الراحل الدكتور ناصر الدين الأسد، رجل التعليم والبحث والتراث، اجتمع على تكريمه، مساء الثلاثاء 16 يونيه الجاري، منتدى التراث بمعهد المخطوطات العربية، والموسم الثقافي لمعهد البحوث والدراسات العربية، بمقر الأخير بالقاهرة.

وقال مدير معهد المخطوطات العربية د. فيصل الحفان إن ناصر الدين الأسد، الذي ألقى دروسه في معهد البحوث والدراسات العربية، وكان عضوا للمجلس الاستشاري لمعهد المخطوطات في الكويت، في الثمانينيات من القرن الماضي، ألزم المعهدين بواجبهما تجاهه بعد الرحيل، فكانت هذه الندوة، وهذا النشاط المشترك.

وأضاف: هذا هو المشترك الشكلي، إنما المشترك الموضوعي، مشترك كبير، فالرجل؛ رجل تراث، ورجل بحث، في آن واحد.

رجل تراث، أعطى جزءا كبيرا من اهتمامه للمخطوطات، ولإحياء التراث، وخاصة التراث الشعري، ورجل بحث، درس وكتب في مجال الدرس الأدبي، أحيانا ارتبط بالجغرافيا، وأحياناً كان مطلقاً، لكن في جميع الأحوال هو شخصية جامعة، استطاعت أن تكون جسراً، على حد تعبير أحد الباحثين، جسراً بين العصور من جهة، وبين التخصصات من جهة أخرى.

نشأ في البادية، وما عرف المدينة إلا بعد أن أصبح يافعاً، ومن حسن حظه أن أول مدينة رآها، كانت القدس، فاجتمع له سمو الروح، واستقامة الفكر، وسمو المقدس.

وقال د. الحفيان إن بعضهم قال نريد أن نؤبن.. ولم أكن ميالاً إلى التأبين، فالتأبين احتفالية حزينة، نحن نريد أن ندور في فلك الأفكار التي كان ناصر الدين الأسد يعنى بها.

وعندما وضعت هذا العنوان: "مشروع فرد.. مشروع أمة"، وأنا زاهد أبدا في قضايا التعظيم، تعظيم الأشخاص بخاصة، لكن أردت أن أقول من هذا العنوان: إن تلك القضايا التي شغل بها ناصر الدين الأسد، هي نفسها القضايا التي انشغلت بها الأمة في القرن الماضي..قضايا تطوير التعليم وإشكاليات اللغة وغيرها.

 ولأن الشخص ناصر الدين الأسد، لنقل إنه صعب المراس، صعب على أن نحتويه، أردنا أن نجعل المحاور مفتوحة، فلم نخصص لكل اسم من القامات الكبيرة التي تتحدث عنه، فكرة أو موضوعاً معينا، بل نريد أن يكون الكلام كلاماً منفتحاً، يأخذ من كل فكرة طرفاً كما يقولون.

إذن، هذا هو الموسم الثاني للمنتدى التراثي لمعهد المخطوطات، والموسم الثقافي لمعهد البحوث، التقيا على هذه الشخصية، وقد راعينا أن نختار الأساتذة الذين شرفونا، كل منهم له صلة بجانب من شخصية الدكتور ناصر الدين الأسد.

وبدوره، قال د. صلاح فضل: أشكر للدكتور فيصل الحفيان هذه المبادرة الكريمة التي سعى فيها إلى أن يكون أول من يكرم اسم ناصر الدين الأسد عقب رحيله بأيام قليلة.

هذا الحفل التكريمي، وليس التأبيني، إنما هو فرصة حقيقية لكي نتأمل مسيرة مفكر من جيل المؤسسين، هذا الجيل الذي درس مراحله الأولى في أقطاره العربية المختلفة، ثم جاء إلى القاهرة في الخمسينيات من القرن الماضي حيث كانت جامعتها هي جامعة فؤاد الأول التي تحولت إلى جامعة القاهرة، بعد ثورة 1952م، هي الجامعة العربية الوحيدة في المنطقة العربية.

جاء ناصر الدين الأسد مزوداً بالبكالوريا من كلية القدس العربية وعمره 19 سنة عام 1941م، وميزة هذه البكالوريا أن التدريس بها كان باللغة الإنجليزية.

وكان شباب العرب الأردني والفلسطيني والشامي عموماً يدرسون بكلية القدس المرحلة الثانوية، ثم ينطلقون إما إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، وإما إلى جامعة القاهرة.

هذا التأسيس في اللغة الإنجليزية، سنجده بعد ذلك، بالغ الأثر في شخصية ناصر الدين الأسد، لأنه عندما جاء إلى القاهرة ودخل كلية الآداب، وتتلمذ على شيخه وأستاذه، وشيخنا وأستاذنا د. شوقي ضيف، حتى حصل على الليسانس الممتازة عام 1947م.

وكعادة شوقي ضيف، احتضنه وسط مجموعة من رفاقه أذكر منهم حسين عباس، ووجهه لدراسة الماجستير عن "القيان في الجاهلية" قبل الإسلام.

كتب بعد ذلك شوقي ضيف عن القيان في العصر العباسي، وكان مشروعه أن تلاميذه يبدأون أبحاثهم بتوجيهه، وهو يكمل لهم الحلقة، متى شاء.

في هذه الأثناء، تعرف ناصر الدين الأسد على الأستاذ محمود شاكر، وسمعت أنه أعد رسالته للدكتوراه في بيت محمود شاكر، وكانت في صلبها، رداً على كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"، وعندما سألت الدكتور ناصر الدين الأسد، بعد أن تزاملنا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، عن سر الجفوة التي نشأت بينه وبين أستاذه محمود شاكر، أبهم الجواب، وكنت قد سألت من قبل الأستاذ محمود شاكر نفسه عام      1962 فشتمني، فتوقعت أن ناصر شعر بأنه ما كان ينبغي له أن يقف هذا الموقف من طه حسين، ولاحظت كذلك أنه في كل العروض التي يقدمها لكتابه يذكر أنه لم يكن يقصد الرد على طه حسين.

 في الخمسينيات عمل الدكتور ناصر الأسد مديراً للإدارة الثقافية بالجامعة العربية، وهو المكان الذي كان يشغله د. طه حسين، وربما ارتبط بشيء من الود مع طه حسين، وخالف في هذا شيخه، وأستاذه، فغضب عليه.

هذا توقعي، ولا أعرف إن كان صحيحاً أم لا، لكني بدأت بالحديث عنه مؤسساً، فبعد أن عمل في جامعة الدول العربية، في الإدارة الثقافية، ثم عمل في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم حتى أصبح مديراً لها وهو في سن باكر من شبابه، عاد إلى عمان وأسس كلية الآداب وعمل عميداً لها، ثم امتد تأسيسه ليؤسس الجامعة الأردنية ذاتها.

هذا الجهد، قاده بطبيعة الحال، إلى أن يكون رائداً من رواد التعليم العالي في المملكة الأردنية الهاشمية، ووصل إلى أن أصبح وزيراً للتعليم العالي في المملكة من عام 1985 حتى 1989م.

ثم أسس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية، ومؤسسة آل البيت، وجامعة الإسراء، ورأس مجلس أمناء جامعة عبد المجيد شومان.

