clip_image002_d752a.jpg

كروب الحياة غمرتْ أرواحنا بخفايا السّنين القادمة .. نحسبها مُبهمة، غامضة وقاسية. الجسد أنهكته ثِقل عبارات غير اعتياديّة، حركات غير مألوفة، أفكار حياتيّة عشوائيّة متناثرة . مشاهد لم تألفها النّفس البشريّة .. مأساة تجرّ خلفها كارثة، وأصبحنا بعيدين كثيرا عن فحوى الآيات القرآنيّة. دأبَ الكاتب الشّاب الإماراتيّ "فيصل السويدي" في مُؤلّفه الجديد "تأمّلات فيصليّة" الصّادر عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس لعام 2016 والذي يقع في 93 صفحة من الحجم المتوسّط، دأبَ إلى كتابة ما يختلج في صدره. تبعثر قلمه بين السّطور المُخدّرة، فلمسنا حُزن أنامله المُرتجفة تارة، وتضارب روحانيّاته الماديّة والإلهيّة تارة أخرى، ويسقط على شفير التعب تلك التّأملات والنّصوص الأدبيّة المُختارة بعفويّة، كانت كالّذي يقطف زهرة من كلِّ حديقة، محاولا الكاتب أن يقدّم بعضا من تجاربه وخبراته الحياتيّة، وأن يرسم لنا صورة واضحة لعلاقاته مع البشريّة، وهناك في قلبه بدأ جرح يخاف ألاّ يشفى منه أبدا، فيحاول إماطة الأذى الذي علق في شريانه. يبدو أنَّ نظرته لما يدور حوله مُشوّشة تنقصها تجارب أكثر موضوعيّة وحكيمة. تنقّل بنا بنصوصه القصيرة المرقّمة في مجالات كثيرة جدا؛ تكلّم عن الصّداقة وما فيها من وفاء وخيانة، وتكلّم عن الثّقافة والكتاب، وأنْ لا أسلاك شائكة بين القلم والحلم، ويبقى في نظره أنَّ القراءة هي حاجات فسيولوجيّة يحتاجها كل إنسان. الشّعراء والأدباء هم أرهف النّاس قلوبا، وأنَّ الحياة دون قرطاس وأحبار وأقلام لا معنى لها. أمّا التناص القرآنيّ في هذا الكتاب، فكان له الحيّز الأكبر من قصص الأنبياء والسّور والآيات، فالتّسبيحات والخطايا، التّعوذ والسجّادة، التأخّر والبعد عن الله والإستخارة والصّلاة في رأي الكاتب هي جميعها السّبيل الوحيد للملاذ من شقاء وتعب الحياة، وأنَّ قيمة الإنسان فقط عند ربّ البشر وليس عند البشريّة.

كانت الّلغة المستخدمة واضحة جدا، وفيها بعض النّصوص ذات بلاغات ومعانٍ عميقة، بعض التّجارب في حياته صقلت جوانب شخصيّته، وحاول قدر الامكان توضيح المبادئ التي تبنّاها لمسير حياته. لكن من النّادر جدا أن تتكامل البنية الفكريّة والروحانيّة والسلوكيّة لإنسان نعتبره في مُقتبل العمر، إلاّ أنَّ محاولاته هذه قد تكون بالنسبة له محطّات توقّف، إعادة نظر وتقييم، وإنطلاقة مُتجدّدة تحفّها عِبَر ودروس تلقّنها.

الكاتب "السويدي" يُصرُّ على التّمسك بذلك الطفل الذي بداخله، ويُروّض نفسه بكلًّ السّبل لتبقى ميزتها التّواضع والسّعي إلى الجمال لا الكمال. نلحظُ ذلك من خلال قفزاته الرّوحانيّة بين هيبة السّماء وواقع الأرض، والعمل المُضنيّ لعقد التّوازن بينهما. نظراته التّأمليّة نحو الأفق قد تُعثّر قدمه بين الحين والآخر ببعض المطبّات الحياتيّة التي لم يذكرها في نصوصه كاستشارة أولي الأمر والأكثر خبرة.

الضّمير المستتر والغائب يا كاتبنا أبدا لن يكون تقديره "الدناءة" كما تفضّلت، فقد تمسّ بأقدس وأحبّ النّاس إلى قلبك وقلوبنا. ويبدو أنّكَ تؤمن بالحظِّ، وإنّها لمسألة دينيّة شائكة بين ما هو موهوم وما هو مكتوب، فتحزن على الفقراء والمساكين وتتّهم الحياة بخذلانهم. في النّصوص هناك تشاؤم واكتئاب، وذلك التّناقض عندما تُثنينا على الثّقة والطّموح بربِّ السّماوات. لقد إكتشفنا من رحلاتكَ المكوكيّة بين أقطار العالم؛ من العراق إلى موزمبيق، ومن سيبيريا إلى كمبوديا مارّا بجنيڤ والبحر الكاريبيّ، أنَّ فنزويلا هي أرض الأدب وكراكس هي مستشفى ولادة الأدباء وعشقكَ الخاص باللاتينيين، ناهيك عن أنَّ القمر ينحني على كتف الأديب ليطمئنه. 

قلتَ يا كاتبنا: إلى عشيقتي وصديقتي وحبيبتي، إلى أمنية الطّفولة والمراهقة وما بعدها، إلى تلك الفاتنة، إلى التي كنتُ أحلم أن تطأ قدماي .. إلى "القدس". فلا نصّ واحد ولا كلمة يتيمة ولا حتّى حرفاً تائها كان في "تأمّلات فيصليّة" عن تلك المسكينة؟ فلو كُنتَ تعرف أنّكَ فعلاً أهديتها عملكَ، لضممتها بين ذراعيكَ، ولتضرّعتَ إلى الله أن يجعلكَ حارسا لبوابتها. ولو كُنتَ تعرف أنّها أوشكت الدقائق الأخيرة من عمركَ، أكتب لها نصّا واحدا"أُحِبك" وتجاهل أنّنا نعلم ذل.!

نحن لن ندافع ولن نُبرّئ ولن نُزكّي على الله أحدا، صراعات كبيرة تنتاب قلبكَ المكلوم، فأحيانا تُحبّ الأفكار المجنونة، وأحيانا أخرى تستسلم لقدرك المحتوم. إنّها سجدة فنهاية فإرتقاء حال الدنيا عندكَ، وما زال البحث جاريا فيما إذا كان للمرايا ذاكرة.

من النوادر الطريفة أن عبد الملك بن مروان كان يحتفل يوما في مناسبة من المناسبات فسأل ، مُمالحًا ضيوفه ، عن أغزل بيت عند العرب ، وعن أهجى بيت ، وأفخره ، فكانت الأبيات المنتقاة كلها للشاعر جرير ، وعُدَّ بيته :

ألستم خير من ركب المطايا      وأندى العالمين بطون راح

    الأمدح والأجود .

    ولدى النظر في هذا البيت ضمن قصيدته رأيت أنه يأخذ بمفهوم النقد العربي القديم الذي يفصل البيت عن سياقه العام في القصيدة ، وأن سبب تفضيله كان لأنه أثنى على عبد الملك بصفتين هما الأفضل في المجتمع العربي : الشجاعة والكرم ،  بأسلوب تقريري باستخدامه  الاستفهام والنفي معا ، إضافة إلى التفضيل مع الشمول في التعبير بـ " مَن " وذلك كله في بيت واحد  .

   وبعد دراسة القصيدة ككل، ومعرفة الظروف السياسية والاجتماعية التي أحاطت بالشاعر تبين لي أن القصيدة لاصدق في مديحها ، وذلك للأسباب الآتية :

أولا _ بالنسبة إلى ظروف الشاعر والوضع العام للدولة آنذاك :

    كان الشاعر " جرير" زبيري الهوى، بمعنى أنه كان يعلن ولاءه للخليفـة الشرعي" عبد الله بن الزبير الذي حكم تسع سنوات ، واعترفت بخلافته الشعوب ، إلا الأمويين ومـن بسطوا سلطانهم عليهم عن طريق الحروب ، وكان جرير- بعـد استشهـاد الخليفة الشرعي وانتزاع السلطة من الزبيريين ، واستخلاف عبد الملك بن مروان قد  أعرض عن قاتل الخليفة الشرعي ، فعاش في ضنك العيش - كما أشار في القصيدة إبان حديثه عن زوجته أم حرزة ، وطلبه الإغاثة من عبد الملك - فاضطر تحت ضغط لقمة العيش أن يلجأ إلى الحجاج ليعينه على العيش ، فرأى هذا مقدمه غنيمة للسلطة الحاكمة ، لأن الشاعر يمثل آنذاك  الوجه الإعلامي للدولة ، وكان عبد الملك بن مروان يقرب إليه الشاعر الأخطل التغلبي النصراني ، وكان هذا يدخل عليه والصليب في رقبته ورائحة الخمر تفوح منه ،  كما أورد صاحب الأغاني ، وكان هذا يؤلم الخليفة المسلم ، ويتمنى لو أتيح له مثل جرير ليشيد به وبدولته ، فيتخلى به عن الأخطل الذي يؤذي مشاعره ، ويعرضه للنقد ،وشاء القدر أن يأتيه طلبه ، إذ اغتنم الحجاج مقدم "جرير " إليه ليقنعه باللجوء إلى عبد الملك …ولعله اقتنع ووجد أن الأفضل له وللدولة أن يتقرب من حاكمها ابن مروان .

   ويقال إنه لما دخل على عبد الملك أنشده قصيدته التي تحوي بيت القصيد

        " ألستم خير من ركب المطايا  … "

وقد استهلها بمطلع غزلي ، وكان أول كلمة فيها :

أتصحو ، بل فؤادك غير صاح     عشية همّ صحبك بالرواح

   فلما طرق مسمعي عبد الملك هذا الاستهلال أنكره بحسه العربي المرهف ، ورمى الشاعر بدواة كانت في يده ، ولكن جريراً تظاهر باللامبالاة وتابع قوله ، لأنه يعرف الأمر ونتائجه ، والظرف الذي هو فيه ، واستمر ينشد بنبرته الخطابية الموجهة إلى عبد الملك حتى وصل إلى قوله :

ألستم خير من ركب المطايا …

ثم عرَّض بمناوئيه  ، فسري عن عبد الملك وكافأه  .

ثانيا : وبناء على هذا ، وبعد دراسة المعاني والصور التي استخدمها جرير في قصيدته أرى أن عاطفة جرير كانت غير صادقة لأنه :

1 - أبدى التكلف في المديح منذ أن قال لعبد الملك " أتصحو " ثم كرر هذا المعنى بقوله " بل فؤادك غير صاح " ليؤكد معنى الغفلة ، فكأن عبد الملك غفل عن آخرته حينما طمع بالخلافة ، وقتل الخليفة الشرعي ، ثم   قرب منه الشاعر النصراني .

   صحيح أنه أتبع المطلع  بما يشير إلى الغزل بقوله :

أتصحو بل فؤادك غير صاح    عشية هم صحبك بالرواح

   ليشير إلى حزنه لفـراق صاحبته ، وتأثره لرحيل الظعينة  ، لكنها على أي حال الكلمة الأولى التي سمعها عبد الملك من جرير ، عدوه القادم إليه ، وقد جاءت موجهة إليه مباشرة ،  وهذا لايليق بمقام خليفة لأكبر دولة في العالم آنذاك ، فضلا عن أن المطلع الغزلي هو رمـز ينم عما يعتلج في صدر الشاعر ، فالخائف يبدي في غزله خوفه  ، وذو الهمّ يشير في مقدمته  إلى من سبَّـب له الهمَّ  و… ، واقرأ إن شئت مطالع الجاهلييـن في معلقاتهم أمثال النابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمى وامرئ القيس تجد مصداق ذلك .

2_ تحدث جرير في مقدمة قصيدته عن رحيل الظعائن وذكر أن صاحباته قد سلمت عقائدهن وسلوكياتهن من التعميد ، وذلك  في قوله :

يكلفنـي فؤادي من هـواه       ظعائن يجتزِعْن على رُماح

ظعائن لم يدِنَّ مع النصارى    ولا يدرين ما سمَك القَـراح

     والتحدث عن العقائد أمر غير مألوف في مقدمة القصيدة العربية ، وهو أيضاً غير مألوف من شاعر مسلم في دولة إسلامية لا تؤذي عادة  مشاعر النصارى  لولا أن صاحبها  أراد التعريض بشاعر الخليفة ، الأخطل ، فكأنه يعرض من طرف خفي بسلوك الخليفة الذي قربه إليه ، أو كأنه يقول له : إذا كانت النساء المسلمات يرفضن النصرانية وتعميدها فالأولى بك رجلا وخليفة للمسلمين أن تنكر هذا وتبطله ، وها قد آن الأوان بمجيئي إليك فأنا أعوض عن شاعرك .

3_ ثم قال له بعد ذلك :

فبعض الماء ماء رباب مُزن    وبعض الماء من سبخ ملاح

      وقد شرح محقق ديوانه ذلك فقال :" إن البدويات يفضلن الحضريات : كما يفضل الماء العذب الماء المالح " ولكني أرى رأياً آخر، إذ ما علاقة هذا التفضيل بسياق القصيدة ؟

     إن هذا البيت والذي سبقه يشكلان تشبيها ضمنيا يشير إلى تنديد الشاعر بالأخطل منافسه على القصر ، ولكن  من طرف خفي ، فكأن المسلمات "رمز الشاعر"كالماء الزلال ، وغيرهن " رمز الأخطل "  خلاف ذلك لأنهن يعمدن بماء تمجه النفس .

4 - ثم تابع  جرير :

سيكفيك العـــــواذل أرحبـيٌّ      هِجـــــان اللون كالفَـــــــــرَد اللَّـياح

يعز على الطريق بمنكبيه    كما ابترك الخليع على القداح

       وفي تصوير الفرس تلقانا صورتان :

أ -   مادية : تمكنه من الوصول إلى الخليفة ، فهو فرس عربي أصيل ومن خيرة الخيـول العربية ، أبيض اللون ، ضخم الجسم يحسبه الناظر إليه كجبل أبيض ، وهو يكاد يسد الطريق بمنكبيه العريضين ، وبه يستطيع الذهاب إلى الخليفة في طريـق طويـل فيتخلص من لوم اللائمين ،وفي مقدمتهم زوجته التي لم تعد تحتمل الفقر     ب - ومعنوية أو نفسية :  يصور فيها حاله كأنه في مقامرة يجلس أمام القداح منفعل النفس ، ولكنه خبير بأعدائه ، وقد تنجح مقامرته ،مقدمه إلى الخليفة ،  وقد يخفق فيها ، وإن كانت فرصة النجاح أكبر ، لأنه شاعر ملازم لهذا العمل خبير به ، وخبير بالكلمـة ولسوف يقدمها لعبد الملك ليجمل فيها موقفه الجديد منه .

5 - وينتقل جرير بعد ذلك إلى شرح حاله التي اضطرته إلى القدوم إلى الخليفة الجديد ، وتغيير خطه السياسي منه  ،فهو وتحت ضغط زوجه التي أجهدها ضنك العيش  ، وإزاء إحساسه بالفقر الشديد ومعاناة الأسرة ، لجأ إلى الخليفة عبد الملك بن مروان ، وهنا يلتقط الشاعر صورته من قصة الخليفة عمر بن الخطاب والمرأة التي كانت توهم أولادها الجياع بأنها تطبخ لهم بوضع الحجارة في الماء وإيقاد النار عليها  …  ويصور أولاده كذلك وقد انكبوا على قدر لاطعام فيه إلا الحجر ، في جو بارد تتصاعد فيه أنفاسهم فتبدو ظاهرة للعيان كبخار يتصاعد ، يقول في ذلك :

تعزّتْ أم حَرْزَةَ ثم قالت    رأيت الواردين ذوي امتياح

تعلِّل وهي ساغبـة بنيها     بأنفـاس من الشَّبِم القَـراح

سأمتاح البحور فجنِّـبيني    أذاة اللوم وانتظري امتياحي

   وكأنه يقول لزوجته : كفي عن اللوم لأنني سأرد البحور لأنال من عطاياها ، وإن كان هذا يؤلمني ، وانتظري ، وسأذهب في المستقبل القريب ، وهذا يوحي بأنه لايزال  في نفسه شيء ما جعله لا يسرع في الذهاب إليه ، ولا ننسى أنه كان منذ عهد قريب عدوا له ، وفي كلمة " البحور " إيحاء بأن الممدوح قد يكون الخليفة ، وقد يكون غيره ، فأي امرئ كفاه مؤنة العيش وهمَّ الحياة فهو البحر الذي يغرف منه . 

     6 -  ثم قال :

أغثني يا فداك أبي وأمي    بسَيْب منك إنك ذو ارتياح..

    ووسط البحر الوافر ذي الإيقاعات المناسبة للاضطرابات النفسية ، وروي الحاء الذي يوحي بالتعب حتى البحة ، يطلب الشاعر من الخليفة عطاء بفعل الأمر " أغثني " وفي هذا تعريض آخر ، ولا سيما أنه صرح بالحاجة ، وكأنه خاف ألا يعطيه الخليفة …ثم قال له : "إنك ذو ارتياح " ولعمري إنها كلمة لاتقال لكريم إذ يكفي هذا التلميح لا التصريح ,,,

7 - ثم قال له :

فإني قد رأيت علي حقا     زيارتي الخليفة وامتداحي

    فالقضية عنده قضية حق وواجب لا قضية إعجاب بفعال الخليفة ولا مودة بينهما تستدعي الثناء عليه …

 8 -   ثم قال :

سأشكر إن رددت علي ريشي    وأنبت القوادم في جناحي

    وفي رواية " وأثبت القوادم "  ، فالشكر إذا معلق بالشرط ، فلا شكر بلا مال يقدمه الخليفة ، فإن فعل وأغنى الشاعر استحق المديح ، والسين وهي " للاستقبال " توحي بأن المديح الحق  سيكون فيما بعد ولكن " إن " توحي بالشك فكأنـه يشكك بعطاء الخليفة ، ولهذا فلن يكثر مـن مديحه له الآن ، وفي هذا تجريح آخر له .

    9 - ثم قال بعد المقدمات السالفة :

ألستم خير من ركب المطايا    وأندى العالمين بطون راح

    وهو البيت الذي طرب له عبد الملك وكافأه من أجله بعدما قال : "من كان يمدحني فليمدحني بمثل ما مدح به جرير " ولكني أرى أن الخليفة العربي الفصيح لم يغرب عن باله ماقاله جرير فيما سبق ، وكأنه يقول له ها أنا جاهز لاستقبالك شاعرا لي ، ولا سيما أن القصيدة حوت بعد ذلك تنديدا بالمنشقين على عبد الملك ، وإشادة بنسب عبد الملك القرشي الذي أهّـله للخلافة ، لقد تناسى الخليفة ما سبق إزاء التعريض بمناوئيه وإثبات حقه في الخلافة ، وهذا ما كان يريده ويسعى إليه ، وهذا ما كان الأخطل يفعله ، وها هو الآن يرى أمامه من هو يفوقه شاعرية فليغتنم الفرصة وليجعله شاعره الخاص، ولهذا رضي من جرير الاعتراف ولو المبدئي به ،ولسوف ينسل من نفسه الضغينة بما سيقدمه له، ولا سيما أن منافسه ابن الزبير قد واراه الثرى .

      هذه ملاحظات رأيتها وأنا أقرأ هذه القصيدة ، وهي التي دعتني إلى القول بأن جريرا لم يكن يحس بصدق المشاعر وهو يمدح عبد الملك ، وإن كان قد قيل إنه صاحب أشهر بيت في المديح.

     وما الأدب إلا ترجمان صادق لأحاسيس قائله .

مخطط بحث فاعلية الزمان والمكان

في ديوان قالت المرآة للشاعرة لمياء بسيم الرفاعي

المقدمة : أهمية توظيف الزمان والمكان في الشعر، والعلاقة بينهما .

تمهيد : موجز عن حياة الشاعرة لمياء بسيم الرفاعي، وديوانها .

أولاً : فاعلية الزمان في ديوان قالت المرآة :

1-    تعريف الزمان

          2-أنواع الزمان  :أ- الزمان التاريخي أو الطبيعي

            ب-الزمان النفسي  

          3--سمات الزمان في الديوان :أ-تحولات الزمان وتقلباته

                      ب-الديمومة والأزلية

                      ج-قدسية الزمان

                      د-الزمان مجال للذكرى والموعظة

                      هـ-الزمن الرمز

          3-الزمن فنياً في الديوان: أ- الزمن ولغة الديوان

                     ب-الزمن والتصوير الفني

                     ج-الزمن في موسيقا الديوان

ثانياً : فاعلية المكان في الديوان :

1-سمات المكان في الديوان :أ- شمولية المكان 

                       ب-قدسية المكان وحبه

                             ج-تحولات المكان

                        د-المكان موطن ذكرى وعبرة

                        هـ- جمالية المكان

                         و-المكان الرمز وإيحاءاته

2-المكان فنياً في الديوان: أ-  المكان في لغة الديوان

                               ب – المكان والتصوير الفني  في الديوان

-الخاتمة

-المصادر والمراجع

 فاعلية الزمان والمكان في ديوان قالت المرآة

للشاعرة لمياء بسيم الرفاعي

المقدمة : أهمية توظيف الزمان والمكان في الشعر، والعلاقة بينهما .

    الزمان والمكان ثنائية تقوم عليهما بنية الكثير من الأعمال الأدبية لأنهما ذوا أهمية في حياة كل امرئ على وجه المعمورة، ولكن هذه الأهمية قد تبدو بصماتها في بعض الدواوين بشكل لافت للنظر لما لهما من أثر في حياة أصحابها ، ولذلك يعد الكشف عنها تبيان لبعض سلوكياتهم وأحاسيسهم، وقد يلقي هذا الكشف الضوء على خلفيات النص الأدبي فيكون عاملا مساعدا في تفسير كثير من نصوصه([1])، وذلك لأن المتلقي للنص ليس مرسَلا إليه فحسب، بل له دور فاعل في عملية القراءة، والعبور إلى النص والاندماج فيه لإخراج صدفاته المخبأة .

