ليست الإسكندرية كغيرها من مدن مصر، ثمة ما هو مختلف دوما هناك، في تلك المدينة المجاورة للبحر المتوسط، المبتلة أقدامها بمياهه، المتفاعلة مع أمواجه عبر القرون، المستقبلة للضيوف، المبتلاة بالغزاة وأسلحتهم وأطماعهم. لهذه المدينة رونقها الخاص، ثمة سر ما في هوائها، وشواطئها، وأمواجها، وشوارعها وحكاياتها،  ثمة انجذاب إليها يصفه الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس الذي عاش فيها حياة استحقت أن يسمى الشارع حيث كان يسكن باسمه، وأن يغدو بيته متحفا، يقول كفافيس عن الإسكندرية في استهلال هذه الرواية:

                    " ستدركك الشيخوخة في هذه الأحياء،

                         وفي الأحياء ذاتها سيدب الشيب في رأسك

                                       ستصل دائما إلى هذه المدينة

                                      لا  تأمل في أماكن أخرى

                                      ما من سفينة لأجلك

                                       ما من سبيل"....

فلا عجب إذن أن تحتضن بين أهلها من يعتبر نفسه مصريا من أصول يونانية أو طليانية أو غير ذلك، ولا عجب أن تعمل  "شانتال" السيدة الفرنسية إحدى شخصيات الرواية جاهدة للتشبث بالإقامة في الإسكندرية مستعينة بشبكة واسعة من معارفها رواد المكتبة التي تمتلكها وتديرها. وصاحبة المطعم "ليدا" إذ تقف بصلابة ضد دعوة من زوجها للهجرة قائلة "أنا مصرية من أصول يونانية".

أما شانتال فهي سيدة فرنسية  من رواد مطعم "أرتينوس" الشهير بسمعته المدوية، وتقاليده الصارمة، وبكونه مقرا لمجموعة "الكوكاس" وملتقى لأفرادها في أمسيات الشراب التي تبدأ بعد منتصف الليل يوميا، وتشهد حوارات تعددت مواضيعها "وإن كانت مصر في عهد عبد الناصر ، في صلب هذه المواضيع". وعلى هذه المجموعة تطل الفصول الأولى من الرواية موضوع هذه المقالة: "الأشجار تمشي في الإسكندرية" للطبيب والأديب المصري علاء الأسواني  والصادرة عن دار نوفل (هاشيت أنطوان) عام 2024 في نحو 435 صفحة من القطع الكبير.

أما العنوان فيشير إلى رؤية "مستقبلية" لمنحى الأحداث في الإسكندرية آخذين بعين الاعتبار انها تتناول منتصف الستينيات من القرن العشرين، صورة "نبوءة" يقرأها الفنان التشكيلي أنس الصيرفي مستمدا من الرواية الأسطورية المعروفة بزرقاء اليمامة التي كذبها قومها واتهموها بالخرف عندما زعمت أن الأشجار تمشي ، ثم تبين صدق مقالتها بعد فوات الأوان عندما داهمهم الأعداء الذين تخفوا تحت الأشجار.

قدم الأسواني مجموعة "الكوكاس" زاعما أن القنصل الأميركي في الإسكندرية أطلق عليهم هذا المسمى الذي يعني "اجتماع دوري لمجموعة من الناس لهم اهتمامات سياسية مشتركة"، فمن هم أعضاء الكوكاس؟ وما الاهتمامات السياسية المشتركة بينهم؟

ضمت المجموعة محاميا مشهورا وزوجته ابنة "اسماعيل الشواربي"  أحد الباشوات الذي أممت الثور أملاكه، وفنانا تشكيليا صديقا مقربا لصاحبة المطعم "ليدا" وهي من أصول يونانية، ثم مالك مصنع شوكولاتة  من أصول يونانية يعلن صراحة ابتعاده عن السياسة ويستعين ب"بدوي خضير" الذي تولى الأمور ذات العلاقة بالدولة والسياسة، لكن السياسة لم تبتعد عن "توني" كما ابتعد عنها، ففوجيء بها تتعامل معه في عقر داره وقد تعرض المصنع للتأميم.

وشانتال صاحبة مكتبة شهيرة تعبر عن حبها للشعب المصري ولكنها تصفه بالميل للإذعان للحاكم عبر العصور، وترد ذلك لأسباب دينية، ثم كارلو سباتيني شاب في مقتبل العمر من أصول إيطالية، نما وشكل نفسه بجهده الشخصي، وبمعونة ودعم صاحب المطعم إلى أن غدا بارمان ومديرا للمطعم في الفترة المسائية ويعتبر نفسه صديقا لمجموعة الكوكاس وليس مجرد بارمان يعمل في خدمتهم، وقد عرف عنه بكونه"زير نساء" وكانت هذه الشهرة منفذا وصلت إليه أجهزة الدولة من خلاله  ليجد نفسه في مواجهة مع الدولة، مواجهة أطاحت بمجالس مجموعة الكوكاس فكيف كان ذلك؟ ... أترك للقارىء أمر اكتشاف هذه التفاصيل.

كان أنس بين أفراد المجموعة الأكثر اتصالا  بالناس البسطاء مثل "الفتوة" عدلي الأسود وصديقته الراقصة نعمت وقد حرص المؤلف على أن يظهرهما في أدوار تتصف ب"الشهامة والجدعنة".

هناك من جهة أخرى "جليل" شقيق المحامي عباس الذي كان خلافا لشقيقه متحمسا للثورة مدافعا عنها بل مضى في حماسه إلى حد الإيقاع بالناس من خلال اقحامهم في جدل حول قضايا مثل دور مصر في حرب اليمن وغيرها من القضايا ثم تتكاثر التقارير للتنظيم الطليعي ويتكاثر الضحايا. يحاول جليل أن يلعب دور صحوة الضمير أزاء تفاصيل عملية تأميم مصنع الشوكولاته رغم كونه مستفيدا إلا إنه يجد نفسه مرغما على توجيه رسالة تكرس الخنوع والإذعان.

يطل الأسواني على الأحداث في نسق مشابه للأشجار المتحركة التي تخفي المهاجمين في أسطورة "زرقاء اليمامة" فيشير إلى حادثة مسابقة "جمال العيون للشباب" وما فتحته من أبواب للنقاش داخل مجموعة الكوكاس، وظهر من خلالها مواقف أعضاء الكوكاس من إدانة لعهد عبد الناصر قادها كل من عباس المحامي وأنس الصيرفي الفنان التشكيلي وفيها تعظيم لمساوىء النظام والتقليل من شأن إنجازاته، وسط دهشة شانتال الصاخبة لمظاهر التدخل في الحرية الشخصية للأفراد، ومحاولات مستبسلة من توني لتأكيد حياده السلبي نحو الأحداث .

