شيء ذاكرته، "والذاكرة تفتح دفاتر الطفولة" (ص، 35). فالدفء مثلا، "لا يأتي من وسائل التدفئة، الدّفء له لغته الخاصّة" (ص، 33). لذلك قد يجد الكاتب الدفء كما يقول، في "وجبة دافئة أعادتني إلى أيام (عروس السّكّر) في الطفولة (ص، 33). الوجبة تدفئ الجسد وتُثير الذكريات، والذكريات السعيدة تُدفئ القلب وتُنشّط العقل. فهل كلّ الذكريات سعيدة؟!

ما من موضوع يُثيره الكاتب، إلّا ويرتبط بنفسيته أو نفسية الإنسان المقدسي أو الفلسطيني عامة، وعلاقاته بما يدور حوله، خاصة على المستوى السياسي. فمطر القدس مثلا، الذي كاد يجفّ في السنوات الأخيرة، يُقلق الكاتب، ولكنّ ما يٌلقه أكثر هو جفاف الحياة المقدسية، اجتماعيا وسياسيا وثقافيا وغير ذلك. ولذلك، فالمطر الخفيف الذي يهمي أحيانا لا يبلّل الأرض فقط. "صباح الجمعة مطر خفيف همى فبلّل الطّرقات والمصاطب ورؤوس الأشجار ... مطر بلّل قلبي" (ص، 33). وقلب الكاتب لا يُجفّفه انحباس المطر، بل جفاف حياة القدس التي قد لا يزيدها انحباس المطر جفافا، بقدر ما يُذكّرنا بجفافها الذي يفوق جفاف المطر.

ومن هنا، نجد أنّ كل حدث، مهما كان بسيطا، قد تتداعى منه أفكار أو ذكريات أو تساؤلات أو مواقف، تُثري اليوميات وتشدّ القارئ، بل تكبّله بذات القيد الذي يُكبّل الكاتب ومدينته. كل يوميات إبراهيم جوهر تقوم على التداعي والاستطراد. لأنّ كل حدث في القدس، بل كل حجر فيها، له ذاكرته التي لا تنفصم عراها عما حدث وما زال يحدث.

كل الأوضاع في القدس حزينة ومقلقة: الاجتماعية والسياسية والثقافية. فلا أقلّ من أن نحافظ على الثقافة التي تحفظ الذاكرة والذاكرة تحفظها. ولذلك تحدّث الكاتب كثيرا عن الأوضاع الثقافية في القدس، وخاصة عن مشروع "القدس عاصمة دائمة للثقافة العربية". ولكنّ هذا المشروع بالذات - وهذا ما يٌقلق الكاتب - سلاح ذو حدّين، قد يُثبّت القدس في الذاكرة، وقد يمحو القدس وذاكرتها من وعي أجيالنا الصاعدة. وبما أنني شاركت هذا العام في بعض نشاطات هذا المشروع، أشهد أنّ لقلق إبراهيم جوهر ما يُبرّره. ففي حياتنا "كلمات حقّ" كثيرة يُراد بها باطل، ولذلك، لا يكفي الاعتماد على ظواهر الأمور. وكأنّي بالكاتب يقرأ الرسائل والسطور وما بينها جيدا - أتمنّى أن يكون القارئ كذلك - وإلّا ما عساني أفهم من تعقيبه غير المباشر على ما قاله الشيخ العائد من مؤتمر الدوحة لدعم القدس: قال "القدس بحاجة لبرنامج عمل يتطلّب إرادة سياسية مدعومة من الشعب ... القدس تحتاج إلى من يحمل راية العمل وليس من يظلّ يحمل راية المؤتمرات ولا الاستنكارات ولا الشجب" (ص، 31). هذا كلام جميل، لا أشكّ بأنّه "كلمة حقّ يُراد بها باطل"، استنادا على أمور كثيرة، بعضها يُستشف من اليوميات: الشيخ يقول ذلك بعد عودته من مؤتمر عُقد في الدوحة! الدوحة؟! هل من الدوحة، ومن القواعد الأمريكية فيها ستنطلق كتائب تحرير القدس؟! قد يكون هذا الكلام أحد قرارات المؤتمر حتى لو كانت معلنة، وإن لم تكن معلنة، فلا عجب أن تكون لُقّنت للشيخ خلف الكواليس. وإن لم يكن الأمر كذلك، وهذا الأمر الثاني، فلماذا عقّب الكاتب على كلام الشيخ وعلى ما سبقه من أحداث وأقوال، بما يلي: "إنباء (المصالحة) تُراوح مكانها / الناس يزدادون إحباطا / نحن فريق إطفاء حرائق ... الحرائق تلاحقنا ... الحرائق تسبقنا ونلاحقها ... / نحن نلهث. ونلهث. ونلهث ... ولكنّنا لا نعترف ... المطر لا يقطع الخيوط. ترك المهمّة لغيره" (ص، 31-32). ومن مثل الكاتب يعرف أنّ أوضاع القدس، منذ ذلك المؤتمر، ساءت، ونحن نلهث، وساءت ونلهث، ساءت وساءت، وما زلنا نلهث ونلهث؟! فما رأي المؤتمر في تعثّر المصالحة؟؟ أليس الشجب قولا والدعم الكامل فعلا!