    وهذه العلاقة بين الزمان والمكان، أو ما يسمى في المصطلح المعاصر بالزملكان([2]) ، وفاعلية كل منهما بدت في ديوان الشاعرة لمياء بسيم الرفاعي بوضوح ، إذ يحس القارئ أنهما توأمان متلازمان لا يكاد ينفصل أحدهما عن الآخر في جميع موضوعاتها، بل يبدو أثر ذلك بدءاً من عنوان ديوانها " قالت المرآة" ، وما المرآة إلا رمز للعمر الذي ولى مبكرا، ولذلك نراها تقول في مقدمة ديوانها : " ... ثم تصحو فإذا الخريف قد جاء مبكرا ، وإذا المرآة تخاطبها ، والسنون تسائلها ... ويمضي العمر .. ويدور الزمان .. والأم هي هي : العطاء والحنان والفداء لا يثنيها عن ذلك مرور الأعوام ووطأة الخريف([3]) " .

    أما المكان فيبرز في ديوانها في مواطن شتى كما في مناجاتها للبيت الحرام، وحديثها عن فلسطين والأقصى، وعما حل للمسلمين في الجزائر، وفي الصومال والسودان، وفي البوسنة والهرسك والشيشان، كما يتغلغل معه الزمان أيضا، ففي قولها في مناجاة لخالقها تعالى :

أناجيك يامَـــن محوْتَ الليالي    وكان الوجــــودُ سناً مـن سناكا

وكانتْ بحورٌ وكانتْ صحارى     وكانت شموسٌ نأتْ في سماكا

وكان الوجودُ زمـــاناً تنـــاهى    متى شئتَ كل الــــوجود أتاكا([4])

  نرى الزمان والليالي والبحار والصحارى وكل الوجود أزمنة وأمكنة تغلغلت في حديث الشاعرة وبدت في هذه المناجاة ، كما بدت في قولها عن الجزائر :

قفْ يا زمنْ واسمعْ معي صوت الملاحم في الجزائرْ

شيخٌ يئــــن وفتيـــــةٌ بربيع عمــــــر الزهــر ناضر

يا لَلطفـــــولة والأمومــــة إن بغـــى في الحي فاجرْ

وتردَّدت في الكون أصوات الـــــرجا،  والليلُ عاكرْ([5])

    جاء ذكر الجزائر والكون ( المكان ) وداخله ذكر الزمن والعمر والليل .

    ولن أطيل في هذه العلاقة وفي فاعلية الزمان والمكان لأن ذلك سيظهر خلال البحث .

التمهيد : موجز عن حياة الشاعرة لمياء بسيم الرفاعي وديوانها :

    ولدت لمياء عمر بسيم الرفاعي([6]) في سنة 1936م في مدينة حلب الشهباء الواقعة في الشمال السوري، ونشأت ذات روح إيمانية عالية، وتزوجت من المهندس محمد فاتح تقي الدين الرفاعي وأنجبت منه أولادها محمد بشاراً وهو الأكبر وباسلاً وبساماً وابنة ، والأخيران عرفتهما من ذكرهما في قصيدتين لها تتحدثان عنهما([7]) .

    وكان ابنها محمد بشار مهندسا، وقد جعل رسالته للماجستير في المقارنة بين هندسة جامعَيْ الخسرفية في حلب وفي سراييفو، وأهدى كتابه فيهما إلى روح والديه وإلى زوجته، وإلى روح الغازي خسرو بك والسلطان العثماني سليمان القانوني، وإلى كل من يتحدث عن التراث الحضاري الإنساني للسلطنة العثمانية([8]) .

    أما ابنها محمد باسل فقد سطر في مقدمة ديوانها " قالت المرآة"  شغف أمه بالشعر، وذكر أنها كانت لا تفارق صندوقا لها وضعته قرب سريرها، وأودعت فيه قصائدها لتسطر فيه ما يخطر على مخيلتها، وذكر أنها قد اغتربت عن حلب، وقطنت مدينة أبو ظبي في دولة الإمارات العربية المتحدة منذ مطلع الثمانينات في القرن الماضي، وكانت هذه النقلة قد قدحت في نفسها شرارة العطاء الأدبي ، وكان ابنها الذي دخل عالم الصحافة ينشر لها قصائدها مما زاد في فاعليتها في الوسط الجديد، وقد عرفت قصائدها حتى غنى لها الفنان أنوار المختاري بعضها كقصيدة بلادي ، وكان أشد ما يؤلمها غربتها عن ابنها هذا الذي رجل إلى مغرب الأرض وبقيت هي في مشرقها، وقد هزته أبياتها عنه فراح يجمع قصائدها ويقول عنها : " لقد عاشت همَّ الناس عمرها، وظلت تتنفس العنا والمنى ، وكانت كلماتها تأسو مُرَّ الكلوم، وتحكي أبياتها ما لم تبُح به شفاه راعشات وأفئدة معنّاة، وأشواق متوجسة .. ومن قلب السهاد كانت كلماتها الخاشعة لاتزال ترسم وميض عيون داميات .. وترنو إلى سعادة الآخرة بشوق ولهفة ووله " .

    ومن خلال قصيدتها " عائد([9]) " التي تتحدث فيها عن والديها تبين أنهما كانا من القدس الشريف، وقد خلفتهما فيها مهاجرة إلى حلب الشهباء في سوريا، ثم هاجرت في مطلع الثمانينات إلى أبو ظبي في دولة الإمارات لتلفظ فيها أنفاسها الأخيرة في 30/12/2009م .

    وديوانها الذي خلفته صدر عن دار القلم بدمشق في 1428هـ 2007م ، ويقع في أربع وعشرين ومئتي صفحة، ويضم سبعا وخمسين قصيدة من الشعر العروضي، موزعة على خمسة فصول لموضوعات ذاتية وإنسانية وسياسية، وقد سمته الشاعرة باسم قصيدتها " قالت المرآة " التي كانت أحب قصائدها إليها لأنها تحكي حياتها، وقد قالت عنها: " إنها تعبر عن ذاتي ونفسي وحياتي، و... تحكي مشاعر كل أم تسير بها الأيام في دروبها، وتأخذها الحياة بين حلوها ومرها، وبين آمالها ويأسها.. بين أفراحها وأتراحها، ثم تصحو فإذا الخريف قد جاء مبكرا، والعمر ولى كحلم سريع، وإذا المرآة تخاطبها .. فتقف مبهوتة بين ذلك الماضي البعيد، ولو أنه ليس بعيدا، وبين الحاضر المرهق المستكين([10]) " .

    وللشاعرة أيضا قصائد نشرت في مجلة منار الإسلام الإماراتية التي تصدر عن وزارة العدل والشؤون الإسلامية بأبو ظبي، وفي دوريات خليجية أخرى، وفي موقع رابطة أدباء الشام التي نشرت لها قصائد في رثاء زوجها الذي توفي في 2006م ، ومنها قولها فيه :

شقيق الروح .. ما قد كنت أدري    بأنك قاتلــــــي بيد الشجون

وأني اليوم قد كسرت شعاعي     وأني اليـوم قد غرقت سفيني

خيالك في شغاف القلب يحيا     وروحك كالنسائـــم تحتوينـــي

فدم في روضة الرحمن خلدا    عسى أن ألقاك في روض وعين([11])

      والآن إلى دراسة فاعلية الزمان والمكان في ديوانها  :

أولاً : فاعلية الزمان في ديوان قالت المرآة

1-تعريف الزمان :

    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله عز وجل " يسب ابن آدم الدهر، وأنا الدهر بيدي الليل والنهار([12]) "، أي الأمور التي تجري عبر الدهور هي كلها بيد الله، فهو إذا الفاعل الحقيقي لها .

    إن للزمان معاني شتى، فهو في المعاجم اسم لقليل الوقت وكثيره([13])، وقد يطلق على العصر.   

     وفي لغتنا العربية ألفاظ مباشرة للزمان مثل الدهر والعصر، واليوم والساعة والصباح والمساء والليل والأمس و ... وهناك أدوات ظرفية زمانية مثل إذ وأدوات الشرط والاستفهام الظرفيتين الدالتين على الزمان وغيرها ، وقد يطلق الزمان على التاريخ لأن حوادثه أرخت فيه .  

     ويتأثر الزمان بالبيئة والعصر والمعتقدات، كما قد يطلق على الزمن النفسي وفيه يتذبذب الزمان وتتقطع أوصاله تبعا للحالة النفسية والشعورية، وطريقة التعبير وأساليبه([14]) .

    وقد يكون الزمن فنيا من خلال لغة النص وصوره وموسيقاه كما سيتبين من خلال الدراسة :

2-أنواع الزمان :

   بناء على ما سبق فإن الزمان يكون تاريخياً ونفسياً وفنياً :

أ-الزمان التاريخي :

    سلوكيات الإنسان وممارساته في حياته تكون في زمن ما، وهذا الزمن بحركته الدائبة يؤثر في نشاطه فيكون المحرك الخفي لتقلباته الجسمية والنفسية .

    ويدرس الزمن تاريخيا من خلال تتابع الحوادث في أوقات كانت فيها، فيكشف بذلك عن حياة الأمم وعقائدها وعلاقاتها مع بعضها بعضا، وقد تحدث النقاد العرب عن أثر الظروف التاريخية في القصيدة الشعرية، وربطوا بين شخصية الشاعر وإنتاجه، والبيئة وحوادثها لأن الأدب  لايمكنه أن يدرس بعيدا عن روح الأمة، ومن طبيعة الشاعر أن يتأثر بأحكام البيئة والمحيط الذي يعايشه، والعملية النقدية تهدف إلى الوصول إلى الحياة التي يحياها الشاعر من خلال شعره بحيث نشعر وكأننا نحيا معه ونتحرك، والمنهجية التاريخية تقوم على تتبع دقيق لحياة الشاعر وعصره وأثر ذلك في مؤلفاته وأعماله([15]) .

      وقد ظهرت المدرسة التاريخانية مؤخراً في الولايات المتحدة الأمريكية ودعت إلى قراءة النص الأدبي في إطاره الثقافي والفكري، لأن الأفكار قد تتغير حسب المتغيرات الثقافية والتاريخية([16]) .

     والشاعر في ذكره للتاريخ، أو استدعائه لحوادثه قد يطيل في الشرح أويوجز فيحرك بذلك العواطف ويقدم العبر من خلال عرضه لحياة الأجداد، فترسخ الهوية ويُمَجَّد التراث، ويحس المتلقي بذلك فيتلذذ لأنه يرى صورة الماضي والحاضر، ويحس بأهمية الإنسان في الحياة، فيسعى إلى استنهاض الهمم، وتلافي الأخطاء ولهذا نرى الشاعرة لمياء الرفاعي تكثر من العودة إلى التاريخ ماضيه وحاضره لتتحرك في فضاءاته وتقبس من أمجاده، وتجعل من قصائدها جسورا بين التراث والمعاصرة، مما يشي بتغلغل التاريخ في وجدانها خاصة  كتغلغله في وجدان الأمة عامة .

هاهي تقول في إحساس بمضي الزمن على الأمم :

أمس يمضي ويطل غد     أشهرٌ تطوي ذكراه شهور

أمم تأتي ، أمم تمضي     والفَلك يدور، يدور، يدور([17])

    والشاعرة خلال تغلغلها مع التاريخ وقضايا الأمة ترى في الزمن فاعلا مؤثرا، فمولد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعثته، وجهاد المسلمين وفتوحاتهم كانت ذات أثر في تاريخ الحضارة العربية والإسلامية، بل إن زمنها يمتد إلى التاريخ المستقبلي إذ ترى في جهاد أبنائها رغبة يحققون بها جنة الخلد في دار النعيم، ولهذا راحت تقول :

مولـــد للنور في ميلاد طفل     يغمـــر البيداء نورا فانظريها

مرت الأعوام تحنـــو تارة      يُثقل القلبَ اغتــراب في سنيها

والفتى في شاغل عن دمعة الـ   أيام يسمو في صروح يرتقيها

ساجدا في الغار يدعوه إلهاً     واحدا، والفكر أسـرار يعيـــها

يابن عبد الله اقرأ واستحال الـ   كون تسبيحا وتكبيــرا وتيهــا

كان مسراهم جهادا طاب فيه الـ   موت عشقا في جنان يشتهيها

فاستعيدي أمة الإسلام صرحا    كان في دنياك عزا واملكيها([18])

    فالزمن التاريخي كان محركا للهمم خلال البعثة النبوية والفتوحات، ولذلك نرى الشاعرة  تقول في نهاية القصيدة بعد الحديث عن مولد النور الذي حرك العرب، والحديث عن الجهاد:

" فاستعيدي أمة الإسلام صرحا "

    ودراسة التاريخ حسب المنهج التاريخي ينص على أنه لا يمكن دراسة النصوص الأدبية بعيدا عن روح الأمة، والظروف التاريخية التي دعت إلى النص([19])، فرؤيا الشاعرة لما حل بالمسلمين في كوسوفو وفي الصومال، وفي الجزائر وغيرها من البقاع العربية والإسلامية المنكوبة في العصر الحديث دعتها إلى أن تتخذ من التاريخ الإسلامي مثيرا للمشاعر، وبذلك عبرت عن مواقفها وعن وعيها واهتماماتها ومدى تأثرها .

    والشاعرة وهي تترنم بأمجاد الماضي تتأثر بالشاعر الأخطل الصغير بشارة الخوري في قصيدته الشهيرة التي مطلعها :

سائل العلياء عنا والزمانا     هل خفرنا ذمة مذ عرفانا([20])

    فتقول مثله لقد كنا عبر الزمن أمة العطاء والمجد والفخار، ثم تتفاءل بمستقبلنا  وتربط بين ماضينا وحاضرنا، فلئن فعل الزمن الحاضر فعله، وعم الظلام والظلم فيه، فإن الفجر يجعلنا نتفاءل ، وسيكون الزمن القادم والتاريخ المستقبلي بنّاء كما كان تاريخنا المجيد :

سائل التاريخ عنا والجدودا     هل خلقنا في الورى إلا أسودا

نكتب التاريخ مجدا وفخارا     للعـــــلا كنا وللأمجاد عيـــدا

كلما سار ت بنا الأيام قمنا    للغـــــد المأمول نعطيه المزيدا

إن تكن أسرفت فينا الليالي    هامنا،رغم الدجى،تأبى السجودا

من خيوط الفجر من قلب الأماني     سوف نبني للعلا صرحا جديدا([21])

    ولكن الشاعرة تبدو أحيانا وقد خيم التاريخ المعاصر ومآسي الزمن الحاضر بكل مآسيه على قلبها، فإذا هي تنطق معبرة عن أحقاد الأعداء، وتربط بين الأندلس الضائعة وبغداد المنكوبة في  القرن الحادي والعشرين فتقول :

هذي أضاليل العِدا اجتمعت    تستنصـــر الآثـــام بالكذب

في صدرها حقد الدهور وما     ماجت به الأحقاد من لهب

جاءت به من عصر أندلس     تسعى له في كيد مرتقب([22])

   وكعادة الشاعرة نراها تستدعي الزمن الماضي عصر العزة والحضارة ليكون إلى جوار الواقع الأليم، وهاهي تقول عن هارون الرشيد الذي كانت بغداد عاصمة دولته الكبرى:

كانت له في الدهر منزلة     تسمو إلى الأفلاك والشهب

أين الرشيد أقــــام دولتها     في عــــزة الإسلام  والدأب

بغداد هل أزرى الزمان بها     تفنى مع التسهيد والنَّصب

هل أخلف التاريخ موعدها    هل غُيِّبَتْ في أسطر الكتب

هل صيحة من عهد (معتصم)     تحيي بذور العز والدأَب

هل تهدر الأيام عزتها     والكون في زَهْــــو وفي طـرب

هل يكتب التاريخ رقدتها     ياخجلــــة التاريخ والنسب([23])

       إنها تتساءل ويغلب ذكر الزمن في تساؤلها، فبغداد كانت لها في الدهر عزة والمعتصم كذلك فهل أخلف التاريخ موعده وسجلت الأيام والتاريخ رقدة الأمة ؟ وهكذا ينتقل الزمن معها من التاريخ الواقعي إلى المشاعر والأحاسيس النفسية .

ب- الاتجاه النفسي للزمن

    وهذا الاتجاه يوضح المؤثرات النفسية على الإبداع الشعري، مما يدعو الناقد إلى معرفة الظروف المحيطة بالنص ليتم الربط بين التجربة الشعورية التي كان عليها الشاعر والصياغة الشعرية، وهذا الزمن النفسي لايستقر على حال، فهو يتنقل وتتقطع أوصاله حسب الحالة النفسية التي يكون عليها الشاعر، وحسب طريقة تعبيره وأساليبه، إنه لا يتقيد بدوران الساعة بل يتذبذب بين الحاضر والماضي والمستقبل بلا نظام ليرسم لنا المشاعره والوعيه بما يحيط به، فهو تارة يتقارب في لحظات السعادة والهناءة وتتداعى  فيه الأفكار على مخيلته، وتارة يتباعد ويتنكر الشاعر له، وبذلك تكون  حركة هذا الزمن وإيقاعه مرهونة بإيقاع مشاعره وأحاسيسه([24]) .

     والشاعر المعاصر يتعرض لضغوط نفسية كثيرة ولا سيما حين يرى الأمة تتردى، والجرائم والمكائد تترى عليه، ولذلك نراه دائما بين فرح وترح، فهو تارة يستبطئ الزمن، وتارة يتخطاه حسب حالته النفسية وتجربته الشعورية، والمتلقي لنصه الشعري يحس ذلك من خلال تصويره للزمان والمكان الذي يتعرض له، ومن خلال تصويره لمشاعره وانتمائه وأهوائه([25]) .

    والشاعرة لمياء الرفاعي كانت تعيش مأساة الأمة فيضيق صدرها لذلك، ولكنها حينما ترى في حياتها الخاصة وليدها الحبيب إلى قلبها تحس أنه ملأ عليها حياتها، بل إنه كل حياتها وسعادتها وربيع عمرهان ولهذا تروح تقول :

كانت الأيام في عمري دروبا     سرتُ فيها ، صارت الأيــــــام أحلى

كنتَ أنتَ اللحن والأزهار والدنـ   ــيا ، ياربيعا .. من حياتي كنتَ أغلى

كنتَ نفسي، كنت مني، كنت فرحي     كنتَ دنياي، وعمرا ليس يبلى([26])

    وهكذا كان الزمن هو الفاعل في نفس الشاعرة يملي عليها أحاسيسها، فتصير تحس أن ابنها هو الربيع الجديد، وذلك بعد أن قضت عمرها في دروب حياة قاسية لا تحس خلالها بهذه الحلاوة والطلاوة وسط آلام الأمة .

   وكذلك كان حالها حينما تزور المسجد الحرام، إنه يجعلها تحس أن الزمان توقف لتعيش معه لحظات السعادة ، فتقول :

إلى الحرمين للنور المذاب     بلهفــــة كل مشتاق يلبـِّـــي

هناك تعلقت روحي وأغفى  -  الزمان وعانق الأحلام قلبي([27])

   لكنها في لحظات الألم على واقع الأمة المأساوي تستعيد الزمان الماضي، وتسافر إليه بأفكارها من خلال التداعي فإذا العمر تخطى الأيام والموت أقبل بسرعة للفناء حتى للصغار، تقول :

فالزهور اليوم قد عافت شذاها      واختفى في لوعة شدو الحمام

مالروحي سافــرت عبر الليالي    تستعيد العمر في ذاك الزحام

فأرى الأيام تمضي والليالي     في دروب الموت من قبل الفطام

والخطى في موكب الأيام تسعى     لفنـــاء بسكون ... لانعدام([28])

    وهكذا كان للزمن التاريخي والنفسي أثرهما في قصائدها .

3-سمات الزمان في الديوان :

    وللزمان فاعليته البارزة في ديوانها، فهو يتقلب ويتحول تارة، وتارة يدوم ويدوم، وتحس بقدسيته أحيانا ولا سيما في أوقات العبادة، وقد يكون مجالا للسعادة والشقاء أو رمزا لما تريد، وهذا ما سأوضحه :

أ-تحولات الزمان :

    الزمن في تحول وتغير دائمين، وقد يكون هذا أمرا بدهيا حينما نرى الليالي والفصول تتغير بين ليل ونهار، وفصل وآخر، وقد يكون التحول طارئاً بحيث يبدو إيجابيا تارة وسلبيا أخرى، ففي قصيدة لها تتحدث عن تغيرات الكون الزمانية تقول في نزعة تفاؤلية :

تمهَّــــل فمن كالحات الظــلام      تذوب الليالي بفجــــر جديد

وللكــون رغم اعتلال الشتاء     خشوع الأمـــاسي لربٍّ ودود

وليــــل وبـــدر وثمَّ الضياء     تــوالت لتـُــبْـنى حيـاة الوجود

وفي الأفـــق بين الغمام البعيد   أطلت أســارير بــــدر جديد

   تلوِّح لي أن سر الحياة     غروب ويأس ... وعطف وجود ([29])

    فالشاعرة ترى الفجر ينبثق من الظلام ، والبدر يطل بين الغمام، وفي أمسيات الشتاء الطويلة يقوم العابدون لربهم يدعونه خاشعين، والليل يعقبه النهار فتولد بذلك حياة جديدة، وهكذا يتحول الزمان ويتغير فيحس المرء به باليأس تارة وبالخير أخرى .

