clip_image002_39759.jpg

عرفتُ طريقي إلى تلك القلعة، واحتسبتُ خطواتي بتأنٍّ والقلوب خفّاقة، تصاحبها مشاعر جيّاشة. حملتُ الكلمات بين أيادٍ مُرتجفة، والعبارات سبقتْ زماني وأصبحتْ حكاية، وجلستُ في أفياء شجرة البطمة تراقبني أرواح مَن عاشوا هنا في السّنوات الخالية. عنهم كتبتْ الأديبة المقدسيّة "ديمة السّمان" في روايتها الجديدة "برج اللَقْلَق" الصّادرة عن مكتبة كل شيء في حيفا للعام 2016 والتي تقع في 464 صفحة من الحجم المتوسّط. تلك الأرواح حاضرة وونيسة لمن ساروا على درب أهل المدينة المقدّسة وبلدتها القديمة، ولا تزال الرّوايات متوارثة، وأحاديث كبارنا لا تخلو من الحقيقة الممزوجة بالخرافة، والمُطعّمة برائحة البخّور المُعتّقة، والصّلوات والابتهالات الحثيثة حتى لا تصيب أهل بيوتهم اللعنة؛ باب حُطّة، الواد، حارة السّعديّة، باب الخليل، باب العامود وعقبة الخالديّة، وما يُضحك السّن أنّهم أناس يستمتعون بترويج الإشاعة.

الفكرة جدًا جميلة ورائعة، ووفاء الوطن حرّك إحساس الكاتبة، فقصص الماضي هي جزء من التّاريخ والتّراث والأيّام المجيدة. أمّا إستحضار ما إندثر منها والبحث عن الأصالة، فهو واجب على كلّ مَن يتمتّع ضميره بالصّحوة الوطنيّة والقوميّة العريقة. الأديبة "السّمان" إستقتْ الأحداث برويّة، ونبشتْ أوراق التّاريخ المكتوبة والمرويّة، ووقفتْ من على برجها اللقلقيّ لتُعيد عقارب الزّمن ما ينيف عن المائة سنة. تمنّتْ لو مدّتْ لعائلة "عبد الجبار" يد المساعدة، تسدّ جوعهم وتروي ظمأهم أيام المجاعة، أو تحميهم من طغيان وإستبداد الدّولة العثمانيّة المريضة، ومكر الاستعمار البريطانيّ وانتدابه على فلسطين المُحتلّة، وكذلك تحميهم من أخطبوط الحركات الصّهيونيّة. كما أنّها لو تستطيع إرضاء خاطر الجدّة "نفيسة" من هيمنة الرّجال وتسلّطهم وعصاهم الغليظة، فلا شيء في عينيها سوى الدّموع، وفي قلبها غصّة. إنَّ "باب السّاهرة" أشبه بحكاية "باب الحارة"، ففي اعتقادهم تجوب الجان والعفاريت، وينتشر قطّاع الطرق ليلاً في شوارع المدينة، أو امكانيّة هجوم بربريّ يسلب منهم آخر درهم ولقمة معيشة.

الأديبة الكاتبة، وبلغة جميلة وجذّابة، امتلكتْ مشاعرنا، وعشنا وقلمها تفاصيل الحكاية المقدسيّة. إستطاعتْ أن تغزو صميم العاطفة، ونتعلّق بنتائج تكون لأرواحنا مُرضية، وشغف الشّوق طال منذ البداية وحتّى النّهاية. إنّها مجموعة من قصص مثيرة أهلها يجعلون من الحبّة قبّة، وهذه حقيقة واقعيّة! إنَّ وتيرة الحركة والأحداث أبدًا لم تكن ثابتة أو مستقرّة، بل تعلو وتهبط كما لو أنَّ القلب مُثبّتْ على جهاز المراقبة. انتقتْ الأديبة لنفسها المعاني والكلمات المناسبة ذات الألحان الدّراميّة، فالرّواية إجتماعيّة وسياسيّة وكذلك إنسانيّة. لقد حملت في طيّاتها عبء وهموم أهل المدينة، وما تحلّوا به من ترابط وتعاضد وأخوّة وشجاعة في الدّفاع عن أرضهم وشرفهم، ومحاربة مَن تؤول له نفسه بالخيانة، إنّهم وحّدوا الظلم والتّشرد والجوع، وأصبحوا في نظر الوالي عصابة، وفي نظرنا إنّها شهامة.

ما أروع تلك الأمثال الشّعبيّة، المتداولة باللغة المحكيّة، والتي تخاطب العقل والجسد بعمق المعاني المقصودة، فكانت سلاحًا بيد الأديبة أحيتْ به الشّمس في أطراف الدّنيا البعيدة. ولم تزل تُبهر القرّاء بملكة السّجع وترانيم القافية، والصّور الخياليّة الجميلة في عباراتها المميّزة. الحبكة والبلاغة اللغويّة تتعاظم في كلّ مرّة، وذلك مع إشتداد الأزمة، فتراها تقف في كلّ ركن أو حجر أو على كلّ ناصية من البرج المطلّ على ساحة المعركة. إنّها مخطوطة بالأفراح والأتراح مزخرفة، بالماضي والحاضر متواصلة، وبالأصول والعادات ما زالت محكومة، نقشتها الأديبة وعلى أسوار القدس وضعتها، لتبقي عراقتنا أمام العالم مُخلّدة. إنَّ الرّواية تزخم بالآيات القرآنيّة التي تعطي النّصوص رونقًا وقوة ومتانة، أمّا لغة الحوار فحافظت على العربيّة الأصيلة. كذلك نجد الابتسامة العفويّة، فلم تفارق محيا القرّاء في كثير من المواقع بسبب ظرافة الأحداث، وما آلت إليه أحوال الدّنيا بعد حياة السّذاجة؛ الشيخ " علي" مؤسس العائلة، في قبره يفعل المعجزات، وإنّها من السّماء لكرامة، وما زالت تنمو بين أهل بلدته تلك الخرافة، إلاّ أنَّ القارئ قد يتوه في تحقيق القدر للأمنيات بالمصادفة، ولن أبالغ بأنَّ الرّواية كانت لها أيضًا نصيبًا من الدّمعة.