وأعود إلى رسالته للدكتوراه "مصادر الشعر الجاهلي"، لأنها لها خواص تجعلها من الكتب الفريدة المتميزة التي تبقى في الذاكرة.

كان همّ ناصر الدين الأسد في مصادر الشعر الجاهلي، تحقيق عدة غايات علمية، في غاية الأصالة، والقوة، والوضوح:

ـ إثبات التراث الحضاري العربي قبل الإسلام.

ـ إثبات صحة الروايات الموثقة للشعر الجاهلي في مجمله.

ـ القيام بالتحقيق العلمي الرصين للبراهين التاريخية التي اعتمد عليها.

ـ استبعاد الدين، أو استخدامه، في الحجاج العلمي الثقافي.

واستمر ناصر الدين الأسد في علاقته بالتراث على النحو التالي:

أصدر تحقيقاً لديوان قيس بن الخطيب، وتحقيقاً لديوان شعر الحادرة، وكتب الاتجاهات الأدبية الحديثة في فلسطين والأردن، وكتب عن الشعر الحديث في فلسطين والأردن، وكتب بحثاً عن محمد روح الخالدي "رائد البحث التاريخي الحديث في فلسطين"، كما كتب بحثاً عن قصص كامل الكيلاني للأطفال.

وألقى في المجمع اللغوي عدداً ضخماً من الأبحاث منها: معاجم ومعجمات، نواد أدبية، وديان وأودية، حماس وحماسة، البلقاء في كتب الجغرافيا، معاجمنا اللغوية بين التراث والمعاصرة.

وأوضح د. صلاح فضل، أن ناصر الدين الأسد قد أصل لنشأة الفكر العلمي في التراث العربي الإسلامي، وأثبت أن الأساس الذي يعتمد عليه الفكر العلمي العربي الإسلامي، هو ما يطلق عليه "النصوص التربوية"، وهي النصوص التي تحث على العلم في القرآن الكريم والسنة النبوية. 

إذن الدين عند ناصر الدين الأسد هو المنطلق المؤسس للوعي والمعرفة العلمية، بالغة الأهمية، وأن هذه النصوص التربوية، تقود إلى ما يطلق عليه، تعقل سنن الكون وتدبرها.

وتصدى ليصدر حكماً، أخالفه فيه، حيث يقول: "هذا التقديس الديني الأصيل للفكر العلمي العربي الإسلامي، هو الذي حمى الثقافة العربية الإسلامية، من أن تذوب في الثقافات الأخرى، وأعطى لها طابعها المميز، وجعلها عندما قامت بالترجمة بعد ذلك في مراحل متأخرة، تحتفظ بشخصيتها كاملة ولا تذوب في الثقافات السريانية، واليونانية، والثقافات القديمة، التي نقلت إليها".

وهذا يعني، أن الدكتور ناصر الأسد بوضوح شديد يعزو القوام الصلب للثقافة العربية، إلى أنه ارتكز على المرتكز الديني في الدرجة الأولى، مما جعل هذه الثقافة العلمية العربية، تتميز بصفائها، وخلوها من المؤثرات الأجنبية.

طبعاً، هذه المقولة حولها جدل كبير، وهناك من يثبت أن الثقافة الفقهية ذاتها، تأثرت في مراحل كثيرة بالعلوم المنطقية، والعلوم الفلسفية، وأن الثقافة العربية، من نحو، وصرف، وبلاغة، وكل علوم العربية، لم تخل من هذ التأثيرات، ولم تكن نشأتها عربية بحتة.

وهذا القول بالنشأة الدينية للثقافة العربية الإسلامية، يجعلني أقول إن الدكتور ناصر الأسد بالرغم من بعده قليلاً عن خط الشيخ محمود شاكر، ظل أميناً له، فأجد في ناصر الدين الأسد عرقاً سلفياً أصيلاً، هو الذي بقي لديه من محمود شاكر.

أضف إلى ذلك، أن الدكتور ناصر الأسد يرى أن العرب هم الذين اخترعوا مفهوم العلم لديهم، وأنا أحسب أن الأمر لم يكن بهذا الصفاء والوضوح، لأن مفهوم العلم كان انسانياً، استقاه العرب، ونموه، وأضافوا إليه، لكنه لم يكن مفهوماً عربياً بحتاً.

اشترك د. ناصر في تأسيس معظم الجوائز العربية الكبرى، ودل ذلك على بروزه في الصف الأول بين المثقفين العرب، فهو قد أسهم في صناعة السلطة الثقافية والأدبية في الوطن العربي، وهو الذي قطف ثمارها الأولى، تكريماً، واعتزازاً مستحقاً.

كان بعيداً عن كل التيارات اليسارية، لكنه كان يتقبل الحداثة، بصدر رحب، مما يدل على أن وعيه الفكري كان وعياً حداثياً حقيقياً.

عشق اللغة العربية، وتحمس حماساً شديداً لمستواها الفصيح، ومع ذلك تسامح مع كل اللهجات العربية، بكونها تنويعات لا تحط من شأن العربية الفصحى.

وأشار د. صلاح فضل إلى أن الكاريزما الشخصية والحضور الثقافي والتأثير الحقيقي في كل الأوساط التي تحرك فيها الدكتور ناصر الأسد ضمنت له مكانة في القلوب "وأرجو أن نتوارث هذه المكانة لدى الأجيال القادمة".

وهناك أشخاص يصنعون مدارس واتجاهات ورجال، أكثر مما يخلفون من أوراق وكتب، وهكذا كان ناصر الدين الأسد.

وتحدث الدكتور محمد أبو موسى، أحد تلامذة الشيخ محمود شاكر، كيف أن أهل الجاهلية القدماء، قبل ظهور الإسلام بزمان، يذكرون أنهم إذا غاب منهم كوكب ظهر فيهم كوكب، لأنهم لا يقبلون أن تغيب نجومهم، ولا يقبلون أن تغيب نوابغهم.

وأكد العلامة أبو موسى أن شخصية ناصر الدين الأسد، شخصية مولعة بالقراءة، مولعة بمساءلة الكتب، ظهر ذلك في رسالتيه عن الشعر الجاهلي، في القناء والغناء، وفي مصادر الشعر الجاهلي، ومن توفيق الله له أنه عاش مولعاً بهذا الأصل الثقافي لثقافة هذه الأمة، وهو الشعر الجاهلي.

 ليس له آراء فيما كتب، بل كشف المخبأ في الكتب التي بين أيدينا، فأذهلنا بما كشف، وأذهلنا بما أزاح من غيم، وضباب.

صبر، وجاهد، وقرأ النصوص وفسرها، وحللها، بل قرأ الكتاب المطول ليستخرج منه نصاً واحداً، وربما قرأه ولم يجد فيه شيئا.

اعتنى بالشعر الجاهلي مبكراً، كما اعتنى شيخه الأستاذ محمود شاكر، فكان مولعاً بحفظ الشعر الجاهلي، وكان يجد في نفسه للشعر الجاهلي أثراً لم يجده لشعر العصور التي تلته.

والشعر الجاهلي، علم قوم لا علم عندهم سواه، ثم داخل العلوم الإسلامية فصار أساساً في فهم التفسير، والحديث، والنحو، بل عول عليه علم النحو، وهو مصدر من أهم مصادر الثقافة العربية، وأجمع العلماء على أنه ليس عندنا بيان بعد كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أعلى من الشعر الجاهلي، وأن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يعتمد في إدراكها على هذا الشعر الجاهلي.