    وحياة المرء تتحول بين الطفولة حيث المرح والبهجة، والشباب زمن النضارة والقوة، والشيخوخة وما فيها من ليل مجهد، وعذاب مضنٍ، وهكذا تمضي أسطورة العمر عقب الأحقاب إلى أن يحين الأجل الموعود، تقول الشاعرة في عجب وقد نظرت إلى مرآتها فأنكرت ما رأته من تبدلات وجهها :

من أين أنتِ ؟ من الذرى والضباب     من أي ليل مجهد وسراب

إني لأذكر في خيـــالك طفلــــة     كانت مع الأيــام خير صحابي

وذكرت فيك صبيـّــة قد أشرقت      ألَـقا وزانت جبهتي بخضاب

واليوم ألمح في عيونك طيفــها      يعتاد قلبي بعــــد طول غياب

من أذبل الورد النَّدِيَّ بخدِّكِ الها     ني وأدمى حبة العُنّاب ؟ ([30])

     ثم تذكر أسباب هذا التحول وهو يكمن في أمومتها ومعاناتها في تربية أحبتها مما جعلها تضحي بجمالها ككل الأمهات عبر الأزمنة،  لأنهن يعلمن أن الحياة مهما طالت فإلى رقدة وتراب كما تقول :

أمٌّ أنا ، والحب بين جوانحي       أسطورة تنمو على الأحقاب

فإذا الخريف سرى فلا تتعجبي      كل الدروب لرقدة وتراب([31])

         لكن الشاعرة تحس إبان مناجاتها لبارئها أنها تحولت إلى طفلة تحتاج إلى رعايته، ولذلك نراها تخاطب مولاها بقولها :

أناجيك ربي كأني أراكا     وأني كطفل رَعَتْه يداكا

وأبقى ببابك ألقى حنانا    وألقى أمانا بنَيْلِي رضاكا([32])

    وأبطال الحجارة تحولوا بإيمانهم وهم الصغار إلى رجال أشداء كأنهم من عصر صلاح الدين في وجه العدو الصهيوني ، إذ كانوا كالسيوف والخناجر في وجهه ، تقول فيهم :

أنجمٌ من نسل حطين توالت      في ظهور المجد تحبو أو تصوَّرْ

في دم الأحرار تنمو مثلما      قد أُشرِبَتْ في المهد أسيافا وخنجر

فتيةٌ قد أقسموا للقدس عهدا     لخَطـــاوي ليلة الإسراء يثأر ([33])

ب-الديمومة والأزلية :

    الزمان أزلي لاينتهي ، يذهب بعض ويأتي بعض :

فلكٌ ، ويدور ، يدور ، يدور      دهر ولى ، وتجيء دهور([34])

     والشمس بين شروق وغروب في حركة دائمة سرمدية حسبما قدر لها خالقها :

في دروب الصمت غابت في المدى      تسكب الأنفاس فيها عسجدا

آيةٌ ،  والفلك يسري دائمـــــا     في قضاء الله ، مــــاض سرمدا([35])

     والليل والنهار دائبان لا يستقران :

يومٌ على كر الزمان وليله      يتواليان الدهرَ في مسراه([36])

   حتى المعنويات تتحول إلى دائمة حين يكون المنعم والهادي إلى سواء السبيل هو الله سبحانه :

فما غاب عني عطاؤك يوما     وما غاب عن مستجير عطاكا

وإما  هفوتُ فعفـــــوك دوما      لَيمحو الخطايا ودوماً هداكا

...    ...

وأصحو إلهي لأدرك أني     بفضـــلك دوما عرفت طريقي

وأنك أنت العزيز الرحيم     وأنت المــــلاذ لكل غريق([37])

    ومن يعمل صالحا يحبه الناس ويشهدون له بالفضل بعد وفاته، ويخلدون اسمه على مر الزمان وتعاقب الأيام، تقول لمياء في الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي فسر القرآن الكريم في الفضائيات ليعم خيره :

يا أيها الراحــــل عنـــا إنمـــــا     لك في القلوب منازل وعلى الدوام

شهدت لك الأرواح ما هذّبتها     شهدت لك السبَحات في جوف الظلام

شهدت لك الأيام ما حمَّلتهــــا    في الصبر أسرار اليقين وفي السلام

رمزاً ستبقـــى للفضيلة والتقى     ما لاح فجر أو سرى فيه الظلام([38])

ج-قدسية الزمان :

    كل شيء في الكون يسبح بحمد ربه، حتى الأماسي كما قالت الشاعرة :

وللكون رغم اعتلال الشتاء     خشوع الأماسي لرب ودود([39])

    ولبعض الأزمنة قدسيتها، فأواخر الليالي، ورمضان وأيام الحج أوقات لها أهميتها الروحية في حياة المسلم، إذ تشرق أنوارها على الكون فتحيي النفوس، فضلا عن ذكرياتها العطرة، فرمضان مثلا كان مبدأ الإسلام فيه، وهو شهر الفتوحات والجهاد ولذلك تقول الشاعرة  فيه :

رمضان أشرق نـــوره وتبسما     خفق الفــؤاد بنـوره وترنما

سعدت به الأكوان لما جاءها      فيه الهدى والوحي فيه تكلما

يعلو برايات الجهاد ويرتقي      ويرد جيش الكافرين مكلما([40])

    وأيام الحج ينور فيها البيت الحرام، ولها قدسيتها في القلوب، وهاهي الشاعرة تناجي حمائم المسجد الحرام وقد اشتاقت إلى أداء عبادته، وتطلب منه أن يبلغه سلامها وأشواقها، وهي تتذكر سعادتها يوم كانت تلبي مع الملبين :

حمامَ البيت بلِّـغه سلامـــي     وغـــنِّ الوَجْــد في أحلـــى كلام

له في كل إشـــــراق حنين      وذكـــــرى قد تعاوِد كل عــــام

ونجوى الصبح تسبيح وذكر     وطهر الصبح في سجع الحمام

إذا نـــادى بـ ( لبيك ) حجيج     وأذَّن بالفــــلاح غــد الأنــــام

هناك فكن لروحي الوجد فيها     وكن فيهـــا فـؤاد المستهام([41])

د- الزمان مجال للذكرى والعبادة :

    وقدسية الزمان تنقلنا إلى أجواء العبادة وذكر الله عز وجل، وأخذ العبر من تقلبات الحياة الدنيا، فالشاعرة تسعى وهي في الحج أن تعبد الله لتؤول إلى مرضاته فجنته ولذلك فهي تفتدي تلك الأيام بروحها ، تقول :

ألا بالروح هاتيك الليالي      وما تخفي بها الذكرى وتنبي

وحسبي من حياة سوف تفنى      بأن ألقاه مقبولا وحسبي([42])

    وقد تكون العبادة في تأملات الطبيعة، فالطيور تسعى منذ الصباح الباكر، والنخيل يرفع أكفه إلى السماء ويسبح خالقه منذ الفجر، وفي صمته سر الحياة، تقول في وصفها لآلاء الله في صور هذا الكون وهي تذكر فاعلية الزمان فيه :

هتفت أغاريد الصباح نديةً      وصحت عيون الفجر ترنو في خفَر

وسعت بواكير الطيور لتلتقي      صفــــو الحياة منعَّما بين الشجر

وتألقت مقل النخيل وشعشعت     ذهبــــا تناثر في ذراها وانحدر

رفعت أكُفّاً للسماء وسبّحت      تحكي بها الحسن في أحلى صور

أنفاسه في الفجر سبْحٌ خافت     وصدى نجاء قد تهادى في السحر

في صمته سر الحياة وسحرها    وجلال خلق الله في تلك الصور([43])

     وفي الزمن عبر كثيرات، فالفصول الأربعة تتوالى ، وتتغير كما يتغير الليل والنهار، والعمر كذلك تنقضي دورته حتى يؤول إلى خريفه، وهذه الدورة الحياتية هي قدر محتوم، وكأس يحتسيها البشر قاطبة ، تقول في ذلك :

نذير الخريف يحث الخطا     على موعد في سطور القدر

كأن الوجود شباب تقضى     بأحزانهـــا قد رمتـــه الغِيَــر

كأن المقادير والركب ماض     كؤوس تدور بعمر البشر

وتعدو خُطانا إلى منتهاهــا     وتعدو الليالي إلى مستقـــر

ويبقى ربيـــع الحياة سرابا    وطَـيـْـفا بعيــدا بأيـدي القدر

فشرع المقادير نور ونار    ويبقى رماد وتبقى العـِـبـَـر([44])

        وهذا ما يجعل الدنيا في نظرها حياة معاناة وآلام لأنها لا ترى منها إلا البكاء والدموع، وذلك بعدما اغتربت وكاد اليأس يسيطر عليها، تقول :

ماذا تبقّى من صباي ومن ربيع العنفوان !

إلا خيال من شمـــوع باكيــــات قد بكاني

ما عاد يغريني نداء الحُلْم إن يوما دعاني

فأنا غريب دون أيامي خريفا قد شجاني([45])

    بل إن الحياة مليئة بالغدر بعدما كانت مليئة بالحب ، ولهذا لم يطب فيها العيش بعد اليوم :

جعلت الحب في الدنيا ربيعا     وناجيت الخمائل والغصونا

فكان الغدر آهات رمتني     بها الدنيـــا وجرَّحت اللحونا

فلا طابت فتسمو في رؤاها      ولا طاب الزمان فتستكينا([46])

    بل إن الحياة غدت نواحا بين القبور، وما الماضي بأحسن من حاضرها .. لقد نسيت الضحك أمام مآسي الزمن الكبرى ولذلك نراها تقول :

قد نضحك يوما أو نبكي     قد نقطف شوكا دون زهور

نتلفَّــت فالماضي وجل     والحاضر نوح بين قبور([47])

    فذكرى الماضي ورؤى الحاضر كلها آلام ومعاناة على المستوى الذاتي، وعلى مستوى الأمة كلها، فأهالي الشيشان يعانون، وهذه لاجئة من تلك الأراضي تسجل في مذكراتها مايجعل الشاعرة تقول عن حياتها :

عيون الليل أرقها بكاها     وسهم في المدامع قد رماها

وآهات مبعثرة ترامت     بجنح الليل جمَّعها صــداها([48])

    فالليل غدا إنسانا يحس بالمأساة فيأرق ويصدر آهاته هنا وهناك .

هـ - الزمن الرمز :

    لقد امتلك الزمن أحاسيس الشاعرة وتغلغل في مخيلتها حتى باتت أفنانه تتشعب في قصائدها فتعبر من خلاله عن تجاربها الشعورية بطريق الرمز والإيحاء غير المباشر أحيانا ، وكانت رموزها فيه شافة غير غامضة ، وهذا مايكثر أمثاله بين الشعراء، فالحياة كانت ربيعا وأزهارا وأفياء وذهبا حلوا فغدت شتاء قارسا مضنيا ، تقول من خلال هذه الرموز معبرة عن الشقاء بعد السعادة :

كانت الدنيا ربيعا من نضار      ينثر الأزهار في قلب الأنام

والدنا نور وأفياء تغنت     والمنى أغفت بأحضان السلام

فازهور اليوم قد عافت شذاها      واختفى في لوعة شدو الحمام

واستحالت روضة الدنيا شتاء     قارسا يعتاده طول السقام([49])

    وهذه رموز عبرت بها الشاعرة  من خلال " الفجر، ونقاء النبع"  عما كانت عليه قبل الانجراف في تيار الفساد ، و"الزيف والاختيال في ثوب الليالي، وشراع الوهم وطي الموج،  والغرق والخريف وزوايا الهجر" عما آلت إليه بعد الفتنة والانحراف عن سواء السبيل، تقول :

سرقوها من صفاء الفجر عذبا     من نقاء النبع .. زيفا أبدلوها

صوّروا الدنيا لها آفاق لهو     وغرور ، ومجون ،  ضللوها

فانثنت تختال في ثوب الليالي     فتنة في كل شكل أبرزوها

وسرى فيها شراع الوهم ليلا     فطواها الموج صبحا ، أغرقوها

صورة كالطيف غصنا في خريف     في زوايا الهجر مقتا أودعوها([50])

4- الزمن فنيا في الديوان :

    الزمن لدى الشاعرة كما بدا لي من خلال دراسة الديوان كان متكأً ارتكزت عليه وأداة فضلى  تفجر من خلالها طاقاتها التعبيرية فتكون به نابضة بالحياة والحركة، وقد بدا هذا من خلال لغتها وتصويرها وموسيقاها الشعرية :

أ-الزمن ولغة الشاعرة :

 ومن خلال الاطلاع على الديوان بدا أثر اللغة الزمنية في حوارها القصصي ، ومن خلال استخدام الأوصاف والمبالغات، والتناص ، بل من الحروف وعناوين القصائد أيضا وذلك للتعبير عن أحوال الشاعرة وأحوال الأمة ، وكانت هذه الألفاظ الزمنية تلقي بظلالها على القصيدة فتحقق بها متعة فنية وأداء جماليا، وتشارك في عملية التواصل مع المتلقي .

    هاهي لمياء تقف أمام مرآتها فترى أثر التغير الزمني على محياها، فتروح تحاور نفسها وكأنها أمام إنسانة أخرى لم تك تعرفها لأن ملامحها غير ملامحها، فتقول لها :

من أين أنت ؟ من الذرى والضباب      من أي ليل مجهد وسراب

من أي درب قد سرى فيك الدجى     ورمى أغاريد الصِّبا بشهاب

إني لأذكر في خيالك طفلة     كانت مع الأيام خير صحابي

وذكرت فيك صبية قد أشرقت      ألقا وزانت جبهتي بخضاب

من أذبل الورد الندي بخدك الــ     هاني وأدمى حبة العناب

قالت وآه في الضلوع تهزها     وسرى الخيال كموجة بعُباب

كان الزمان وكنت في أفيائه     نغما سرى في جنة ورحاب

يخبو مع الأيام نور بريقها      وتعود سطرا من سطور كتاب

أمٌّ أنا .. والحب بين جوانحي     أسطورة تنمو على الأحقاب

نغم الحياة أنا وكل ربيعها     وجمال لحني أدمعي وعذابي

فإذا الخريف سرى فلا تتعجبي     كل الدروب لرقدة وتراب([51])  

        فألفاظ الزمان بدت واضحة في حوارها مع مرآتها على نحو الليل ، والصِّبا والأيام والزمان والأحقاب والخريف والربيع ...وهذا مايشير إلى فاعليته في حوارها هذا .

    بل إن فاعلية الزمان تتدافع إلى مخيلتها من خلال استخدام أزمنة الأفعال، ففي النص السابق نراها تتحدث عن ماضيها  فلحظ من خلاله الزمن الماضي في مثل " صبية قد أشرقت، وزانت، وسرى في جنة،  وكنت في أفيائه " ، على حين جاءت الأفعال المضارعة لتعبر عن  مستقبل زمانها الماضي، أو عن واقعها الحالي وتحول شبابها، على نحو " إني لأذكر، ألمح ، يعتاد قلبي ، تهزها ، يخبو مع الأيام ، تنمو على الاحقاب، لاتتعجبي  ..." بينما جاءت الجمل الاسمية لتدل على الثبات مثل " أمٌّ أنا ، نغم الحياة أنا وكل ربيعها، كل الدروب لرقدة وتراب ..."

    وقد تستخدم المصدر لتقوية الفكرة الزمانية ، فالدنيا في الحقيقة وهم وغرور، تقول :

وينادي صوت الحق بنا      هذي الدنيا وهم وغرور([52])

   أو تقرن الوصف بالزمن في مثل قولها " صامتا كالليل في غور الدياجي " وذلك في :

والأسى والجوع والحرمان يطوي     كل يوم أكبدا كانت مناها

صامتا كالليل في غور الدياجي     ظامئا يروي دماه من دماها([53])

    وقد يكون وصف الزمن بإضافة الصفة إلى الموصوف وذلك لتقوية الصورة كما في قولها :

والصمت ينادينا لغد      مرِّ الأحزان وسوء مصير([54])

    ولا يخفى تأثرها في هذا بأسلوب القرآن الكريم .

    وقد بدا أثر الزمن في وصف عواطفها القوية عند ولادتها ابنها، إذ نرى الفرحة ربيعا وولادته غيرتها في ثوان ، وشاغلتها ووزن فاعل يدل على الانشغال الكثير به حتى إنها طلبت من الزمن أن يبطؤ لأنها أمضت أوقاتها معه أو في حوائجه، تقول :

فرحة أهدت إلى قلبي ظلالا      من عبير من ربيع فاستظلا

سلبت مني كياني ، غيَّرتني    في ثوان، شاغلتني، قلت مهلا([55])

    وفي البيت الثاني نرى الأسلوب الدارج في"غيرتني في ثوان ،وشاغلتني، ومهلا " وهذه الكلمات كان لها قوة وتأثير في الدلالة ، " وبعض الكلمات الشائعة لايكون لها جمال،  ولكن قد يكون لها قوة وتأثير ضمن السياق ، والقوة هي الصفة الأدبية التي تنتج عاطفة قوية([56]) " .

   ولننظر إلى كلمة بذور التي تذكرنا  بعهد المعتصم التي كانت تحيي الأرض الموات بعد زمن الضعف والتقهقر :

هل صيحة من عهد معتصم     تحيي بذور العز والدأب([57])

    والشاعرة أكثرت من الاعتماد على القرآن الكريم في لغتها الزمنية، والقرآن الكريم مكون أساس من مكونات الثقافة الإسلامية ، ورافد ثرٌّ من روافد تكوين الفكر والوجدان ، ولا يستطيع مبدع مسلم إلا أن يتأثر به لقدسيته في القلوب والعقول، فمن اقتباسها منه قولها :

لا الليل يسبقه النهار ولا نأت     عن دربها الأفلاك في مجراها([58])

   فهي متأثرة بقوله تعالى في سورة يس~ : " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون([59]) " .

    كما أن الشاعرة تأثرت بأقوال الشعراء كما في قولها عن التاريخ فقد جاءت بتناص في قولها :

 سائل التاريخ عنا والجدودا     هل خلقنا في الورى إلا أسودا

نكتب التاريخ مجدا وفخارا     للعلا كنا وللأمجاد عيدا ([60])

   من قول الشاعر الأخطل الصغير :

سائل العلياء عنا والزمانا     هل خفرنا ذمة مذ عرفانا([61])

    وتشابه التجربة الشعورية في أمة كانت ولا زالت منكوبة جعلت الشاعرة تعارض قول الخوري في هذا التناص بتضمين نص غائب في نص حاضر وكان نصها متآلفا في وزنه وقافيته ودلالته([62]) ، وذلك لتأكيد الفكرة وهذا ما يؤكد تلمذة الشاعرة على أيدي شعراء معروفين .

    ومن تأثير الزمن في لغة ديوان الشاعرة مانراه من كثرة ألفاظه في العناوين والتصديرات، وهذا ما يؤكد فاعليته في وجدانها وفي لاشعورها ومن ثمَّ في شعرها، فهي مثلا تعنون بـ " غداً سيأتي الصباح ، والصباح رمز للحرية ، ودورة الزمان ودموع الخريف وهلال رمضان و.. " وقد بلغت عناوينها المتأثرة بالزمان المباشر وغير المباشر أربعة عشر من اثنين وخمسين([63]) ، وكانت تؤرخ الزمن الذي قالت فيه القصيدة غالبا في أواخر القصائد لافي صدرها ، وتذكر اليوم وقد تذكر اسمه والشهر كما في لغة سوريا أوفي لغة الإمارات، وقد تذكر السنة الهجرية أوالميلادية  كما في قولها " الثلاثاء 27 صفر 1421هـ " و" الخميس 26 آذار 2002م " و " 30 مايو 2000م "، وقلما تخلو قصيدة من تأريخ .

ب-الزمن والتصوير الفني :

    بدت فاعلية الزمان من خلال ما أبدعته الشاعرة من رسوم لفظية استطاعت بها أن تسكب أحاسيسها في صور حية في مشاهدها وصورها الجزئية .

     فحين عرضت لوحات للطبيعة كان للزمن فيها أثرها المباشر وغير المباشر، إذ تعانقت الصور الجزئية في مشاهد رسمت بها صورا للفصول الأربعة ولدورة الزمن كما في قولها بادئة بالشتاء :

ليل حزين بات منتحبا     ونشيج دمع أثقل المقلا

وصقيع يوم شاحب وخطى     ترتد وهناً كلما نقلا

وصفير ريح تائه حذر     وغد أطل يقاوم الكللا ([64])

    فالزمن يتغلغل في مشهد الشتاء ، فالليل حزين ماطر، والصقيع جعل اليوم شاحبا ، واليوم يطل متعبا ... صور جزئية تكوّن مشهدا جزئيا للشتاء ، يعقبه مشهد الربيع وهو يطل بموكبه وشدو بلابله وسندس فراشه ، وتقول لمياء عنه :

هذا الربيـــع أطل موكبــه      ينســاب تيْهـــا مترعا ثملا

وشدت أسارير الدنا طربا      وصحا شعاع الفجر فاغتسلا

وتبخترت شمس الربيع سنا     وتأودت أعطافها كسلا

وتلفتت فإذا الحياة منى     وإذا الجنان تجملت نزلا([65])

    وهكذا تغلغل الزمن في لوحة الربيع وكذا كان في لوحتي الصيف والخريف ([66]) .

    ولم يكن الزمن في أوصاف الطبيعة فحسب بل نرى فاعليته في موضوعاتها كلها السياسية منها والاجتماعية، ففي تصويرها لمشهد الانتفاضة الفلسطينية تذكر الدياجي والصباح والفجر والربيع و.. وهي أزمنة اتخذتها رمزا للعدوان ومقاومته، قالت مثلا في ذلك :

كيف تصحو رغم الدياجي عيون      وقلوب على هدير الكفاح

كيف يغدو ليل الأسود وعودا     ويموج الدجى بعصف الرياح

إن للحق صرخة قد حباها     صفحة المجد في دروب الكفاح

هو فجر يطل يوما وحق      يتجلى على رؤوس الرماح

هو نور رغم الظلام سيأتي      وشموس تعود بالأفراح

هو صوت من الكواكب نادى     سوف تمحو الدجى عيون الصباح([67])

     وفي حديثها عن ابنها يبدو الزمن مؤتلفا مع مشاعرها نحوه، فهو ربيع عمرها، وجنى  حياتها، وهو غدها وكنزها على مدى الأيام ، تقول لزوجه :

هذا ربيع العمر قد رويته      من أدمعي، فاروي الربيع وزيِّنيه

أبنيتي هذا جنى عمري وقد     آليت عمري أن أموت وأفتديه

هذا غدي ما كان في عمري غد     فإذا قضيت ففي ترابي أرتجيه

هذا حياتي والأماني والدنا     أهديك عمري دونها أن تسعديه

كوني له أما فقد أودعنه      يوم الوداع بساعديك فأسعديه([68])

    ففي هذه الصور المتعددة لابنها والتي تكون تشبيه جمع([69]) فهو الربيع وجنى العمر وهو غدها بل حياتها ودنياها، وفي هذا التشبيه نرى الترشيح([70]) يقوي المعنى، ونلحظ الزمن فيه واضحا ، فالربيع روته من ماء دموعها، وهو دنياها الذي تهديه لزوجه لتكون في حنانها وحدبها عليه كأمه، وهذا الترشيح يقوي الصورة والأحاسيس .

