sdfsgfg1119.jpg

أعرف الكاتب أحمد الدريني مبدعا رائعا، وإعلاميا له حضور فارق في كل عمل يتولاه، وآخرها مساهمته في تأسيس القناة الوثائقية المصرية. من كتبه المهمة «ثلاثية العرش»، ومن رواياته «قميص تكويه امرأتان». حاز جائزة «محمد حسنين هيكل للصحافة العربية» عام 2019 . ووصلت رواياته إلى القائمة النهائية في جوائز مهمة مثل جائزة ساويرس وجائزة الملتقى في الكويت، أو سرد الذهب في الإمارات.

صدر له هذا العام هذا الكتاب «الحبيب.. زيارة جديدة للسيرة النبوية» عن دار الشروق المصرية. قلت لنفسي ليس أجمل من قراءتي له والشهر الكريم رمضان يهل علينا. ليس أجمل من الحديث عن الرسول الكريم، فهو مهما باعدت الأيام بيننا وبينه، هادينا ومنقذنا من متاعب الزمن. أجل. الإيمان هو جواز المرور الأعظم في هذه الحياة الحافلة بالآلام والخطايا. لقد قرأت كثيرا في الفلسفة، ورغم ما يبدو من أسباب تبدو مقنعة عن الإلحاد، فكل ما أنتجه الإنسان في الحضارت القديمة من بناء، أو ملاحم، كان رحلة البحث عن الله، والصعود إليه يوم الحساب.

بدأت قراءاتي بشكل كبير في السيرة النبوية، حين عملت في المملكة العربية السعودية بين عامي 1978-1979. ليس لأنني كنت هناك، لكن لأني وجدت صدفة مكتبة للقراءة في مدينة تبوك التي كنت أعمل فيها، فرحت استعير منها كتبا أقاوم بها الفراغ، بعد انتهاء العمل، فلم يكن في ذلك الوقت في المملكة ما يبهج من مقاه أو سينمات أو مسارح. قرأت السيرة النبوية لابن هشام وغيرها، حلقت بي فوق فضاء الصحراء والفراغ. قلت لنفسي مع كتاب أحمد الدريني سأسافر إلى فضاء الإيمان ويزداد حنيني للصعود إلى السماء، الذي أشعر به مع كل أذان للصلاة. أول ما لفت انتباهي هو لفظ «الحبيب» الذي يتصدر صفحة عنوان الكتاب. طبعا الرسول الكريم هو الحبيب، لكن اللفظ بأداة التعريف يعني أنه الحبيب الأكبر والوحيد، وهو كذلك حقا. كذلك نجح مصمم الغلاف في أن يعبر عن ذلك.

تتصدر الكتاب مقدمة للكاتب عن كيف أسرته السيرة الشريفة للرسول الكريم، وكيف كانت جاذبة له منذ الصبا، وملهمة له في كل سلوكه. وكيف فاق الرسول الكريم كل من سبقه من أنبياء، في عقله وشرفه وفضله، حتى قال عنه البوصيري في بردته «فاق النبيين في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ .. ولم يدانوه في علمٍ ولا كرمِ». يتحدث الدريني عن كتب غير السيرة قرأها للعقاد وطه حسين وغيرهما كانت ملهمة له، وكيف رغم عمله في الإعلام والكتابة في الأدب وغيره، أراد أن لا تنقطع الكتابة عن الرسول الكريم عن المكتبة المصرية، رغم أنه ليس أزهريا ولا ضالعا في العلوم التشريعية. ما لم يقله إنه مبدع حقيقي، وليس أجمل للمبدع من رحلات السماء، بعيدا عن الأفكار المسبقة، سلفية أو علمانية. فصول الكتاب أشبه بنفحات من العقل والروح لتجسد الحبيب أمامنا من أشياء فعلها أو قالها، تظل فارقة في مسيرة البشر.