ثم يقترب المؤلف من مشهد التفاعل مع النظام الناصري ليصور مواجهات منفردة لأعضاء الكوكاس من شانتال التي تحتك بالنظام لمصلحة العمل في المكتبة لتجد نفسها عشيقة لأحد ضباط الداخلية، وأنس الذي يتمرد على رغبة ولي أمر إحدى الطالبات لمنعه من التجوال في المقاهي، إلى أن تصل المواجهة حد الدخول إلى عقر دار المجموعة في مطعم أرتينوس.

 وتتخذ الأحداث مظهرا أكثر صخبا، بتأميم مصنع الشوكولاته واضطرار توني للرحيل من ناحية، وتدخل تهمة الجاسوسية كسلاح موجه خصوصا ضد أبناء الجاليات الأجنبية من الناحية الأخرى، فليدا متهمة بالجاسوسية لمجرد أن أحد المتهمين بالجاسوسية  تناول الطعام في مطعمها، وكارلو متهم لأنه رفض الإيقاع بمواطنة من دولة عربية للضغط على زوجها وابتزازه سياسيا. ثم هذا الحشد الإعلامي بزعم  التصدي للجاسوسية الذي قاد العامة لإيقاع الضرر بمطعم مارتينوس لولا مشهد التدخل الذي قاده الفتوة عدلي الأسود.

وهكذا استبسل المؤلف عبر فصول الرواية في حشد القراء في تظاهرة بالرأي ضد الناصرية، التي أممت، والتي قمعت من خلال التنظيم الطليعي، والتي تدخلت في الحرية الشخصية للناس، والتي خاضت حربا في اليمن تسبب في العديد من الضحايا الأبرياء والتي جهدت في جعل مصر  مكانا غير ملائم لعيش الجاليات الأجنبية. (وفق ما يستخلص من المقولات الفكرية والسياسية للرواية).

قدم د.علاء الأسواني من خلال هذه الرواية أطيافا وشرائح متعددة من المجتمع المصري في فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر المشار إليها "أواسط الستينيات من القرن العشرين"، فقد تناول إلى جانب  الطبقة البرجوازية التي تمثلها مجموعة "الكوكاس"  من المهنيين، والفنانين وأصحاب المصالح (مطاعم، معرض بيع الكتب، والمصانع الصغيرة) بما فيهم من أشخاص يعتبرون أنفسهم مصريين وإن كانوا من أصول  أوروبية مختلفة. كذلك قدم صورا لطبقات تضم "الراقصة والفتوة الذي حرص الكاتب على تلميعه وتقديمه بصورة البلطجي الجدع صاحب المباديء!!!" ثم رواد المقاهي ، ولم يغفل عن تقديم صورة للسلطة في مواقع مختلفة مع التركيز عل الداخلية كممثل للجهات الأمنية في صورها المختلفة، وكان لا بد من الإشارة إلى الانتهازيين في صورة "بدوي خضير " والمخدوعين المتحمسين وربما المؤمنين بمباديء الثورة المعلنة"  وفقا للصورة التي قدمها الأسواني ممثلة في شخص جليل القوصي شقيق المحامي.

وقد أتقن الأسواني كما هو شانه دائما - وقد نال قدرا كبيرا من الإلمام بالفن الروائي بلغ حد المقارنة والتشبيه بالأديب والمفكر الأكثر شهرة نجيب محفوظ- تقديم الفكرة التي أراد من خلال التنقل الرشيق بين هذه الفئات من المجتمع في مشاهد لا ينقصها التشويق بالرغم من مساحات من التنظير التي شملت عرض أدبيات "الفكر السياسي" الذي حرصت الناصرية على ترويجه وربما بأسلوب خدم الفكرة التي أراد الأسواني الوصول إليها والتي مثلت محاكمة غير عادلة لتلك الفترة المحورية من حياة مصر السياسية والاجتماعية. وتضمنت الإدانة تهما بالديكتاتورية وما يتبعها من إجراءات قمعية، والتعدي على أملاك الغير"التأميم"، والإساءة للمواطنين من اصول أجنبية، والتدخل في حرب اليمن التي أدت إلى خسارة الكثيرين من أبناء الشعب المصري وفقا للصورة التي تضمنتها الرواية، أضف إلى ذلك التقليل من المزايا التي حققتها مصر والعالم العربي في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

صحيح أن النظام الناصري ألغى الأحزاب عن يمينه ويساره، وحال بذلك دون نهضة فكرية كان يمكنها أن تمنع ما وصلت إليه الأمور من تدهور وضياع، إلا أنه ثمة ما يمكن الإشارة إليه بكثير من التقدير في الحقبة المشار إليها يأتي السد العالي، والصناعات الكبرى، والزراعة الاستراتيجية للقطن وغيره من المحاصيل الهامة، ومجانية التنعليم التي أتاحت فرصة التعليم للملايين بما في ذلك التعليم الجامعي، الذي اتيح ليس لأبناء مصر فحسب بل للملايين أيضا من ابناء الدول العربية. إضافة إلى قيمة معنوية هامة تمثلت في قدر عال من المنعة والعزة للعرب نفتقر للحد الأدنى منه في الوقت الحالي فأي هدف يسعى إليه الأسواني من توثيق هذه المحاكمة في عمل روائي في الوقت الحالي؟ ومن ترى يملك حق محاكمة عهد عبد الناصر بما عليه وما له؟ ويبقى السؤال الأهم هال باتت مصر في وضع أفضل بعد رحيل عبد الناصر؟!!!