     وهذا تشبيه تام مستكد أيضا من عالم الزمان :

مساء حزين وبرد وقُرّ      ونجم وراء الغيوم استتر

وصمت كئيب يلف الدنا     كأن الحياة غد يُحْتَضَرْ

وصوت الرياح أنين سرى     بوهن القلوب أسى وانتشر([71])

    فالحياة في الخريف كزمان يكاد يلفظ أنفاسه ( تشبيه تام ) ، وصوت الرياح أنين مريض ضعف قلبه وتفشت علته  ( تشبيه مرسل حذفت منه الأداة، ومفصل لوجود وجه الشبه)، ومثل هذا في قولها عن ابنها :

إن رنا فالعمر شهد      أو بكى فالفجر أظلم

صانه ربي ليبقى      زينة الدنيا ويسلم([72])

    فهو شهد في نظرته لحلاوتها، والفجر يتحول إلى ظلام ببكائه ، ونرى التشبيه البليغ الذي تقوى به الصورة ، في قولها إنه زينة الدنيا ، أرأيت كيف يتداخل الزمان في التصوير بما لايدع مجالا للشك في فاعليته  .

    وأضاليل الغرب تجاه العراق بدت في صورة حقد الدهور في تشبيه بليغ بدا فيه أثر الزمن ، فالحقد كان عبر الدهور ومن عصر الأندلس السليب، في إشارة إلى محاكم التفتيش التي قام بها النصارى تجاه مسلمي الأندلس :

في صدرها حقد الدهور وما     ماجت به الأحقاد من لهب

جاءت به من عصر أندلس      تسعى به في كيد مرتقب([73])

    وهذه صورة تمثيلية جعلت فيها الشاعرة أحلام حياتها تنقضي في ثوان كما يغيب الحلم عند الاستيقاظ، وقد تغلغل فيها الزمن لإحساسها السريع بمقدم الشيخوخة :

وانقضى الحُلْم المُعَنّى في ثوان      كانقضاء الحلْم في جفن المنام([74])

   وكذلك في تعبيرها عن القَدَر وتأثيره في الحياة فهو كالكؤوس تدار في الأزمنة :

كأن المقادير والركب ماض       كؤوس تدور بعمر البشر([75])

        حتى في صور تراسل الحواس نرى فاعلية الزمان كما في قولها :

وأسمع من أعالي الكون صوتا     يضيء الكون في ليل الحيارى([76])

    فالصوت تحول إلى ضوء ينير ليل العابدين ، وكأنها تتأثر بذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " ينزل ربكم كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له([77]) "

       وفي صور الاستعارات نرى فاعلية الزمن أيضا ، فالفجر يأتي رويدا رويدا كفتاة تختال بثيابها ( استعارة مكنية ):

من وراء الشرفة البيضاء أرنو     ورداء الفجر ينساب اختيالا([78])

     والغيم ينثر ظلاله والليل ينظر في حياء ودلال في ( استعارتين مكنيتين ) أيضا :

نثر الغيم على الأرض ظلالا      ورنا النجم حياء ودلالا([79])

     وكانت الصور التقابلية مما اتكأت الشاعرة عليها في تصوير الشيء ونقيضه تصويرا يتعانق فيه الزمان، فيكشف عن أحاسيسها تجاه أمتها، ففي حديثها عن وادي الموت بالسودان تقول في مقارنة بين أحوال المنعَّمين والجياع  :

أكْبُـــدٌ في موسم الأزهار كانت     فاستحالت جثــة يذوي شذاها

أكبـــد بل ألف طفل قد تلوَّت    في سعير الجوع تقضي إذ رماها

عالـَـــم من غير إحساس تردى     بات كالأنعـام يحيا في دُناهـــا

قد تناساها مع الأحـــــلام حتى     إن بدت مرسومـــة يوما محاها

هي جرح في شغاف القلب دامٍ   هل يداوي الجرح من أجرى دماها

هي صوت في ضمير الحق باق    كالصدى، التاريخ دوما قد رواها([80])

     فآلام الجياع في موسم الربيع المعطاء يشي بظلم البشر في هذه الدنيا، إذ نسي فيها الإنسان أخاه الإنسان ولسوف يذكر التاريخ عبر الأزمنة هذه الجرائم  .

    والشاعرة قد تتخذ من استدعاء التاريخ رموزا تنم على حالة الضعف أو القوة ، فهي تقول مثلا في قصيدتها بغداد :

أين (الرشيد) أقام دولتهـــا     في عــزة الإســلام والــدَّأَب؟

هل صيحة من عهد(معتصم)    تحيي بذور العز والدأب([81])

     فالرشيد والمعتصم رمزان استدعتهما الشاعرة من مخزونها الثقافي لتعمق بهما معنى العزة الإسلامية، ولا يصعب على المتلقي فهم هذين الرمزين، وقد حققت بهما المتعة الفنية بتحريك الوعي، مما أدى إلى ترسيخ الهوية وتمجيد التراث وشخصياته، ومن ثَمَّ الإحساس بالوجود، والكشف عن إيجابيات حضارتنا وسلبيات واقعنا، وهذا ما يؤدي إلى القيام بردة فعل لتصحيح القيم والاتجاهات والمسارات([82])، كما زادت بهما الطاقة الدلالية للعبارات حين نفخت فيها حياة جديدة مما جعل الرمزين يفوقان التصريح بالفكرة في تأثيرهما على الوعي، لأنهما يحملان شحنات معينة من الانفعالات والوجدانات التي اكتسبتها الرموز باستخدامها على الألسن والأقلام عبر مئات السنين([83]) .

  ج-الزمن في موسيقا الديوان :

     لايتوقف جمال النص الأدبي على ما فيه من لغة وتصوير، بل إن للموسيقا ميزتها الكبرى لما لها من أثر في وجدان المتلقي وإثارة أحاسيسه، ونقله إلى أجواء نفسية جديدة، ومن قدرة على مخاطبة روحه وعقله، إذ تنساب أنغامها فتوقظ إحساسه وتجذب قلبه وتشعره بالمتعة الفنية، وتخلق لديه بذلك ملامح عالم النص، كما تشير إلى طبيعة عاطفة الشاعر ونوعية انفعاله الداخلي، إذ تفجر في الكلمات أقصى طاقاتها الدلالية والإيحائية، وتمنح النص حيوية وروحا([84]) وذلك لما فيها من تكرار ومدود وتوازن وتنغيم مختلفة الألوان والأنواع .

     والملاحظ أن شعراء العصر الحديث مالوا إلى الأبحر ذات النغمات الدالة على الانفعال كالبحر الكامل والرمل والمتقارب والمتدارك، أو إلى المجزوءات، وقد أحصيت الأبحر التي اعتمدت عليها الشاعرة في ديوانها فلم أر وجوداً للبحر الطويل ولا البسيط أوالمديد والخفيف أوالرجز والسريع، ولا المجتث والمنسرح والمقتضب والمضارع، فكأن الشاعرة لم تمل إلى الأبحر الرسمية كالطويل والبسيط، ولا إلى القصيرة غير المألوفة ، ولم تنظم إلا على الكامل ولها منه إحدى وعشرون قصيدة، ومجزوئه ولها منه خمس قصائد، والرمل ولها عشر قصائد على التام منه وواحدة على مجزوئه، ثم المتقارب وقد نظمت به سبع قصائد، ثم  خمس على الوافر التام وواحدة على مجزوئه، ثم واحدة على المتدارك، وهذا يشير إلى ميل الشاعرة إلى الأبحر الانفعالية والراقصة ، وهذا ما ينم على نفسيتها عامة في تفاؤلها وفي أحزانها .

    وكان نظمها على الكامل متعدد النغمات فقد جاء عروضه وضربه على (فعلن) في حديثها عن مأساة البوسنة والهرسك فهي تقول عن كوسوفو :

والأرض بعد العشب قد زرعت     جثث الرجال وعشبها خجل

وتموج بالنار الصدور فما     د ون الصــــدور النار والطلل([85])

     فكأن الحزن قد قطع أنفاسها فقل زمن التفعيلة وبدا في جعلها (متفاعلن) : (متفا) فحولت إلى (فعلن) وهذا الحذذ([86]) الذي نجم عن انفعال الشاعرة أثر على زمن موسيقا البيت .

 كما جاءت تفعيلة (متفاعلن: متفاعلْ) بالقطع([87]) في الضرب دون العروض، وذلك في حديثها عن صغيرتها في قولها :

أنت الندى والعطر والغيث الذي     أثرى بروضي فاستحال جنانا

أنت الربى بنسيمها بربيعها    يحيي الوجود ويبعث الأغصانا([88])

    ولعل مد الردف ومد ألف الوصل بعد روي النون عوّضا عن هذا النقص الذي أرادت به قوة الإيحاء بالسعادة التي انتابتها بولادتها للصغيرة، والتزام هذين المدَّيْن عند العرب يشير إلى أن ساكن الردف غير السواكن الأخرى، وأن المد الموسيقي للردف والوصل لهما أهمية زمنية تؤثر على النغم الموسيقي للبيت، ومن ثم على الإحساس بالمعنى .

    وقد يأتي الكامل مجزوءاً ومرفلاً([89]) فيمتد أمد المجزوء الموسيقي بتفعيلة متفاعلاتن ، وهذه الزيادة الزمنية تؤدي إلى زيادة في المعنى كما في قولها :

يشــتاق للفـــردوس قلـْــ    بي هائما يرجو لقاها

أصبحت في الدنيا غريـ  باً أرتجي داراً سواها([90])

     فلقاء الفردوس السريع ناسبه أن يأتي البحر مجزوءاً، وكان للتدوير([91]) والإضمار([92]) بتحويل متَفاعلن إلى متْفاعلن أثره أيضا في الإيحاء بهذه السرعة، أما الراحة المديدة في الدار الآخرة فناسبها أن يكون البحر مرفلاً والروي مردوفاً موصولاً ليمتد الزمن بهما .

 والبحر الرمل هو ثاني البحور التي اتكأت الشاعرة عليها في أنغامها، وهاهي تتحدث عن غروب الشمس فتختار لهذا المنظر البهيج بحرا راقصا بهيجا مثله وذلك في قولها :

سافرت والكون في أنفاسه     كانسياب العطر يرنو مُجْهَدا

فإذا الآفاق همس واجد      دار في ثغر الروابي كالصدى

وإذا الأكوان قلب ساجد     طاف بالدنيا فكانت مسجدا([93])

    فالشمس تودع الأفق بصمت وهدوء، وقد ناسب أن تأتي تفعيلة فاعلاتن على فاعلن لتوحي بالهمس والصدى،لما فيها من حذف([94])السبب الخفيف الذي أدى إلى الإحساس بهذا الخفوت والضعف .

وعلى المتقارب جاء قولها في وصف الطبيعة :

وفي الأفـق بين الغمام البعيد     أطلت أســـارير بدر جديــدْ

تلوِّح لي أن سر الحياة     غروب ويأس .. وعطف وجودْ([95])

     فالشاعرة ترى أن الحياة بين يأس وجود، وهذه التقلبات يناسبها أن تأتي على البحر المتقارب ذي التفعيلات الكثيرة، ولكن الشاعرة جعلت من (فعولن : فعولْ) بهذا القصر([96]) الذي قصّر المدة الزمنية لتمنح المعنى جزما بانطلاقة فجر جديد فيه عطف وجود .

   وقد اختارت الشاعرة المجزوءات في كثير من قصائدها، وهاهي تختار مجزوء الوافر لتنظم عليه أنغامها العربية فتقول :

نعم عربي .. وأجدادي     أسود حرة .. ونبي

خيوط الفجر قد سطعت     أراها في الدجى نجما

سيأتي كالسنا فجري     قريرا يرشف الحلما([97])

     فالأبيات مع احتوائها على ألفاظ الزمان كالفجر والدجى جاءت على مجزوء الوافر، وهذا البحر بطبيعته يناسب الحماس، وقديما نظم عليه حسان بن ثابت وصفه لمعركة بدر الكبرى وانتصار المسلمين فيها، لكن الملاحظ أن تفعيلة (مفاعلـَـتن تحولت إلى مفاعلْتن) بزحاف العصب ([98]) الذي آثرت فيه الصمت ، وكأن الإحساس الداخلي من واقع العرب المؤلم جعلها على الرغم من الفخر تغض الطرف قليلا .

     وللقافية أثرها الزمني أيضا ، فالدال الموصولة بالألف تعطي مدا موسيقيا يعوض الحذف في تفعيلة فعولن التي تحولت في المتقارب إلى فعلْ بحذف السبب الخفيف من آخرها في قولها :

هو الليل والشمس تغتالها      عيون الدجى فالدجى سرمدا

هو اليتم قد شردته السنون    تبعثر في أرضها مسهدا([99])

    ولننظر إلى الامتداد الزمني في قافية قصيدتها (صغيرتي)، لقد جاءت القافية مردوفة بالألف وموصولة بها أيضا، والألف فيها ( 800) ذبذبة صوتية في الثانية أي مايقارب ضعف ذبذبات الياء وقدرها في الثانية (308)، أو الواو وقدرها ( 326)([100])، فضلا عن الألفات التي كثرت في الأبيات كلها، من ذلك قولها :

نامي بقلبي واملئيه حنانا     حسبي وقلبي أن أذوب حنانا

طيري بأحلام الطفولة وارشفي    من نبعها الفياض أين تدانى([101])

     فهنا نرى الشاعرة اعتمدت على روي الألف وكررته ثماني مرات ولا سيما في القافية، مما أعطى مدا للسعادة التي تحسها الأم تجاه ابنتها، فضلا عن مدود الواو والياء وقد بلغتا عشر مرات

     وكأن الشاعرة وهي تأتي في قوافيها المرفلة المقيدة بين مد للفكرة وجزر في قولها :

يا أيها الليــــل احتويني في ثنا    ياك العِطاف وضُمَّني بين المحاجـــرْ

يا أيها الصدر الحنون إلى جذو   رك شُدَّني، وانزع من القلب الخناجر([102])

       فهي بين العطف والصدر الحنون من جهة، والليل والخناجر من طرف آخر، ولهذا نراها تمد الزمن بالترفيل في متفاعلن لتصير متفاعلاتن، وبألف التأسيس([103])،ثم تقصره بالقافية المقيدة لتعبر عن حالها الموزعة بين أمرين .

    ولعل زمن القافية المقيدة يبين قصره حين لايكون هناك ردف ولا تأسيس كما في قولها :

وغابت شموس بقلب الليالي     وكان الرحيل وكان السفرْ

فشرع المقادير نور ونار      ويبقــى رماد وتبقى العِبَرْ([104])

 فالحياة إلى أفول ورحيل وهذا يوحي بقصر الزمن، وتكون القافية المقيدة عونا على هذا المعنى .

     ولاختيار الحروف أثرها الزمني أيضا، فالألف أطول زمنا من الواو والياء، وهذه الحروف أطول زمنا من غيرها من الحروف، والحروف المجهورة وهي التي أشبع الاعتماد عليها في موضعها ومُنع النفَس أن يجري معها حتى ينتهي الاعتماد ويجري الصوت، كالباء والراء واللام والميم والقاف والكاف والجيم والدال والتاء - هي أطول زمنا من الحروف الأخرى لأنها تمنع النفَس أن يجري معها، فالقاف مثلا تدل على الانفصال والاصطدام والشدة كما ذكر ابن جني، والراء حرف التكرار والاستمرار ولهذا أثره الزمني أيضا([105]) ، ولذلك نرى الزمن يطول في قصيدة تغلب فيها الحروف المجهورة كما في قول الشاعرة :

عيـــــون الليل أرّقها بكاها    وسهمٌ في المدامع قد رماها

وآهـــــات مبعثرة ترامت     بجنح الليل جمّعهــا صداها

هنا في القفر أحزاني وبؤسي    وآلامــــي هنالك في رباها

أطوف بها وصوت الريح خلفي   تمزِّقني وتدفعني خطاها

أهيم بها، أضيع بها، أصلي  ودمعي في عيون الليل تاها([106])

     فالشاعرة على الرغم من سيطرة الأسلوب الرقيق في ديوانها عامة نراها تأتي هنا بالحروف الجزلة كالكاف الجيم والراء والدال والميم فضلا عن الشدات والفواصل، مما يدع المتلقي يطيل زمن القراءة .

ولا يقتصر أثر الزمن على الموسيقا الخارجية، واختيار الحروف بل إنه بدا ذا أهمية أيضا في الموسيقا الداخلية، والزحافات والعلل ملاذ الشعراء في التعبير عن المعاني من خلال التصرف في وحدات البيت الزمنية وتغيير نغمتها([107]) ،فالتصريع يقطع الزمن بوقفة بين الشطرين يلتقط الشاعر خلالها أنفاسه ليواصل قراءة الشطر الثاني، فيعطي للمتلقي مهلة بهذه الوقفة ليدرك جماليات النص، على حين ينقطع هذا الزمن في البيت المدور إذ يستمر الزمن في جريانه مغضياً النظر عن بطء التصريع([108]) ، وهذا ما نلاحظه حينما نقارن بين قول الشاعرة :

فلك، ويدور، يدور، يدور    دهر ولى، وتجيء دهور

أمس يمضي ، ويطل غد    شهر تطوي ذكراه شهور([109])

    فالزمن ودورانه عبرت عنه الشاعرة من خلال حركة الأفلاك، وكانت وقفة التصريع تدع القارئ يتملى في هذه الحركة في تفكير عميق وبطيء،وهذا البطء يضاف إلى الفواصل، والتوقف ولو قليلا بعد (يدور، يدور، يدور)،وكأن هذه الكلمات وحدات موسيقية يتراوح فيها الزمن بين الواحدة والأخرى .

     أما التدوير فيقصر فيه الزمن لتواصل قراءة الشطرين كما في قولها :

بسمة كالشهد ذابت من رحيق الزهر كانت من صفاء الفجر أحلى

فزهوري اليوم زهرك وعطوري اليوم عطرك وربيعي كان أهلا([110])

    فحب الشاعرة لابنها جعلها لا تتوقف وهي تعبر عن سعادتها به، فهو بسمة وشهد ورحيق وفجر وزهور وعطر و .. ولذلك يقول د. كمال غنيم عن التدوير : " إنه تواشج السطور الشعرية إذ فيه ترابط لفظي وموسيقي، فضلا عن الترابط المعنوي بين الشطرين، وبهذا التواصل يتسارع الزمن كما يتسارع تقديم المعنى([111]) " .

    وكما يتسارع الزمن في الفرح يتسارع عند الإحساس بالكبر والعجز، إذ تحس الشاعرة أن الصبا ولى، والعمر راح يتسارع إلى النهاية ، بل لقد تولى، ولذلك تقول :

فات الأوان أيا زماني    واستسلمت كل الأماني

ماذا تبقـّـى من صبـاي ومن ربيــــع العنفــوان

إلا خيال من شمــــوع باكيــــات قد بكاني([112])

    وكذلك بدا الأثر الزمني من خلال التقسيمات الصوتية كما في التفويف([113]) والوقفات الدلالية([114])، ومن خلال المدود ونوعية الحروف ، ومن علامات الترقيم ...

     فالتقسيمات الصوتية في التفويف تراوح بين العبارات أو الكلمات ومثيلاتها، فتبلغ بالموسيقا الذروة لما فيها من إيقاع ووقفات زمنية، ومن شروط الإيقاع التوازن والتوازي([115])، ولنقرأ هذا التقسيم الصوتي العذب في قولها :

ثكلٌ/ جراحٌ/ في الصدور ، تشرُّدٌ     مهجٌ/ تذوب كرعشة الأفلاك([116])

     فهذا التقسيم للكلمات أعطى جرسا موسيقيا له أثره في الزمن الموسيقي .

    وهذا تفويف آخر أطول بدا في حديث الشاعرة عن ابنها :

كنت نفسي / كنت مني / كنت فرحي/    كنت دنياي ، وعمرا ليس يبلى([117])

    إنه نغم مطرب من قلب صادق العاطفة ، وهذا الصدق جعل الأم تترنم بابنها في وقفات زمنية فيها ترجيع للنغم في البيت الشعري الذي انقسم إلى وحدات زمنية يستمتع المتلقي بتكرارها وتتابعها .

    ومن التفويف الجميل في شعر لمياء الرفاعي قولها :

أناجيــــك يامن محوت الليالي     وكان الوجـــود سنا من سناكا

وكانت بحور/ وكانت صحارى/    وكانت شموس/ نأت في سماكا([118])

    وهذا التقسيم الناغم يكمن جماله في الوقفات بين العبارات المتوازية وفي الانسياب بسهولة وتتابع ، والموازاة اللفظية تساهم في زيادة القيمة الموسيقية في الشعر([119]) .