تنقّلتْ بنا الكاتبة "ديمة" بطريقة وحبكة فنيّة نابعة من ذاكرة التّاريخ النّابضة، فكان للشّعب الفلسطينيّ إستبساله وجهاده، وأنَّ له صولة في المقاومة الفرديّة، إلاّ أنّه واجه صولات كثيرة من الخيانة والهزيمة المُدبّرة، رافقها ضعف الحالة الماديّة والعسكريّة والسّياسيّة. كانت بمثابة مسرحيّة آمنة تقاسمتْ فيها القوى الكبيرة أراضي الأوطان العربيّة، وعلى رأسها فلسطين، التي لا زالت حتى الآن الوحيدة المُغتصبة. إنَّ أصابع الاتّهام أكثر من أصابع اليد الواحدة، ولو جئنا بمثلها مائة مرّة، رُفعتْ الأقلام وجفّتْ الصّحف ونحن نبكي حال الأجيال القادمة. إنّها رواية جمعتْ في صفحاتها همومًا فاقت النّفس البشريّة، فعائلة "عبد الجبار" كغيرها من العائلات الفلسطينيّة الصّامدة، توارثت الشّجاعة والوفاء، وقدّمتْ التّضحية وصانتْ الأمانة. كانت لها جولات عبر السّنين والأجيال تفخر بها الأمّة، ففيها من الدّروس ما لم نتعلّمها البتّة، وأنّها مرجع ثقافيّ وتاريخيّ وإنسانيّ، من المهمّ أن يتعلّمه أطفال فلسطين والعالم على مقاعد الدّراسة.

clip_image002_bc207.jpg

خامس فهارس الدُّكْتُورِ الْمَطْبَعِيِّ الْمُفَهْرِسِ، فهرس القبائل والجماعات ذو الاثنين والأربعين شيئا، الذي كان ينبغي إذا مَسَّتْ إليه حاجة المقام، أن يقتصر على ما وقع بكلام المؤلف من أسماء القبائل المعتبرة والجماعات المنزَّلة منزلة القبائل. وإنما تمس الحاجة بأن يكون المقام للترجمة والتأريخ والرواية، لا للتفصيلات العلمية الخالصة! إن مَثَل مورد فهرس القبائل والجماعات في مقام التفصيلات العلمية العروضية، كَمَثَل مورد فهرس المصطلحات العروضية في مقام الترجمة والتأريخ والرواية! ثم كان فهرسه أعلامه السابق، جديرا بأن يغنيه عنه!  

ولا يطمئن من الاثنين والأربعين شيئا في هذا الفهرس، غيرُ عشرين، إذا أَخْليناها من تكرار بعضها لبعض كالعروضيين وعلماء العروض بعد أهل العروض والنحاة بعد علماء النحو، ومن إغناء بعضها عن بعض كفصحاء العرب بعد العرب والعلماء بعد تفصيل طوائفهم- لم يبق منها غير هذه الأحد عشر فقط: "أهل البيان، أهل العروض، أهل اللغة، بنو عبد المطلب، بنو هاشم، العرب، علماء التصريف، علماء النحو، الكوفيون، المتكلمون، المحدَثون"!

أما الاثنان والعشرون شيئا فلا موضع لها في فهرسه:

إذ كيف تطمئن ["آل بغيض" و"آل ليلى"]، اللتان وقعتا في هذين البيتين مِن تَمْثيل العروضيين:

"جَزَى اللهُ عَبْسًا عَبْسَ آلِ بَغِيضٍ جَزَاءَ الْكِلَابِ الْعَاوِيَاتِ وَقَدْ فَعَلْ"،

"عَفَا مِنْ آلِ لَيْلَى السَّهْبُ فَالْأَمْلَاحُ فَالْغَمْرُ"؛

فأخذهما الدُّكْتُورُ الْمَطْبَعِيُّ الْمُفَهْرِسُ، فجعلهما في فصل الألف من فهرسه، ولا كيان معروفا لآل ليلى هذه المُعمّاة، ولا لآل بغيض أولئك المُهملِين من الاعتبار الحقيقي!

أم كيف تطمئن "أصحابنا"، التي وقعت في نقل المؤلف عن العمري: "جَمَعَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْفُضَلَاءِ الْعُيُوبَ السَّبْعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ:

عُيُوبُ قَوَافِي الشِّعْرِ يَا صَاحِ سَبْعَةٌ عَلَى فَهْمِ مَعْنَاهَا تَوَكَّلْ عَلَى الْكَافِي

سِنَادٌ وَإِكْفَاءٌ وَإِقْوَا إِجَازَةٌ  وَخَامِسُهَا الْإِيطَا وَتَضْمِينُ إِصْرَافِ"؛

فأخذها الدُّكْتُورُ الْمَطْبَعِيُّ الْمُفَهْرِسُ، فجعلها في فصل الألف من فهرسه، وليست غير إشارة مُعمّاة إلى من كره العمريُّ تسميته، ولم يبال الخليلي بمعرفته، على وجه من التدليس لم يكفَّ عن استعماله أحدٌ مهما كان زمانه ومكانه ومجاله!

أم كيف تطمئن ["طلاب علم الشعر"، و"طلاب علم العروض"[، اللتان وقعتا في مقدمتي لا متن المؤلف، فأخذهما الدُّكْتُورُ الْمَطْبَعِيُّ الْمُفَهْرِسُ، فجعلهما في فصل الطاء من فهرسه، ولا والله ما خطر لي ببالٍ أن تزداد الجماعةُ بهما تفرقا!

أم كيف تطمئن "كُلَيْب"، التي وقعت في قول مُهَلْهِلٍ من استشهاد العروضيين:

"يَا لَبَكْرٍ أَنْشِرُوا لِي كُلَيْبًا يَا لَبَكْرٍ أَيْنَ أَيْنَ الْفِرَارُ"؛

فأخذها الدُّكْتُورُ الْمَطْبَعِيُّ الْمُفَهْرِسُ، فجعلها في فصل الكاف من فهرسه، من بعد أن جعل "بَكْرًا" في فصل الباء! إنه إذا كان من الخطأ اشتمال فهرسه من بيت الاستشهاد على "بَكْر"، إن اشتماله منه على "كليب" لغفلة واضحة؛ فـ"بكر" فيه قبيلة، و"كُلَيْب" فرد، إلا أن يَدَّعِي أنه قَبيلةٌ في فَرْدٍ، فيكون بدعواه هذه أشعر من مهلهلٍ نفسه، ورحم الله الأصمعيَّ وأبا عمرو بن العلاء كليهما جميعا!

ذاك، ولا كـ"وزارة التراث والثقافة العمانية"، التي لا ينقضي منها في فهرس القبائل والجماعات عجب القارئ: أهي من القبائل أم الجماعات! أم يطمح الدُّكْتُورُ الْمَطْبَعِيُّ الْمُفَهْرِسُ، إلى إحياء وجه معاصر من العصبية القبلية، يمكننا تسميته العصبية الوزارية، يتعصب فيه للوزارة موظفوها، ويا ما أفصحه من خطأ!

حقائق لا يطويها الزمن  !! 

تأليف: فريدون قاندمير

يتحدث هذا الكتاب عن السنوات الأخيرة في حياة الخلافة العثمانية، ويركز على فترة الحرب العالمية الأولى، والكتاب غني بالوثائق التاريخية، أما مؤلفه فهو الصحفي التركي "فريدون قاندمير" أحد أفراد هيئة الهلال الأحمر، وآخر المنسحبين من المدينة المنورة بعد قبول القائد فخري باشا الخروج منها، تظهر الحاجة إلى مثل هذا الكتاب في هذا الوقت للكشف عن كثير مما يعرض في كتب التاريخ الموجهّة، وفي المسلسلات التلفزيونية التي تعكس جانباً واحداً من العلاقة بين العرب والأتراك من زاوية نظر معينة، وتقتطع من الأحداث ما يخدم خلفيات فكرية مغرضة، وأطراً تاريخية جاهزة؟!!