لقد جعل الله تعالى عجز هذا الجيل حجة على الأجيال من بعدهم، ولو كان سبحانه يعلم أن جيلاً من الأجيال سيكون أفضل من هذا الجيل لما تحداه هذا التحدي، في قوله تعالى في سورة هود "أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إلاه إلا هو فهل أنتم مسلمون"، هود:13 ـ 14.

تميز الطالب ناصر الدين الأسد، بأنه لم يعتقد تفوق الشعر الجاهلي بناء على ما قاله العلماء، ولا على ما أجمعت عليه الأمة، لم يعول على ذلك، وإنما عول على ذائقته البيانية، وأنه كان يجد لهذا الشعر ما لم يجده في شعر العصور التي تلته.

ولقد صدم ناصر الدين الأسد، كما صدم شيخه الأستاذ محمود شاكر من قبل، بكتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"، ورغم حب ناصر لطه حسين ، فإن إحقاق الحق عند هذا الجيل كان لا مجاملة فيه.

ومات ناصر الدين الأسد وهو مقر بحب طه حسين وأستاذيته، وطه نفسه قد تخلص قبل أن يموت من هذه الشوائب، وكأنه رمى كتابين من أتفه ما كتب، وهما "في الشعر الجاهلي" و "مستقبل الثقافة".

ولقد رثا شاكر طه حسين بعد موته رثاءاً حميماً، ويتذكره وهو يمسك بيده عقب الخروج من المنتدى يشاركان فيه، ويمازحه ويقول له: إلى متى ستظل صعيدياً.

وأكد الدكتور محمد أبو موسى أن ناصر الدين الأسد فسر الاعتقاد بأن العرب أمة أمية بمعنى "لا كتاب لهم"، كما قال ابن عباس: "لم يصدقوا رسولاً أرسله الله، ولا كتاباً أنزله الله، ويكتبون الكتاب بأيديهم، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله"، لكن بعضنا يكتفي بما يكتبه البعض، وينقل ما يكتبه البعض، دون الرجوع للمصادر الأصلية، والبحث فيها.

استخرج ناصر الدين الأسد من كتب العلماء، التي بين أيدينا، أن القراءة كانت شائعة في الجيل الذي نزل فيه القرآن، واستخرج أن الكتابة كانت شائعة في العرب قبل ظهور الإسلام بثلاثة قرون، وأن القول بأن الشعر الجاهلي شعر عاش على الشفاهية، ليس بالقول الصحيح، لأن رواة الشعر الذين أخذنا عنهم الشعر الجاهلي كانوا يروون من كتب يقرأونها، بل كانوا يقرأون دواوين الشعراء من الكتب على شيوخهم، وأن الكتب كانت تملأ بيوتهم.

ولذا فإن كتابه "مصادر الشعر الجاهلي" لا ينازعه كتاب، وأوصي الأجيال بقراءته.

وإذن فجاهلية هذا المجتمع الذي ظهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاهلية دين، وليس جاهلية أخلاق، وناصر الدين الأسد أعاد اكتشاف العصر الجاهلي ورجاله الذين فتحوا الفتوحات، والذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية".

ومن ناحيته، قال د. خالد زيارة سفير لبنان بالقاهرة، إن ناصر الدين الأسد ولد عام 1922م، وبدأ حياته العلمية، مع إعلان المملكة الأردنية الهاشمية، فكان هو الوجه الأدبي والتربوي للأردن، وإذا كان قد تقلد في مناصب عديدة، منها السفارة والوزارة، فإنه كان على الدوام الرجل التربوي، مدرساً وأستاذاً وعميدا.

هو واحد من تلامذة النهضويين العرب، بل إنه من الجيل الذي أكمل مسيرة النهضويين الرواد، وقد آمن رواد النهضة أمثال الطهطاوي ومحمد عبده وعلي مبارك، بالتربية، ليس باعتبارها وسيلة للتعلم، وإنما باعتبارها وسيلة لترقية المجتمع، وأداة للنهضة والإصلاح.

لكن ما خلفه ناصر الدين الأسد من فكر نحتاج إليه اليوم.. نحتاج إلى اهتمامه باللغة العربية التي فقدنا الاهتمام بها، ونحتاج إلى مفهومه للحداثة، ومفهومه للعروبة، فقد قال عن مفهوم القومية إنه مفهوم مستورد غريب، وقال إن العروبة نقيض ذلك، فالعروبة ليست عرقاً، وإنما هي ثقافة، وعليه، فليست العروبة في مقابل الإسلام، وإنما هي هو.

أما الدكتور حسن الشافعي، رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فعبر عن ألمه وحزنه لفراق ناصر الدين الأسد، وأحمد شفيق الخطيب، مؤكداً أنهما "أسهما طوال عقود في خدمة مجمع اللغة بالقاهرة".

وقال الشافعي إن البطل الحقيقي في حياة الرجل هو الكتاب والمكتبة، وليس المناصب، وإنما في ساعاته بين كتبه وفي مكتبته.

هؤلاء، ألموا بتراث هذه الأمة، ولم تكن علومهم علوم الأميين، الذين لا يعلمونه إلا أماني، وإنما علوماً محققة، مدققة، والمحقق في مصطلح العلوم التراثية هو الذي يعلم الشيء بيمينه، فيبتعد عن مستوى التقليد، ويرتفع إلى العلم الحقيقي، وهو اليقين القائم على الدليل، والدليل في القرآن هو السلطان، فلا سلطة لثروة، ولا سلطة لجاه، ولا سلطة لعصا، وإنما السلطة الحقيقية، للدليل والبرهان.. قال تعالى في سورة الكهف "هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا"، سورة الكهف، 15.  والسلطان هو الدليل.

 

1.png

د.روفيا بوغنوط

2.png

الباحثة كريمة بعلول

 نُوقشت في جامعة العربيّ بن مهيدي في الجزائر رسالة ماستر بعنوان "المتخيّل السّردي في رواية أَعْشَقُني لسناء الشعلان"،أعدّتها الباحثة كريمة بعلول،بإشراف الأستاذة الدكتورة روفيا بوغنوط.

 وقد تكوّنت الرّسالة من ثلاثة فصول ومقدّمة وخاتمة وملحين؛فالفصل الأوّل انعقد تحت عنوان "قراءة في المصطلح والمفهوم"،في حين انعقد الفصل الثّاني تحت عنوان" بنية الخطاب التّخييلي في رواية أَعْشَقُني لسناء شعلان،أمّا الفصل الثّالث فقد انعقد تحت عنوان:" بنية الفضاء الرّوائي في رواية أَعْشَقُني لسناء الشعلان،أمّا الملحقين فأوّلهما كان بعنوان" سناء شعلان لمحة عن حياتها وأدبها،والثاني يقّدم تلخيصاً عن الرّواية.