هذه الأوضاع التي عاشها وما زال يعيشها الكاتب، لم يجد وسيلة لمقاومتها إلّا الكتابة. وبما أنّ للكتابة لغتها، فهي تشمل أسلحة أخرى للمقاومة، السخرية مثلا، استخدم منها الكاتب في كثير من يومياته. وهي سلاح لا يُستهان به، له حدود كثيرة، بها يُعبّر الكاتب عن ألمه، وبها يكشف مصدر الألم وينتقده، بل يفضحه أحيانا، وبها أيضا، لا يستثير تعاطف القارئ فحسب، بل يستفزّه إلى المشاركة في الجرح والألم والمقاومة. وقد وظّف الكاتب السخرية بشكل موفق. فالألم مصادره كثيرة، وأكثرها وأهمّها في يوميات إبراهيم جوهر، يوميات القدس والإنسان، هو اللغة والثقافة والسياسة.

على مستوى اللغة العربية، يتألّم الكاتب لحالها وما آلت إليه من إهمال وتهميش، كأنّها لم تعد تعني لأصحابها ما كانت تحمله من وحدة وعلاقات حميمية وهوية وانتماء وتاريخ وتراث. وما يؤلم الكاتب أكثر هو خضوع أصحاب اللغة لثقافة أعدائها. ويُشير بإصبع الاتهام إلى المؤسسات الرسمية وغير الرسمية من إذاعة وتليفزيون وصحافة، التي تُساهم في ذلك الإهمال والتهميش والخراب. ولكنّ الكاتب لا يستسلم، لذلك لا يكفّ عن ذكر طلابه وأصدقائه، من شعراء وكتّاب، الذين لا يُشاركونه الألم فقط، بل يهتمّون مثله باللغة، ويعملون جاهدين عبر مشاريعهم الأدبية والثقافية، على إعادتها لسابق عهدها.

يوميات إبراهيم جوهر، إلى جانب اهتمامها باللغة العربية، هي يوميات أدبية ثقافية بجدارة. ولكنّها أيضا، يوميات سياسية بامتياز. على مستوى الأدب، تحقّقت أدبية تلك اليوميات خارجها وداخلها. خارجها، لاقت رواجا كثيرا بين القراء المهتمّين بالقدس والأدب عامة وأدب إبراهيم جوهر بشكل خاص. وداخلها، لا حدود للسرد الذي يعتمد الخبر والقصة والخاطرة المتوالدة من الحدث اليومي، وما يقتضيه من تناصّ وتداعٍ واستطراد، قد يقود القارئ إلى عوالم يشتهي أن يكون فيها، وكل ذلك بعاطفة صادقة تتدفّق من كل عبارة ينطق بها قلم إبراهيم جوهر نحو القدس وناسها وكل أشيائها الصغيرة والكبيرة. ولا حدود كذلك، للغة الأدبية بما فيها من فصاحة وأصالة وانسيابية تلقائية أخّاذة. وهي في الوقت نفسه، لغة تفيض حزنا وألما وسخرية، تُعبّر عن حزن الكاتب ووجع روحه، تنظر بعين ناقدة، وتضرب الواقع فتوجعه بعبارات لاذعة في سخريتها.