إن المتتبع للكتابة التاريخية المعاصرة التي تعالج هذه الفترة، والمسلسلات التاريخية في عدد من وسائل الإعلام يجدها تركز على بعض الأمور التي لا يكاد يخلو منها تاريخ أمة، ووقائع دولة، حيث يتم التركيز على السنوات الأخيرة من حياة الخلافة العثمانية، متناسية سيطرة الاتحاد والترقي وتوجيهه للأحداث بدءاً من عام 1908م، فهي تختصر تاريخ هذه الفترة اختصاراً مخلاً؟ فالتشكيل والوقائع والانتصارات والنقط المضيئة والفتوحات، والوقوف في وجه الهجمات الاستعمارية التي كانت امتداداً للحروب الصليبية يتسم الحديث عنه بوصفه بحكم السلاطين والنظام العسكري والهيمنة، والتقوقع الذي حرم الشعوب المنضوية تحت ظل الخلافة من الانفتاح على العالم، والمشاركة في النهضة التي بدأت أوربا تشهدها، مع تناسي وتجاهل حجم التآمر الغربي والشرقي على العالم الإسلامي آنذاك، والجهود العملاقة التي بذلها كثير من هؤلاء السلاطين في الحفاظ على بلاد المسلمين، ورد الطامعين عن ديارهم؟!

وفي المقابل نجد إصراراً على إبراز دور جمال باشا وأنور باشا وكمال أتاتورك وجمعية الاتحاد والترقي، والنزعة الطورانية، وكأنه يمثل تاريخ الدولة العثمانية بأسره كما في عدد من المسلسلات مثل (أخوة التراب – تراب الغرباء – الشوكة السوداء؟!!) في صورة تفتقر إلى الواقعية والصدق والموضوعية، فهي تشارك عن وعي منها، أو عن غير وعي، الدوائر الاستعمارية التي زيفت تاريخ هذه الفترة، وجهدت على إبراز العلاقة بين العرب والترك وغيرهم من الشعوب الإسلامية على أنها علاقة استيلاء واستعلاء واستلاب، في حرص شديد على تمزيق جميع أنواع الروابط والوشائج المعنوية والمادية، وتشويه الصورة الحقيقية، ونشر ما يضادها ويخالفها؟! وقد فضح الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين هذا التوجه، في بيانه الذي ألقي أمام اللجنة البريطانية الموفدة إلى فلسطين في 12 يناير 1937م فقال: "لقد كان العرب يؤلفون جزءاً مهماً من كيان الدولة العثمانية، ومن الخطأ أن يقال: إن العرب كانوا تحت نير عبودية الأتراك، وإن نهضتهم ومساعدة الحلفاء لهم في الحرب العامة إنما كانت ترمي إلى تحريرهم من ذلك النير؟! فقد كانوا يتمتعون في كيان الدولة العثمانية بجميع أنواع الحقوق التي كان يتمتع بها الأتراك سياسية كانت أو غير سياسية، وذلك بحكم الدستور الذي وضع أساس حكم واحد لجميع البلاد والعناصر التي كان يتألف منها كيان الدولة العثمانية، وكان العرب يشاطرون الأتراك جميع مناصب الدولة العثمانية المدنية والعسكرية، فكان منهم وزراء ورؤساء وزارات وقواد فيالق وفرق، وسفراء وولاة ومتصرفون، كما كان في مجلس النواب والأعيان العثماني عدد كبير من الأعضاء العرب بنسبة أعدادهم وفقاً للدستور وقانون الانتخاب العثماني، وفوق ذلك كانت البلاد العربية تدار بحكم يستند على مجالس إدارية، ومجالس عمومية في الأقضية والألوية والولايات، وكان لهذه المجالس صلاحيات واسعة في الإدارة والمالية والتعليم والعمران".

وفي كتابنا الذي نحن بصدده ما يؤكد هذه الحقيقة، ويصور مدى حرص الإنكليز على فصم العرى، وتمزيق وحدة المسلمين؟! وقد تحدث المؤلف عن ثلاثة من أخطر مفجري الديناميت من الإنكليز، وعن حرصهم على نسف الخط الحديدي الحجازي،ـ وإسقاط المدينة المنورة، وفصل الحامية التي فيها عن بقية أجزاء الدولة، فيذكر أنهم مهندسون مهرة في زرع الألغام ونسف خطوط البرق، وأنهم كانوا يبقون بدون طعام أسابيع ملتصقين بالسكة الحديدية، وأن حرصهم على التحطيم والتخريب لم يكن له حد؟!

بل كان أحدهم –كما نقل العرب الذين شاهدوه- يعض القضبان الحديدية وكأنه يريد أن ينتزعها بأسنانه إذ نفِدالديناميت، أو إذا لم ينفجر!! وأنه من حرصه كان ينام، ورأسه فوق القضبان.

وعن طبيعة العلاقات رغم ما أثير من فتن، ومن شحن للنفوس، ينقل المؤلف هذه الصورة بعد دخول القوات الهاشمية إلى المدينة وبعد الاتفاق على إخلائها وبقاء هيئة الهلال الأحمر التي ترعى الجرحى والمرضى يقول المؤلف:

قدم وفد مؤلف من ثلاثة أشخاص ليزوروا المستشفى، وبعد شرب القهوة قال أحدهم: يلزم ألا يبخل الهلال الأحمر التركي بشفقته وعونه علينا، وبما أننا كلنا مسلمون فلا فرق بيننا.

ويعلق المؤلف الذي كان أحد أعضاء الهيئة:

لقد ذابت الثلوج بيننا، وانطفأ القلق، وشعرنا بالفرح والسرور، ولاسيما عندما قال أحدهم وهو يشرب القهوة: إننا مشتاقون منذ سنين للقهوة التركية، وإننا متأسفون لهذا الطالع الذي ساقنا إلى ذلك، ولكن الذي حدث حدث وعلينا الآن أن ننسى الماضي.

ومن الصور التي ينقلها المؤلف صورة للجنود الجرحى الذين بقوا في المدينة وهم يزورون المسجد النبوي: لقد استُقبلوا من قِبل أهالي المدينة حتى من البدو، بمودة وترحاب وأخوة نادرة، وبعد صلاة الجمعة أصروا عليهم أن يتناولوا طعام الغداء معهم، وعند رجوعهم إلى المستشفى كان يحيط بهم جمع غفير من الأهالي يودون البقاء معهم.. يقول المؤلف:

قال لي الأمير عبد الله الذي شاهد هذا المنظر عندما لقيته في الغد:

أيها السيد!! إن الإسلام رابطة قوية، إن مثل هذه الرابطة لا يستطيع أحد أن يقطعها، ولابد لنا أن نعرف قيمة هذه الرابطة مع الأتراك، وسوف نعرفها.

ويعلق المؤلف:

كان بودي أن أقول للأمير: ليس هناك أحد كالأتراك عرف قيمة هذه العلاقات وأراق دمه في سبيلها.

وينقل عن أحد المجاورين في المدينة من أصل جزائري: يا أولادي.. إن الأتراك من أكثر الأمم التي خدمت الإسلام، وإنكم نماذج إنسانية إسلامية أتيتم من استانبول من أجل غاية شريفة..