 وقد قالت د.روفيا بوغنوط عن سبب اختيار رواية أَعْشَقُني موضوعاً لهذه الرّسالة:" أن يجلس القارئ في حضرة (سناء الشعلان) يعني أنه قد دنا من عبق الحكي والتخييل بكل معانيهما الجمالية ؛ إذ تنفتح العوالم السردية عند الروائية الأردنية ''سناء الشعلان '' على طاقة تجريبية عالية، فالروائية إضافة إلى تميز كتاباتها ولغتها المخاتلة بين الشعري والسردي سواء في نصوصها القصصية أو متونها الروائية ، استطاعت أن تصنع لنفسا اسما (علامة مسجلة ) وأن تستقطب جمهورا قرائيا عريضا، لم يتأت لها ذلك إلا من خلال تلك القدرة على الخلق والانزياح عن المألوف ،البحث عن المختلف وكسر الشبيه. ''فسناء الشعلان'' لا تمتثل للجاهز بل تأنس للتشظي والخروج على كل نسق .

 القارئ لرواية (أَعْشَقُني ) سيلحظ أن الرواية تشتغل على جانب تجريبي خاص ومتميز ؛ إذ إنها تندرج في إطار ما يصطلح عليه بأدب الخيال العلمي ،كما أنها كتبت بلغة شاعرية، بل إنها لغة العارفين بتعاليم العشق ، وتعاليم السرد،على حد سواء ، يقع القارئ في أسر الكلمة والفضاء وتعدد أصوات الحكي ...وتشظيات الحكي .والقدرة على سبر جوانية الذات .

رواية (أَعْشَقُني ) جديرة بالاحتفاء النقدي نظرا لعزفها المنفرد على تيمة الاختلاف ،والتجريب على صعيد اللغة والموضوع ،و لعل ذلك ما دفعنا إلى انتقاء رواية (الشعلان ) بغية أن تكون موضوعا لبحث الطالبة (كريمة بعلول) ، وقد وضع قيد عنوان ( السرد التخييلي في رواية أَعْشَقُني لسناء الشعلان) ماستر أدب حديث جامعة العربي بن مهيدي أم البواقي للموسم الجامعي (2014-2015)، وهو الاشتغال الثاني لنا مع طلبة الماستر على أدب (سناء الشعلان )؛ حيث سبق أن قدمت الطالبة (هالة دوادي) مذكرة ماستر موسومة بعنوان (التخييل السردي في المجموعة القصصية تراتيل الماء لسناء الشعلان ، للموسم 2010-2011)".

 في حين قالت الباحثة كريمة بعلول:"إنجاز هذا المشروع البحثي الموسوم ب:"المتخيل السردي في رواية أَعْشَقُني"، جاء من رغبة منّا في الكشف عن استراتيجيات الذات التي تقف وراء البناء التّخييلي هروباً من إكراهات الواقع ومسلماته،ونشدانا لعالم آخر أكثر جمالاً وإبداعاً،وذلك عبر تسليط عدسة مقاربتنا على العناصر والمكونات المشيدة لهذه العوالم المتخيلة.وقد كان المحفز الرئيس لانتخاب هذه المادة الرّوائيّة كونها تمثل خطوة خاصة في الرواية العربية؛ حيث تجترح من عباءة الماضي من أجل الدخول إلى عوالم خيالية تكشف عن تراجيديا معاصرة صيغت بلغة درامية شعرية.وهذه الدّراسة انطلقت من عدّة إشكاليّات،منها:"كيف تجلت ملامح المتخيل السردي في هذا المتن الروائي؟ ما هي آليات اشتغاله؟إلى أيّ مدى استطاعت الروائية أن تتجاوز المألوف لتحقيق عالم من التصورات الخيالية".

سلسلة رحلتي إلى المغرب 3

مقدمة: كتبت في صفحتي.. إلتقيت البارحة 27/05/2015، بوسط دار البيضاء، بالأستاذ والكاتبة والمترجمة والإعلامية المغربية بشرى شاكر Bouchra Chakir . أهدتني كتابها "التربية بين الدين وعلم النفس"، موقع بخط يدها. أعدها وأعد قراءها ونقادها أني سأقرأ الكتاب وأعلق عليه في أقرب الآجال بإذنه تعالى. ويتحقق الوعد ويتم العرض والتعليق على الكتاب، عبر الأسطر التالية..

أولا.. فيما أبدعت فيه الأستاذة

أحسنت الأستاذة حين أشارت في صفحة 14 إلى "النهي عن إرضاع الرضيع والمرأة تشاهد الحاسوب اي لايكون هناك ثالث، لأنه سبب العنف المبكر للطفل."

تذكر الأستاذة حديث "ياأبا عمير مافعل النغير" في صفحة 18، وتستخرج منه حكمة ثمينة وتقول "هكذا كان صلى الله عليه وسلم يعلمهم الصلاة بالفعل بعد تشويقهم بالكلمة الطيبة واللعب معهم دون أن يرغمهم عليها في هذا السن الصغير".

وترى في صفحة25 أن أفضل طريقة لتعلّم ابنك، هو أن تشاركه في لعبه كما لو كنت طفلا مثله تلاعبه.

أحسنت الأستاذة في صفحة 55، حين أشارت إلى أن "تأثير الإخوة على بعضهم البعض أكبر بكثير من تأثير الأبوين على أبناءهم، فالطفل الصغير غالبا مايختار أخاه الأكبر كمثال يحتذي به.."

أشارت الكاتبة في صفحة 58 إلى نقطة في غاية الأهمية والخطورة، خاصة وأن  الأولياء والمربون لايلتفتون إليها، حين ذكرت أن "الشواذ غالبا مايمتلكون قدرة فائقة على الاستدراج بالحديث، فتكون أول خطواتهم إنشاء نوع من الحوار بينهم وبين الطفل الذي يجد لديهم مايفتقده في بيته، فتتكون بينه وبين الجاني ألفة تجعله يتبعه مغمض العينين...

وأشارت أيضا إلى أن أهمية الحوار الذي جرى بين سيّدنا إبراهيم عليه السلام مع إبنه سيّدنا إسماعيل كما جاء في صفحة 59، هي التي كانت من وراء استبدال ذبح سيدنا اسماعيل عليه السلام بذبح عظيم، مايدل على أهمية الحوار ونتائجه الحسنة.

أبدعت الأستاذة في صفحة 61، حين أشارت إلى ملاحظة طريفة فريدة، قائلة أن الله تعالى حاور سيدنا يحي عليه السلام وهو صبي. فإذا كان الله يحاور نبيا صبيا؟ أفنتعالى على ذلك نحن البشر !.

نقلت الأستاذة في صفحة 66، قصة رائعة عن الطفل وقيام الليل والحطب الصغير يستحسن الرجوع إليها، وتستخرج منها عبرة تتمثل في كون أهمية الحوار الذي أجراه الأب مع ابنه، ولولا الحوار لما وقف الأب على عظمة وصلاح إبنه.

أحسنت الأستاذة في صفحة 69، حين نصحت الأساتذة إذا استدعوا أولياء التلاميذ وأرادوا التحدث إليهم أن لايكون ذلك أمام باقي التلاميذ، وإنما يحاول الاتصال بوالديه بطريقة متكتمة وألا يجعل من الوالدين أداة يخوف بها الطالبـ، فالأساس أن نبني الثقة بين أبنائنا وليس أن نربيهم على الخوف وانعدام المسؤولية.

أثناء عرض الاستاذة لحديث الايمان في صفحة 81 "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاه لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"، تلفت إنتباه القارئ إلى أن أضعف الايمان أن لاتنضاف إلى قائمة من يلقون بالقذورات على قارعة الطريق وإنك تؤجر أكثر على تنشئة ابنك على قيم اماطة الأذى عن الطريق.