     وللوقفات الدلالية - وتكون بانتهاء المعنى مع انتهاء التفعيلة- أثرها الزمني أيضا لأن القارئ لابد من أن يقف بعدها ولو قليلا ، من ذلك قولها :

والفضاء الرحب قد أضحى نجوما      تتهادى / تتناجى / تتلالا

وعيون الفجر تصحو بالأماني    والحكايا... تملأ الدنيا غلالا([120])

فكلمة تتهادى على تفعيلة ( فعلاتن)، وكذلك تتناجى، وبعد كل منهما وقفة زمنية يتطلبها انتهاء التفعيلة بانتهاء المعنى . 

    ومن ذلك أيضاً قول لمياء في وصف الغروب :

لوحة من فتنة من نعمة      من بهاء / من جلال / من ندى !

من دهور / من ليال / تلتقي     من تسابيح تعالت في المدى([121])

    فهذه التقسيمات الوزنية انتهت مع انتهاء المعنى فأعطت زمن إضافيا بالوقفات بعدها .

    وفي وصفها للاجئة من الشيشان نلمح هذه الوقفات أيضا في قولها :

هناك ودون أربعها / سعير      وأهوال / وإعصار / محاها

ميتَّمة / فقد رحل الغواني     مشرَّدة / مروَّعة / خطاها([122])

     فكلمة سعير في العروض على وزن فعولن، وكذلك محاها وخطاها في الضربين،وكل من (وأهوالٌ، وإعصارٌ ) على وزن مفاعلْتن، و(ميتّمة ، مشردّة، مروّعة) على وزن (مفاعلَتن)، وانتهاء الكلمات بانتهاء التفعيلات يتطلب وقفات قليلات وهذا ما يؤثر على زمن البيتين .

    ولم تكتف الشاعرة بالتفويف والوقفات الدلالية وأثرهما الزمني، بل تعدى ذلك إلى جميع المقومات الموسيقية المؤثرة على الزمن أيضا كعلامات الترقيم ، فالفاصلة التي تضعها الشاعرة بين كلمات البيت الشعري تتطلب وقفة زمنية ولو قليلة المدى مما يؤثر في الزمن الموسيقي للقصيدة، وكذلك الحال في علامات الترقيم كعلامة التعجب، وشرطتي الجمل الاعتراضية، ونقط الحذف في ثنايا البيت أو بين مقاطع القصيدة ، من ذلك قولها :

كئيبا، معنى بعبء الخطايـــا     بهمٍّ ثقيل ، وقلب حزين

بعمر طويل ، تقضّى سريعا     كحلم ، ولمّا تراه العيون([123])

    ولا بد للقارئ من أن يشارك الشاعرة في أحزانها فيتوقف ولو قليلا عند ( كئيباً) و(همٍّ ثقيل) و(كحلم)، وهذه الوقفات له أثرها النغمي والزمني، ولا ننسى أثر الشدات في معنّى ، همٍّ ، لمّا .. في المعنى إذ زادت الإحساس بثقل الهموم والمعاناة بهذه الوقفات الزمنية 

    ومن وقفات علامات الترقيم المؤثرة على الزمن قولها في وصف النخيل :

أنفاسه في الفجر سبح خافت     وصدى نجاء .. قد تهــادى في السَّحَر

في فلكه ، في فجره ، في ليله     في نجمه الزاهي ، وفي ضــوء القمر

في بحره  في ظله، في روضه،   في نبعه المياس، في عطر الزهر([124])

     فهذه الفواصل وقفات زمنية، إضافة إلى الوقفات بين الشطرين، وهي وقفات دلالية إذ تنتهي التفعيلة بانتهاء العبارة في: ( في فلكه، في ليله، في بحره، في ظله ، في روضه) وهي على متفاعلن ، أما الفاصلتان في( في نجمه الزاهي ، في نبعه المياس) فلم تكونا مع انتهاء المعنى بل هما فاصلتان يتوقف القارئ معهما وإن لم تنته التفعيلة ، وعلى أي حال فالفواصل أعطت زمنا موسيقيا سواء أكانت في الوقفات الدلالية أم في غيرها .

     ولعلامات التعجب أثرها الموسيقي والزمني أيضا كما في قولها :

فات الأوان أيا زماني، واستسلمت كل الأماني

واليوم تدعــــوني إلى أيامك البيض الحســان !

من بعد ما كان الأسى يغتال قلبي في ثوان !([125])

    فعلى الرغم من انتهاء البيت فإن التعجب يترك أثره الزمني أيضا .

     وعلامات الجمل الاعتراضية تتطلب وقفة زمنية ولو للحظة قبل الجملة الاعتراضية وبعدها، كما في قولها :

كأن المقادير ، والركب ماض،     كؤوس تدور بعمر البشر([126])

    فقولها ( والركب ماض) جملة اسمية اعترضت بين الحرف الناسخ كأن واسمه ثم خبره .

    وقولها :

إن تكن قد أسرفت فينا الليالي    هامنا، رغم الدجى، تأبى السجودا([127])

     وفي هذا الاعتراض صمت زمني ملحوظ .

    ونقط الحذف إشارات للوقفات تتعمدها الشاعرة لكي تدع القارئ يثري المعنى، فيشعر بذلك أنه شريك في عملية إنتاج النص، وهذا الفراغ يسمى النص الغائب، أو ما يعرف ببلاغة البياض، وله أثره المعنوي إذ يدع القارئ يتخيل المحذوف فيوحي له بمعنى ما ويعلل سببه ، وقد يوحي إليه بمشهد ما أو مفارقة ، وقد تضطر هذه النقط القارئ أن يترك القراءة ولو إلى لحظة قد تطول أو تقصر قبل أن يتابع القراءة مما يجعل القراءة تتباطأ، والإيقاع يختلف أمده، وبذلك يترك أثره في نفس المتلقي([128]) ، هذه الشاعرة تقول في مناجاتها لربها :

كأني وصوت الهوى في ضلوعي    جناح سرى في دروب علاكا

وأسري .. وأسري فمـــا من حدود     وما مـن قيود تعدت مداكا([129])

     فكلمة وأسري بهذه النقط بعدها تجعلنا نتخيل الشاعرة تسري بروحها في عالم الملكوت فتنظر آلاء الله سبحانه، ولهذا إيحاء وتأثير إيماني، ولا ننسى أثر حروف المد كذلك فقد بلغت تسع عشرة مدة، منها تسع للألف، وأربع للواو، وست للياء، ولهذه أزمنتها الأطول من الحروف الأخرى .

     وفي قصيدتها " نعم عربي" نرى الحذف بالنقط كما في قولها :

نعم عربي ..وأجدادي أسود حرة .. ونبي

ونفسي حرة ألفت    قراع الدهر والنُّوَب([130])

     وهذه الوقفات الزمنية أدت إلى التعبير عن الحالة النفسية للشاعرة، إذ أحست بالعزة والفخر وأخذت تتملى  الفكرة طويلا، وبدا هذا بهذه النقط .

    وقد تكون نقط الحذف دالة على ضرورة استعادة الفكر السابقة، ففي وصف الشاعرة للفصول الأربعة قالت بعد وصف الفصول :

وبكى الشتاء ...        ... ... ... ([131])

    في إشارة منها إلى العودة إلى الفصول الأربعة الشتاء فالربيع فالصيف فالخريف ثم الشتاء وهكذا ..

    وقد تكون نقط الحذف فاصلة بين فقرات القصيدة تترك القارئ يتنفس قليلا، أو يفكر بما سيأتي بعد قبل الانتقال إلى فكرة أخرى لها علاقة بالموضوع العام للقصيدة، وهذه النقط لها زمنها الموسيقي، فالشاعرة مثلا تقول تحت عنوان الحب والإيمان :

لا تشتكيهـــــا فالحيـــاة جــداول الـــــــزمن الســــكوبْ

فانظــــــر إلى ســــحر الجمال تـــــراه في كل الـدروبْ

...    ...

في الشمس تسجد للإله ، وفي الظلال ، وفي الغروب

في الكــــون دارَ فســاجــــدٌ أو قـــــائم ، أو مستجيـب

...     ...

وافتـــــح فــــــؤادك لانبثــــاق الفـــجر واستقبل نداه

واحمــــل إلى الدنيـــــا عطـــاء الخير واسجد للإله([132])

    نراها تستعمل نقط الحذف بين كل مقطوعة وأخرى لأن كل مقطوعة تحوي فكرة، فالأولى فيها التفاؤل ، والثانية آلاء الله سبحانه وعبادته، والثالثة دعوة إلى الخير والسجود لخالق الكون ، وهذه الفواصل الصامتة بالنقط تدع القارئ يتملى هذه الدعوة وتلك العظمة والقدرة ويتخيل لوحات الكون ، سجود الشمس والظل ، والغروب و.. وبين كل واحدة وأخرى فواصل أيضا من علامات الترقيم ، ولهذا كله أزمنته وإيحاءاته، ولا ننسى أن القافية المردوفة في المقطوعات كلها لها أثرها الزمني أيضا مما يمد في الإحساس بقدرة الخالق وزمن التفكر بآلائه .

ثانيا : فاعلية المكان في الديوان

    المكان هو الوعاء الذي يحتوي الأفعال التي تحدث فيه، وكل ما في الكون هو مسرح للشاعر يتجول فيه حيثما يشاء بجسمه أو بأحاسيسه، وهو البيئة التي يعيش في أجوائها حقيقة أو خيالا ، وهو متعلق القلب وموضع الحبيب، والساحة التي تضم شخصياته ويجول فيها خياله ، وهو يعبر من خلاله عما يعتريه فيجعل قارئه يستمتع بقراءة نصوصه .

   وللمكان كما للزمان صفات عديدة سيبين هذا البحث ما في الديوان منها :

1-سمات المكان في الديوان :

    بدا في ديوان لمياء الرفاعي سمات عديدة للمكان لعل أهمها الشمولية وحب المكان وقدسيته ، وتحولاته ، وأنه موطن ذكرى وعبرة ، وله جمالياته ، كما قد يكون رمزا :

أ-شمولية المكان :

     فالكون الفسيح كله مجال للخشوع ولمعرفة آلائه تعالى وقدراته التي لاتحد، السماء بما فيها من شهب، والرعد والبرق، والجبال والأنهار والرياح، والروابي والسهول،.. وكلها يسبح خالقه :

سبحتــــه الشهب في أفلاكها     في شموس جاوزتها الفرقدا

سبحتــه الريح في إعصارها     والسنا .. والبرق فيها أرعدا

والجبــــال الشم يهوي ظلها      في خشوع والـــــهٍ قد وحّدا

كل ما في الكون قد أمسى له     حامدا ، أو ذاكرا، أو ساجدا([133])

    والشاعرة تتأمل قدرته تعالى في هذا الكون الفسيح الكبير، فيكون اتساعه مرقى للروح وتعظيما للخالق :

ويـــرقى خيالـــي فيسري بعيدا     فتهفـــو عيوني لتلقى سناكا

وأســـري .. وأسري فما من حدود     وما من قيود تعدَّت مداكا

أناجيـــك يامن محوت الليالــــي      وكان الوجود سَناً من سناكا

وكانت بحور وكانت صحارى   وكانت شموس نأت في سَماكا([134])

    وهي تناجي مولاها وتحس كأن روحها سمت إلى ماوراء الحدود في هذا العالم الفسيح من كون الله الواسع، فتروح تقول :

أناجيك ربي ويهفو كياني      ويرقى إلى مــا وراء الحـــدود

فأسمو بروحي وأسمو بذاتي      كأني نبذت الدنا من وجودي

وأعلـــــو كأني فَراش رقيق     ســـــرى والنسيــم بغير قيود

وأدنــــو إلهــــي ويلهج قلبي     بـــــذكر تـــوالى لنيل المزيد

أراك أمامي وفوقي وقربي    وتفنى الرؤى في الحميد المجيد([135])

    لقد تأثرت الشاعرة بقوله تعالى" ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" في تعبيرها عن مشاعرها الإيمانية وبذلك غدا القرب فاعليا في نفسها،ترجمانا لرؤيتها، بل وسيلة يحكم بها على سلوكياتها، فرؤية البيت الحرام جعلها تناجي خالقها فتسمو روحها وتصعد إلى ماوراء الحدود ، فتحس أن الله معها، وقربها، وهو فوقها وأمامها، وبهذا عبرت عن موقفها من بارئها وعن عواطفها تجاهه، وهذا ما يثير في المتلقي الأحاسيس، وهو شيء أساس يستند إليه العمل الأدبي .   

    وكانت الشاعرة تطرب حين تذهب إلى المسجد الحرام، وتنفعل لرؤيته فتقول :

دعــــاني الحبيب فيا نفس طيبي      وطيــري مع الحلم شوقا وذوبي

ودوري مع الفلك ما شئت وجدا      وطوفي ذرى الكون سعدا وغيبي

فبي اليــــــوم شوق تفجَّر سيــــلا     فأمسى وأضحى بكل الــــدروب

فهبــــي أيا ريحَ بيت الحبيـــــب     وضمي الجوارح عند الهبوب([136])

    والقلب مسرح يضم الأحبة فيه، وللأمكنة الذاتية التي تتعلق بحياتها الخاصة حبها في قلب الشاعرة ، فالبيت عش الحياة الزوجية ، ولذلك نراها تطلب من زوجة ابنها أن تجعله روضة من رياض الإيمان ، وأن تسقيه من ينابيع الهدى والخير :

أبنيتي هذا فؤادي فاملكيه     ضمّـــيه ما بين الحنايــــا واحفظيه    

وابنــي له بالحب عشا هانئا     من روضة الإيمان زهرا وانثريه

صوني جلال الدين في أفيائه     واسقيه من نبع الهداية وارشفيه([137])

     وهكذا كان المكان لدى الشاعرة يبدأ من قلبها ثم بيتها، ثم يتسع حتى يضم ما وراء الحدود في كون الله الواسع الأرجاء .

ب-قدسية المكان وحبه :

     بعض الأماكن خير من بعض، فالمسجد الحرام أفضل بقاع المعمورة، وللمسجد النبوي قدسيته الكبرى أيضا، وكذلك المسجد الأقصى، وللمساجد كلها حرمتها وقدرها، ولمجالس العلم أهميتها، وفي الدار الآخرة تلقانا منزلة الشهيد السامية، وكذلك مقام الصالحين، ولكل هذه الأماكن أهميتها في نفس المسلم تنم على إيمانه وسلوكياته تجاهها وفي أجوائها .  

  فالشاعرة تتمنى أن تلقي نظرة على البيت الحرام ، أو أن تكون طائرا يحوم في أجوائه العطرة:

أهفو لطيف البيت لو     ألقي على الأستار نَظرةْ

لو أعبر الآفاق طيرا      ألتقي في الوجد طيرهْ([138])

    ثم لايكفيها التمني فتروح تتوجه إلى الطيور ترجوها أن تبلغ المسجد الحرام ومقام إبراهيم أشواقها على غرار ما كان الشاعر القديم يبلغ عن طريق الحمائم سلامه لمحبوبته التي نأت عنه :

حمامَ البيت بلغه سلامي      وغنِّ الوجدَ في أحلى كلام

وقلباً هام من وجـــد فأسرى     بأجنحة الصبابة والهيام

يروم منازل السعداء وصلاً     ويغرق بين أنوار المقام

إذا نادى بـ ( لبيك ) حجيج     وأذَّن بالفــــلاح غد الأنام

وضج الكون تسبيحا ووجداً     كما ضجَّت زغاليل الحمام

هناك فكن لروحي الوجدَ فيها    وكن فيها فؤاد المستهام

وحسبي أن أضاء اللهُ دربي    بأني في حمى الله اعتصامي([139])

     بل إنها تشتاق إلى الحرم النبوي أيضا، وللمسجد الاقصى، ولكل منهما في قلبها جلال وقدسية، تقول في المسجد الأقصى مثلاً :

والمسجد الأقصى يهب مردداً     النصر للإسلام فوق رباك

مسرى الرسول به أضاء جبينه      والله باركه منار عُلاك([140])

    وللمساجد الأخرى كرامتها لأنها كلها بيوت الله التي يلقى فيها علوم الدين، وهاهي الشاعرة ترثي الشيخ محمد متولي الشعراوي وتتحدث عن تفسيره للقرآن الكريم في المساجد فتقول :

قد أطفئ المصباح وارتاع الظلام      والشمعة المضناة أغفت كي تنام

ومنائر التوحيـــد أطرق رجعها     فكأنمــــــا قد غالهـــــا منه الحِمـــام

صوت بألف كم أضــــاء دروبها    ومضى يبــث النور في ذاك الزحام

فمنائر العلـــــم استعادت صوتها      بمنائر التفسيـــر يحدوها التزام([141])

    والمسلم يرى أن الدار الآخرة خير له من الأولى المليئة بالمعاناة في واقع أليم، والتي يحس فيها بغربته([142])، ولذلك وعد الله سبحانه بها الشهداء والصالحين، إذ فيها جنة عرضها  السماوات والأرض، وفيها أصحاب كرام وأفراح لا تنتهي ، تقول على لسان شهيد يخاطب أمه :

إني هناك مع الملائك أرتقي     فدعي تبــاريح المرارة وانظريني

وعد قطعناه معا أن نلتقي    في الخلد في ألق الغصون وفي العيون

وأحس أفراح السماء تلفُّني       وتدور بي بين السنا ، أفما تريني([143])

       بل إنها ترى أن تراب الشهيد الذي سقط في الدفاع عن الأقصى غدا زاكيا، فكأنه روضة عطرة تستحق الإكرام :

أرخصت للمسجد الأقصى دماها     أي درب بعد بذل النفس أطهر

فانثري في روضة الدنيا شذاها    فدِماها في ثراك اليوم تنثر([144])

      وكأنها تأثرت في ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الشهيد : " والذي نفسي بيده لايُكْلمُ أحد في سبيل الله ، والله أعلم بمن يُكْلَم في سبيله إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك([145]) " .

ج-تحولات المكان :

    التحول المكاني ينم على الحالة النفسية للشاعرة حينما تعيش تجربة شعورية ما، فقلبها في أيام الحج تحول نفسياً عن مكانه وجاوز الحجب وسما، ورقي إلى جنة الله الواسعة، ولذلك قالت :

وقلبي في ذرى الإيمان يرقى      إلى خُلْدٍ يسابق كل ركب

فموج قام يدنيه، وموج    علا، فسما، وجاوز كل حجب([146])

    ولما ولدت صغيرتها أحست أن حياتها صارت جنة ووروداً :

أنتِ الندى والعطر والغيث الذي    أثرى بروضي فاستحال جنانا

وسلال ورد قد تبسم عطرها     فوق الخدود وداعب الأغصانا([147])

  وحياتها تحولت إلى ظلام وشتاء قارس منهك بعد أن كانت ساطعة كالشهاب ورياضاً ناضرة :

كشهاب كان ومضا ثم يخبو     ثم يهوي بين طيات الغمام

واستحالت روضة الدنيا شتاء     قارسا يعتاده طول السقام([148])

    والرياض الباسمة في فلسطين تحولت إلى قبور صامتة بظلم الصهاينة :

نوّارة الزيتون من أرداك ؟    من أشعل النيران في مغناك ؟

صمت يخيم في رباك كأنما     قد طاف فيها طائف فدهاك

هذا الوجوم أحال كل خميلة     قبرا ينوح حمامه لبُكاك([149])

    وأبطال الحجارة حولوا أرض فلسطين إلى سماء يعتلونها كالنجوم ، كما جعلوا حجارة فلسطين سيوفاً تسخر من الصهاينة وتتهاوى أمامها حصونهم العاتية :

أنجم من نسل (حطين) توالت     في ظهور المجد تحبو أو تصوّر

ثورة الأحجار والحجار سيف     إن رمت رجسا فبالأسياف تسخر

تتهـاوى في شظاياها حصون     لعـــــــدو خاسئ فالكفر أدبـــر([150])

د-المكان موطن ذكرى وعبرة :

    الشاعرة مرهفة الأحاسيس، ولذلك كانت ترى في كثير من المواقف الحميدة أو المأساوية  مواعظ وعبراً ينم عليها المكان الذي تحكي أفراحه أو مآسيه .