وعند الاستعداد للرحيل من المدينة، بعد محادثات مع القيادة العربية كان بين الجنود جنود من أصل عربي: هذا شامي وهذا مقدسي وهذا من حيفا ومن بيروت، وعندما سمعوا بكلمة الأسر رفضوا ذلك كما رفض زملاؤهم الأتراك، وأخيراً استطعنا أن نقنعهم بواسطة بعض الضباط العرب للرضوخ للأمر الواقع.

 وبينما كان الجنود يودعون زملاءهم الشهداء في مقابر المدينة كان أهل المدينة الذين عرفوا أنهم سيغادرون يظهرون لهم التقرب والمودة ولا يعرفون كيف يحتضنونهم ويعانقونهم، ويعلق المؤلف:

ولا زلت متألماً حزيناً لأنني لم أجد آلة فوتوغرافية لأصور هذا المنظر ذا الدلالة العظيمة ساعة الفراق التي دامت ساعات، ومضى بهم القطار والأيدي تلوح بالوداع.

وحين جاء ياسين باشا ممثلاً للقيادة العامة يقول المؤلف: كنا نتحدث كأصدقاء أو حسب تعبيره كالإخوة، وكان يقول:

إن العرب والترك بحسب خلقتهم شعوب  يفترق بعضها عن بعض، وليس على وجه الدنيا أمتان مرتبطتان مع بعضهما مثلهما..

وهذه حقيقة تاريخية أن الأتراك هم الذين قبلوا الإسلام الذي ظهر في جزيرة العرب أولاً، ونشروه إلى الجهات الأربع، وجاهدوا في سبيل ذلك، وهم يريقون دماءهم.. فكروا في قول النبي وهو يبشر بفتح القسطنطينية لقد وُفق الأتراك لهذا، وأسسوا استانبول وجعلوها دياراً إسلامية، وهم الذين نشروا السكينة في الجزيرة وحرسوها، وجعلوا العرب تاجاً فوق رؤوسهم، نحن العرب لا ننسى هذه الحقيقة التاريخية.. ثم يبدي ياسين باشا تعجبه من الواقع الذي تظهر فيه العداوة، وفي جزيرة العرب بالذات، ويرجع ذلك إلى الاتحاد والترقي الذين أساؤوا إلى العرب، وأدخلوا الدولة على الحرب، وجروها إلى الكارثة، ويرد المؤلف: بأن الخروج على الدولة مقابل وعود الإنكليز وطعنها في أحلك الظروف أجج العداوة، وأن المستقبل القريب أثبت كذب وعود الإنكليز فهم لم يفوا للعرب منها بشيء؟!!

ويعترف ياسين باشا بأن الصداقة التي بين العرب والأتراك قد اهتزت كثيراً بتحريض الأجانب في الأيام الأخيرة، وهذا الاهتزاز أدى إلى أحداث دامية، وأن جنود الأتراك الفارين من فلسطين قد تعرضوا لأذى عظيم من قبل بعض الناس الذين حرضهم الأجانب؟!

يقول المؤلف وهو يتصور هذا الموقف عندما كان في طريقه إلى دمشق: زاد خوفنا أننا سندخل إلى دمشق بزيّنا المميز.. وفي الفندق أغلقوا اللباب على أنفسهم وكأنهم مساجين، وبعد مقابلة الملك فيصل وترحيبه بهم، وقوله لهم: كان يجب أن لا تقع هذه الأحداث، يجب على الطرفين أن ينسيا الماضي القريب، ويعملا على إحياء الأخوة والصداقة القديمتين، وذكرما قاله له فيصل وهو يبدي إعجابه بالشاعر التركي الكبير محمد عاكف: أحمد الله أن شاعركم هذا مسلم، وبهذا الاعتبار تستطيع أن نعده شاعرنا جميعاً لأنه شاعر مسلم..

ثم يتحدث المؤلف عن العلاقات مع السوريين على المستوى الشعبي، وكيف أن المخاوف قد تبددت، فحين دعاهم الملك فيصل إلى حفل فني لم يفكروا بشيء سوى السلامة.. دخلنا ونحن خائفون، وبينما نحن نبحث عن مكان جلوسنا، ارتفعت صيحة عالية من القاعة المليئة بالمدعوين: الأتراك! الأتراك! الإخوة الأتراك، فركز جميع مَن في القاعة عيونهم، وأخذوا يصيحون: فليعش الإخوة الأتراك، وقامت عاصفة من التصفيق والترحيب فأصبحنا لا ندري كيف نستقبلها؟ وكيف نتصرف؟ وامتدت الأيدي لمصافحتنا.. لقد كانت الصداقة العربية التركية تأخذ طريقها، وكأنها لقاء بين الأحبة بعد أشواق السنين وحسراتها.. وحين دخل الملك فيصل أخذ الحاضرون يهتفون "فلتعش الأخوة العربية التركية".

لم نكن نفكر بأننا سنقابل بمثل هذه الحفاوة، وعند الخروج كان الجمع أكبر والميدان يرن بأصوات "يعيش" وقبل وعناق وهتافات.

ويتساءل المؤلف ما الذي حمل الدمشقيين أو على الأصح العرب على ذلك، لقد كشف السوريون ألاعيب الإنكليز كما كشفها عرب الجزيرة وأخذوا يعانقوننا قائلين: (يا إخواننا الأتراك" وهم يلعنون الإنكليز ويسبونهم، ولا يعرفون ماذا يقولون ليأخذوا ثأرهم منهم.. وهكذا يتغيّر المواطن السوري وهو لا يعرف كيف يكرم أول من يقابلهم من الأتراك.. عدد الذين يأتون لزيارتنا كبير، الناس يدعوننا لتناول القهوة، وفي الداكين يقدمون لنا الهدايا ويرفضون أخذ ثمنها؟ الصحف تكتب عن وصولنا وترحب بنا.. الناس يتناشدون قصائد محمد عاكف، ويهتزون لمعانيها الإسلامية.. ثم يضيف: كان من المقرر أن نسافر عن طريق حلب إلى أضنة لنصل في يوم واحد، ففوجئنا بالسفر عن طريق البحر الذي يطول أياماً؟!! ثم عرفنا أن الإنكليز وراء هذا التغيير المفاجئ، لقد فكروا في احتمال أن يظهر أهالي حلب وحماة وحمص مودتهم لنا فيتظاهروا ضدهم كما حدث في دمشق، فاختاروا طريق البحر، وكأنهم يهربوننا.. أحد البغداديين قال لنا في آخر لقاء على وليمة في دمشق: أقسم بالله أيها السادة إن حديث الصداقة عبث، فإننا إخوة، وقد امتزجنا منذ سنين طويلة، وأي واحد منا لو بحث عن شجرة عائلته، وحلل دمه ستظهر له هذه الحقيقة.

ويختتم المؤلف هذه المشاهد بقوله: إن جميع هذه الحركات كانت بسبب السياسة التي تشحذ السكين لذبح الإسلام وبدسائس الجاسوس لورنس.. إن السوريين الذين هجموا على الأتراك دون أن يدروا شيئاً عما يدبر لهم، إنهم بعدما مرت عليهم عدة شهور من هذه الأحداث، يخجلون من ذكرها، ولا يعرفون كيف يظهرون حبهم للأتراك.. الحمد لله لقد قدر لنا أن نرى هذه التطورات قبل أن نصل إلى استانبول، ونحن فرحون.