إنَّ المَنْفَى لَيْسَ مَحصورًا في إطارٍ زَمَانيٍّ ، أوْ حَيِّزٍ مَكَانيٍّ ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ تأثيرِهِ العَمِيقِ في الشُّعُورِ والوِجْدَانِ ، واشتمالِهِ عَلى آلامِ الغُربةِ وَالحَنِينِ إلى الوَطَنِ ، واحتوائِهِ عَلى مَعَاني الاستلابِ والاغترابِ ، رُوحًا ومَادَّةً ، فِكْرًا ومُمَارَسَةً . وَالمَنْفَى لا يَحْمِلُ فَلسفةَ الانتقالِ في الزَّمَانِ فَحَسْب ، بَلْ أيضًا يَصْنَعُ زَمَانَهُ الخاص الذي يَقُومُ عَلى صُوَرِ الذاكرةِ المُحَاصَرَةِ . وَالمَنْفَى لا يُمَثِّلُ فِكْرَةَ الاقتلاعِ مِنَ المَكَانِ فَحَسْب ، بَلْ أيضًا يَصَنَعُ مَكَانَه الخاص الذي يَقُومُ عَلى أحلامِ الوَطَنِ المَفْقُودِ . وهَكذا يُصبح المَنْفَى هُوِيَّةَ مَنْ لا هُوِيَّة لَه ، ويُصبح التاريخُ عِبْئًا عَلى الحَضَارةِ ، وتُصبح الحَضَارَةُ إعادةَ تأويلٍ للتاريخ . فالتاريخُ الشَّخْصِيُّ للفَرْدِ يَطْرَحُ تَساؤلاتٍ عَن قِيمَةِ الإنسانِ بِدُون وَطَنٍ ، والتاريخُ العَامُّ للمُجْتَمَعِ يَطْرَحُ تَسَاؤلاتٍ عَن مَعْنَى الزَّمَانِ بِلا مَكَانٍ . لذلكَ صَارَ المَنْفَى نَوَاةً مَركزيةً في الشِّعْرِ والفِكْرِ عَلى حَدٍّ سَوَاء ، فالشاعرُ الفِلَسْطِينيُّ محمود دَرْويش ( 1941 _ 2008 ) وَظَّفَ المَنْفَى في شِعْرِهِ كَقِيمَةٍ لُغويةٍ وَحَقيقةٍ مُتَشَظِّيَةٍ . يَقُولُ درويش في قصيدته ( رسالة مِنَ المَنْفَى ) : (( مِنْ أيْنَ أبْتَدِي ؟ / وَأيْنَ أنْتَهِي ؟ / وَدَوْرَةُ الزَّمَانِ دُونَ حَد )) .

صَارَ المَنْفَى عَمليةَ دَوَرَان في حَلْقَةٍ مُفْرَغَةٍ ، لا تُعرَف البِدَايةُ ، ولا تُعرَف النِّهَايَةُ . إنَّهُ مَتَاهَةٌ وُجودية ، والإنسانُ فِيهَا ضَائعٌ وحَائِرٌ ، وَدَوْرَةُ الزَّمَانِ مَفتوحةٌ بِلا حُدُودٍ ، وَتَضْغَطُ عَلى المَشاعرِ والأفكارِ ، وَالوَقْتُ دائمًا طَوِيلٌ عَلى الشخصِ المُعَذَّبِ ، حَيْثُ إنَّهُ يُعَاني في كُلِّ لَحْظَةٍ، وَيَتَمَنَّى لَوْ يَمَرُّ الوَقْتُ سريعًا وَيَنْقَضِي كَي يَرتاحَ مِنَ الألَمِ والعَذابِ ، فالثَّوَاني بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَالدَّبَابيسِ المَغروسةِ في جِلْدِه . وَشِدَّةُ الوَخْزِ تَمْنَعُهُ مِنَ الاستمتاعِ بِعُمْرِهِ ، وَشِدَّةُ الألَمِ تَجْعَلُهُ عَاجِزًا عَن قَضَاءِ الوَقْتِ مَعَ أحْبَابِه . حَتَّى هَؤلاء الأحباب لَيْسَ لَهُمْ وُجُود في الواقعِ، فَهُمْ غَائبونَ أوْ مُغَيَّبُون . وَالمَنْفَى قَادِرٌ عَلى تَوليدِ الاغترابِ بشكلٍ مُستمر في الإطارِ الزَّمَانيِّ ، وإنتاجِ الغِيَابِ بشكلٍ دائم في الحَيِّزِ المَكَانيِّ. لذلك ، كانَ المَنْفَى هُوَ الغِيَاب الذي لا يَغِيب ، والمَاضِي الذي لا يَمْضِي .

يَقُول درويش : (( مَاذَا جَنَيْنَا نَحْنُ يَا أُمَّاه ؟ / حَتَّى نَمُوتَ مَرَّتَيْن / فَمَرَّةً نَمُوتُ في الحَيَاةِ/ وَمَرَّةً نَمُوتُ عِنْدَ المَوْتِ ! )) .

إنَّ المَنْفَى صِنَاعَةٌ مُستمرة لِلْمَوْتِ ، فَالمَنْفِيُّ يَمُوتُ في الحَيَاةِ ، وحَيَاتُهُ مَوْتٌ في انتظارِ المَوْتِ النِّهَائيِّ الحَاسِمِ ، لذلكَ كانَ عُمْرُهُ مَوْتًا مُتَّصِلًا بلا انقطاعٍ ، وَفَنَاءً مُتَوَاصِلًا بِلا وُجُودٍ ، وغِيَابًا دائمًا بِلا حُضورٍ .

يَقُولُ درويش: (( مَا قِيمَةُ الإنْسَانِ/ بِلا وَطَنٍ/ بِلا عَلَمٍ/ وَدُونَمَا عُنْوَان/ مَا قِيمَةُ الإنْسَانِ ؟ )) .

يَسْتَمِدُّ الإنسانُ قِيمَتَهُ مِنْ أرْضِهِ وَوَطَنِهِ وَرُمُوزِ دَوْلَتِه ، فَهِيَ التي تَمْنَحُ الشَّرعيةَ الوُجوديةَ لَه ، وَهِيَ التي تُوَفِّرُ لَهُ المَشروعيةَ الأخلاقيةَ كَكَائِنٍ حَيٍّ وحُرٍّ، قادرٍ عَلى الحَيَاةِ والتَّفكيرِ والإبداعِ .

وَعَلى الصَّعيدِ الفِكْرِيِّ نَجِدُ أنَّ المَنْفَى صَارَ حُضُورًا مَركزيًّا وَوَعْيًا قائمًا بِذَاتِه ، فَالمُفَكِّرُ الفِلَسْطِينيُّ الأمريكيُّ إدوارد سعيد ( 1935 القُدْس _ 2003 نيويورك) في سِيرته الذاتية (خارج المكان ) قامَ بِأنْسَنَةِ المَاضِي في اللامَكَان ، وَتَحويلِ أحلامِ الطفولةِ السَّحيقةِ إلى تَيَّارِ وَعْيٍ دَائِمِ الجَرَيَانِ ، وَدَمْجِ المَنْفَى الداخليِّ معَ المَنْفَى الخارجيِّ . المَنْفَى الداخليُّ هُوَ الغُرْبَةُ عَن العَناصرِ المُحيطةِ ، وَالغَرَقُ في مُحْتَوَى الذاتِ والهُوِيَّةِ ، وَتَكْوينُ رُؤيةٍ وُجوديةٍ للعَالَمِ تَخْتَلِفُ عَن السَّائِدِ . وَالمَنْفَى الخارجيُّ هُوَ الانفصالُ عَن التاريخِ والجُغرافيا ، وَمُغَادَرَةُ حُدودِ الزَّمَانِ والمَكَانِ في مُحاولةٍ لإيجادِ فَضَاءٍ مَفتوح بَيْنَ الانتماءِ والذاكرةِ، وَصِناعةِ أُفُقٍ وَاسعٍ بَيْنَ الأرضِ السَّلِيبةِ وَوُجُوهِ الضَّحَايا.