    فالكون مثلاً مجال رحب لذكر الخالق سبحانه بسمائه وأنوارها، وجباله الشاهقات، وببحاره وما فيها من عجائب المخلوقات، وكأن هذه الكائنات والعجائب من المخلوقات تأخذ لبها وهي تتأمل في جلال قدرة خالقها عز وجل :

ويتيه فكري في الرواسي الشاهقا     ت وصمتها وجلالها وذُراها

وكنوز أعماق البحار يضمها    عذب الجمــــال، وقدرة تتنـــاهى

وتموج في قلبي مواويل السنا     صــــورا تسبح في الدنا مولاها

وأفيق لا أحصي ولن أحصي لها    عدداً ، ورب الكون قد أحصاها([151])

 والكعبة الشريفة  ذات جلال وبهاء وسكون وهداية، وحولها التوحيد والأدعية تتعالى في الآفاق:

جلال البيت يسبح في سكون     وأنوار الهدى شعَّت بعُجْب

وأصغى الكون فالآفاق همسٌ     وأنفاس الوجود دعاء صب

وتوحيــــد تعالى في سحابٍ    وأنسام وأفــــــلاك وشهب([152])

   وقد يكون المكان عبرة للمعتبرين ، فالكون يدور في دنيا ملؤها الأوهام والغرور ، والحياة غدت نواحا بين قبور لأن الناس بعدوا عن الصراط المستقيم، وتاهوا عن الطريق السوي ،والفلك يدور ويدور، ودهر يولي وتأتي دهور :

فلك ويدور يدور يدور     دهر ولى وتجيء دهور

نتلفت فالماضي وَجِل     والحاضر نَوْح بين قبور

والدرب لغايتهـــا وصلت    ما عــــاد لنا للدرب عبور

قد تهنا عنها في سرف    والكون يدور يدور يدور([153]) 

    وقد تكون العبرة من كثرة المظالم ، فهذه فتاة الشيشان تلقى مر العذاب في حياة قاسية مؤلمة في أماكن شتى :

وصوت من بعيد الدار يدنو     وأسمع في تأوُّهه نداها

هناك ودون أربُعها سعير     وأهوال وإعصار محاها

لذاك الكوخ تنظره عيوني     فأسكب في جوانبه أساها

لأهل الدار كالأغنام تسبى     وسيف في يد الدنيا سباها

هنا في القفر أحزاني وبؤسي     وآلامي هنالك في رباها

وتلك الدار تبقى في خيالي     وأسمع في تنهدها نِداها([154])

    وقد تكون الذكرى سعيدة، وتروح الشاعرة تقارن بين حاضرها وماضيها، فهي تذكر الأيام السالفة حينما كانت في بلادها تلهو في البحار، وكانت تشعر بالسعادة لذلك، ولكنها الآن تعيش في ليل مؤلم :

كانت لنا الأفراح عمرا والربيــ  ــع مراتعاً والشمس أطراف الستائر

كانت مياه البحر مركبنا ورمل الشط  -  نجـوانا ولقيانـــــا البشائـــر

واليوم أوراق الخريف أنا المبعـ    ــثرة الحنايا والخواطر والمشاعر

يا أيها الليل احتويني في ثناياك العطاف وضمني بين المحاجر([155])

هـ-جمالية المكان :

     إن الله جميل يحب الجمال ، والجمال ظاهر بارز في مخلوقاته، في الطبيعة الخلابة صامتها ومتحركها، في صورها المتناسقة البديعة التي تأخذ بالألباب ، في فصولها المتعددة ، في بحارها وجبالها وسهولها ... وقد عرضت علينا الشاعرة لوحات من جماليات الطبيعة في السماء والأرضين، في المروج الزاهية والشموس الذهبية والجبال الشامخة ، وكانت في عرضها هذا تديم التأمل في قدرته تعالى ثم تسبحه بكرة وأصيلا :

صور من السحر البديــع تناثرت     مابين أطراف الــــدّنا وسماها

أَتْبَعْتُها بصري وفي إغماضــة     طاف الخيال سهولـَـها ورُباهـــا

ويطوف بين المخمل الزاهي وقد    ألقت خيوط الشمس فيه سناها

فكسته من سحر الربيع نضـــارة     ومن النضار فقد كسته رداها

ويعــــود طرفي كي يحط بشاطئ     أسرى به طول الزمـــان فتاها

ونأت به عن ضجة الدنيا خطى     نامت على طرف المحيط خُطاها

وهناك بين صخوره ورمالــــه     غنّت مواويـــــل الطيور غناهـــا

يسعى إليها المــوج يزحف لاهيا     يغــريه من بين الصخور حلاها

ومن الجمال العذب يأخذني المدى     خلف التلال الخضر حيث تناهى  

وحش الفلاة مليكهـــا فإذا صحا     صـــوت الحياة فللقتـــــال دعاهــا

ويتيه فكري في الرواسي الشاهقا     ت وصمتها وجلالها وذُراهـــا

وكنوز أعمــــاق البحار يضمها     عـــذب الجمال وقـــدرة تتناهى

وتموج في قلبي مواويل السنا     صـــورا تسبح في الدُّنا مولاها([156])

و-المكان الرمز وإيحاءاته :

    تتخذ الشاعرة من المكان رمزا لحالة ما، فجفاف روض الأقحوان رمز لحياتها التي بدأت بالذبول بعدما كانت زاهية ، والطير الذي هجر الربى، والجناح الهائم رمزان لهجرتها من وطنها بعد معاناتها، والدرب الصاعد للسنا هو الإسلام الذي ينقذها من المعاناة، وذلك في قولها :

فات الأوان أيا زمـــانُ     وجف روض الأقحوان

والطير قد هجر الربى     واللحن مجروح المعاني

وأنا جنــــاح هائم      يمضي إلى كل المــــــواني

يطوي صدى الأيام في     درب من الأحـــلام ثان

درب تصاعـــد كالسنا     حرا كأمواج الحنـــــان

ربي وديني والرضا    والفوز في ظل الجنان([157])

   والنخلة رمز للمسجد الأقصى الذي زاره الرسول صلى الله عليه وسلم، والفأس رمز لبطش الصهاينة في القدس ، والشوك رمز المعاناة والأحزان .

مســـرى الرسول به أضاء جبينه     والله بارَكَـه منار عُلاك

يا نخلة قدسية قــــد أحرقت     والفأس فوق الغصن قد أرداك

يسري أنينك في فؤادي محرِقا    ويغوص في الأعماق كالأشواك([158])

    ومعبد الشيطان رمز للحياة اللاهية، وللأحزان الناجمة عن هذا التفلت المؤدي إلى تحطم آمال الفتاة العابثة، والمعاول والأمواج رمز للضياع ولقسوة الحياة بعد الخيانة وتخلي الآخر عنها :

وتحطـّـم الحلم الجميل كما قناديـل تُحطَّــم

في لحظة كان الجحود معاولا تهوي فيهدم

سُمّاً وينحرف الفتى في معبد الشيطان يأثم

والمــــوج يأخذها لشط دون شط قد تجهّم([159])

2-المكان فنياً في الديوان :

    ترك المكان بصماته الفنية في ديوان الشاعرة في لغة القصائد وفي تصويرها الفني :

أ-المكان في لغة الديوان :

    ظهر أثر المكان في لغة الديوان في عناوين القصائد، وفي ثناياها، وقد كثر ذكر الأمكنة في العناوين حتى بلغ خمسة عشر من اثنتين وخمسين قصيدة منها ( لبيك إلى البيت ، وداع البيت ، في دروب السنا، بغداد، لا يا جزائر، واحات النخيل ، وادي الموت .. ) .

    أما تصديراتها فلم يكثر فيها ذكر الأمكنة إلا أبو ظبي إذ كانت الشاعرة تقطنها حينما سطرت مقدمة ديوانها في 2005م .

    أما في ثنايا القصائد فكان للمكان فيه فعاليته، فهي تطلب مثلا أن يضمها الليل بين أعطافه:

يا أيها الليل احتويني في ثنا     ياك العطاف وضمني بين المحاجر([160])

    وحينما أرادت التحذير من الحضارة الغربية كان للمكان أثره في قصيدتها إذ قالت :

يا بلاد الشــرق إن تبغي رشادا      لا تذوبي في حضارات بنَوْها

صوتهم في الشرق والغرب ارتياب     وسموم قاتلات فاحذروها([161])

     وفي التعبير عن أحزانها لما حل بفلسطين تنادي القدس ( المكان )  وتكرر ذكرها :

يا قدس كيف أحبة خلَّفتهم       دون السجون وشائك الأسلاك

يا قدس كيف تعيش في آلامها     مهج الأمومة والقيود يداك

قولي لها يا قدس إني قادم     وإلى الفداء نذرت صرح علاك([162])

    وكانت الألفاظ في هذه الأبيات تنتمي إلى حقول دلالية واحدة ذات قرابة معنوية([163]) تصور أحاسيس الشاعرة مثل ( القدس ، أحبة ، سجون، أسلاك، آلام ، قيود، فداء، نذر ، صرح علاك ) وتربط بعض هذه الألفاظ علاقة التضاد كما في ( أحبة وسجون وآلام .. ) .

        ومن تأثير المكان على لغة الشاعرة أنها أنهت قصيدة لها بمثل ما بدأت به من ذكر دوران الكون، وقد سمى د. كمال غنيم هذا بالبناء الدائري ، وذكر أنه يعتمد على موقف معين أو لحظة نفسية ثم العودة مرة أخرى إلى الموقف نفسه ، ويؤدي هذا إلى تعميق الفكرة التي بدأ بها من خلال العودة إليها([164]) . قالت :

فلك ويدور يدور يدور     دهر ولى وتجيء دهور

أمس يمضي ، ويطل غد      شهر تطوي ذكراه شهور([165])

     ثم ختمت القصيدة بمثل ما بدأت به بقولها :

وينادي صوت الحق بنا      هذي الدنيا وهم وغرور

والكون يدور يدور يدور([166])

     وهذا التكرار يوحي بأثر حركة المكان " الكون " في مخيلتها فكأنه شرارة يحرك مشاعرها .

    ومن تأثر اللغة بالمكان ورود بعض عباراته كأنها حكم وأمثال على نحو قولها :

فإذا الخريف سرى فلا تتعجبي     كل الدروب لرقدة وتراب([167])

    فالشطر الثاني يشبه المثل أو الحكمة التي تقدم موعظة للآخرين، ومثل ذلك في قولها :

هي جرح في شغاف القلب دام      هل يداوي الجرح من أجرى دماها([168])

      فالاستفهام في الشطر الثاني، والذي كان لمكان الجرح وجريان دمائه أثره،  يصلح أن يكون مثلاً لمن يظلم ويسبب المصائب والألم ثم يدعي الرحمة بالمظلوم .

    وللمكان أثره في التناص الوارد في القصائد، والتناص مفتاح لقراءة النص، وبعضه من الاقتباس الديني الذي يحافظ فيه الشاعر على دلالته، وهو مصدر ثر يغني التجربة الشعرية، ويمنح النص مذاقا خاصا يجعله مقبولاً لدى المتلقي لما فيه من ثراء قدسي([169]) .

    وقد تأثرت الشاعرة بالقرآن الكريم في اقتباساتها أو تناصها ، من ذلك قولها :

مددت يدي والذنوب ورائي    وهمز الشياطين كانت شِراكا

فخذ بي لدرب الهدى مستقيما     وطهر فؤادي بفيض هداكا([170])

       فالذنوب وهمز الشياطين كانت شراكا ، ودرب الهدى مستقيما ألفاظ تأثرت بالقرآن الكريم .

      كما تأثرت الشاعرة بالحديث الشريف في قولها عن رمضان وتفتُّح أبواب الجنة فيه :

رمضان أشرق نوره وتبسما     خفق الفؤاد بنوره وترنما

فتفتـَّـحت أبواب رحمته هدى     وتبتُّلاً وتقرُّبا وتنعُّما([171])

    كما استدعت الشاعرة قصة التتار وهي تتحدث عن كوسوفو المكان في تناص تراثي تاريخي وذلك في قولها :

عـــــاد التتـــار وهاجت السبل    كلٌّ لدرب الموت يرتحل

بعثت وحوش الأرض ضارية    في روحها الإجرام ينتقل

والخنجر المسموم في سفه     يغشـي الصدور وسمُّه جذل

ويد التتــــار بدارنا كشفـت     سترا قبيحـا ليس ينسدل([172])

    فهذا التراث الشعبي المرتبط بجرائم حلت في الأمة في مكانين تشابها في تعرضهما للظلم والبطش ابتعثته الشاعرة مستغلة أبعاده ودلالاته القديمة، مضيفة إليه من مشاعرها ما جعله حيا بارزاً للعيان .

ب-المكان والتصوير الفني في الديوان :

    للمكان أثره الواضح في صور الديوان ،مشاهد كانت أو صوراً جزئية ، وقد كشفت هذه الصور مواقفها من الواقع وأحاسيسها تجاهه، كما بين تأثيرها في المتلقي .

    فمن المشاهد الكلية حديثها عن الصومال والحرمان الذي تعاني منه، حتى إن ضروع الأرض غدت تستعر، وهياكل الموتى كانت تتناثر حتى غدت بحرا من الجثث، وكان الأطفال يحتضرون في صمت ووهن كالزهرة الذابلة، والأفق يعتكر جوه وهو يودع الأموات ويسترهم بين الرمال ، قالت الشاعرة في تصوير هذا البلد المنكوب :

سكنتْ وألقــــى سهمَه القدرُ     كالنـــــار لاتبقــــي ولا تذر

ويغوص في الأعماق يلفحها      فإذا ضروع الأرض تستعر

جثث مبعثـــــــرة هياكلهــــا     بحر من الأمـــــــوات تنتظر

ويـــــد المنية كفها شَــرَكٌ     تنقضُّ فـــي صمــت وتقــتــدر

ولكم ، وكم في الصمت قد وأدت     أنفاس طفل راح يحتضر

فوق الثرى ينهار في وَهَـــن      يذوي الرحيــق ويذبل الزهر

والكون في صمت يودعهـــا      والليـــل في الآفــــاق يعتكــر

والـــداء في الأنفاس يقتلهــا     والمـــوت بين الرمل يستتر([173])

     فهنا نرى الصور المكانية  في الأرض تستعر( استعارة مكنية)، والهياكل بحر(تشبيه)، والمنية تلقي شباكها ويقبض كفها الأرواح (استعارة مكنية) ، والطفل ينهار ميتا فوق الثرى       ( صورة واقعية)، والكون يودع ( استعارة مكنية) ، والموت يستتر بين الرمال( مجاز مرسل علاقته مصدرية إذ عبر عن الأموات بالمصدر الموت ) ... وهذه الصور المكانية تنم عن مشاعر الشاعرة المؤثرة ، مما جعل الصورة نامية تشترك في التأثير في نفوس المتلقين([174]) .

    ومن المشاهد الجزئية التي كان للمكان فيها بصمته قولها في وصف الشمس وهي تلقي بظلالها على البحر :

ضحكت وألقت في مداه صباها      يسري بها في شاطئيه سناها

وتناثرت فوق الرمال شعورها     فتبسَّـــــمت من فرحة شفتاها

وتشعشعت ذهبا يسيل كجدول     قد ذاب فيه مع الحرير حلاها

نثرت عقود النور فوق جبينه       ورمــت إليه مع النسيم رِداها

فتألقت ماساً ضفائر موجــه      وتراقصت درا فطــــاب جناها

وعَــــدَت تلملم من سناه لآلئا     وتضـــــم عقــــــدا مزقته يداها

حينـــا تهيم مع النسيم وتارة     تشتــاق للرمــــل الندي خطاها([175])

     لقد برزت فاعلية المكان في تصوير هذا المشهد ، فضياء الشمس يسري في الشاطئ ، وخيوطها الذهبية تتناثر فوق الرمل، وكانت ترسم فوق أمواج البحر خيوطا براقة ممتزجة بالحرير، أو كانت كعقود النور فوق جبين البحر، ولا سيما حينما يتحرك النسيم فوقها فيكون كالرداء المذهب، أو يكون كألماس أبيض يتراقص، أو كدرّ (في تشبيه جمع) ، وكانت الأمواج تشتاق إلى الرمل فتتقدم إليه مع النسيم بخطواتها. وهذا المشهد الجزئي هو جزء من مشهد الشمس في النهار والليل عند البحر في قصيدتها فوق الأمواج .

    وللمكان فاعليته في الصور الجزئية من تشابيه واستعارات وكنايات أيضا ، فالأماني في نظر الشاعرة كانت قبل ذهابها إلى البيت الحرام شبه مفقودة، ولذلك عبرت عنها بـ (زهور الأماني  بواد جديب ) في تشبيه بليغ إضافي :

سقتني الأماني وعودا وكانت     زهور الأماني بواد جديب

    فهُبي أيا ريح بيت الحبيب     وضمي الجوارح عند الهبوب([176])

     واحتضار الأموات ورعشات الروح عند خروجها كانت في نظر الشاعرة كرعشات الأفلاك، فكلاهما يشير إلى الزوال ، قالت في تشبيه تام :

ثكلٌ، جراحٌ في الصدور ، تشردٌ      مهج تذوب كرعشة الأفلاك([177])

     وموت أهالي السودان ولا سيما صغارهم في الطرقات لفقرهم وتشردهم يشابه ذبول جذور النبات التي فقدت الماء ، وذلك في تشبيه تمثيلي يتكئ على المكان :

عبر وادي الموت تمضي في سكون      في دروب الموت يرميها قضاها

أنفس ماتت كمــــا تذوي جذور       في بطون الأرض لم يُرْوَ صداها([178])

    وحياة الشاعرة كسراب، وكذبول الشمس، وكشهاب ، ولكل صورة من تشبيه الجمع هذا نرى المشبه به يتكئ على الترشيح ليقوي الصورة ، قالت تحت عنوان " حياتي " :

كسراب تتــــوارى في الزحام     كل ما فيهـــــا بقايــــا من حطام

كذبول الشمس قد ولى سناها      في دروب الغيب يمضي للظلام

كشهــــاب كان ومضا ثم يخبو     ثم يهوي بيــــن طيات الغمام([179])

     فالسراب والدروب وطيات الغمام أماكن ساعدت في تشكيل الصورة .

    وهذا تشبيه بليغ في وصف الطبيعة اتكأ على المكان أيضا بدا من قول الشاعرة :

نثـــــــر الغيـــــم على الأرض ظلالا     ورنا النجم حياء ودلالا

وسرت في الأفق اشباح غمام     تستزيد الغيث في السحب جبالا([180])

    فالغمام شبح في تشبيه بليغ مكاني، وفي البيتين استعارات أثر فيها المكان أيضا ، فالغيم ينثر ظلاله كإنسان،والنجم ينظر حياء،والغيم يستزيد الغيث فوق الجبال(استعارات مكنية تشخيصية) .

     وهذه صور تشبيهية قلدت فيها الشاعرة الصور الذهنية المعروفة في الشعر العربي ، لكنها أضفت على هذه الصور الذهنية التقليدية ما جعلها تبدو كالجديدة وذلك كقولها على لسان الحرية :

جبلٌ أنا كالطود يبقى شامخا      ليست تحركه الرياح وتكسر([181])

    فأنا (الحرية ) جبل وطود ، وهذا التشبيه معروف في الشعر العربي ولكن هذا الجبل ليست تحركه الرياح ولا تكسره، وبهذه الإضافة إلى الصورة التقليدية أبرزت الشاعرة أثر المكان في صورة توافقية([182]) عناصرها الجبل الشامخ والرياح العاتية .

    وكوسوفو وهي جزء من أراضي البوسنة والهرسك لها أثرها في الحديث عن جرائم العدو فيها ، تقول الشاعرة :

وغدت عيون الكون في وجل      ما عاشت الأكوان والمُقَل

ترنــــو فأشلاء مبعثــــــرة     في صمتهــــــا الأهـــوال تقتتل

والأرض بعد العشب قد زرعت     جثث الرجال وعشبها خجل

ويـــــد التتار بدارنا كشفت     ستــــــرا قبيحـــا ليس ينسدل([183])

    فالكون ( مكان ) له عيون تنظر في خوف( استعارة مكنية مرشحة)، والأشلاء تبعثر في قتالها فتزرع جثثها فوق الأرض(استعارة مكنية ) إذ شبهت الجثث بالزرع ، وجرائم الصرب في ديار كوسوفو كانت كجرائم التتر( استعارة تصريحية)، والصورة إضافة إلى ذلك كانت متوافقة  فالكون يخجل من القتل، والجثث المبعثرة والقتل في صمت، والأرض تزرع الجثث، ويد التتار في كوسوفو تكشف القبح الذي لم ينته من كثرة الجرائم، وهذا التوافق بين عناصر الصورة قوى الدلالة وحرك المشاعر والأحاسيس .

      وجمال الغروب أبرزته الشاعرة من خلال الاستعارة المكنية  التي بدا فيها تراسل الحواس:

فالندى والروض والعشب ارتدى     من رداء الليل حُلما أرغدا

لوحة من فتنة من نعمة     من بهاء ، من جلال ، من ندى([184])

     فالليل رداء ( تشبيه) ، وقد ارتداه الندى والروض والعشب في تحويل هؤلاء إلى بشر يلبسون ( استعارة مكنية )، وارتداء الحلم فيه تراسل حواس لأن الحلم يتخيل ولا يرتدى .

 وقد اتكأت الشاعرة أيضا على الاستعارة التصريحية والكناية لإبراز دور المكان في صورتها :

فمشاعل الإيمان لن تخبو ولن     يذوب عبير المسك فوق ثراك([185])

     فأطفال الحجارة مشاعل إيمان في استعارة تصريحية، وعبير المسك فوق الثرى كناية عن الشهداء لأن دمهم ريحه ريح المسك كما في الحديث الشريف:" والذي نفسي بيده لا يُكْلمُ أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يُكْلَم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم والريح ريح المسك([186]) " .

   والصور التقابلية المعتمدة على المكان لها جمالها في قول الشاعرة،  وهي تصف جرائم العدو:

والفجر أطياف قد اجتمعت    في روعة الأحلام نغتسل

لكن صوتا كالفحيح بــــدا     في بــــؤرة الإجرام يحتفل

وترنحت شمس الربيع كما     قد غالها في دربها الأجل([187])

    فالفجر كان في روعة الأحلام يسعد، وشمس الربيع كانت تسقط على الأرض لتدفئ الكون، ولكن الجرائم كانت كالأفعى تصدر أصواتها في أماكن الإجرام، كما تصدى الموت لشمس الربيع مما جعلها تترنح قبل أن تسقط بهذا الإجرام .

    وهكذا غدت الصورة التقابلية المرتكزة على المخالفة ([188]) تعتمد على الأمكنة كالبؤر والدرب ، والأزمنة كالفجر والربيع .

    وهذه صورة تقابلية أخرى لعالم يعاني الموت والجوع والحرمان ، وآخر يعيش في هناءة العيش ورغده، وقد اعتمدت الصورة أيضا على المكان ، قالت لمياء في قصيدتها( وادي الموت):

يا لَعَيْني ما أرى إلا رفاتـــــاً     في مدى الإبصــــار ساقتهـــــــا خطانا

عبر وادي الموت تمضي في سكون    في دروب الموت يرميها قضاها

أنفس ماتت كمــــــا تذوي جذور     في بطون الأرض لم يــروَ صداها

والدنــــــا في هانئ الأحلام تغفو     والمنى تحلـــــو بعيدا عن رؤاهــا

والأريج العذب يزهو في الروابي     والسنــــــا والنور تاج في سماها

عالَم في غير واديهــــــا بعيدا     يرشف الأفـــــراح كأســــا من سناها

عالم من غير إحســـاس تردى     بات كالأنعــــــام يحيـــــــا في دُناهـا

هي جرح في شغاف القلب دامٍ       هل يداوي الجرح من أجرى دماها ؟([189])

     فهنا وفي هذه الصورة التقابلية  نرى  فاعلية المكان ، ففي الطرف الأول ( في وادي الموت) نرى الرفات على مد البصر وقد ساقتها خطاها إليه ، وهناك دروب الموت والناس الجوعى يموتون كما تموت جذور النبات حين تنقطع عنها المياه . وفي الطرف الثاني نرى الأحلام الهانئة للمتنعمين والعطر والنور ورشف الأفراح .. ثم تعلق الشاعرة بعد ذلك معبرة عن رأيها في هذه التجربة الشعورية بأن العالم غدا لا إحساس له كحيوان لايبالي بالفريسة، وهذا ما يؤلم أشد الألم ، والشعوب  تستجدي الدول الكبرى التي كانت هي السبب في هذا الفقر والقتل .