يفتتح محاولته للتعرف على الرسول الكريم محمد بن عبد الله، بقول أنس بن مالك، رضي الله عنه، «خدمته عشر سنين، فوالله ما صحبته في حضر ولا سفر لأخدمه.. إلا كانت خدمته لي أكثر من خدمتي له، وما قال لي (أُفٍ) قط، ولا قال لشيء فعلته «لم فعلت هذا؟» ولا لشيء لم أفعله» ألا فعلت كذا؟» لهذا معنى خفي وهو أن الرسول كان يتمتع بقوة تجعله في غنى عن الاستعانة بأي أحد، لكن أيضا كانت حاجته الأكثر إلى أنيس لطيف، فينتقل إلينا المعنى الهادئ، أن يخدم المخدوم خادمه وليس العكس، وليكون شاهدا أكثر منه خادما. دعاؤه مع الاستيقاظ وقضاء الحاجة والطعام والخروج وكل تفصيلة، بالإضافة إلى مجالسه العامرة بالصحابة. كيف كان إذا زاره المرض يعامله معاملة تُعلمنا، فيأخذ بالأسباب مثل التداوي، وليس التسليم لله دون التداوي. ومن أقواله» تداووا عباد الله». كيف كان يخاطب كل قبيلة بلغتها فهناك خلافات في الحديث والنطق كثيرة بينها، وكيف أحاط بهذا كله. فاللغة وعاء التواصل والسلوك.

من ملامح شخصيته المعبرة كيف كان يستقبل الداخل إليه بوسادة ليجلس عليها، كأنه يميزه ويهدئ خاطره ويطيب روعه، لو جاء من بعيد أو كان غريبا. لقد نشأ في كنف جده عبد المطلب سيد قريش، وبعده عمه أبو طالب سيد قريش أيضا، رغم رقة حاله المادي، وفي بيتهم يتوافد الأكابر وعظماء القبائل، فكفل له ذلك أن يعيش في أكاديمية تعليمية في حد ذاتها. هذه البيئة التي تربي فيها ستجعله سيدا له أخلاق رفيعة نبيلة. لا ينتقم لنفسه ولا يغضب لها إلا أن تُنتهَك حرمات الله، وكان أشجع الناس وأسخاهم ما سئل شيئا وقال لا! والأمثلة على كل ذلك كثيرة، جاء في الكتب على لسان زوجاته، أو الصحابة عنه، مثل السيدة خديجة بنت خويلد زوجته الأولى التي شجعته على الاستمرار بعد هبوط الوحي عليه قائلة «أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا»، وكذلك السيدة عائشة أم المؤمنين التي قالت «والله ما غرت على امرأة كما غرت على خديجة» فكان الرسول يذكر خديجة دائما ولا ينساها، وتمتد رائحتها حتى إذا ذبح شاة بعث بجزء منها إلى أهلها وأصحابها.

كثير من الحديث عن الزوجات وصفحات رائعة عنه وعنهن، ومنها يتضح كيف كان يدرك ما أدركته البشرية في مسيرتها، أن الزوجة هي البيت وسعادته وخيمته. حديث رائع عن أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأخيرا أبو لهب. الود والعاطفة لهم. كذلك عن الصحابة، وأمثلة رائعة منها ما قالته عائشة، كيف مثلا حين جاءه زيد بن حارثة وقرع الباب نهض الرسول يجر ثوبه عريانا حتى اعتنقه وقبّله، ثم سأله عن سبب الزيارة، أيْ حب هذا حتى يخرج الرسول الكريم يجرجر ثيابه بما يستر جسده الشريف، ولا يطيق صبرا حتى يرتديها. أحاديث كثيرة عن الحب الفارق للصحابة، لكن يأتي فصل الموت شديد التأثير. لقد شهد الرسول الكريم أكبر عمليات موت لعائلته وأصحابه، وتنبأ ببعضها. لم يكن الموت عابرا، بل كان حاضرا مهيمنا، إلى حد لا يوصف، فكيف كانت شخصيته وهو يواجهه منذ طفولته. توفي أبوه عبد الله بينما أمه السيدة آمنة حاملا به، أو ولدته وكان ابن أشهر قليلة. ماتت أمه وهو ابن أربع سنوات. كفله جده عبد المطلب ومات وهو في الثامنة. وهو في الخمسين مات عمه أبو طالب وزوجته خديجة في أسبوع واحد. مات أولاده الذكور الثلاثة على عينه قبل البعثة، وهم القاسم وعبد الله والطاهر، ثم ماتت البنات الثلاث زينب وأم كلثوم ورقية. ولدت له ماريا القبطية إبراهيم فمات وهو في أشهره الأولى. فاطمة الزهراء فقط هي التي عاشت ولحقت به بعد ستة أشهر من موته. مات أمام عينه عمه حمزة ابن عبد المطلب وهو أحد أحب أهله إليه. تنبأ بموت معظم أو كل المقربين إليه، فقد أنبأ فاطمة في مرضه الأخير أنها ستكون أول من تلحق به، ولن يغيبا عن بعضهما. تنبأ بمقتل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام وعمّار بن ياسر، الذي قال له «تقتلك الفئة الباغية». تنبأ بمقتل الحسن والحسين حفيديه وروحه. أحاديث في الكتاب لهم جميعا، أو عنهم تؤكد ما قيل في ذلك. كيف جعلته الحكمة النبوية يتحمل كل هذا، ولا يؤثر في تلقي الوحي ولا نشر الديانة الخاتمة، وتعليم الناس وسَوْس أمورهم. يأتي بعد ذلك حديث عن الشعر واللغة والدعاء وتنتهي من الكتاب وروحك في برزخ بين السماء والأرض، متأثرا بالأحداث والأفعال والأقوال، لكن أيضا مدركا أهمية هذا البحث القصير الدافق بالروح في محبة الحبيب الرسول محمد بن عبد الله، التي هي أعظم ما يعيننا على الحياة.