أعادَ سعيد بِنَاءَ تَجْرِبته الشَّخصية الشُّعُورية في الكَلِمَاتِ باعتبارها وَسيلةً ثقافيةً للاندماجِ بالأرضِ البَعِيدَةِ ( الفِرْدَوْس المَفقود ) ، وطَريقةً مَعنويةً لِجَمْعِ شَظَايا المَكَانِ المَنثورةِ في ضَبَابِ الطُّفُولَةِ ، ومَنهجيةً مَعرفيةً لِوِلادةِ الإنسانِ مِنْ نَفْسِه ، ومُوَاجِهَةِ مَصِيرِه وَحِيدًا .

ومَشروعُ سعيد قائمٌ عَلى إعادةِ صِياغةِ المَنْفَى بِوَصْفِه أرشيفًا هُلاميًّا للأحلامِ المَنْسِيَّةِ والذكرياتِ المَقموعةِ والأزمنةِ الوِجْدَانِيَّة الضائعة ، مِنْ أجْلِ رَبْطِ المَكَانِ بالإنسانِ ، فالمَكَانُ كِيَانٌ وُجوديٌّ مُستقِر في كَينونةِ الإنْسَانِ، وَلَيْسَ وَاقِعًا مَادِيًّا مُنْفَصِلًا عَن الوَعْي وَالحُلْمِ والفِكْرِ .

وإذا كانَ سعيد يَتَعَذَّبُ شُعوريًّا وِوِجْدَانِيًّا خارجَ المَكَانِ،فَإنَّهُ اكْتَشَفَ مَكَانًا جَدِيدًا في ذَاتِهِ الإنسانيةِ وَهُوِيَّتِهِ الحَضَارِيَّةِ . وَهَذا المَكَانُ الجَدِيدُ يُحَاوِلُ تَطهيرَ المَنْفَى مِنْ حُدُودِ الجُغرافيا ، وَتَنْقِيَةَ المُدُنَ الأسْمَنْتِيَّةَ الكَئيبةَ مِنْ شَوَائبِ النظامِ الاستهلاكيِّ الماديِّ الذي يَكْسِرُ رُوحَ الإنسانِ ، وَيُحَوِّلُهُ إلى سِلْعَةٍ ضِمْنَ ثُنائيةِ العَرْضِ والطَّلَبِ . وَالمَنْفَى رِحْلَةُ اكتشافِ الذاتِ بِكُلِّ تَنَاقُضَاتِهَا، وإعادةُ تأويلِ بَرَاءَةِ الطُّفُولِةِ وَبَكَارَةِ الأفكارِ وطَهَارَةِ الأمْكِنَةِ .

وَشُعُورُ المَنْفِيِّ بِأنَّهُ في غَيْرِ مَكَانِهِ يَفْرِضُ عَلَيْهِ أنْ يُعِيدُ اختراعَ المَكَانِ وَتَرْمِيمَ الذاكرةِ بَعِيدًا عَن الهُوِيَّاتِ المُزَوَّرَةِ والأيديولوجيَّاتِ المُزَيَّفَةِ . ولا شَكَّ أنَّ إحساس سعيد بالاقتلاعِ مِنَ المَكَانِ ، وعَدَم القُدرة على العَوْدَةِ إلَيْه ، قَدْ سَبَّبَ لَهُ شُعورًا بأنَّهُ وَحِيدٌ وأعْزَل ، وأنَّ الوَقْتَ يَتَسَارَعُ ويَضْغَطُ عَلَيْه بِلا نِهَايَةٍ. لذلك لَيْسَ غريبًا أن تَكُونَ سِيرَتُهُ الذاتيةُ استعادةً لِتَجْرِبَةِ المُغَادَرَةِ وَالفِرَاقِ وَالشُّعُورِ بِالخَسَارَةِ: (( وَلَمَّا كُنْتُ قَدْ عِشْتُ في نيويورك بإحساسٍ مُؤقَّت عَلى الرَّغْمِ مِنْ إقامةٍ دَامَتْ سبعة وثلاثين عامًا، فَقَدْ فَاقَمَ ذلك مِنْ ضَياعي المُتَرَاكِم ، بَدَلًا مِنْ مُرَاكَمَةِ الفَوائدِ )) .

في رواية غواي للكاتبة وفاء شهاب الدين الصادرة عن مجموعة النيل العربية بالقاهرة ، نجد أنفسنا أمام عمل أدبي يستدرج القارئ كما تستدرج الغواية قلب العاشق، فلا يملك إلا أن يستسلم لسحر السرد، متورطًا في عالمٍ يشتبك فيه المحظور بالمباح، والبراءة بالذنب، حتى تتماهى الحدود، وتصبح الحقيقة ككفّ امرأة ترتجف تحت المطر، لا تعرف إن كانت تطلب دفئًا أم خلاصًا.

تُفتَح الرواية على نغمة شجن خفي، كموسيقى خلفية لحلمٍ مشوب بالقلق. ليست غواي مجرّد قصة، بل هي مساحة لتأمل الضعف الإنساني حين يلتقي بالشغف، وحين تتحول الرغبة إلى لعنة، والحنين إلى خنجر بارد في خاصرة الروح. إنّ بطلة الرواية لا تُرسم كضحية ولا كخاطئة، بل ككائن يتلوى في مرجل الأسئلة الوجودية، تارةً تستجدي الغفران، وتارةً تسخر من فكرة الخلاص برمّتها.

السرد في غواي مشغول بعناية نادرة، حيث تتداخل الأزمنة كأنها أنفاس راقصة في غرفة مغلقة، والحوار لا يأتي لأداء وظيفة بل ليكشف المستور، وليدفع القارئ دفعًا إلى مناطق داخلية لم يكن يجرؤ على ولوجها. الكاتبة هنا لا تهادن، بل تمسك بيد قارئها وتأخذه إلى الحافة، ثم تهمس في أذنه: “انظر… هذه أنت، إذا ما كُشفت كل أقنعتك.” . فاللغة  هنا هي البطل الحقيقي ، لغة مشبعة بالإيحاءات، أنثوية الإيقاع، جريئة دون ابتذال، رقيقة دون ضعف. كل جملة كأنها قطرة عطرٍ مُرٍ تسيل على جلدٍ متعب، توقظه ولا تريحه. وفاء شهاب الدين في هذه الرواية تُراهن على الكتابة كفعل مواجهة، لا كأداة تسلية؛ ولذلك فإن غواي ليست رواية تُقرأ بل تُعاش.