     وهل يداوي الجرح من أجرى دماها .

الخاتمــة

    إن دراسة النصوص الأدبية  تكشف عن مزاياها والمؤثرات التي تركت بصماتها عليها ، وقد يستحضر المتلقي من مدلولاتها وتوجهاتها ما يجعله يفسرها تفسيرا يبدو فيه جديدا أو كالجديد، مما قد لا يخطر على بال الأديب .

   وقد رأيت في ديوان الشاعرة لمياء الرفاعي منذ عنوانها أثراً للزمان والمكان ، فعنوانها ( قالت المرآة ) هو كشف لأثر ( الزمان ) في حياتها ومشاعرها ، ولما تغلغلت في قصائده وجدت فاعلية الزمان والمكان في ثناياها بشكل لافت للنظر ، فلكل منهما ديمومته وشموليته وقدسيته وكونه مجالا للذكرى والعبادة أو رمزا لشيء ما إضافة إلى جماليات المكان، كما تبين لي أثرهما في لغة الديوان، وفي تصويره الفني مشاهدَ كلية وجزئية وصوراً جزئية تشابيه واستعارات وكنايات وصورا تقابلية ...

    وكان لاختيارها الأبحر العروضية القصيرة أو المجزوءة غالبا، وما فيها من زحافات وعلل، أو تقسيمات صوتية، أو تدوير أو وقفات دلالية أثر في الزمن الموسيقي للقصيدة، وكذلك لوقفات علامات الترقيم، والجمل الاعتراضية و نقط الحذف، ولاختيارها حروفا لها مدى صوتي أطول سواء أكانت في القافية أم في الحشو .

    ولم أنس قبيل الدخول في دراسة فاعلية الزمان والمكان أن أمهد بموجز عن حياة الشاعرة التي لازالت مغمورة لم يسطر أحد حياتها إلا ابنها في موقع إلكتروني رثاها فيه ، وقد أحببت بهذه الدراسة أن أشير إلى شاعريتها علها تحظى بدراسة مستقبلية واسعة  .

المصادر والمراجع

1-     القرآن الكريم .

2-     أسعد، يوسف ميخائيل : سيكولوجية الإبداع في الفن والأدب، الهيئة المصرية العامة للكتاب ط 1986م .

3-     بختين، ميخائيل : أشكال الزمان والمكان في الرواية ، ترجمة يوسف حلاق ،منشورات وزارة الثقافة ، دمشق ، سوريا ، ط 1990م .

4-     بشارة الخوري " الأخطل الصغير : : ديوان بشارة الخوري

5-     الجزار، محمد فكري :الخطاب الشعري عند محمود درويش، القاهرة ،دار إيتراك للنشر و التوزيع 2001م.

6-     الحسناوي ، محمد : الفاصلة في القرآن الكريم ، دار البشير ، عمان ، الآردن ، ط2 .

7-     حمدان، ابتسام أحمد: الأسس الجمالية للإيقاع البلاغي في العصر العباسي ،دار القلم العربي ، حلب ، سوريا ، ط 1997م .

8-     خلوصي، صفاء : فن التقطيع الشعري والقافية، مكتبة المثنى ببغداد ط5 س 1977م .

9-     الرباعي ، عبد القادر: الصورة الفنية في شعر أبي تمام، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، ط2 س 1999 م .

10-                          الصورة الفنية في النقد الشعري ، دراسة في النظرية والتطبيق ، دار العلوم للطباعة والنشر ، الرياض ، ط 1984م .

11-الرفاعي ، لمياء بسيم الرفاعي : ديوان قالت المرآة ، دار القلم بدمشق ، ط 1428هـ ، 2007م .

12-الرويلي ، ميجان . والبازعي ، سعد : دليل الناقد الأدبي ، إضاءة لأكثر من خمسين تيارا ومصطلحا نقدياً معاصرا ، الدار البيضاء بالمغرب ، ط2 س 2000م .

13-ساعي، بسام : الصورة بين البلاغة والنقد ،  المنارة للطباعة والنشر  ، 1984م

14-شحادة ، عبد العزيز محمد :الزمن في الشعر الجاهلي، مؤسسة حمادة للخدمات والدراسات الجامعية، إربد ، الأردن .

15-عبابنة ، سامي : اتجاهات النقاد العرب في قراءة النص الشعري الحديث ، عالم الكتب الحديث ، إربد، الأردن ، ط1435هـ 2004م .

16-العسقلاني ، أحمد بن علي بن حجر : فتح الباري بشرح صحيح البخاري، تحقيق دار أبي حيان بالقاهرة ، ط 1416هـ 1996م .

17-عياد: شكري محمد : موسيقا الشعر العربي ،مشروع دراسة علمية ، دار المعرفة بالقاهرة ط1986م .

18-غنيم، كمال أحمد : عناصر الإبداع الفني في شعر أحمد مطر، مكتبة المدبولي بالقاهرة ط 1988م .

19-قصاب، د. وليد : البلاغة العربية ن البيان والبديع ، دار القلم ، دبي ، ط1418هـ، 1997م .

20-القصراوي، مها حسن :الزمن في الرواية العربية ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، ط2004م .

21-المبارك ، محمد: فقه اللغة وخصائص العربية ، دراسة تحليلية مقارنة للكلمة العربية وعرض لمنهج العربية الأصيل في التجويد والتوليد ، دار الفكر للطباعة والنشر 1421هـ 2000م .

22-محمد يعقوب ، عايدة عبد الحافظ: المتلقي والنص الآخر بين التراث والمعاصرة ، جمعية حماية اللغة العربية بالشارقة، الإمارات العربية المتحدة، ط 1423هـ2000م .

23-المراغي ، أحمد مصطفى: علوم البلاغة، البيان والبديع والمعاني ، دار الكتب العلمية ببيروت، ط 1986م .

24-مناع، هاشم : الشافي في العروض والقوافي،دار المنار، دبي، الإمارات العربية المتحدة ط 1988 .

25-ابن منظور ، جمال الدين محمد بن مكرم ، لسان العرب ، دار صادر ، بيروت 1997م .

26-النصير ، ياسين: إشكالية المكان في النص الأدبي ، دراسة نقدية ،دار الشؤون الثقافية ببغداد ، العر اق ، ط 1986م .

27-النووي ، محيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي: صحيح مسلم بشرح النووي، تحقيق رضوان جامع رضوان ،18 جزءاً في 9مجلدات، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع بالقاهرة ، ط2001م .

28-هلال، محمد غنيمي: النقد الدبي الحديث، دار العودة ببيروت ، 1987م .

الدوريات

1-     أحمد ملحم ، إبراهيم :الشعر العمودي ، مجلة الإمارات الثقافية ،ع مارس 1436هـ 2015م ، ص 27 .

2-     بيره جكلي، زينب : الصورة الفنية في شعر ابن منجك الشاعر العثماني 1005-1080 هـ نشر في مجلة كلية اللغة العربية في جامعة الأزهر ع 26 س 2008م ص 2281 -2312

3-      السعافين ، إبراهيم : طائر الفاو بين قلق الضعف ووثوقية القوة الغائية ، مجلة شؤون أدبية الصادرة عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ، س1 ع 3 س 1987م ص 112 .

4-  محمد الشيخ عبدو، مضر : التناص في شعر د. وليد قصاب ، مجلة الأدب الإسلامي م22 ع86 جمادى الآخرة – شعبان 1436هـ / نيسان، أبريل – حزيران، يونيو 2015م ، ص66 .

المواقع الإلكترونية

1-   أرشيف أدباء وشعراء ومطبوعات : موقع منتديات ستار تايمز  في شبكة المعلوماتية .

2-   موقع رابطة أدباء الشام في 19/12/2011م .

3-   موقع google باسم لمياء عمر بسيم الرفاعي : مقال لابنها محمد بشار الرفاعي نشر في 28/9/2013م  .

 

[1] ) دلالة المدينة في الخطاب الشعري / 312   

[2] ) أشكال الزمان والمكان في الرواية / 5

[3] ) ديوان قالت المرآة / 5

[4] ) ديوان قالت المرآة / 19

[5] ) ديوان قالت المرآة / 96

[6] ) من موقع google  باسم لمياء عمر بسيم الرفاعي الذي تحدث فيه ابنها محمد بشار في 28/ 9/ 2013 عن حياتها بعد وفاتها التي كانت سنة 2009م ، ومن أرشيف أدباء وشعراء ومطبوعات : موقع منتديات ستار تايمز  في شبكة المعلوماتية .

[7] )ينظر في الديوان قصيدة أغاريد المنى / 131 وصغيرتي / 134

[8] ) موقع google  باسم لمياء عمر بسيم الرفاعي المشار إليه في هـ2

[9] ) ديوان قالت المرآة / 69 ، وينظر قولها عن والدها ص 72

[10] ) مقدمة الديوان / 5

[11] ) موقع رابطة أدباء الشام في 19 /12/ 2011م

[12] ) صحيح مسلم ج15 م8 ص5 ، ونحن ندرك أن الفاعل الحقيقي هو الله سبحانه ، ولكننا حينما ننسب العمل إلى الزمن ننسبه إليه من باب المجاز المرسل ذي العلاقة الزمانية : ينظر للمجاز المرسل في كتاب البيان والبديع /114

[13] ) لسان العرب مادة زمن

[14] ) الزمن في الشعر الجاهلي / 19

[15] ) اتجاهات النقاد العرب في قراءة النص الشعري الحديث / 37 -44

[16] ) دليل الناقد الأدبي / 45

[17] ) ديوان قالت المرآة / 167

[18] ) قالت المرآة /30

[19] ) اتجاهات النقاد العرب في قراءة النص / 37

[20] ) ديوان الأخطل الصغير /

[21] ) ديوانها قالت /57

[22] ) الديوان / 88

[23] ) الديوان 90-93

[24] )الزمن في الرواية / 23

[25] ) المتلقي والنص الآخر / 42

[26] ) الديوان / 126

[27] ) الديوان /51

[28] ) الديوان / 157

[29] ) الديوان /178

[30] ) الديوان 121- 122

[31] ) الديوان / 125 ، ومثلها في ديوانها أيضا ص 175 .

[32] ) الديوان / 15

[33] ) الديوان / 74 - 75

[34] ) الديوان / 167

[35] ) الديوان / 200

[36] ) الديوان / 194

[37] ) الديوان / 15

[38] ) الديوان / 117 -118

[39] ) الديوان / 178

[40] ) الديوان / 34-35

[41] ) الديوان / 41، ومثلها في ص 53 .

[42][42] ) الديوان / 53

[43] ) الديوان / 216

[44] ) الديوان / 205

[45] ) الديوان / 175

[46] ) الديوان / 173

[47] ) الديوان / 168

[48] ) الديوان / 98 ، ومثله ص 107 بعنوان وادي الموت وفيه تتحدث عن السودان  .

[49] ) الديوان / 156-157

[50] ) الديوان / 149

[51] ) الديوان / 121

[52] ) الديوان / 171

[53] ) الديوان / 109

[54] ) الديوان / 170

[55] ) الديوان / 127

[56] ) النقد الأدبي الحديث / 111

[57] ) الديوان / 92

[58] ) الديوان / 22

[59] ) سورة يس~ / 40

[60] ) ديوان

[61] ) ديوان الأخطل الصغير /

[62] ) محمد الشيخ عبدو، مضر : التناص في شعر د. وليد قصاب ، مجلة الأدب الإسلامي م22 ع86 جمادى الآخرة – شعبان 1436هـ / نيسان، أبريل – حزيران، يونيو 2015م ، ص66 .

[63] ) وهناك عناوين دينية ستة، وسياسية سبعة، واجتماعية  وهي في أربع عشرة قصيدة  .

[64] ) الديوان / 209

[65] ) الديوان / 210 - 211

[66] ) ينظر لذلك في الديوان ص 212 و213 – 215 ، ومثل ذلك في وصف الغروب ص 179

[67] ) الديوان / 82

[68] ) الديوان / 143 ، وينظر مثله لصغيرتها ص135

[69] ) تشبيه الجمع هو أن يأتي الشاعر بمشبه واحد ثم يأتي بعده بمشبهات به عديدات : علوم البلاغة / 201

[70] ) الصورة المرشحة هو أن تقترن الصورة بما يلائم المشبه به : علوم البلاغة / 250

[71] ) الديوان / 172

[72] ) الديوان / 139

[73] ) الديوان / 88

[74] ) الديوان / 55

[75] ) الديوان / 207

[76] ) الديوان / 47

[77] ) فتح القاري شرح صحيح البخاري باب الدعاء والصلاة من آخر الليل ، رقم الحديث / 1145

[78] ) الديوان / 191

[79] ) الديوان / 189

[80] ) الديوان / 109

[81] ) الديوان / 91

[82] ) الصورة الفنية في شعر أبي تمام / 241

[83] ) سيكولوجية الإبداع / 182

[84] ) عناصر الإبداع / 265-266

[85] ) الديوان / 105، ومثله عن بغداد / 88

[86] ) الحذذ مصطلح عروضي يعني حذف الوتد المجموع من التفعيلة فتصير متفاعلن : متفا ، فتقلب إلى فعلن : الشافي في العروض والقوافي / 231

[87] ) القطع مصطلح عروضي يعني حذف الساكن الأخير من التفعيلة وتسكين ماقبله، فتصير متفاعلن متفاعلْ  : الشافي / 238

[88] ) الديوان / 134

[89] ) الترفيل : مصطلح عروضي يعني زيادة سبب خفيف إلى ما آخره وتد مجموع فتصير متفاعلن متفاعلاتن : الشافي / 230

[90] ) الديوان / الديوان 184

[91] ) التدوير هو اتصال الشطرين وذلك بعدم انتهاء الكلمة بانتهاء تفعيلة العروض في الشطر الأول

[92] ) الإضمار هو زحاف في البحر الكامل، ويكون بتسكين الثاني فتصير متَـفاعلن : متـْـفاعلن : الشافي / 229

[93] ) الديوان / 60

[94] ) الحذف يكون بحذف السبب الخفيف من آخر التفعيلة فتصير فاعلاتن : فاعلا، فتقلب إلى فاعلن : الشافي / 231

[95] ) الديوان / 180

[96] ) القصر هو حذف الخامس وتسكين ماقبله فتصير فعولن : فعولْ : الشافي / 238

[97] ) الديوان / 60

[98] ) العصب زحاف يكون بتسكين الحرف الخامس فتصير مفاعلـَـتن : مفاعلْتن : الشافي / 236

[99] ) الديوان / 80

[100] ) موسيقا الشعر / 113.

[101] ) الديوان / 134

[102] ) الديوان / 106

[103] ) ألف التأسيس هي ألف بينها وبين الروي حرف يسمى الدخيل : الشافي / 255

[104] ) الديوان / 207

[105] ) فقه اللغة وخصائص العربية / 104- 105 .

[106] ) الديوان / 98

[107] ) الصورة الفنية في شعر أبي تمام / 226

[108] ) أحمد ملحم ، إبراهيم :الشعر العمودي ، مجلة الإمارات الثقافية ،ع مارس 1436هـ 2015م ، ص 27 .

[109] )الديوان / 167

[110] ) الديوان / 128

[111] ) عناصر الإبداع الفني / 303

[112] ) الديوان / 175

[113] ) التفويف :  هو نقرات موسيقية في أزمنة محددة متباعدة أو متقاربة:  فن التقطيع الشعري والقافية / 352

[114] ) الوقفة الدلالية تكون بانتهاء التفعيلة مع انتهاء الكلمة أو العبارة : الخطاب الشعري /  68

[115] ) الفاصلة في القرآن /  253 و 333

[116] )الديوان / 69

[117] ) الديوان / 129

[118] )الديوان / 19

[119] ) عناصر الإبداع / 302

[120]) الديوان / 191

[121]) الديوان / 204

[122] ) الديوان / 99-100

[123] ) الديوان / 162

[124] ) الديوان / 217-218

[125] ) الديوان / 175

[126] ) الديوان / 207

[127] ) الديوان / 58

[128] ) المتلقي والنص الآخر / 34

[129] ) الديوان / 18

[130] ) الديوان / 60     

[131] ) الديوان / 215

[132] ) الديوان / 181

[133] ) الديوان / 202 - 203

[134] ) الديوان / 18

[135] )الديوان / 16 -17

[136] ) الديوان / 37

[137] ) الديوان / 143

[138] ) الديوان / 49

[139] ) الديوان / 41 ، ومثله ص 21 و 49، وينظر لحديثها عن المسجد النبوي ص 51-52

[140] ) الديوان / 71

[141] ) الديوان / 116

[142] ) الديوان / 184

[143] ) الديوان / 86 - 87

[144] ) الديوان / 76

[145] ) فتح الباري شرح صحيح البخاري ، كتاب الجهاد والسير، رقم الحديث / 2803

[146] ) الديوان / 52- 53

[147] ) الديوان / 135

[148] ) الديوان / 155

[149] ) الديوان / 69 - 70

[150] ) الديوان / 75

[151] ) الديوان / 26

[152][152] ) الديوان / 52

[153] ) الديوان / 167

[154] ) الديوان / 99

[155] ) الديوان / 160، وشبيه بذلك حديثها عن تغير الأخلاقيات وشقاء الناس في الحضارة الحديثة / 172

[156] ) الديوان / 23 – 26 ، وسيمر في التصوير الفني للمكان شواهد أخرى عن جمالياته ، ينظر ص 40

[157] ) الديوان / 175

[158] ) الديوان / 71

[159] ) الديوان / 141 - 142

[160] ) الديوان 160

[161] ) الديوان / 151

[162] ) الديوان / 72 -73

[163] ) السعافين ، إبراهيم : طائر الفاو بين قلق الضعف ووثوقية القوة الغائبة : مجلة شؤون أدبية الصادرة عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ، س1 ، ع3 ، س 1987 م ص 112

[164] ) عناصر الإبداع / 229

[165] )الديوان / 167

[166] ) الديوان / 170

[167] ) الديوان / 125

[168] ) الديوان / 110

[169] ) محمد الشيخ عبدو، مضر: مجلة الأدب الإسلامي م22،ع 86 ، جمادى الآخرة 1436هـ نيسان / أبريل – حزيران / يونيو 2015م : التناص في شعر د. وليد قصاب ، ص 68

[170] )الديوان / 20

[171] ) الديوان / 34

[172] ) الديوان / 103

[173] ) الديوان / 112 - 114

[174] ) الصورة النامية هي التي تشارك في بناء القصيدة وإبراز العاطفة من خلالها ، وتؤدي إلى تماسك النص : الصورة بين البلاغة والنقد / 30 

[175] ) الديوان / 219 - 220

[176] ) الديوان / 69

[177] ) الديوان / 69

[178] ) الديوان / 107 - 108

[179] ) الديوان / 155

[180] ) الديوان / 189

[181] ) الديوان / 68

[182] ) الصورة التوافقية هي التي تنسجم عناصرها أو ترى التناسب بين عناصرها المشكلة لبنية العمل الفني من مسموعات ومفهومات : الأسس الجمالية للإيقاع / 256

[183] ) الديوان / 105

[184] ) الديوان / 203

[185] ) الديوان / 73

[186] ) فتح الباري شرح صحيح البخاري ، كتاب الجهاد والسير، رقم الحديث / 2803

[187] ) الديوان / 104

[188] ) الأسس الجمالية في الإيقاع البلاغي / 256 

[189] ) الديوان / 107

clip_image001_f8e8e.jpg

خطرتْ أمامي في دلالٍ مترفِ * *  حسناء قد مُزِجَتْ بحسنٍ يوسفي

كانت تجر رداءها وحياءها  *   * وردا يَحِلُ بِخَدِّ وجنةٍ مُرْعَّفي ِ

فأتى النسيم لكي يحرك غصنها *  *  فَسَكِرْتُ مما كان عند الموقفِ

فلمستُ قلبي كي ألطفَ نبضهُ *   *  لكن روحي أخفقت بتلطفي

..... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشاعر وليد هزّاع اليوسفي[2] يصدح على أنغام الكعبيّة ويرفع لواء المحبّة المعبّق بشذى الجلال والجمال، ولتنشر المدرسة الكعبيّة منهجها الجديد في كلّ بقعة من أرض الإسلام ، أو بلغها الإسلام وأضاء بين جوانبها الحرف العربي..

أغلب قصائد الشّاعر وليد هزّاع بلا عناوين عن قصد وعَمْد ، رغبة منه أن يترك للقارئ يعنونها أو يفهم مدلولها العام كما يشاء.. إنّه بمعنى من المعاني يريد أن يفتح المجال للقارئ لكي يبحر في نصّه دون عتبة توصله إلى المعنى المراد مسبّقا، أو قد تذهب به في فهم القصيدة ذات اليمين وذات الشّمال..

عندما سألته عن رأيه في المدرسة الكعبيّة أجابني منشرح الصّدر، متحمّسا للفكرة والنّهج فقال:

" هي نقطة ضوء أراها ستعيد للشعر نظارته وبهاءه من جديد فبارك الله في الداعي وأقّر عينه برؤية ثمرات دعوته وما أروع أن يتم تخليد تلك المدرسة فوالله إنها بعثت الروح للشعر ووالله إنها تصنع الشعراء وتطبعهم بطابعها ".