تؤكد الأستاذة في صفحة 84 على أهمية اتفاق الأقوال والأفعال والصدق في التصرفات وهو مايشكل القدوة الحسنة التي يهتدي بها الطفل وهو في أول مراحله العمرية حيث تتشكل نفسيته، ويبدأ اندماجه في مجتمعه ومحيطه مايجعل الطفل لايفقد الثقة في والديه ومربيه. والأستاذة أحسنت حين تحدثت عن التأثير المتبادل للمعلم والوالدين على الابن. فالقدوة الحسنة للمعلم تنعكس ايجابا على الابن بحيث تزداد ثقته في والديه، وكذلك مع والديه حيث تنعكس على حبه وثقته في معلمه

وأحسنت أيضا حين أشارت في صفحة 89 إلى أن "هناك أطفال أذكياء جدا ولكن لديهم مشكل النطق، هؤلاء على آبائهم ومدرسيهم أن يحثوهم على القراءة فهي ستساعدهم على تحسين النطق وإبراز مهاراتهم للسطح"

وتؤكد على أهمية دور المحيط في صفحة 95، وتقول أن "الزيادة أو النقصان هي وليدة المحيط العام..."، وهي من وراء النجاح أو فشل الطفل، وليس بالضرورة الذكاء والغباء. وهذه ملاحظة القيمة نلمسها يوميا وعبر الدول المتخلفة، وأعيشها مع أبنائي الماهرين المتفوقين في السباحة، لكنهم لم يظهر نجاحهم لأنهم لم يجدوا المحيط الملائم.

وأحسنت في صفحة 110، حين شرحت قوله تعالى" ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة"، بأن هذه الرحمة ليس فقط بين الأزواج بل هي رحمة للأبناء أيضا، فالزرع ينمو في بيئة سليمة.

وتستنكر إستعمال لفظ الإعاقة، وتدعو لاستبداله في صفحة 114، حين ترى أن الاعاقة لاتعني النقصان لان النقص يعلمه الله "فالله وحده يعلم باحتياجات كل شخص على حدة، وحين ينقصنا شيء فيكون في ذلك خير ما، وغالبا مايكون مع هذا النقص زيادة في أمر ما نتجاهله عند النقصان والإعاقة

وترى أن "هناك لفظ أحبه شخصيا وهو الأسوياء، وهو ماينطبق على الفئة المصابة بالإعاقة إذ أذكر أن الله وحده، يعلم الخير فيما يهبه أو يمنعه وبالتالي فهم أسوياء مادام هذا قدرهم وما دام أنهم يتساوون مع الآخرين عند الله

وكانت رائعة حين أكدت في صفحة 115 "إن المجتمع الذي لايستفيد من هاته الفئة من الناس هو الذي يطلق عليه عاجز ومقعد.

ثانيا.. نقد ماجاء في الكتاب

نقلت الأستاذة في صفحتي 20 و82 حديث سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ينهى سيّدنا الحسين رضي الله عنه عن أكل التمر، لأن آل البيت لايأكلون الصدقة.

الأستاذة تستنتج من الحديث النبوي ضرورة تربية الأبناء على عدم أكل الصدقة. ويبدو من خلال القراءة، أن الاستاذة لم تعطي الحديث حقه من الشرح وأنها أقحمت الحديث دون مبرر له، لأن البعض يرى أن أكل الصدقة من البركة، وكان عليها أن تنبه إلى ضرورة تعليم الطفل عدم مد يديه لغيره وأن يقنع بما عنده، لأن ذلك سيئ ولا يليق بالمروءة، ونعلمه في نفس الوقت أن اليد العليا أفضل من اليد السفلى.

إن سياق الحديث، يتعلق بحالة خاصة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه، وبآل بيته الأطهار الذين لايجوز في حقهم أكل الصدقة، ولا يحق لغيرهم مهما كانوا أثرياء أن يعطوا الصدقة لآل البيت مهما كانوا فقراء ومحتاجين، وهذا من حسن الأدب والتعامل مع آل البيت رضوان الله عليهم جميعا.

تطرقت الأستاذة في صفحة 68، لفضائل مجلس أولياء التلاميذ، وقد أحسنت حين ذكرت الفضائل، لكن المتتبع للجمعيات من زاوية أخرى يقف على بعض مثالب عديدة لهذه الجمعيات..

كالضغط على المسؤول، واستعمال الصراعات لصالح أغراضهم الشخصية، والتهديد حين لاتلبى طلباتهم غير العادلة، وإغراء الأساتذة والمسؤولين ليصعد أبناءهم ولو كانوا الأضعف، والمساهمة في التقارير السرية التي ترفع الذين يرضون عنه وتسقط المغضوب عليه.

حذرت الأستاذة في صفحة 71 من اللجوء إلى العقاب كوسيلة تربوية، وألغت العقاب كوسيلة. والحقيقة التي يجب الإشارة إليها كذلك، أن العقاب يبقى وسيلة تربوية تعليمية عقابية في الحاضر والمستقبل، لكن كيفية العقاب وتوقيته هو الذي يخضع للمناقشة والتغيير والاستبدال.

تطرقت الأستاذة في صفحة88 للتفريق بين ذكائين، وقالت "فكما هناك الذكاء الذهني فهناك الذكاء القلبي"، والمرأة هي الأقدر على "الذكائين". لكنها لم تشرح كيف يتم ذلك؟. ويبقى السؤال كيف ذلك؟.

في صفحة 122 ترى أن الله تعالى في سورة عبس عاتب نبيّه صلى الله عليه وسلم، والحقيقة التي يجب أن تقال، أن الله تعالى رفع نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة عبس، لأنه كلف نفسه فوق طاقته كبشر ورسول، وليس كما قالت الاستاذة عتاب، وحاشا لله تعالى ان يعاتب نبيه.

جاء في صفحة 123، أن سيدنا يعقوب عليه السلام أصيب بإعاقة حين ابيضت عيناه. والمعروف أنه من تمام النبوة والرسالة سلامة العقل والجسم، و"ابيضت عيناه" ليست من الإعاقة في شيء، فهي ليست كالعمى المنافي للنبوة والرسالة.

خلاصة.. إستطاعت الأستاذة بشرى شاكر من خلال عرض فكرة صعبة كتربية الأبناء بأسلوب سهل مميزوذلك بالاعتماد على الواقع العربي، مستعملة في ذلك القرآن الكريم والأحاديث النبوية، ساعية لاستخراج الحكم التي تعزّز موقفها فيما ذهبت إليه في مجال التربية، ومعرجة في نفس الوقت على أقوال الفلاسفة والأساتذة والدراسات الغربية القديمة منها والحديثة، وتأخذ منها مايناسب مجتمعها وأخلاقه وتراثه وحضارته دون أن تدخل في مجال المقارنة، بل تعمدت الاعتماد على ماكان مشتركا بين الثقافة العربية الاسلامية من جهة والثقافة الغربية من جهة أخرى.

عنوان الكتاب "التربية بين الدين وعلم النفس"، في البداية يخيف القارئ غير المتمرّس، لكنه بمجرد مايغوص في صفحاته، يلاحظ البساطة والسهولة التي ميّزت الفكرة والطرح.