تمضي الرواية في خط سردي ملتف كأفعى، حيث تتشابك الحكايات وتتماوج الرغبات، فلا يعود القارئ متأكدًا إن كان يقرأ عن امرأة واحدة أم عن شظايا امرأة تكسّرت تحت وطأة التجربة. البطلة ليست نموذجًا نمطيًا ولا صوتًا خافتًا، بل كيانٌ متمرّد ينهض من بين الرماد، يرفض التصنيف، ويتحرّك بين الحب والرفض، بين الندم والرغبة في الانتقام، كأنها تمشي على حافة هاوية كلما ظنّ القارئ أنها اقتربت من النجاة.

حين تمسك برواية غواي، لا تتوقع أن تدخل عالماً هادئاً أو حكايةً تمضي في خط مستقيم… بل استعدّ لأن تُسحب إلى دوّامة من المشاعر المتناقضة، حيث تتقاطع الرغبة مع الندم، وتتمازج البراءة بالخطيئة، ويصبح الحب نفسه بابًا مواربًا على الجحيم.

 “غواي” ليست مجرد عنوانٍ لافت، بل مفتاحٌ ثقافي يحمل جذوره في اللغة البدوية، حيث تعني الكلمة “الحبيب كثير الحب”، ذاك الذي لا يهدأ قلبه ولا يعرف الاعتدال في العاطفة… وكأن الكاتبة أرادت منذ اللحظة الأولى أن تشير إلى أن ما ينتظرنا ليس حكاية حب تقليدية، بل مواجهة عميقة مع أنفسنا. في هذه الرواية، تكتب وفاء شهاب الدين من داخل الجرح، لا من خارجه. تُعرّي النفس البشرية، وتقدّم بطلتها لا كضحية ولا كمذنبة، بل كامرأة تنوء تحت ثقل الشعور، وتسير في دربٍ غير ممهد نحو ذاتها الحقيقية

في روايتها غواي، تأخذنا الكاتبة وفاء شهاب الدين في رحلة داخلية قاسية، تختبر فيها الروح نفسها على محك الرغبة والذنب، الشوق والخطيئة، فتُعري هشاشة الإنسان حين يقف عاريًا أمام مرآة ذاته. ليست غواي مجرد عمل روائي، بل هي طقس اعتراف غير معلن، ونصّ تتكشّف فيه الحقيقة بالتدريج، كما تتسلل الخيانة إلى قلب مطمئن… بهدوء، وبدون استئذان.

العنوان نفسه يحمل مفتاح الدخول إلى عالم الرواية. فكلمة “غواي”، كما تفسّرها الكاتبة، هي لفظة بدوية تعني “الحبيب”، لا بمعناه البسيط، بل كـ”كثير الحب”، ذلك الذي يحب حتى التهلكة، ويغوي ويُغوى، كما لو كان الحب لعنة أبدية تطارده أو هو يطاردها. ومن هذا العنوان، تبدأ الدلالة الكبرى: ماذا لو كان الحب نفسه هو الخطيئة؟ وماذا لو كانت الغواية ليست فعلًا إراديًا، بل قدرًا؟ إن في اختيار هذا اللفظ البدوي ما يضفي على النص مسحة من الأصالة، ويمنحه بعدًا ثقافيًا غائرًا في التقاليد واللهجات التي طالما حمَلت الحكمة والغواية معًا.

تمضي الرواية في خط سردي ملتف كأفعى، حيث تتشابك الحكايات وتتماوج الرغبات، فلا يعود القارئ متأكدًا إن كان يقرأ عن امرأة واحدة أم عن شظايا امرأة تكسّرت تحت وطأة التجربة. البطلة ليست نموذجًا نمطيًا ولا صوتًا خافتًا، بل كيانٌ متمرّد ينهض من بين الرماد، يرفض التصنيف، ويتحرّك بين الحب والرفض، بين الندم والرغبة في الانتقام، كأنها تمشي على حافة هاوية كلما ظنّ القارئ أنها اقتربت من النجاة.

وفاء شهاب الدين كاتبة تعرف تمامًا كيف تحرّك أدواتها. فهي لا تكتفي برسم الشخصيات، بل تغوص في دواخلها، وتجرّدها من الزيف، وتقدّمها لنا مشحونة بالتناقض، وهذا ما يمنح الرواية نبضها الحقيقي. اللغة هنا ليست محض وسيلة، بل كائن حيّ، يتنفس مع كل جملة، ويئنّ أحيانًا. جملها قصيرة كالسكاكين، مشبعة بالإيحاء، لا تتورع عن فضح المشاعر، ولا عن مداعبة القارئ ثم صفْعه بحقيقة غير متوقعة.

الرواية تطرح سؤالًا مؤلمًا: من الذي يدين من؟ الرجل الذي سقط  في الغواية، أم مجتمع لا يرحم؟ هل كان البطل مذنب فعلاً، أم أن العالم من حوله كان مهيأ لسقوطه منذ البدء؟ هنا، تتقاطع غواي مع كل التجارب الإنسانية التي يُدفع فيها الأفراد إلى الخطأ، ثم يُصلبون وحدهم على خشبة العار.

إن غواي ليست قصة تُقرأ مرة وتُطوى، بل وجعٌ يُستدعى كلما فكرنا في معنى الحب، وفي كُلفة أن تكون كثير الحب… أن تكون غواي.

رواية تستحق أن تُقرأ، لا لأنها تسلّي، بل لأنها تُفجّر الأسئلة، وتترك القارئ مشتعلاً بعد أن يُغلق الصفحة الأخيرة

فهي  نص أدبي يضجّ بالصدق، بالوجع، بالجمال المشاكس… وهي دعوة صريحة لأن نعيد النظر في مفاهيم الغواية، الحب، والخطيئة. رواية تكتبها امرأة، عن رجل، لكنها تُلامس كل روح، رجلاً كان أو امرأة، عرف ما معنى أن تُحب حتى تتكسر.

هذه الرواية  ليست دعوة للغواية، بل هي تأملٌ في كيف يصبح الإنسان فريسةً لهشاشته، كيف قد يحمل داخله الملاك والشيطان معًا، وكيف تكون المرأة — لا كرمز بل ككائن متكامل — مرآةَ المجتمع ومقصلة أحكامه في آنٍ واحد. في غواي، كل قارئ قد يرى نفسه، أو يهرب منها خوفًا مما قد يراه.

إنها رواية تُزعج، وتؤلم، وتثير… لكنها لا تُنسى. ففيها تأخذنا الكاتبة وفاء شهاب الدين في رحلة داخلية قاسية، تختبر فيها الروح نفسها على محك الرغبة والذنب، الشوق والخطيئة، فتُعري هشاشة الإنسان حين يقف عاريًا أمام مرآة ذاته. ليست غواي مجرد عمل روائي، بل هي طقس اعتراف غير معلن، ونصّ تتكشّف فيه الحقيقة بالتدريج، كما تتسلل الخيانة إلى قلب مطمئن… بهدوء، وبدون استئذان.