sffgfhdfhhhh118.jpg

إضاءة على رواية (حمروش) للكاتب جميل السلحوت، الصادرة عن دار الهدى أ.عبد زحالقة في كفر قرع.

الرواية موجه للفتيان والفتيات.

رواية (حمروش) فكرة مستمدّة من حكاية شعبية، قائمة على محاربة الجهل والخرافات بالبحث وتقصّي الحقائق.

ليس من الغريب أو الجديد أن نقرأ للأديب السلحوت مثل هذه الرواية الاجتماعية، القائمة على نبذ ثقافة الجهل، وقد تميّز الكاتب في كتابة هذا النوع من الأدب الشعبي، بسبب تأثّره بما شاهد وسمع عن تلك الشرائح المجتمعية الموجودة في البادية والريف الفلسطيني، والتي تغلبت عليها ثقافة الجهل والإيمان بالخرافات والمشعوذين، وقد عانى الكاتب من تفشّي الخرافات في صغره، وأدّى الانجرار اليها إلى فقد إحدى عينيه، نتيجة الإهمال الطبي، والتوجّه إلى المشعوذين بدل تطبيبها، من هنا نلمس مدى تأثر الكاتب النفسي بسلبية الجهل والشعوذة، وجعل هذه القضية من أهم القضايا التي حاربها وكتب عنها في أكثر من رواية، وطالب بعدم استخدام الوصفات البدائيّة للعلاج، والتوجّه إلى الأطباء لمداواتهم.

تطرق الكاتب في روايته إلى المرأة التي تريد الانجاب، وصور فرحها ورضاها بأقذر وصفة ( البصق في فمها) ليتم الحمل، وأشار إلى المرأة القوية المشعوذة التي تستهبل النساء وتستغل أحلامهنّ وأمنياتهنّ في سلب عقولهنّ وأموالهنّ.

نبّه الكاتب إلى المجتمع وما حمله من سلوكيات غير مقبولة، وأفكار تحطّ من قدر العلم والتعمّق في الأمور، وتقليد أعمى ورثوه عن المجتمع دون تمحيص أو تدبّر، وبين لنا أن بعض هذه السلوكيات غير الاخلاقية، كانت ولا زالت مستشرية بالمجتمع العربي عامة، وفي الريف والبادية خاصة، قد زادت من ضعف الأمة، ونوّه إليها كعادات وتقاليد بعيدة عن الدين، ونادى إلى التعلم والابتعاد عن نشر الاشاعات الخرافات، وحذّر من تغلّب الفئة الفاسدة المتحكمة والمسيطرة على عقول البسطاء.

أشار الكاتب إلى دور الفتى سعيد في اكتشاف حقيقة تغافل الناس عن فضحها أو حتى التحدث عنها في مغارة ظلت مغلقة بسبب جهلهم، وبسبب خرافة وكذبة تغلغلت بينهم، كذبة آمنوا بها وصدقوها ونشروها دون تفكير.

أشار الكاتب للمرأة ودورها المهم في نقل هذه الخرافات والشعوذات ونقل هذا السلوك السّيء والاحتفاظ فيه، بل وجدناها نصيرة له، تعين الرجل في تجبره وفي استضعاف بنات جنسها والسيطرة على عقولهنّ، ناسية أن الدين نادى باحترام المرأة وعدم امتهانها، وساوى بينها وبين الرجل في العبادة والمعاملات والعقوبات والعلم والعمل، وأعطاها من الحقوق ما لم تحظ به امرأة من الملل والديانات الأخرى.