* آخر الأتراك في ظل نبينا: أو (الدفاع عن المدينة).

تأليف: فريدون قاندمير.   ترجمة: أديب عبد المنان.

مخطوط (آلة كاتبة) في مركز "بحوث ودراسات المدينة المنورة" في المدينة المنورة 254 صفحة من القطع 

الشعر مرآة للوعي، ولكنّ المؤامرة كانت أكبر من قدرات الشعب الفلسطيني!

clip_image001_62088.jpg

محمد علي الصالح

قد يتساءل البعض: كيف يمكن أن يحدث ما حدث للشعب الفلسطيني، وقد كان يملك الكثير من الوعي بما يتربّص به من مؤامرات؟ ويُؤكّد ذلك الوعي، رموز فلسطينية كثيرة، بالإضافة إلى نخبة من الشعراء الذين عاشوا وعايشوا التطوّرات على الساحة الفلسطينية منذ وعد بلفور المشؤوم وبداية الاستعمار البريطاني لفلسطين وغيرها من أقطار العالم العربي. الإجابة على مثل هذا التساؤل، في اعتقادي، كانت وما زالت واضحة: كانت المؤامرة وقدرات ثالوثها الدنس: الإمبريالية الغربية، والصهيونية، والرجعية العربية، أكبر بكثير من قدرات الشعب الفلسطيني، فلم يستطع آنذاك، أن يقف أمام المؤامرة، ويحول دون تنفيذها.

في تلك الفترة، عاشت نخبة من الشعراء، طالما حذّرت من المؤامرة، ومن التعامل مع أطرافها، ومن بيع الأراضي للحركة الصهيونية. يُذكر من بين هؤلاء الشعراء: إبراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود، مطلق عبد الخالق، أبو سلمى، محمد على الصالح وغيرهم الكثير. بعض هؤلاء الشعراء، نفر لم يعطهم البحث والنقد حقّهم الذي يستحقّونه. من بينهم الشاعر محمد على الصالح، والد الشاعر الفلسطيني المعروف، عبد الناصر صالح. وقد حظي ديوان الشاعر محمد على الصالح، بالنشر مؤخرا فقط. فقد صدر في القدس عن دار "الجندي" للنشر والتوزيع. ويقع في 208 صفحات من الحجم المتوسط، تضمّ 38 قصيدة تتصدّرها قصيدة للشاعر عبد الناصر صالح، بعنوان "مرثية لفارس القصيدة"، يرثي فيها والده، الشاعر المناضل، محمد علي الصالح، ويتصدّرها هذا إهداء: "إلى روح والدي: الشاعر والمناضل".

في دراسة للناقد عزيز العصا،[3]

في هذه الأسطر، يُلخّص الشاعر سيرة والده النضالية، ودوره في فضح المستعمر والأنظمة الرجعية التي ساندته وما زالت تسانده، وكذلك دوره في التنوير ونشر الوعي بين أبناء شعبه، وبين طلابه بشكل خاص. ولذلك يُمكننا أن نراهن على أنّ الذي يفتقد محمد علي الصالح هو ليس نجله فقط، وإنّما هو الإنسان الفلسطيني عامة، لأنّ الشاعر عبد الناصر صالح نفسه، يحمل في شعره، إلى جانب همّه الذاتي، همّا جمعيا، فلسطينيا وعربيا.

ولد الشاعر الفلسطيني، محمد علي الصالح عام 1907، في طولكرم، واختطفته يد المنون في العاشر من آذار عام 1989. أي أنّه عاش تاريخ فلسطين الحديث إلى ما بعد بداية انتفاضة الحجارة الأولى عام 1987، وقبيل اتفاقيات أوسلو. وكان أول شاعر فلسطيني ذكر الانتفاضة في شعره. ففي قصيدة له بعنوان "يوم 2 نوفمبر" التي خرج فيها ضدّ "وعد بلفور" المشؤوم، وحذّر شعبه وأمّته من مغبّة السكوت عليه، قال في أحد أبياتها:

إنّـا لنحمي حمــانـا بانتفاضتنا      على عدوّ غريب ... طامع ... أشِر

قراءة قصائد الديوان، "مرافئ العمر"، تضعنا وجها لوجه، أمام شاعر مناضل ومثقّف، قاوم الإنجليز قولا وفعلا، وسُجن في سجونهم. أي أنّه عاش وعايش أحدث أكثر الفترات حساسية في تاريخ فلسطين، من خروج الأتراك وبداية الانتداب البريطاني، إلى النكبة. وهي الفترة التي من بداياتها، بدأ الشعراء الفلسطينيون، وبينهم محمد علي الصالح، يستشعرون القادم من خراب وضياع. وقد كانوا في نضالهم ومقاومتهم، قدوة لغيرهم. وقد كان شعرهم بحقّ، شعر مقاومة. فقد اتخذوا منه سلاحا للمقاومة، ومنبرا للتنوير والتحذير والتثوير. ولكنّ قدرات المؤامرة وثالوثها الدنس، كما ذكرت، كانت أكبر من قدرات الشعب الفلسطيني. ورغم ذلك، فإنّ هول المؤامرة وشراستها، لم يقضيا على الشعب الفلسطيني، ولم يحولا دون صموده واستمرار مقاومته ومطالبته بحقّه في تقرير مصيره في وطنه وعلى أرضه. وكل ذلك وغيره، يتجلى في شعر محمد على الصالح.

في تصفّح سريع لقصائد الديوان، نجد أنّ الشاعر، من حيث المبني، ينهج منهج الاتجاه النيو-كلاسيكي، الذي كان سائدا في تلك الفترة، في فلسطين وغيرها من أقطار العالم العربي. فقصائده معظمها من الشعر العامودي الذي يخضع لبحور الخليل؛ يُعالج فيها هموم الساعة وقضاياها بقالب كلاسيكي درج عليه شعراء العرب آنذاك. 

 أما من حيث المضمون، فلأوّل وهلة، سيعتقد القارئ أنّ شعر محمد على الصالح، هو شعر مناسبات. وهذا صحيح، ولكنّ قراءة أعمق، سوف تكشف للقارئ أنّ هذه القصائد لا تواكب أحداثا فقط، بل يمتحها الشاعر من واقع مؤلم، كثير الانكسارات والأحلام معا، ويربطها بحالات وجدانية ووطنية، من الطبيعي أنّها تتدفّق من ذات الشاعر وأعماقه، ولكنّها تتعدّى الذات الفردية إلى الذات الجمعية الوطنية، الفلسطينية والعربية. فهي تحمل همّا ذاتيا هو جزء من همّ جمعي، وهو همّ الشاعر كإنسان فلسطيني مضطهد، وهمّ فلسطين المغتصبة والفلسطينيين المضطهدين جميعا. وبهذا تُشكّل قصائد محمد علي الصالح، وعيا جمعيّا وهمّا إنسانيا، هما جزء لا يتجزّأ من الوعي والهمّ الفلسطينيين، ومن النسيج الثقافي الفلسطيني والعربي.