العنوان نفسه يحمل مفتاح الدخول إلى عالم الرواية. فكلمة “غواي”، كما تفسّرها الكاتبة، هي لفظة بدوية تعني “الحبيب”، لا بمعناه البسيط، بل كـ”كثير الحب”، ذلك الذي يحب حتى التهلكة، ويغوي ويُغوى، كما لو كان الحب لعنة أبدية تطارده أو هو يطاردها. ومن هذا العنوان، تبدأ الدلالة الكبرى: ماذا لو كان الحب نفسه هو الخطيئة؟ وماذا لو كانت الغواية ليست فعلًا إراديًا، بل قدرًا؟ إن في اختيار هذا اللفظ البدوي ما يضفي على النص مسحة من الأصالة، ويمنحه بعدًا ثقافيًا غائرًا في التقاليد واللهجات التي طالما حمَلت الحكمة والغواية معًا.

وفاء شهاب الدين كاتبة تعرف تمامًا كيف تحرّك أدواتها. فهي لا تكتفي برسم الشخصيات، بل تغوص في دواخلها، وتجرّدها من الزيف، وتقدّمها لنا مشحونة بالتناقض، وهذا ما يمنح الرواية نبضها الحقيقي. اللغة هنا ليست محض وسيلة، بل كائن حيّ، يتنفس مع كل جملة، ويئنّ أحيانًا. جملها قصيرة كالسكاكين، مشبعة بالإيحاء، لا تتورع عن فضح المشاعر، ولا عن مداعبة القارئ ثم صفْعه بحقيقة غير متوقعة.

الرواية تطرح سؤالًا مؤلمًا: من الذي يدين من؟ المرأة التي سقطت في الغواية، أم مجتمع لا يرحم؟ هل كانت البطلة مذنبة فعلاً، أم أن العالم من حولها كان مهيأ لسقوطها منذ البدء؟ هنا، تتقاطع غواي مع كل التجارب الإنسانية التي يُدفع فيها الأفراد إلى الخطأ، ثم يُصلبون وحدهم على خشبة العار.

إن غواي ليست قصة تُقرأ مرة وتُطوى، بل وجعٌ يُستدعى كلما فكرنا في معنى الحب، وفي كُلفة أن تكون كثير الحب… أن تكون غواي.

رواية تستحق أن تُقرأ، لا لأنها تسلّي، بل لأنها تُفجّر الأسئلة، وتترك القارئ مشتعلاً بعد أن يُغلق الصفحة الأخيرة.

يُعْتَبَر الشاعرُ السوري نِزار قَبَّاني ( 1923 دِمَشْق _ 1998 لندن ) أَحَدَ أبرز وأشهر الشُّعَراء العرب في القرن العشرين ، وَهُوَ أكثرُ شُعراء العربية إنتاجًا وشُهرةً ومَبِيعًا وجَمَاهيرية ، بسبب أُسلوبه السَّهْل المُمْتَنِع ، وشَفَافيةِ شِعْرِه ، وغِنائيته ، وبساطته ، وسُهولة الوُصول إلى الجُمهور ، مِمَّا جَعَلَه يَحْظَى بِشَعبية واسعة في العَالَمِ العربي .

أَصْدَرَ أَوَّلَ دَواوينه عام 1944 ، بِعُنوان ( قالتْ لِيَ السَّمْراء ) ، وَقَدْ نَشَرَه خِلال دِراسته الحُقُوق ، حَيْثُ قامَ بطبعه عَلى نَفَقَتِه الخَاصَّة ، وَقَدْ أثارتْ قصائدُ دِيوانِه الأوَّلِ _ الذي ضَمَّ قصائد جريئة في الغَزَلِ والتَّغَنِّي بِجَسَدِ المَرْأةِ ومَفَاتِنِهَا _ جَدَلًا واسعًا ، وَذَاعَ صِيتُهُ بَعْدَ نَشْرِ الدِّيوان كَشَاعِرٍ إبَاحِيٍّ . وَقَدْ هُوجِمَ مِنْ قِبَلِ الشَّرائحِ المُحَافِظَةِ التي اعْتَبَرَتْهُ شِعْرًا إبَاحِيًّا هَدَّامًا . والصَّرَاحَةُ الجِنْسِيَّةُ في البيئة الدِّمَشْقِيَّة المُحَافِظَة كَانَتْ تَعَدِّيًا واضحًا على العاداتِ والتقاليدِ والقِيَمِ، لَمْ يَجْرُؤْ عَلَيْهِ سِوَى شَابٍّ صَغِير السِّنِّ .

يَقُولُ قَبَّاني بأسى عَمَّا جَرَى حِينَ صُدور ذلك الدِّيوان: " أَحْدَثَ وَجَعًا عَمِيقًا في جَسَدِ المَدينةِ التي تَرْفُضُ أنْ تَعترفَ بِجَسَدِهَا أوْ بأحلامِها، لَقَدْ هَاجَمُوني بِشَراسةِ وَحْشٍ مَطْعُون ، وكانَ لَحْمِي يَوْمَئِذٍ طَرِيًّا " .

وفي هذا الدِّيوانِ ، تَتَعَدَّد الأصواتُ الشِّعْرية ، وتَتكاثرُ الاتِّجَاهاتُ الوِجْدانية والحِسِّية ، والقَصائدُ تَتَرَاوَحُ في خِطَابِهَا بَيْنَ العَاشِقِ وَالعَاشِقَةِ ، بَيْنَ البَغِيِّ والفَتَاةِ الضَّحِيَّةِ ، بَيْنَ مُتَسَوِّلِ المُتعةِ العابرةِ وَالواقعِ الهَشِّ الذي قَدْ يُفْضِي لاستجداءِ العاطفةِ .

إحدى قَصائدِ الدِّيوانِ بِعُنوانِ ( وَرَقَة إلى القارئ ) يَقُولُ فِيهَا قَبَّاني : " شِرَاعٌ أنا لا يُطِيقُ الوُصُولَ / ضَيَاعٌ أنا لا يُرِيدُ الهُدَى " . هَذا البَيْتُ الشِّعْرِيُّ يُمَثِّلُ البِطاقةَ التَّعريفية الأُولَى للشاعرِ السُّوري في بِدَاياته ، بِمَا يَحْمِلُه مِنْ رَفْضِ الشَّبَابِ وثَوْرَتِهِ وتَمَرُّدِهِ وَعُنْفُوَانِه . كما أنَّ قَصائدَ الدِّيوانِ تُسلِّط الضَّوْءَ عَلى المَشاعرِ الجَيَّاشَةِ والعَوَاطِفِ الفائرةِ للشَّابِّ الذي يَعِيشُ أُولَى سَنَوَاتِ العِشْرِين .