صوّر الكاتب في هذه الرواية أن المجتمع البدوي أو القروي ما زال يحمل المعتقدات والخرافات في معاملاته وتفكيره ، إلا أنني أرى أن المجتمعات بكافة شرائحها بدأت بالتحرر، بعدما أصبح العلم وجهة لأبناء القرى من عقود طويلة، وأن تلك الخرافات بدأت بالتلاشي، وحل محلها الآن عالم التكنولوجيا والانترنت والذكاء الاصطناعي، وبعض الأفكار التي لا تليق بأخلاقنا ولا توافق عقيدتنا، والتي من واجبنا محاربتها ومواجهتها بالايمان والعلم، كما نواجه الخرافات والمعتقدات البالية.

استشهد الكاتب من خلال سرده للأحداث والحوارات بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأمثال الشعبية لتوطئة الفكرة وترسيخ مهمتها لدى المتلقي وإقناعه، وهذا ما يميز كتابات السلحوت، وقد طغى ذكرها في أكثر رواياته وبشكل لافت.

لو نظرنا للرواية كنتاج من روايات التخييل ( وهو أحد أسرار الفنّ الروائي، ولا شكّ أنّه وإن كان يستبطن الوهم أو الإيهام، فإنّه لا يرمي إلى التضليل أو التمويه أو التتويه، بل تراه ينشّط الخيال، يزيد من فاعليّة الزمن، يحفّز على النشاط، يبعث على التجدّد، ويقدّم بدائل وعوالم ما كانت في الحسبان) نجد أن الرواية كانت بعيدة عن الواقع في زمننا الحاضر، ولكن كان للخيال فيها دور مهم في تحقيق البناء الروائي، بل زادت من فاعلية الزمن الماضي، ليتجدد في عصرنا الحاضر فلا تضلل أو توهم المتلقي، بل جاءت لتساعده في نشر الوعي.

تناول الكاتب شريحة مهمّة في المجتمع الفلسطيني كان لها تأثير في حارات القدس وما حولها من قرى وهم (النّور) (الغجر) والتي تمثلت بشخصية الغجرية صبرية وزوجها عبده وأولادهما، وأشار إلى حالتهم الاجتماعية وبيعهم الكرابيل والغرابيل لأهالي القرية، وعرفنا بزوجها عبده الذي كان يغنّي ويعزف على الشبّابة وهي ترقص، وتدخل البيوت وتقرأُ الكفّ للنساء هناك، ودعمهنّ لها ماليا.

أثار الكاتب في روايته قضايا اجتماعية عبر عنها من خلال شخصيات الرواية وأهمها شخصية الفتى سعيد، والذي اتصف بالجرأة والذكاء والتحدي والبحث وعدم الخوف، عندما حمل رأس (الحمار) وحاول إسقاط خرافة تتعلق بوجود ولي صالح مدفون بالمغارة (حمروش) دفنه اللصوص هناك، لكن المجتمع الجاهل خاف وأغلق باب المغارة، حتى لا تخرج الأرواح المسكونة من المغارة وتعاقبهم.

ومن الملاحظ أن الكاتب المعلم يؤكد أن طريق الحقّ سيسلكها الجيل المتعلم، حين يتحدى الصعاب ويواجه طريق الجهل والظلام بقوة. ويطالب الكاتب بإعطاء فرصة جادة للأجيال الصاعدة، مع إرشادها ودعمها معنويا وماليا، وعدم كبح جماح بحثها وابتكارها.

يعوّل الكاتب على هذا النوع من الفتيان، ويؤمن به وبقوته، جيل يحمل أمانة التّحرر ويؤدي رسالة التعلم بكل ثقة، جيل سيغلق أبواب الجهل والتهميش والظلم، يستنبط الحقيقة ويُرسّخ دعائم العدل.

بثقته الغالية، أسند إليّ الأستاذ فؤاد نقّارة، مهمّة العمل على إعداد كتابه، تحريرا وإشرافا، ولأنّ كتاب "صيّاد.. سمكة وصنّارة" يفيض بشغف الأستاذ نقّارة وذكرياته الثّريّة، فقد أحسست بالمسؤوليّة للخروج بعمل يلبّي توقّعاته، لذا.. كان من الضّروريّ أن أحيط هذا العمل بعناية فائقة، وأن أحافظ على جوهره النّقيّ وأفكاره الأصيلة.