في شعر محمد على الصالح، تتجلّى مناسبات فلسطينية مختلفة. ولكن، في تلك القصائد ومناسباتها، تتجلّى فلسطين كلّها، بتاريخها وتراثها ومعالمها ورموزها، وهول نكبتها واستمراريّتها. ومن خلالها أيضا، تتجلّى الأمة العربية، إذ كما يظهر من القصائد، وكما يقول الناقد، عزيز العصا، فإنّ محمد على الصالح، "يرى فلسطين عبر الأمّة، ويرى الأمّة عبر فلسطين" (العصا، ص 191).

[2] . عزيز العصا. "محمد علي الصالح: كرميٌ - مقدسيٌ ... دافع عن فلسطين بالقصيدة والبندقية" (2014)،  ضمن:     

     محمد علي الصالح، مرافئ العمر، القدس: دار الجندي، 2016. ص 179-206.

[4] . عزيز العصا. "محمد علي الصالح: كرميٌ - مقدسيٌ ... دافع عن فلسطين بالقصيدة والبندقية" (2014)،  ضمن:

     محمد علي الصالح، مرافئ العمر، القدس: دار الجندي، 2016. ص 179-206.

(هذه المداخلة قُدّمت يوم الخميس 7/4/2016، في أمسية أقيمت في نادي حيفا الثقافي، لإشهار كتاب "مرآة وصور"، مجموعة من القصص القصيرة جدا، للكاتبة أنصار وتد)

يرى بعض الباحثين والنقّاد أنّ المستقبل للقصة الومضة، أو القصيرة جدا، وبعضهم يراها فعلا، قد أصبحت فنّ العصر. ظهرت في الأدب العربي منذ سبعينات القرن الماضي. وفي العقدين الأخيرين بشكل خاص، أخذت تنتشر بسرعة بين الكتّاب والقراء، على ما يبدو، لأنّها نتاج قلق الإنسان واغترابه في عصر السرعة والوتيرة السريعة للتقدّم التكنولوجي، حيث فقد الإنسان استقراره وهدوءه النفسي، واغترب عن ذاته ومجتمعه. وفقد كذلك الوقت، فلم يعد قادرا على قراءة الأعمال السردية الطويلة، فانقلب إلى الأعمال التي تعكس وتيرة حياته السريعة المتقلّبة، والتي تُعبّر عن معاناته بالأسلوب نفسه.

يرى النقّاد والباحثون، أنّ القصة القصيرة جدا، فنّ صعب، أصعب من القصة القصيرة التي عرفناها حتى الآن. فهي فنّ ذو حساسية عالية جدا: أولا، تجاه ما يدور داخل النفس البشرية وخارجها، وثانيا، تجاه اللغة. فالكاتب إلى جانب ملكة اللغة، يحتاج إلى حساسية خاصة، بمكنونات مفرداتها وتراكيبها، وإلى القدرة على التركيز والتكثيف واختيار الألفاظ والعبارات، في قصة لا تتعدّى بضعة أسطر، أو بضع كلمات أحيانا. والكاتب يجب أن يُراعي فيها أربعة مقوّمات ضرورية جدا: التكثيف والتركيز، الإيحاء، المفارقة والنهاية المدهشة.

عجز النقّاد والباحثون حتى الآن عن إيجاد تعريف جامع مانع للرواية أو القصة القصيرة. الكاتب والناقد المصري يوسف الشاروني يرى أنّ الرواية تشبه النهر، بينما القصة القصيرة هي دوامة واحدة على سطح النهر. إذن ماذا تكون القصة القصيرة جدا؟ هل هي نقطة في الدوامة؟! سيمرّ زمن طويل من الكتابة والبحث والدراسة، حتى نصل إلى تعريف جامع مانع للقصة الومضة أو القصة القصيرة جدا، وقد لا يكون ذلك ممكنا.

يقول الأستاذ إبراهيم طه: تتميّز القصة القصيرة جدا، بالغياب والنقص. يُفهم من ذلك، أنّ القصة القصيرة تعتمد على الحضور. والحضور هنا، هو حضور المادّة المكتوبة والمقروءة، أو امتلاء النصّ وإشباعه بالتفاصيل الصغيرة. كاتب القصة القصيرة جدا، يكتب القليل ويقصد الكثير، لأنّه يعتمد على القارئ في فهم الكثير الذي لم يكتبه، من بين سطور القليل الذي كتبه. النصّ الكبير الغائب أو المضمر، يستشفّه القارئ من النصّ الصغير الحاضر بعدد قليل من الكلمات والعبارات شديدة التركيز والتكثيف، مليئة بالرموز التي قد لا يستطيع كل القارئ أن يفكّ غموضها.

القصة القصيرة جدا، كأيّ فنّ سردي آخر، تقوم هي أيضا، على خمسة عناصر أساسية لا قيام للنص السردي الفنّي بدون أحدها. وهي الزمان والمكان والشخصية والحدث والراوي. الحدث هو تزاوج بين الفعل والشخصية، يتمّ في بيئة بزمانها ومكانها. والراوي، سواء ظهر في النص أو لم يظهر، هو تقنية أو شخصية يخلقها الكاتب لتروي لنا الأحداث. بدونه لن تصل إلينا الحكاية. المعنى والصراع والحبكة كلّها عناصر مهمّة في النصّ، ولكنّهما ليست أساسية، إنّما هي نتاج تفاعل العناصر الأساسية فيما بينها من علاقات. وخاصة العلاقات بين الشخصية المركزية والعناصر الأساسية الأخرى. هذه العناصر موجودة في القصة القصيرة جدا، حتى لو كانت من بضع كلمات؟ وأكثر من ذلك، فلكل قصة مهما كان قصيرة، بداية ونهاية. والنهاية كما ذكرت، يجب أن تكون مدهشة.

أقصر نصّ وجده الأستاذ إبراهيم طه في بحثه حول القصة العربية القصيرة جدا، هو نصّ لكاتب سوري اسمه نبيل جديد. طول النصّ بطول عنوانه، كلمتان.

العنوان: حياة مواطن.            النصّ: حاضر سيّدي.

هذه قصة، تجتمع كل العناصر المذكورة سابقا. ولكن لن نراها في النصّ المكتوب. وهنا تأتي المهمة الشّاقّة الملقاة على عاتق القارئ، استحضار الغائب وسدّ النقص، أو ملء الفجوات، ليضمن القارئ فهم وتأويل ما أضمره الكاتب أو أخفاه بواسطة حذف اللغة أو اختزالها أو تركيزها وتكثيفها.

لتأويل النص المذكور، يُمكن أن نقول: قد يكون الراوي هو الكاتب نفسه، أو أي شخص آخر، خلقه الكاتب، وجعله يختبئ في زاوية ما تُشرف على فضاء النصّ، أي فضاء العالم العربي، أو دولة من دوله. قد تكون سوريا لأنّ الكاتب سوريّ. من تلك الزاوية، يطلّ الراوي على الأوضاع الاجتماعية والسياسية، ومعاناة الإنسان العربي منها. ويختزلها لنا في كلمتين. إذن الشخصية المركزية هي الإنسان العربي في البيئة العربية.