وعلى مستوى الثقافة، لا حدود للأسماء والأزمنة والأماكن والمعلومات التي يوردها الكاتب في يومياته، وكلّها لها ارتباطها بالقدس أو بمشاعر الكاتب نحوها. ولكن، ما يبرز هو ذكره لأسماء أصدقائه من الكتّاب والشعراء، الذين يشاركونه مشروعا ثقافيا يهدف إلى إحياء الثقافة العربية عامة، والثقافة الفلسطينية المقدسية بشكل خاص، وإبراز وجه القدس كمدينة تستحقّ أن تكون عاصمة أبدية للثقافة العربية، وليس لمغتصبيها وثقافتهم. من خلال اليوميات يتعرّف القارئ على رموز الثقافة في القدس. وهي كثيرة سأقتصر على ذكر بعضها، خاصة ممن يُواظبون على حضور ندوة "اليوم السابع" التي تهتمّ بالثقافة الفلسطينية وقراءتها ونشرها. وهي نواة لمشروع ثقافي كبير، يعمل على دفعه إلى الأمام منذ سنوات عديدة، أمثال الكاتب نفسه، وأصدقائه، مثل الكاتب جميل السلحوت، والأديب محمود شقير، والروائي عيسى القواسمي، كما أنّ هناك أسماء نسائية كثيرة مثل: الفنّانة رشا السرميطي، والكاتبة رفيقة عثمان، والكاتبة نزهة أبو غوش، وغيرهم الكثير.

وإذا كانت يوميات إبراهيم جوهر، أدبية وثقافية بجدارة، فهي في نظري يوميات سياسية بامتياز. فهي تحمل همّا وتطرح قضية سياسيين، بلغة مباشرة وغير مباشرة. وبما أنّي أعتبرها سياسية بامتياز، لا بدّ من تقديم بعض النماذج التي تُثبت ذلك، وأنّ الهمّ والقضية السياسيين، هما الدافع الحقيقي الكامن وراء كتابة اليوميات، فهو يقبع في لاوعي إبراهيم جوهر، ويُؤرّقه. وذلك لسبب بسيط يدركه جوهر لا محالة. وهو أنّه رغم صعوبة الأوضاع التي تمرّ بها القدس وفلسطين، لا شيء يخشاه إبراهيم جوهر عليهما مثل السياسة. فهو يعرف ضعف أصنامنا، وخضوعهم واذدنابهم ولهاثهم وراء سياسة لا تضمر للقدس وفلسطين أيّ خير، بل تُضمر ما يخشاه إبراهيم جوهر فقط. ولذلك يجب أن نرى في يومياته من بدايتها، دقّا لجدران الخزّان. لذلك يقتبس في الصفحات الأولى مقالا لشاعر فلسطيني في المنفى اللبناني، يعكس ما يقلقه هو أيضا: "أكتب عن فلسطين الآن، هنا، في زمن نسيانها أو تناسيها. حين معظمنا يُريد التبرّؤ منها والتنكّر لها وتركها في مهب الريح" (ص، 15).

ومن اليومية الأولى، يقترح صديقه، الروائي عيسى القواسمي، أن يُجري معه "حوارا ثنائيا يتناول الثقافة والواقع والأدب واللغة" (ص، 9). كثيرة هي الأشياء التي تؤثّر على الثقافة والأدب واللغة في القدس، ولكن، هل من واقع يُؤثّر عليها أكثر من الواقع السياسي؟! أشكّ في ذلك. ولا يتأخر الإثبات ليأتي في اليومية الثانية. "بعد الظهر تواردت أنباء اقتحام الشرطة للمسجد الأقصى، ومنعها سيارات الإسعاف من الوصول. المسجد الأقصى في طريق محفوف بالمخاطر. القدس على مرمى حجر من التهويد الكامل" (ص، 12). وهل ذكر الخاص، المسجد الأقصى، إلّا من أجل الوصول إلى العام، القدس؟ وهكذا هو إبراهيم جوهر في يومياته، كثيرا ما ينطلق من الخاص إلى العام. وهذا ما نلمسه من دعوة صديق له "لحضور احتفال الجبهة الشعبية في قصر رام الله الثقافي ... (يقول) لم أذهب ... لسماع خطب سياسية ... تابعت جزءا من الاحتفال على شاشة الفضائية الفلسطينية ... ولم أشعر بالندم لقراري بعدم الذهاب" (يوميات ص 16). هل رموز هذه الكلمات بحاجة للتوضيح؟!