ويقول عن قراءاته وولعه بالشعرّ:

"  قرأت سلسلة شعراء الدعوة الإسلامية لمأمون جرار ، والذي جمع في تلك السّلسلة درر الشعر، وبسبب تلك السلسلة تابعت دواوين أغلب الشعراء الذين شملتهم تلك السلسلة ، فعرفت عن أدباء المغرب العربي ومشرقه ، فعشقت الزبيري والفضول والأمراني وابن باديس ومحمد مفلح والدالاتي والأميري وأحمد محرم والأعظمي ويوسف العظم والشابي وووووو حتى قادني شغفي إلى الأستاذ محمد جربوعه ووالله منذ أن عرفته وتابعته لم اشتر أي ديوان شعري جديد، لأنه بلغ بي ذروة الجمال والكمال الشعري "[4] يظهر السّمت الكعبيّ بجلاء ، رقّة ألفاظ وعذوبة معانٍ، وطُهر جناح، وقوّة لفظ ترجع بالعربيّة إلى عهود تألّقها وتأنّقها، يقول فيها:

ياقلب رفقا بدمع سال رقراقا

وزاده الشوق إيلاما وإحراقا

يكاد يصعقني مما يمر به والحرف ينشدني بالله إعتاقا

لكي يبوح بمكنون الفؤاد ولا أكتم ترانيمه ليلا وإشراقا

لتستطيب به نفس المحب كما قد استطابت بماء الغيث أعذاقا

وترتوي الروح من أنسام نعمته والكون مما يرى يهتز أنساقا

من زهرة القلب خط الحب ملحمة مدادها الصدق والوجدان قد تاقا

ككلّ شعراء المدرسة الكعبيّة دخل وليد هزّال عالم الشعر من بابه الواسع، باب الغزل العفيف، عفّة قلوب أصحابه، فأرسل لسانه بأعذب الكلام، دون أن يزلق في مدارج الخنا وهجر القول، يأبى عليه دينه ذلك ويأبى عليه خلقه ، ويأبى عليه عهد الجلال والجمال أن يتسفّل في مدارج الحيوانيّة، فالحبّ عنده لواعج وأشواق سامية:

وترتوي الروح من أنسام نعمته

والكون مما يرى يهتز أنساقا

ويحلو للشاعر الكعبيّ أن يعرض صور الجمال في لوحات فنيّة متنوّعة وفاتنة، فلوحة تصوّره وهو يناجي قلبه فيسأله الرّفق بدموعه التي سالت مدرارة وأحرقه الشوق إحراقا، ولوحة ثانية ترى فيها الحرف كأنّه إنسان يسأله العتق من أسر الحبّ وأثره البالغ، ولوحة ثالثة نرى فيها الروح ترتوي من أنسام نعمته فصير الكون يهتزّ لتأثره أنساقا. وهنا نرى الشاعر يخاطب كلّ الكون من حوله ويشعره حبّه المتوهّج فهذا ( اللّيل/ وهذا إشراق ( النهار ) وهذا الغيث والأنسام ..وغيرها من مكوّنات الطبيعة من حوله التي كأنّها تحسّ بحبّه وتتجاوب معه.

وفي فاتنة سلبت لبّه وملكت فؤاده وذهبت به كلّ مذهب حتى ما يرى غيرها ، ولا يرتعش قلبه لسواها، يقول:

نَعَمْ هي امرأة لكنها حورية أظنْ جمالها دلالها ولفظها الأغنْ وعطرها الذي قد فاح من زمنْ تدل أنها حورية لكنها تواضعت لمنْ جمالها لا مثله عين رأت كأنه في ذاتها سكنْ وقدها الممشوق إن مشت ترى القلوب كلها من حسنه افتتن ْ وثغرها يفتر إن تبسمت فيسلب الألباب والفطنْ رأيتها والشمس في الأصيل ترنو إلى بعيد فأشعلت أملْ لا يشكّ من قرأ هذه الأبيات أنّها في حسناء فاتنة، أو غادة ميساء تسلب لبّ من رآها ، وتسحر كلّ من نفحته بشذى عطرها، ولكنّ الشاعر يسمو فوق ذلك كلّه ويدهشنا عندما يُميطم اللّثام عن محيّاها الباهر فإذا هي وطنه ( اليمن ):

نَعَمْ هي إمرأة لكنها حوت مفاتن النساءْ فَعَجَزَتْ معاجم اللغة عن منحها الأسماء لأنها امرأة من طينة السماءْ ومن أراد وصلها سَيُرْخِصُ الدماءْ نَعَمْ هي إمرأة تَجَسَدَتْ بمظهر الوطنْ

إلى أن يقول في توجّع وألم:

سعادتي قد سُلِبَتْ فَغُيِرَتْ حَزَنْ يا سيدي خَشِيتُ من مآل يأتي بلا يَمَنْ. وللكعبيّة في اليمن رجال:

من خاض غمار بحور المدرسة الكعبيّة لابدّ أن يواجه تلاطم أمواجها العاتية، وصخب اضطرام عبابها الهادر.. والحبّ مما يذكي تلك الجذوة ويشبّ نارها المستعرة فلا تنطفئ أبدا حتى يرتوي القلب ، ولا يكفيه أن يرتوي هنيهة.. فيرجع لينبعث الظمأ بين جوانحه عودا على بدء ..

وهذا الكعبي ( وليد هزّاع اليوسفي ) أصابه من أوّارها ، وتلظّى بنارها ككلّ كعبيّ جيّاش الروح رهيف القلب والإحساس، سريع الدمعة قريب العبرة لا يَنِي يتتبّع الجمال متغنيّا ، وفي الزهر شاديّا وإن سَلَبَ ذلك من عمره اللّياليَ ذوات العدد.. !

ومن ثمّ لا عجب أن نسمعه – متوجعا – يقول من قصيدته ( يا أنت )  :

يا أنتِ إني قد فقدت صوابيا * *  لما هواكِ أتى ليطرق بابيا    

قد كنتُ أحيا طول عمري قانعا *  *  وأنام ملء العين كل لياليا

حتى خطرتِ كغصن بان فاتن *  *  فسلبتِ لبا كان قبلك واعيا

فإذا نهاري قد تغير فجأة   *  * والليل أصبح مثله متساويا

وإذا الحياة تغيرت بفصولها * * والدهر لا أدري أصار ثوانيا

كل الفصول تداخلت فتبدلت * * وتشكلت عجبا ربيعا حانيا

يذكرني قوله :

قد كنتُ أحيا طول عمري قانعا *  *  وأنام ملء العين كل لياليا

حتى خطرتِ كغصن بان فاتن *  *  فسلبتِ لبا كان قبلك واعيا

بقول الشاعر مسكين الدّارمي:

قـــد كـــان شـمـّـر لـلـصـلاة ثـيـابـه ** حتى وقفت له بباب المسجد

محبّ يرى الحياة بعيني حبيبه أو ( حبِّه ) فتبدو الحياة بهجة وسرورا ، رغم ما يصحب ذلك من ( سلب الوعي / وتغيّر الليل والنّهار.. ) وهو تحوّل فيه ( ألم محبّب ) كما يقال ، وليس هو ألمَ ( المازوشيّة ) ، بل ألمٌ يشبه حَمل مفاتيح الكنوز التي تنوء بها العصبة من الرّجال.. ! أو هو ألم الأمّ حين الولادة تفرح به،   لأنّه يمنحها عمرا ثانيا في صورة وليدها يدرج أمامها بعد حين.. 

وما يمكن أن يلاحظ من سمات الكعبيّة في هذه القصيدة المكوّنة من تسعة وثلاثين بيتا، فإنّنا نجد:

-      متانة اللغة مع بساطة الألفاظ وسهولتها.

-      جمالية النسج والتركيب.

-      طُهر المعاني ونقاوتها.

وفي القصيدة نجوى طويلة بين الشاعر ومحبوبته ، يحسّ معها كأنّه رَقيَ إلى جنّة النّعيم ورأى ثمارها ونعيمها، وجاءه وِلدانها يسقونه ( كاسات ) العشق ، حتّى ما عاد يحتمل فراق الحبيب ولا بُعده ، فبه  تغدو الدنيا كلّها بهجة وسرورا وغبطة وحبورا ، تملأ السّعادة جوانحه وترف الأماني العذبة في قلبه:   

نظراتُ عينكِ بالرضاء تكللت * * سعدا عليَّ أحاط كل فؤاديا

وأخال أني قد رقيتُ لجنة * * فرأيتُ ولدان النعيم أماميا

يأتون لي والبشر ملء وجوههم *  * وبكفهم كاسات عشق صافيا

فشربتُ من نبع الغرام مدامة * * لا غول فيها بل شفاء واقيا

فإذا بشيء قد شعرتُ بلطفه * * يسري بقلبي دفئه وعظاميا

ويحضر القاموس اللّغوي الدّيني بقوّة في هذه القصيدة ، فالشاعر المفتون بحبّه لا يتعدّى حدود ربّه ، ولا يأمل في نعيم عدا ما حلّ منه وطاب ، وبالتالي يستعمل هذه الألفاظ المصانة بقلعة الشرع الحصينة "جنّة/ ولدان /  نعيم / لا غول .." وهي ألفاظ قرآنيّة بامتياز فعبارة ( لا غول ) مثلا تحيلنا على الآية الكريمة التي يقول فيها الحقّ جلّ جلاله:

" لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ " الصّافات 47.

ويختم قصيدته بعبارات لطيفة وشذيّة يمثُلُ فيها الحب في أسمى صوره وأرقاها:  

قد كنتِ أنتِ هناك حقا لم يكن * *وهما رأيتُ فإنّ قلبي واعيا

ما كان حبكِ في فؤادي نزوة  * * أو محض كذب من خيال واهيا

بل إنه كالدين أثمر نهجه  *  * برد اليقين لمن يكون مواليا

يرى الحبّ يثمر ثمار خير وبركة كالدّين تماما ،  وهذا لعمري الحبّ الحقّ ، الحبّ الكعبي الذي يسمو على رغبات الجسد الفانية ويتعلّق بالروح وأشواقها الباقية.

وللشاعر وليد هزّاع قصائد كثيرة على هذا النّهج الكعبي الجميل ، ذات مستوى عالٍ لفظا ومعنى تزيد المشوق اشتياقا والملتاع لوعة ولكنّه هيام في خفر وحياء وحبّ كأنّه الدّر المكنون ، نذكر منها ما يعطي صورة مقرّبة عن هذا الشاعر الرّقيق الحالم ابن ( تعزّ  الحالمة ) ؛ مدينة الثقافة والفكر وقلعة العلم والعلماء في اليمن السّعيد :

قصيدته التي مطلعها ( حسناء فاتنة ) يقول فيها:

حسناء فاتنة العينين ناعسة  * * على الأريكة تمضي الوقت في قلقِ

لمحتها من بعيد كان في يدها * * مثل الكتاب القديم الفاخر الورق

كانت تقلب فيه علها وجدت * * ذكرى سترجعها دهرا إلى الألق

ذكرى تعيد به آثــار تجـــربــــة * * ليرتوي الروح من فيض من الودق  

وقصيدته الثانية :

(  من أوراد المحبة أرتل )

صدح الحمام ويا له من شادي * * فوقفت مستمعا أنا وفؤادي

أواه من عزف القلوب فإنها  * * تهب النفوس سعادة الأعياد

يا لائمي دعني أبث صبابتي * * وحيا لبحر الشوق في أورادي

وهي أيضا قصيدة لا تنزل درجة عن بقيّة الكعبيّات الأخرى، بل تعلو وترقى في أسباب الجمال بغير سلم، ويقول في غيرها بهذا المطلع البهيج ( رمشت بعين كان فيها مقتلي ):

رمشت بعين كان فيها مقتلي * * ومشت على عجل فلم تتمهلِ

كانت تسير على الكثيب كأنها * * ريم الفلاة الأهيف المتدلل

فتبعتها عَلِّي أقارب خطوها * * والعين مني نحوها لم تغفلِ

وهناك غير هذه الروائع يمكن أن نذكر على عجل ( قالت كرهتك / خطرت أمامي / حنين الشوق يدفعني..) وغيرها من أجمل وأروع ما يقرأ عشّاق الشعر ومحبّوه ، ولم يقتصر شعر وليد هزّاع على شعر الغزل وحسب ، بل خاض في أغراض كثيرة منها التغنّي بوطنه اليمن وتعز وصنعاء والتغنّي بأرض النّيل ( مصر )، ولكن حتّى وهو يتغنّى بأرض النّيل يجعل ذلك في قالب غزل عذري أخّاذ:

مليحة ذات غنج زانها حور * * كأنها قمر في إثر غيماتِ

رأيتها قد تثنت حين مشيتها  * * والنور أسفر فيها بابتساماتِ

صار الغزل كأنّه إطار مذهّب يقدّم فيه كلّ موضوع يريد الشّاعر أن يتحدّث عنه ، فيأتي الغزل وسيلة باهرة تضفي على الدنيا جمالها ورونقها..

ورغم كلّ هذه الغزارة في الإنتاج الشعري مع التّفوّق الكبير ؛ إلا أنّ الشاعر الكعبي وليد هزّاع لم يطبع ديوانه إلى حدّ الآن ، وتمنّينا لو فعل، فالسّاحة ملأى برديء الشعر وركيكه حتّى كاد النّاس يزهدون في الشعر ويـملّونه ، لما رأوه من تلبّس الأدعياء بلبوسه ، في حين نجد الأفذاذ من أمثال الأستاذ وليد الشاعر القاضي كما لقّبه أمير الشعراء ، ليس له ديوان مطبوع مثله مثل كثير من الشعراء المجيدين من المدرسة الكعبيّة وغيرها، فهو في هذا الأمر مثل الشاعر عمّار نقاز وعبد القادر بوتدارة  وعبد الوهّاب بوشنّة، والشاعر المميّز جدّا الأستاذ مصطفى كبير ( الذي سنفرده بدراسة على حدة قريبا ) ، لا لشيء إلا لأنّهم يرون للشعر هيبته ووقاره ، ولا يريدون استعجال ثماره ويظنون بأنفسهم دوما النّقص وعدم بلوغ ذروة ما يطمحون إليه من تجويد.. !

عند عتبات قصيدة ( مصل عسى )

لابدّ لكلّ شاعر كعبيّ إذا تغنّى بالحبّ طربا أن يتغنّى بأعظم حبّ وأسماه بعد حبّ الله تعالى، لابدّ أن ينشد في حبّ أحمدَ ما تنتشي له النّفس وتحلّق الرّوح في مدارجها العليا، وكان الشاعر وليد هزّاع وفيّا لهذا النّهج يترسّم خطواته فكتب قصيدته ( التّحفة ) ، التي اختار لها عنوانا طريفا ومميّزا هو ( مصل عسى ) وهي قصيدة من أربعة وثلاثين بيتا كلّها لواعج وأشواق وفيوض من الحبّ في خير البريّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم الذي تكرر ذكر اسمه صريحا في القصيدة أربع مرّات، سوى ما ذكره فيه بأوصافه أو خصائصه وما يشير إليه، يقول في مطلعها:

نورا رأيت وقلبي في هواه رسا 

وبلبل الشوق غنى عنه ما اقتبسا

والروح قد عرجت بالحب وانطلقتْ

إلى ذرى المجد حيث الطهر قد غُرِسا

فجئت من رحلة الأسرار مبتهجا

والسعد يغمر وجداني بما لَمَسَا

يبلغ الشاعر قمّة السّعادة والحبور حين يستشعر حبّ أحمدَ ، حبٌّ هو بلبل الشوق ومعراج الروح إلى ذرى المجد ، وكأنّه غامَرَ في رحلة من الأسرار مضمونةُ النتائج، فيغمر صاحبَها السّعدُ ويلمسه لمسا، أيّ حبٍّ هذا الذي يطوّح بأصحابه في قرارات اليقين والفرح ..؟ !  

كل الذي كان من قبل يحط بهم

فمن هوى المصطفى شيطانه خنسا

من وحدة صاغها بالحب سيدنا

تفتق الخير من أعماق مَنْ يَئِسا

فأشرق النور للدنيا التي فقدت

 كل الجمال فولى الشر وانتكسا

بمجرّد أن تهوى المصطفى يخنس شيطانك ، وينزوي بعيدا عنك رقية مضمونة النتائج حاسمة في الشدائد والمواقف الحرجة حين يحاصرك الشيطان من كلّ جهة استشعرْ حبّك لأحمدَ وشوقك إليه، وأحمدُ هو الذي وحّد المؤمنين على هواه ، وبعث الخير والأمل في قلوب اليائسين القانطين، وكان إشراقَ النور على الدّنيا كلّها..

معزوفة من الهيام والوجد مفتاحها كلمة سحريّة عجيبة ، من ثلاثة حروف هي ( عسى ) اعتبرها الشاعر المصل الشّافي لكلّ أدوائه والإكسير السّاحر الذي يطير بفؤاده في مدارج الحبور ، حتّى يصل إلى الحبيب فيستشرف ويتمنى ويشتاق وترنو روحه إلى لقياه فيكون الجواب مَطْمَعا وأيّ مَطمع.. ! يطير إليه بأجنة الشوق:

فجاءني الشوق يطويني بأجنحة

لما وصلتُ سألتُ الآن قال عسى عسى !!!

ففرج عني حينما وجدت عيني

حروفا بها الشوق الجميل رسا

إقرأ قرأتُ فلما ارتويتُ به

عاد الحنين سريعا يبتغي جرسا

حتى يبلغ بعضا من بشارته

ويهدي العاشق المنهوك ( مَصْلُ ) عسى

وعسى هنا رجاء يشبه اليقين ، بل هو اليقين القرآني الذي لا شكّ فيه، فلا عجب أن تكون ( عسى ) مصلا يفرّج كرب الشاعر وينعش قلبه.

وهي قصيدة تحتاج إلى قراءة مستقلّة بذاتها لما فيها من أسرار وخفايا إبداع تُستشعر ولا تقرأ صريحة بيّنة إلا بشيء من التفتيش والبحث الفنّي المترويّ.  

وجلّ قصائد الشّاعر وليد هزّاع على ميزان الخليل ونغمه ، وهو نهج شعراء المدرسة الكعبيّة، لكنهم يكتبون أحيانا شعر التفعيلة الذي لا يَبْعُدُ كثيرا عن النّهج الخليلي، وقد قال وليد هزّاع في ذلك:

" وشعر التفعيلة أعشقه إن كان كشعر أحمد مطر ومحمود مفلح وشاعر المغرب الأمراني ومن نهج ذات النهج أما الشعر الحديث فلا التفت إليه ، لا من قريب أو بعيد وكتبت ذات مرة على نسق التفعيلة ولكني أرى الشعر أنه عمودي فقط "

والشّاعر وليد هزّاع يكتب على السّليقة معتمدا على موهبته دون أن يتعلّم العروض أو يدرسها دراسة معمّقة ، وهو في ذلك يذكرني بشاعر الإنسانيّة المؤمنة ( بهاء الدّين الأميري ) رحمه الله تعالى، وهو قبل ذلك مثل شعراء العرب قديما في العصر الجاهلي والإسلامي، ما كانوا يعرفون ما العروض ولا تفعيلاته ولا عللها وزحافاتها.. ! إلا أنّهم يكتبون القصيدة فتأتي موزونة متينة أَلِقَة مثل فلق الصّبح ..  

أتراني بهذه الكُلَيمَات وفّيته حقّه وقرّبت شعره لجمهور القرّاء ومتابعي المدرسة الكعبيّة .. أرجو ذلك وأتمنّاه.. ولكنّ للشاعر ( وليد هزّاع  ) بحر لا ساحل له ، يلزمه أكثر من سفينة عابرة للقارّات لتستكشف درره ومجاهيله من نفائس وكنوز.. !

[2] - يطلق أهل اليمن على مدينة ( تعز ) اسم ( الحالمة ) كما يسمّون اليمن كلّه بـ ( اليمن السّعيد )..

[4] - عناوين القصائد هي من وضعنا على طريقة عنونة القصائد بمطالعها.

فراس حج محمد في كتابه (يوميات كاتب يدعى X):

clip_image002_744c7.jpg

الكاتب (س) الذي اختار (فراس حج محمد) له حرفا إنجليزيا هو كل كاتب تصطدم شفافيته ورومانسيته بواقع يكبل الجمال ولغة القلوب والصدق والبوح النقي.

بجرأة عالية يبوح (فراس حج محمد) بهمومه بعيدا عن (ديبلوماسية) البوح فلا يجامل ولا يتورّع ولا يلف ولا يدور، بل يرسل لغته على سجيتها ساخرة مهمومة تنتقد بتلميح متخذة من شخص الراوي (الكاتب س) شخصية أساسية قد لا تكون بالضرورة هي ذات الكاتب المؤلف، وإن حملت بعضا من سماتها وواقعها.

الشخصية الجديدة التي اختارها (فراس حج محمد) تنقل هموم رجال الثقافة والإبداع ممن لا يجدون في عالمهم من يشجعهم ولا من يقدّر إبداعهم. وهذه الشخصية لو جمعت وقائع يومياتها وهمومها وحوارها لكانت شخصية روائية نموذجية ممثّلة خير تمثيل لحال المثقف في بلادنا.

الكاتب في هذه اليوميات التي جاءت بعد تجميع ما كتبه على صفحات (الفيسبوك) جرّب السخرية في الأدب معتمدا على سخرية الجاحظ من نفسه وخلقته الدميمة كما روتها لنا كتبه واعترافاته. فهو ينتقد نحول جسمه وسعيه الدائم وراء الكتب والكتابة وفشله في الحب. وحواره مع والدته التي تنتقده في تبذير مدخراته على النشر والكتب، يذكّر بسيرة الجاحظ التي تحمل هموم المثقف في مجتمعنا.

اختار الكاتب وصفا لمذكراته هو: قصص وسرد، في مسعى للتوصيف الفني. وقد جاءت هذه اليوميات على شكل القصة القصيرة جدا، كما اقتربت من روح اليوميات حينا آخر ومن المقالة حينا ثالثاً والحوار الصحافي حينا آخر.

المزيد من المقالات...