وجد المسرح العربي في مصر منذ العصر المملوكي على يد الشاعر المصري محمد بن دانيال ، وكان هذا الشاعر يؤلف مسرحياته ويشارك في تمثيلها ، وقد كتب مسرحية " طيف الخيال " الاجتماعية لينقد بها عادة الغش في الزواج ، وكانت زاخرة بالحركة والحياة ، إلا أن هذا الفن الأدبي لم يلق رواجا في الأوساط الأدبية على ما يبدو ، وظل مسرحا شعبيا يمثل في البيوت ، وقد شاهد السائح الدانمركي في رحلته إلى مصر عام 1780م فرقة تمثيلية في مصر ، ولم يك يتوقع هذا في العصر العثماني ،ولما ولي محمد علي باشا مصر افتتح مسرحا مثل فيه الأجانب ، ثم ازداد عدد المسارح ووضعت له قوانين ضابطة تصل أحيانا إلى عقوبة السجن إن تعدى المسؤول عنه قواعد الأخلاق العامة في المجتمع .

 وعندما رحل مارون النقاش إلى إيطاليا واطلع على المسرح الغربي عاد إلى لبنان وكتب مسرحيته البخيل على غرار" البخيل لموليير" ، ومثلها في 1847م في بيروت ،وأعلن أن غايته من نشر هذا الفن تهذيب الأخلاق ونشر الفضيلة ، ولذلك وافقت الدولة العثمانية على إنشاء مسرحه ولم تتعرض له ، بل حضر مسرحياته كبار رجال الدولة في بيروت وولاتها والقناصل الأجنبية فيها ، وربما تأثر به أبو خليل القباني ،أو تأثرهذا بالمسرح التركي ،إذ كان أبواه تركيين من مدينة قونية ، فأدخل المسرح إلى دمشق ، وكذلك حصل يعقوب صنوع وخليل النقاش على إذن بالتمثيل في مصر .... وهكذا عاد المسرح العربي إلى الظهور في العهد العثماني في كل من بيروت ودمشق والقاهرة ، وبدأ التمثيل فيه على مرأى من الولاة العثمانيين .

 ولكن هؤلاء المسرحيين أخلوا بالشروط التي كانت الدولة العثمانية قد شرطتها عليهم ، إذ مثل مارون النقاش مسرحية " هارون الرشيد وجعفر " فجعل هذه الشخصية العظيمة زير نساء ، ونقل من مغامرات " ألف ليلة وليلة " ما شوه به صورة هذا الخليفة الذي كان يحج سنة ويغزو سنة ، والذي كان قد قضى على غطرسة الإمبراطور البيزنطي "نقفور" بعدما تعدى على حقوق المسلمين إذ انتصر عليه في معركة هرقلة ، كما كرر مارون النقاش عرض هذه المسرحية ، ومثلها أيضا يعقوب صنوع وهو يهودي مصري ، كما سخر هذا من تعدد الزوجات في الإسلام ، وندد بحكم الخديوي إسماعيل فأوقف مسرحه ، فلما جاء سليم خليل النقاش إلى مصر سمح له بإنشاء مسرح شريطة المحافظة على القواعد الصحيحة وترك كل ما يخل بالآداب العامة ، ولكنه كعمه مثل مسرحية " هارون الرشيد أو أبو الحسن المغفل " فشوه بذلك صورة هذا الخليفة العباسي الراشد فأوقف مسرحه بعد سنة واحدة .

 أما في دمشق فقد مثل أبو خليل القباني مسرحيات متعددة في ذلك العهد من أمثال " ناكر الجميل ، والشاه محمود ، فشجعه الوالي العثماني فيها على إنشاء مسرح له ، ولكنه أدخل العنصر النسائي فيه ، إذ كان يمثل في فرقته المكونة من اثني عشر شخصية أربعة نسوة ، ثم كرر خطأ الآخرين فمثل " هارون الرشيد أو أبو الحسن المغفل " فأبلغ أحد العلماء الأمر للسلطان العثماني فأمر بإغلاق المسرح ، وكان ذلك في 1884م .

 ويقول د. محمد يوسف نجم معلقا على ذلك " فقام الشيوخ الرجعيون وقعدوا لظهور هارون الرشيد على المسرح على شكل أبي الحسن المغفل ، ورفعوا الاحتجاج إلى الدولة العثمانية " فمنع من التمثيل .

 وهنا يبدو الأمر واضحا وضوح الشمس ، فالدولة العثمانية لم تمنع المسرح وإنما كان تشويه صورة عظمائنا السبب في المنع، والدليل على هذا أن الدولة سمحت بالتمثيل في بيروت ودمشق ومصر ، ولكنها كأي سلطة رسمية تضع قوانين ضابطة ، وهذا أمر بدهي ، وأرى أنه ليس من قبيل المصادفة أن يركز هؤلاء على هذه الشخصية التاريخية الفذة ... .

 و قد سمح للقباني بعد ما رحل إلى مصر أن يؤسس مسرحا له فيها، فعرض " أنس الجليس ، وعنترة ، ومجنون ليلى ، "ولم يعترض عليه أحد ، ولكنه لما مزج المسرح بالرقص والغناء أحرق مسرحه ، ولعل ذلك كان من الشعب حفاظا على الأعراض أن تنتهك ، وقد عوض له السلطان عبد الحميد الثاني ما أنفقه على المسرح وأعاده إلى دمشق وخصص له راتبا يكفيه وأسرته إلى أن مات بعد أن ترك التمثيل .

 ثم افتتح سلامة حجازي مسرحا، وكذلك أنشأ كل من إسكندر فرح وسليمان القرداحي ويوسف الخياط ، ومثل على مسارحهم مسرحيات متعددة ، ولكن هؤلاء تطرفوا تطرف من سبقهم فمثلوا في الإسكندرية مسرحية " هارون الرشيد أو غرام الملوك " ، و "هارون الرشيد أو أبو الحسن المغفل " ، كما مثل يوسف الخياط وهو يهودي مسرحية " الظلوم " انتقد بها حكومة الخديوي إسماعيل فأوقف هذا مسرحه أيضا ، ولكنه على ما يبدو وجد في الإنكليز مساعدا له في مصر فذهب إلى الريف في 1886م ومثل فيه فأوقف مسرحه ، ثم عاد في 1890 إلى الظهور ثانية فمنعته السلطة حتى مات في 1900م .