المعنى في عبارة "حاضر سيّدي" واضح. ولكنّ تأويل الحدث أو المعنى، هو ما يسعى إليه القارئ. وأنا أرى أنّ الحدث يُحيل إلى فعل الانكسار والرضوخ الذي يعيشه الإنسان العربي. والنصّ نفسه، "حاضر سيّدي"، هو البداية والنهاية. فهو من جهة يُحيل إلى بداية فعل الانكسار والرضوخ، في الزمن الراهن أو منذ قرون. يعني منذ وجدنا ونحن كذلك. ويُحيل النصّ أيضا إلى النهاية المدهشة، وإدهاشها يكمن في أنّها لا تختلف عن البداية، فهي توحي باستمرارية الانكسار والرضوخ حتى اللحظة الراهنة. ولكن، هذه محاولتي أنا في التأويل، ولكل واحد منكم، أن يُقلّب النصّ في عقله، ويرى الحدث من زاويته الخاصة، ويُؤوّله كما يشاء.

وإذا أردنا أن نتوسّع قليلا في فهم هذا النصّ وقراءة الرسائل التي يُمكن أن نستشفّها منه، يُمكن القول أنّ الرسائل كثيرة ولا يمكن تحديدها. ولكن، هناك رسالتان أراهما أقرب من غيرهما:

الأولى، هي نقد عميق من الكاتب ونصّه، يوجّهه للإنسان، أو للشعب أو الأمّة، الذين يستمرئون عبوديتهم فلا ينتفضون ضدّها، أو الذين اعتادوا عبوديتها، فسكنهم خوف طاغٍ من الضياع في الحرية. وفي هذه الرسالة تنبُّؤ واضح بما آلت إليه حالة الأمّة العربية في الربيع العربي وبعده. لقد تجذّرت فينا العبودية، لدرجة أننا لم نعد قادرين على العيش بدونها.

أمّا الرسالة الثانية، فهي الاستفزاز. يستفزّ الكاتب الإنسان العربي ليقوم بثورة ناجحة ضدّ عبوديته، أو أن تستمرّ ثورته إلى أن ينجح. لأنّ العبودية لا تنتهي بغير ثورة ناجحة. الفشل في الصراع بين الحرية والعبودية لا يُبقينا عبيدا فقط، بل يُرسّخ فينا عبوديتنا ويُرسّخنا فيها. والربيع العربي خير مثال على هذا الفشل. هل انتهت عبوديتنا؟ هل غيّر الربيع العربي فينا شيئا ولو صغيرا؟ ربما! ولكن على الأقلّ في الوقت الراهن، لم يُغيّر نزعتنا إلى الحرية، بقدر ما رسّخ العبودية فينا، لأنّ الثورة الصادقة ضد العبودية، لا تعرف الفشل، فإمّا النجاح وإمّا الاستمرار إلى أن يتحقّق.

القارئ استنادا إلى آراء المفكّرين والنقّاد، يملك حيزا كافيا للتأويل والفهم. المفكّر والناقد الأمريكي، إريك دونالد هيرش، يؤكد على دور الكاتب نفسه. سيرة الكاتب والبيئة التي ولد فيها النصّ، لهما أهمية قصوى في جمع المعلومات التي قد تُساعد على استكمال الصورة المتشظية للحبكة، وهذا يُساعد القارئ على التأويل والفهم.

بينما المفكّران والناقدان: الألماني وولف إيزر والفرنسي رولان بارت، فيُؤكّدان على دور القارئ. يجب أن يعتمد على مصادره الخاصة، وعلى خبرته كقارئ وكإنسان.

الغياب في النصّ، يجعل مهمّة القارئ صعبة، ولكن أكثر فائدة، لأنّ النقص يخلق لدى القارئ أسئلة مهمّة: ماذا، متى، أين، مَن ولماذا؟ طرح هذه الأسئلة يدفع للقارئ إلى البحث وكشف العناصر الأساسية والعلاقات بينها. وهكذا يبدأ بتشكيل الحبكة في ذهنه، بعناصرها الحاضرة والغائبة.

أنا لم أتشرّف بمعرفة أنصار وتد من قبل. بعد أن طُلِب منّي الحديث في هذه الأمسية، بحثت عنها في الشبكة فوجدت أنّها كاتبة وباحثة في اللغة العربيّة والأدب الإنكليزيّ، نشِطة في كتابة المقالات الاجتماعيّة الناقدة، والقصص القصيرة جدًا. قرأت بعض مقالاتها فتنوّرت قليلا، ولكنّي لم أجد شيئا آخر من سيرتها، أعتمده في فهم قصصها. فقرّرت أن أعتمد تجربتي كقارئ وخبرتي المتواضعة كناقد.

أنصار وتد، في نشرها لمجموعتها الأولى، "مرآة وصور"، تبدو كاتبة جريئة، بغضّ النظر عن مدى نجاحها، فقد ركبت مركبا صعبا يمخر عباب بحر متلاطم الأمواج عندما حاولت في ومضاتها، أو قصصها القصيرة جدا، أن تُبدع الألم الذي تعيشه، ويعيشه مجتمعها وتعايشه هي.

من خلال قراءاتي لقصص أنصار وغيرها من كتّاب القصة القصيرة جدا، لاحظت أنّ المشكلة التي يُعاني منها كتّابنا في هذا المجال، هي مشكلة المبنى وليس المضمون. فقد نجحوا في المضامين أكثر. ولم يهتمّوا بالمبني الاهتمام المطلوب، كعامل يُثري جمالية النصّ ويُساعد على فهم المضمون.

من حيث المضمون، يمكننا القول أنّ أنصار في معظم ومضاتها، قد نجحت بجذب القارئ إلى مواضيع تهمّه كما تهمّها هي، متحتها من صميم الواقع. وأثارت فيها قضايا وحالات إنسانية: اجتماعية وتربوية غالبا، تعكس معاناة المجتمع كلّه، أو معاناة المرأة في المجتمع. وقد رأت انزياح تلك الحالات عن مسارها الطبيعي، ولذلك، ثارت عليها، انتقدتها وعرضتها في مجموعتها، مطالبة بإعادتها إلى مسارها الصحيح.

أما من حيث الشكل، فقد نجحت بإدهاشنا في بعض ومضاتها، واخفقت في بعضها الآخر، إذ لا تعني قلّة الكلمات دائما، أنّ القصة أصبحت ومضة، والكلمات القليلة في النصّ، تبدو أحيانا في عين الناقد كثيرة جدا، لأنّ الكاتب ينزلق أحيانا إلى الوصف والسرد. فرغم قِصَر العبارات، يكون بعضها أحيانا زائدا عن الحاجة، ووجودها يُقلّل من جمالية القصة، ويُفسد على القارئ فرصة الاستمتاع بالبحث عن النصّ الغائب، وملء النقص والفجوات للوصول إلى دلالات النصّ. وتلك الكلمات أو العبارات الزائدة، قد تُفقد النهاية دهشتها.