والرَّفْضُ كَانَ مَنْهَجًا شِعريًّا قائمًا بذاته عِند قَبَّاني في كُلِّ مَراحلِ حَيَاتِهِ الشِّعْرِية ، وَلَمْ يَكُنْ شُعورًا عابرًا، والتَّمَرُّدُ كَانَ سِياسةً لُغوية في جَميعِ كِتاباته الشِّعْرية والنَّثْرية، وَلَمْ يَكُنْ إحْسَاسًا وَلِيدَ الصُّدْفَةِ . أي إنَّ الرَّفْضَ والتَّمَرُّدَ شَكَّلا هُوِيَّةً وُجوديةً دائمةً ومُستمرة للشَّاعِرِ الذي سَيَطْغَى اسْمُهُ ويَنتشر صِيتُهُ في الشِّعْرِ العربيِّ المُعَاصِرِ، لذلكَ آثَرَ قَبَّاني تَربيةَ العَدَاوَاتِ معَ السُّلْطَةِ ، وَلَيْسَ مُجاملتها والتَّقَرُّب إلَيْهَا والانخراط تَحْتَ ظِلِّ شُعراءِ البَلاطِ .

وَقَدْ هَاجَمَ الشَّيْخُ علي الطنطاوي نزارَ قَبَّاني ودِيوانَه ( قالتْ لِيَ السَّمْرَاء ) قائلًا : " طُبع في دِمَشْق مُنْذُ سَنَة كتاب صغير ، زاهي الغِلاف ناعمه ملفوف بالورق الشَّفَّاف الذي تُلَفُّ بِهِ عُلَبُ الشُّكولاتةِ في الأعراس ، مَعْقُود عليه شريط أحمر كالذي أوجبَ الفرنسيون أوَّلَ العهد باحتلالهم الشَّام وَضْعَه في خُصورِ بَعْضِهِنَّ لِيُعْرَفْنَ بِه ، فيه كلام مَطبوع على صِفَة الشِّعْر ، فيه أشطار طُولها واحد ، إذا قِسْتَهَا بالسنتمترات ، يَشتمل عَلى وَصْفِ مَا يَكُون بَيْنَ الفَاسقِ القَارحِ ، والبَغِيِّ المُتَمَرِّسَةِ المُتَوَقِّحَة ، وَصْفًا واقعيًّا، لا خَيَال فيه ، لأنَّ صاحبه ليس بالأديب الواسع الخَيَال، بَلْ هُوَ مُدَلَّلٌ ، غني ، عزيز على أَبَوَيْه ، وهو طالب في مدرسة ، وَقَدْ قَرَأَ كِتَابَه الطلابُ في مدارسهم ، والطالباتُ " [ مجلة الرِّسَالة ، العدد 661 ، 4 آذار ( مارس ) 1946 ] .

وكما يَظْهَر اسْمُ الشاعر نِزار قَبَّاني وديوانُه ( قالتْ لِيَ السَّمْرَاء ) في الشِّعْرِ العربيِّ المُعَاصِر ، يَظْهَرُ اسْمُ الشَّاعر التشيلي بابلو نِيرودا ( 1904_1973/ نوبل 1971) في الشِّعْرِ الإسبانيِّ المُعَاصِر وَدِيوانُه ( عِشْرُون قصيدة حُب وأُغْنِيَةٌ يائسةٌ / 1924 )، وَقَدْ أثارَ الجَدَلَ بسبب مُحْتواه الجِنْسِيِّ ، لا سِيَّمَا بالنَّظَر إلى سِنِّ المُؤلِّف المُبَكِّرَة جِدًّا . وَيَعْتَبِرُهُ النُّقَّادُ أشهرَ دِيوان شِعْري في اللغة الإسبانية ، بَلْ إنَّهُ أكثر الدواوين انتشارًا ومَبِيعًا في تاريخ هذه اللغة على الإطلاق .

يَنْتمي هَذا الكِتَابُ إلى فَترةِ شباب نِيرودا ، وكثيرًا مَا يُوصَف بأنَّه تَطَوُّر واعٍ لأُسلوبِه الشِّعْرِيِّ ، مُتَجَاوِزًا القَوالِب الحَدَاثية السائدة التي مَيَّزَتْ أعْمَالَه السَّابقة . ومعَ أنَّ القَصائد مُسْتَوْحَاة مِنْ تَجَارِب نِيرودا العاطفية الواقعية في شبابه، إلا أنَّ الكتاب لَيْسَ مُهْدى لحبيبة واحدة فقط .

والشاعرُ يَمْزُجُ الصِّفَات الجَسدية لِمُخْتَلَفِ النِّسَاءِ في شَبَابِه لِيُشَكِّلَ مِثَالًا لِلْحَبيبةِ ، لا يُشير إلى أيِّ شخص مُحَدَّد، بَلْ يُجَسِّد فِكرةً شِعريةً بَحْتَة عَنْ حَبيبته . وَقَد ابتعدَ نِيرودا عَن الطُّمُوحِ الشِّعْرِيِّ والبَلاغَةِ الرَّفيعةِ التي سَعَتْ إلى تَجسيدِ أسرارِ الإنسانيةِ والكَوْنِ، وَاقْتَرَبَ مِنَ البَسَاطَةِ والعَفْوِيَّةِ ، حَيْثُ تَتَمَيَّزُ مُفْرَدَاتُ الدِّيوانِ بالسُّهُولَةِ ، فَهِيَ تَنْتَمِي إلى نِطَاقِ اللغة الأدبية التقليدية المُرتبطة بالرُّومانسية والحَدَاثة . وهَذا الدِّيوانُ لَمْ يَكُنْ وَحْدَه ذَا طَابَعٍ حَزين ومُؤلِم بَيْنَ أعمالِ نِيرودا ، فَقَدْ عَاصَرَ الشاعرُ التشيلي مُعْظَمَ الحُروب والأحداث التي عَصَفَتْ ببلاده وبالعَالَمِ خِلال القَرْن العِشْرين .

وَمِنْ أبرزِ الأحداثِ التي تَرَكَتْ جِرَاحًا غائرةً في نَفْسِه ، مَقْتَلُ أو انتحار صَدِيقِهِ الرَّئيس التشيلي المُنْتَخَب آنذاك سَلْفادور أليندي داخل القَصْر الرئاسي عام 1973 ، الذي أطاحَ بِهِ قائدُ الجَيْشِ أُوغستو بينوشيه . وَقَدْ تُوُفِّيَ نِيرودا بَعْدَ مَقْتَلِ أليندي ببضعة أيام، وكانَ آخَرُ الجُمَلِ ، وَلَعَلَّهَا آخِرُ جُملة في سِيرته الذاتية ( أعترفُ بأنَّني قَدْ عِشْتُ) : " لَقَدْ عَادُوا لِيَخُونوا تشيلي مَرَّةً أُخْرَى " .