 إزاء هذا كله أدركت الدولة العثمانية ضرورة تشديد الرقابة على المسرح ، ووضعت قانون مراقبة الجرائم السياسية في 1902 الذي يقضي بمراقبة الروايات التمثيلية في الآستانة قبل تمثيلها، وذلك لضمان خلوها من الطعن بتراثنا وعظمائنا ، فضاق هؤلاء ذرعا بالقانون وراحوا يطعنون به وبالسلطان عبد الحميد الثاني، ويصورون الرقابة خنقا لحرية الرأي !!...، وقالوا " لن تقوم للمسرح قائمة بعد اليوم " ولو أنهم كانوا صدقوا ما عاهدوا عليه لما منعهم أحد ، إذ كان عدد المسرحيات التي مثلت في الأراضي العربية في العهد العثماني بين عامي 1847-1914م قد بلغت حوالي ثلاثمئة بين شعرية ونثرية ، وقد اقتبست موضوعاتها من القصص الديني ومن التاريخ الجاهلي والإسلامي ومن الحياة العامة ،بل إن كثيرا من الجمعيات الخيرية الإسلامية وغير الإسلامية اتخذت المسرح وسيلة للمساعدات الإنسانية ، ونشط المسرح المدرسي أيضا ، وهذا ينم عن أن موقف الدولة العثمانية من المسرح كان كموقفها من أي فن ، إذ لايعقل أن يسمح باتخاذ الإبداع الفني وسيلة للطعن بشرع الله وبتراثنا وشخصياتنا ، ومن يفعل ذلك يلق أثاما ويوقف عند حده ، وتلك غيرة لله ودينه وما نشاهده اليوم من تشويه للحقائق التاريخية و لصورة الرسول صلى الله عليه وسلم يكفي لأخذ العبرة وفهم الأمور على حقيقتها ، ومن ذب عن عرض أخيه بالغيب كان حقا على الله أن يعتقه من النار .

 

من النوادر الطريفة أن عبد الملك بن مروان كان يحتفل يوما في مناسبة من المناسبات فسأل ، مُمالحًا ضيوفه ، عن أغزل بيت عند العرب ، وعن أهجى بيت ، وأفخره ، فكانت الأبيات المنتقاة كلها للشاعر جرير ، وعُدَّ بيته :

ألستم خير من ركب المطايا      وأندى العالمين بطون راح

الأمدح والأجود .

ولدى النظر في هذا البيت ضمن قصيدته رأيت أنه يأخذ بمفهوم النقد العربي القديم الذي يفصل البيت عن سياقه العام في القصيدة ، وأن سبب تفضيله كان لأنه أثنى على عبد الملك بصفتين هما الأفضل في المجتمع العربي : الشجاعة والكرم ،  بأسلوب تقريري باستخدامه  الاستفهام والنفي معا ، إضافة إلى التفضيل مع الشمول في التعبير بـ " مَن " وذلك كله في بيت واحد  .

وبعد دراسة القصيدة ككل، ومعرفة الظروف السياسية والاجتماعية التي أحاطت بالشاعر تبين لي أن القصيدة لاصدق في مديحها ، وذلك للأسباب الآتية :

أولا _ بالنسبة إلى ظروف الشاعر والوضع العام للدولة آنذاك :

كان الشاعر " جرير" زبيري الهوى، بمعنى أنه كان يعلن ولاءه للخليفـة الشرعي" عبد الله بن الزبير الذي حكم تسع سنوات ، واعترفت بخلافته الشعوب ، إلا الأمويين ومـن بسطوا سلطانهم عليهم عن طريق الحروب ، وكان جرير- بعـد استشهـاد الخليفة الشرعي وانتزاع السلطة من الزبيريين ، واستخلاف عبد الملك بن مروان قد  أعرض عن قاتل الخليفة الشرعي ، فعاش في ضنك العيش - كما أشار في القصيدة إبان حديثه عن زوجته أم حرزة ، وطلبه الإغاثة من عبد الملك - فاضطر تحت ضغط لقمة العيش أن يلجأ إلى الحجاج ليعينه على العيش ، فرأى هذا مقدمه غنيمة للسلطة الحاكمة ، لأن الشاعر يمثل آنذاك  الوجه الإعلامي للدولة ، وكان عبد الملك بن مروان يقرب إليه الشاعر الأخطل التغلبي النصراني ، وكان هذا يدخل عليه والصليب في رقبته ورائحة الخمر تفوح منه ،  كما أورد صاحب الأغاني ، وكان هذا يؤلم الخليفة المسلم ، ويتمنى لو أتيح له مثل جرير ليشيد به وبدولته ، فيتخلى به عن الأخطل الذي يؤذي مشاعره ، ويعرضه للنقد ،وشاء القدر أن يأتيه طلبه ، إذ اغتنم الحجاج مقدم "جرير " إليه ليقنعه باللجوء إلى عبد الملك …ولعله اقتنع ووجد أن الأفضل له وللدولة أن يتقرب من حاكمها ابن مروان .

ويقال إنه لما دخل على عبد الملك أنشده قصيدته التي تحوي بيت القصيد

" ألستم خير من ركب المطايا  … "

وقد استهلها بمطلع غزلي ، وكان أول كلمة فيها :

أتصحو ، بل فؤادك غير صاح     عشية همّ صحبك بالرواح

فلما طرق مسمعي عبد الملك هذا الاستهلال أنكره بحسه العربي المرهف ، ورمى الشاعر بدواة كانت في يده ، ولكن جريراً تظاهر باللامبالاة وتابع قوله ، لأنه يعرف الأمر ونتائجه ، والظرف الذي هو فيه ، واستمر ينشد بنبرته الخطابية الموجهة إلى عبد الملك حتى وصل إلى قوله :

ألستم خير من ركب المطايا …

ثم عرَّض بمناوئيه  ، فسري عن عبد الملك وكافأه  .

ثانيا : وبناء على هذا ، وبعد دراسة المعاني والصور التي استخدمها جرير في قصيدته أرى أن عاطفة جرير كانت غير صادقة لأنه :

1 - أبدى التكلف في المديح منذ أن قال لعبد الملك " أتصحو " ثم كرر هذا المعنى بقوله " بل فؤادك غير صاح " ليؤكد معنى الغفلة ، فكأن عبد الملك غفل عن آخرته حينما طمع بالخلافة ، وقتل الخليفة الشرعي ، ثم   قرب منه الشاعر النصراني .

صحيح أنه أتبع المطلع  بما يشير إلى الغزل بقوله :

أتصحو بل فؤادك غير صاح    عشية هم صحبك بالرواح

ليشير إلى حزنه لفـراق صاحبته ، وتأثره لرحيل الظعينة  ، لكنها على أي حال الكلمة الأولى التي سمعها عبد الملك من جرير ، عدوه القادم إليه ، وقد جاءت موجهة إليه مباشرة ،  وهذا لايليق بمقام خليفة لأكبر دولة في العالم آنذاك ، فضلا عن أن المطلع الغزلي هو رمـز ينم عما يعتلج في صدر الشاعر ، فالخائف يبدي في غزله خوفه  ، وذو الهمّ يشير في مقدمته  إلى من سبَّـب له الهمَّ  و… ، واقرأ إن شئت مطالع الجاهلييـن في معلقاتهم أمثال النابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمى وامرئ القيس تجد مصداق ذلك .

2_ تحدث جرير في مقدمة قصيدته عن رحيل الظعائن وذكر أن صاحباته قد سلمت عقائدهن وسلوكياتهن من التعميد ، وذلك  في قوله :

يكلفنـي فؤادي من هـواه       ظعائن يجتزِعْن على رُماح

ظعائن لم يدِنَّ مع النصارى    ولا يدرين ما سمَك القَـراح

والتحدث عن العقائد أمر غير مألوف في مقدمة القصيدة العربية ، وهو أيضاً غير مألوف من شاعر مسلم في دولة إسلامية لا تؤذي عادة  مشاعر النصارى  لولا أن صاحبها  أراد التعريض بشاعر الخليفة ، الأخطل ، فكأنه يعرض من طرف خفي بسلوك الخليفة الذي قربه إليه ، أو كأنه يقول له : إذا كانت النساء المسلمات يرفضن النصرانية وتعميدها فالأولى بك رجلا وخليفة للمسلمين أن تنكر هذا وتبطله ، وها قد آن الأوان بمجيئي إليك فأنا أعوض عن شاعرك .