ولنرى إلى تأكيد الكاتب أنّ السياسة والواقع السياسي هما ما يدفعه للكتابة، وبالأسلوب الذي يكتب فيه. "في السنوات الأخيرة صار الكتّاب السياسيون يستخدمون لغة الأدب والمجاز ... إنهم يتغلّبون على قسوة الواقع السياسي بلغة الأدب وفيرة الماء" (ص، 19). وإلى من يُوجّه الكاتبُ التمنّي التالي؟ لأطراف كثيرة؟؟ نعم، هذا صحيح! ولكن هل هناك من يخلف الوعود أكثر من السياسة والسياسيين، وخاصة عندما يكون الأمر متعلّقا بالقدس وفلسطين؟؟!! يقول: "الطبيعة وحدها لا تخلف وعودها!! ... ليتنا نقتدي بها" (ص، 26). ليت أصنامنا يقتدون بها!!!

ويهطل على الكاتب مطر أسود! تغرقه الجريدة اليومية بزخّة من الأخبار السوداء. "تشكيل فريق إسرائيلي لتسريع هدم منازل المقدسيين / المستوطنون والقوات الإسرائيلية يواصلون حملات الاعتداء والمداهمة والاعتقال / محكمة عوفر تنظر اليوم في قرار تثبيت الاعتقال الإداري للأسيرة شلبي / الجيش الإسرائيلي يُقيم موقعا عسكريا يقطع الطريق على سكان تل رميدة ... مطر أسود ... يزداد سواده حين أقرأ أنباء تعثّر المصالحة" (ص، 28). هل ستحرّر يوميات جوهر القدس من الاحتلال الإسرائيلي؟ هل ستدفع مساعي المصالحة إلى الأمام؟ بالتأكيد لا! ولكنها بالتأكيد أيضا، تُجسّد الألم، وتفتح الأعين، وتُفتّح القلوب والعقول.

من لهؤلاء المساكين في تل رميدة، وفي القدس، وفي فلسطين كلّها، إذا كانت سياسة الاحتلال هذه، لا تحرّك الإخوة نحو المصالحة، وأشعر كما يشعر إبراهيم جوهر: لن تُحرّكهم، والمصالحة لن تأتي! فمن لهؤلاء؟! هل ننتظر قرارات مؤتمر الدوحة القادم؟! يقول جوهر: "المطر لا يقطع الخيوط، يترك المهمّة لغيره" (ص، 32). والدوحة ومؤتمرها ليسا بعيدين عن مثل تلك المهامّ. ألا تذكّرنا العبارتان السابقتان بالفرج العربي وأصنامنا الذين لا يربطهم بنا رابط، بينما تربطهم بأعدائنا خيوط لا يقطعونها؟

العينات المذكورة، أخذتها من اليوميات الخمس الأولى. وإبراهيم جوهر لم يتغيّب عن يومياته يوما واحدا طيلة الفترة المذكورة سابقا. أي ما زال أمامنا تسع وخمسون يومية، لا تكاد واحدة منها تخلو من إشارة ولو صغيرة نحو الواقع السياسي المرّ الذي ينحر القدس وإبراهيم جوهر معا، بسكاكين متعدّدة الجنسيات، أكثرها عربية إسلامية موحّدة بربّ القدس والأقصى الذي بارك حوله. فهل نعتبر؟!

وأخيرا، ألا يُبرّر كل ما تقدم، النظرة التشاؤمية التي تلفّ إبراهيم جوهر ويومياته، وتلفّ معهما كل الذين يرون الأمور ويضعونها في نصابها الصحيح بلا مواربة ولا مداهنة؟! هل من غد أفضل تنتظره القدس؟! سننتظر المؤتمر القادم!!!

[2] . يزيد ابن الحكم الثقفي شاعر أموي سكن البصرة وكان من فصحائها.

المزيد من المقالات...