سأكتفي بنموذجين من نصوص أنصار، أتتبّع فيهما بعض وجوه نجاحها وإخفاقها.

الأول بعنوان "حبّ!" (ص 3)، تقول فيه: "في الرابع عشر من شباط، قدّم لها بيديه وردة حمراء ... حلّق قلبها مع الهدية، ونسج قصة حبّ في الخيال ... بعد ساعات ... أعادتها إلى الواقع "صفعات" جارحة طالما اعتادت عليها من اليدين ذاتهما!". (32 كلمة).

في هذه القصة انزياح في الحدث، مزدوج وجميل. الأول هو انزياح الزوج المفاجئ عن عادته، من الإهانة إلى الحبّ والاحترام. والثاني هو انزياح الرجل أو المجتمع الذكوري عن المسار الصحيح، أو عمّا يجب أن يكون، أي عن احترام المرأة والتعبير عنه، ليس بالضرورة في عيد الحبّ، وإنّما في الحياة عامة. الكاتبة قدّمت الانزياح المطلوب وأخّرت المرفوض، ما يعني أنّها تريد للرجل في مجتمعنا، أن ينتقل من المرفوض إلى المطلوب. أي من إهانة المرأة وقهرها، إلى حبّها واحترامها.

وظّفت الكاتبة لفظة "صفعات" بشكل جيد. آخذت صيغة الجمع من صفعة، ووضعتها بين مزدوجين، أولا لتبيّن للقارئ كثرة الصفعات التي تتلقاها المرأة في مجتمعنا الذكوري المتخلّف. وثانيا لتُبيّن لنا أنّ "الصفعات" هنا تحمل دلالات كثيرة. فرغم ذكر الكاتبة لليدين اللتين تصفعان، الصفعات ليست بالضرورة صفعات باليدين، وإنّما يُمكن أن تكون بكل ما فيه إهانة للمرأة. وهذا أيضا يعطينا فرصة أخرى للتأويل والتفكير بأنّ كلمة "اليدين"، هي أيضا، تحمل دلالات عديدة قد تكون كثيرة ومتنوّعة بتنوّع الوسائل التي يُهين بها الرجل المرأة.

وقد اعتمدت الكاتبة أسلوبا مهمّا في القصة القصيرة جدا، هو أسلوب المفارقة، الذي ساعدنا في فهم الانزياحات المذكورة، فقد جاء الحدث الأول، تقديم الوردة، بشكل غير متوقّع، فهو غير مألوف، فاجأها وفاجأنا، جاء على حساب الحدث الثاني، الصفع، وهو المألوف الذي تريده الكاتبة أن يكون عارضا وليس مألوفا. والمفارقة تبدو واضحة أيضا، بين بداية القصة ونهايتها، بين تقديم الوردة والعودة السريعة إلى الواقع بواسطة الصفعات.

في هذه القصة، تنتقد الكاتبة المجتمع الذكوري المتخلّف. ترفض صورته القائمة، وتحاول أن ترسم له الصورة التي تريدها له. ولكنّها تنتقد المرأة أيضا. فما معني أن ... "يحلّق قلبها مع الهدية، وتنسج قصة حبّ في الخيال"، ما دامت قد اعتادت، أو عوّدها الرجل على الصفعات؟ هل هي طيبة القلب، أم النزعة الطفولية والفرح باللعبة بعد العقاب والإهانة؟ أم هو الجهل والغباء؟ أم هو القهر والاستسلام للواقع؟ وكلها حالات مرفوضة تريد الكاتبة أن تُحرّر بنات جنسها منها.

هذه إحدى قصص أنصار الموفّقة شكلا ومضمونا. ولكن مع ذلك، أنظروا كيف ينزلق الكاتب أحيانا إلى السرد أو الوصف. ما الحاجة بكلمة "جارحة" كصفة للصفعات؟ هل يحتاجها القارئ بعد ما حدث، لكي يفهم أن الصفعات جارحة ومهينة؟ ومع ذلك فالهفوة هنا بسيطة لا تحطّ كثيرا من قيمة النصّ وجماليته.

قصة أخرى بعنوان "أولويات" (ص 11)، تقول:

"قال لها ابنها باكيا: أمّي، طلبت منك مرارا كتاب لغة عربية ... ستطردني المعلمة هذه المرّة إن لم أحلّ الوظيفة!

قالت له غاضبة: قلت لك لا نستطيع شراء كتاب هذا الشهر ... فبعد أسبوع عرس صديقتي ... أخبرتك أنّي أوفّر المال لشراء فستان مميّز تتحدّث عنه الأخريات. (47 كلمة).

من حيث المضمون، تُثير القصة قضية تربوية بالغة الأهميّة، نُعاني منها كثيرا، متحتها من صميم واقعنا، وهي الاهتمام بالمظاهر الخارجية المزيّفة على حساب الاهتمام بأولادنا وتربيتهم وتعليمهم ومعرفتهم بلغتنا. وقد أوقعت الكاتبة وبحقّ، المسؤولية على عاتق الأب والابن أيضا، وليس على عاتق المرأة فقط، حين قالت: "لا نستطيع شراء كتاب هذا الشهر". ما يعني أنّ الزوج مغيّب عن التربية، سواء بفعل مشاغله، أو بفعل خضوعه لرغبات زوجته. والطفل يجب أن يكون "واعيا"، ويعرف أنّ رغبات أمّه أهمّ من تربيته وتعليمه.

ولكن من حيث الشكل، تساءلت أوّلا: لماذا نكّرت الكاتب اللغة العربية؟ هل قصدت ذلك، أم تداعى ذلك من اللاوعي؟ لأنّ تنكير اللغة العربية هنا، فيه نوع من الإهانة لها. وسواء قصد الكاتبة أو لم تقصد، فقد أحالتنا إلى المكانة المتدنية للغتنا، ليس لدى الآخرين، وإنّما لدينا، في بيوتنا ومؤسساتنا.

صحيح أنّ القصة تنتهي نهاية جميلة، لكنها في رأيي، فقدت إدهاشها حين أضافت الكاتبة عبارة "أخبرتك أنّي أوفّر المال"، وأضافت صفة "مميّز" للفستان. كانت النهاية ستكون مقنعة ومدهشة أكثر بكثير لو أضمرت الكاتبة تفاخر الأمّ ولم تذكر غضبها، وقالت: "بعد أسبوع عرس صديقتي ... سأشتري فستانا تتحدّث عنه الأخريات! ألا يظهر في هذه العبارة تميّز الفستان؟ ألا تُحيلنا إلى تميّز الأمّ، وهو بلا شكّ تميّز مقيت؟!

النصّ الواحد، مهما كان قصيرا، يحتاج إلى ساعات وساعات، وعشرات الصفحات لاستكمال الحديث عنه، وهذه العجالة لا تسمح. لذلك أختم بالقول: مبروك لأنصار وللقرّاء إصدارها الأول الذي أراه يُبشر بموهبة واعدة. وأنا على ثقة أنّ إصدارات أخرى ستتبعه قريبا، ستلعب فيها الخبرة دورها المأمول.

المزيد من المقالات...