3_ ثم قال له بعد ذلك :

فبعض الماء ماء رباب مُزن    وبعض الماء من سبخ ملاح

وقد شرح محقق ديوانه ذلك فقال :" إن البدويات يفضلن الحضريات : كما يفضل الماء العذب الماء المالح " ولكني أرى رأياً آخر، إذ ما علاقة هذا التفضيل بسياق القصيدة ؟

إن هذا البيت والذي سبقه يشكلان تشبيها ضمنيا يشير إلى تنديد الشاعر بالأخطل منافسه على القصر ، ولكن  من طرف خفي ، فكأن المسلمات "رمز الشاعر"كالماء الزلال ، وغيرهن " رمز الأخطل "  خلاف ذلك لأنهن يعمدن بماء تمجه النفس .

4 - ثم تابع  جرير :

سيكفيك العـــــواذل أرحبـيٌّ      هِجـــــان اللون كالفَـــــــــرَد اللَّـياح

يعز على الطريق بمنكبيه    كما ابترك الخليع على القداح

وفي تصوير الفرس تلقانا صورتان :

أ -   مادية : تمكنه من الوصول إلى الخليفة ، فهو فرس عربي أصيل ومن خيرة الخيـول العربية ، أبيض اللون ، ضخم الجسم يحسبه الناظر إليه كجبل أبيض ، وهو يكاد يسد الطريق بمنكبيه العريضين ، وبه يستطيع الذهاب إلى الخليفة في طريـق طويـل فيتخلص من لوم اللائمين ،وفي مقدمتهم زوجته التي لم تعد تحتمل الفقر     ب - ومعنوية أو نفسية :  يصور فيها حاله كأنه في مقامرة يجلس أمام القداح منفعل النفس ، ولكنه خبير بأعدائه ، وقد تنجح مقامرته ،مقدمه إلى الخليفة ،  وقد يخفق فيها ، وإن كانت فرصة النجاح أكبر ، لأنه شاعر ملازم لهذا العمل خبير به ، وخبير بالكلمـة ولسوف يقدمها لعبد الملك ليجمل فيها موقفه الجديد منه .

5 - وينتقل جرير بعد ذلك إلى شرح حاله التي اضطرته إلى القدوم إلى الخليفة الجديد ، وتغيير خطه السياسي منه  ،فهو وتحت ضغط زوجه التي أجهدها ضنك العيش  ، وإزاء إحساسه بالفقر الشديد ومعاناة الأسرة ، لجأ إلى الخليفة عبد الملك بن مروان ، وهنا يلتقط الشاعر صورته من قصة الخليفة عمر بن الخطاب والمرأة التي كانت توهم أولادها الجياع بأنها تطبخ لهم بوضع الحجارة في الماء وإيقاد النار عليها  …  ويصور أولاده كذلك وقد انكبوا على قدر لاطعام فيه إلا الحجر ، في جو بارد تتصاعد فيه أنفاسهم فتبدو ظاهرة للعيان كبخار يتصاعد ، يقول في ذلك :

تعزّتْ أم حَرْزَةَ ثم قالت    رأيت الواردين ذوي امتياح

تعلِّل وهي ساغبـة بنيها     بأنفـاس من الشَّبِم القَـراح

سأمتاح البحور فجنِّـبيني    أذاة اللوم وانتظري امتياحي

وكأنه يقول لزوجته : كفي عن اللوم لأنني سأرد البحور لأنال من عطاياها ، وإن كان هذا يؤلمني ، وانتظري ، وسأذهب في المستقبل القريب ، وهذا يوحي بأنه لايزال  في نفسه شيء ما جعله لا يسرع في الذهاب إليه ، ولا ننسى أنه كان منذ عهد قريب عدوا له ، وفي كلمة " البحور " إيحاء بأن الممدوح قد يكون الخليفة ، وقد يكون غيره ، فأي امرئ كفاه مؤنة العيش وهمَّ الحياة فهو البحر الذي يغرف منه . 

6 -  ثم قال :

أغثني يا فداك أبي وأمي    بسَيْب منك إنك ذو ارتياح..

ووسط البحر الوافر ذي الإيقاعات المناسبة للاضطرابات النفسية ، وروي الحاء الذي يوحي بالتعب حتى البحة ، يطلب الشاعر من الخليفة عطاء بفعل الأمر " أغثني " وفي هذا تعريض آخر ، ولا سيما أنه صرح بالحاجة ، وكأنه خاف ألا يعطيه الخليفة …ثم قال له : "إنك ذو ارتياح " ولعمري إنها كلمة لاتقال لكريم إذ يكفي هذا التلميح لا التصريح ,,,

7 - ثم قال له :

فإني قد رأيت علي حقا     زيارتي الخليفة وامتداحي

فالقضية عنده قضية حق وواجب لا قضية إعجاب بفعال الخليفة ولا مودة بينهما تستدعي الثناء عليه …

8 -   ثم قال :

سأشكر إن رددت علي ريشي    وأنبت القوادم في جناحي

وفي رواية " وأثبت القوادم "  ، فالشكر إذا معلق بالشرط ، فلا شكر بلا مال يقدمه الخليفة ، فإن فعل وأغنى الشاعر استحق المديح ، والسين وهي " للاستقبال " توحي بأن المديح الحق  سيكون فيما بعد ولكن " إن " توحي بالشك فكأنـه يشكك بعطاء الخليفة ، ولهذا فلن يكثر مـن مديحه له الآن ، وفي هذا تجريح آخر له .

9 - ثم قال بعد المقدمات السالفة :

ألستم خير من ركب المطايا    وأندى العالمين بطون راح

وهو البيت الذي طرب له عبد الملك وكافأه من أجله بعدما قال : "من كان يمدحني فليمدحني بمثل ما مدح به جرير " ولكني أرى أن الخليفة العربي الفصيح لم يغرب عن باله ماقاله جرير فيما سبق ، وكأنه يقول له ها أنا جاهز لاستقبالك شاعرا لي ، ولا سيما أن القصيدة حوت بعد ذلك تنديدا بالمنشقين على عبد الملك ، وإشادة بنسب عبد الملك القرشي الذي أهّـله للخلافة ، لقد تناسى الخليفة ما سبق إزاء التعريض بمناوئيه وإثبات حقه في الخلافة ، وهذا ما كان يريده ويسعى إليه ، وهذا ما كان الأخطل يفعله ، وها هو الآن يرى أمامه من هو يفوقه شاعرية فليغتنم الفرصة وليجعله شاعره الخاص، ولهذا رضي من جرير الاعتراف ولو المبدئي به ،ولسوف ينسل من نفسه الضغينة بما سيقدمه له، ولا سيما أن منافسه ابن الزبير قد واراه الثرى .

هذه ملاحظات رأيتها وأنا أقرأ هذه القصيدة ، وهي التي دعتني إلى القول بأن جريرا لم يكن يحس بصدق المشاعر وهو يمدح عبد الملك ، وإن كان قد قيل إنه صاحب أشهر بيت في المديح.

وما الأدب إلا ترجمان صادق لأحاسيس قائله .

المزيد من المقالات...