المكان يسكننا قبل أن نسكنه، والمنزل يظل رمزًا للوطن الذي نعشقه، مهما ابتعدنا عنه. في نص الكاتبة مريانا أمين، نقف أمام نص يعكس تجربة نثرية شاعرية، تنبض ببعد روحي يتمازج فيه الرمز بالحنين مع الوطن، ويتداخل فيه الخاص بالعام، والعاطفة الفردية بالانتماء الجمعي. النص يعكس تألقًا وجدانيًا نابضًا بحب الوطن، حيث تنسج الكاتبة خيوط الحنين من خلال لغة مشحونة بالعاطفة والتصوير الرمزي.

   مريانا أمين، التي تعيش وتعمل في شمال فرنسا، تنتمي إلى الجنوب اللبناني، ذاك الجنوب الذي يعانق شمال فلسطين المحتلة. لبنان هو الوطن، والجنوب، وجبل عامل تحديدًا، هو القلب والمنزل، وهو موطن الأسرة وذاكرة الطفولة. من هنا، يتجلى الحنين كقوة داخلية تواجه بها الكاتبة اغترابها، في وطن آخر لا يشبه وطنها، وإن لم تذكره صراحة، إلا أن النص يشي به ضمنًا.

   المنزل في جبل عامل، كما تصفه الكاتبة، ليس مجرد مكان للإقامة، بل منبع للدفء، ورمز للأصالة، وحاضنة للرغبة بالعودة والاستقرار. إنه وطن مصغّر يحتضن الذكريات والأهل والأصحاب. كل ما في هذا البيت يشدها إليه، وكل ما فيه له نكهة أخرى مختلفة، بدءًا من فنجان القهوة الصباحي بين الأشجار والزهور، وحتى استقباله للضيوف بـ"أريجه وألوانه". الجنوب هنا لا يظهر كمجرد بقعة جغرافية، بل ككينونة روحية، وجبل عامل ليس مجرد جبل، بل حامل لهوية، ولبنان ليس مجرد وطن، بل بيت معنوي للذات.

    تستند الكاتبة في بنائها الفني إلى الاستعارة والرمزية، فترسم لوحات حية مستمدة من الطبيعة فتستخدم منها "الزهور، العصافير، الأشجار، الفراشات"، حيث نجد "الزهور متدلية عشقا بعفوية" ونشاهد "العصافير ترقص بين أهل الدار"، فتمنحها بعدًا إنسانيًا وروحيًا. نقرأ مثلًا: "الأشجار تسجد، ثم تقيم الدعاء"، فيتحول المشهد الطبيعي إلى مشهد طقسي مقدّس، حيث تتماهى الطبيعة مع الإنسان في روحانية خاشعة. وتقول عن العصافير: "وجودنا يشعرها بالأمان، بالاطمئنان"، لتغدو العصافير شركاء في لحظة البيت "فأعشاشها تتدلى بين الغصون"، يحلّقون لا فرارًا بل مشاركة في الفرح والألفة.

    ولعلّ أبرز ما يميز النص هو رهافة العاطفة والتعبير، كما في قولها: "حتى الحب في قلوبنا، عفوي بلا شروط"، أو حين تقول: "منزلنا، في جبل عامل، يشبه ربيعًا دائمًا"، و"نفتح قلوبنا كما تفتح الزهرة قلبها لنحلة عاشقة". هذا الحب غير المشروط "عفوي بلا شروط، حتى آخر الحدود"، الممتد بين العقل والقلب، حيث تقول: "هو أفضل حب، بين العقل والقلب"، يمنح النص إشراقًا وجدانيًا خاصًا.

    النص زاخر بالصور البلاغية من استعارات وتشبيهات وكنايات ورموز، تُضفي عليه طابعًا شعريًا عميقًا. كقولها: "أشتاقكم كشوق النحلة للزهور"، أو: "تغدو أحاديثنا، مشغولة من عسل، وبخور الجنوب"، وهي صور تمزج بين الحواس والوجدان والروح، لتُجسد الانتماء الروحي العميق بين الإنسان ومحيطه الطبيعي، مؤكدة على البيت كرمز لذاكرة المكان وتأكيد على الهوية الوطنية بلغة شاعرية رقيقة.

    ومع ذلك، فإن التكرار اللافت لبعض العبارات، كـ"منزلنا في جبل عامل"، ورغم مساهمته في تحقيق وحدة النص وإيقاعه الداخلي، قد أضفى نوعًا من الرتابة، بسبب غياب التصعيد إلى الذروة الشعورية، فالنص يسير على وتيرة سردية واحدة تقريبًا، من دون تصاعد ملحوظ في البناء العاطفي أو الانتقال إلى نقطة ذروة تُتبع بخاتمة تنفتح على تأمل أوسع، و كان بالإمكان تعزيز الحبكة عبر خلق لحظة انفعالية عالية، تُكسب النص عمقًا إنسانيًا أكبر، وتمنحه بُعدًا شعوريًا أكثر تكثيفًا.

    في النهاية، يظل النص قطعة وجدانية تنبض بحب الوطن، وتحتفي بالمنزل كرمز للمكان والهوية والانتماء، بلغة رقيقة وصور شاعرية نابضة، تلامس وجدان القارئ، وتحاكي ذاكرة مشتركة للمنفى والحنين.

"عمَّان 12/5/2025"

منزلنا

مريانا امين

بمنزلنا

في جبل عامل

الحجارة مرصوصة بعفوية

الزهور متدليّة عشقاً بعفوية

حتى الحبّ في قلوبنا

عفويٌّ بلا شروط

حتى آخر الحدود

هو أفضل حبّ

بين العقل والقلب.

بمنزلنا

في جبل عامل

العصافير ترقص بين أهل الدار

تغرد ليل نهار

لا تخاف على حياتها

فاعشاشها تتدلى بين الغصون

ووجودنا يشعرها بالأمان

بالاطمئنان

بمنزلنا

في جبل عامل

الأشجار تسجد

ثم تقيم الدعاء

لتغدو احاديثنا

مشغولة من عسل

وبخور الجنوب

منزلنا

في جبل عامل

يشبه ربيع دائم

يستقبل الضيوف

بأريجه والوانه

كما يستقبل الفراشات

وكما تفتح الزهرة قلبها

لنحلة عاشقة.

المزيد من المقالات...