في اللّحظة الّتي بدأت فيها قراءة المسودة الأوليّة للكتاب، وجدت نفسي أمرّ أمام عالم من المعلومات والحكايات الّتي تأخذني إلى أعماق البحار؛ لأستنشق عطر نسائمها وأتعرّف على أنواع الأسماك المختلفة، وبينما كنت أقرأ عن رحلات الصيّد، وطرق اصطياد الأسماك ومغامرات الصيّادين، شعرت كأنّي أعيش مغامرة حقيقيّة، فكلّ صفحة أقلّبها تضيف إلى خيالي لونا جديدا، وتغرقني في عمق هذا العالم البديع، المشحون بالمشاعر والأحاسيس.

انغمست في القراءة وفي ترتيب الكتاب وتحريره، رحت أضيف إليه من رحيق اللّغة ما يضفي عليه رونقا وبهاء، وكلّما توغّلت فيه، ازددت شغفا وإعجابا به، فقد غمرتني مشاعر مختلفة، وكأنّما كنت أقف على الحدّ الفاصل بين الواقع والخيال، أقرأ وأرى البحر ماثلا أمام ناظري.

وجدت معلومات دقيقة وكثيرة، لا يحيط بها إلّا من خاض غمار البحر وعاش على شواطئه هائما في سحره، وكأنّما المؤلّف قد غاص في أعماق البحر؛ ليستخرج لنا هذه اللّآلئ من المعلومات.

يقول (ص32): "إنّ أسرار البحار لا تنتهي، ودائما ما نكتشف مخلوقات جديدة، وسلوكيّات مذهلة، تثري معرفتنا بعالمنا الطّبيعيّ المدهش، فكلّ سمكة هي كنز ثمين، يجب علينا حمايتها والحفاظ عليها".

يحتضن هذا الكتاب بين دفتيّه مئتيّ صفحة من القطع الكبير، مطبوعة على ورق مصقول أنيق، وقد صدر بمظهر بهيّ، مزدانا بصور ملوّنة جميلة، وفي الحقيقة، فشهادتي مجروحة في هذا الكتاب، لكنّني وبحقّ، أكتب عنه كما أكتب عادة عن أيّ كتاب آخر، بموضوعيّة وحياد.

في الصّفحة الخامسة، نجد إهداء جميلا ينضح بمشاعر الوفاء النّبيلة من ابن بارّ لوالده، ولكلّ عشاق البحر، يقول: "أهدي هذا الكتاب إلى والدي الحبيب، معلّمي الأوّل وصاحب الفضل عليّ، كما أهديه إلى كلّ عشاق البحر، وإلى كلّ من وجد فيه رحلة لاكتشاف الذّات، ولوحة من الجمال الإلهيّ".

لقد ورث الكاتب عشق البحر عن والده، يروي لنا كيف كان يرافقه منذ صغره إلى البحر، يتعلّم منه أسراره وطرق معايشته، يصف لنا بأسلوب شائق كيف كان يتأمّل الأمواج، محاولا فهم لغة الماء، يذكر بفخر واعتزاز كيف تعلّم من أبيه الصّبر والمثابرة، وقراءة العلامات الطبيعيّة لمعرفة أفضل أوقات الصيّد.

تعود به الذّاكرة إلى أيّام الطّفولة وقصص الصيّد مع والده، فيستذكر تلك الدّروس الّتي تعلّمها منه، والّتي كانت دروسا في الحياة، حُفِرَت في ذاكرته؛ كنقوش على صخرة صلبة، تعلّمه الصّبر والمثابرة، فكلّ سمكة صادفها كانت درسا جديدا يضاف إلى مخزون تجاربه، يتعلّم منه كيف يواجه تحدّيات الحياة، وكيف يحقّق أهدافه فيها. ويؤكّد على أنّ هذه التّجربة الغنيّة في مرحلة الطّفولة، هي الّتي غرست في نفسه حبّ البحر، وجعلته يقدر قوة الطّبيعة وجمالها، ويحرص على الحفاظ عليها.

يكتب (ص13): "صيد البحر سرّ لا يفقهه إلا أهله، أولئك الّذين يجيدون قراءة لغة الأمواج وفهم رموز التّيارات، يجدون في مصارعة الأمواج وصيد الأسماك متعة لا تضاهى، وسعادة لا توصف".

لم يمتهن الصيّد، لكنّ الصيّد ظلّ هواية وهب لها نفسه، يجد فيها متعة لا توصف، ينسى معها ضغوطات الحياة، وحين يخرج إلى الشّاطئ مستمتعا بهدوء الطّبيعة، يتأمّلها؛ فيشعر بالسّكينة والرّضا. وهو لم يحتكر سحر هذه الهواية لنفسه، بل فاض هذا السّحر من قلبه؛ ليغمر الآخرين، وخصوصا أحفاده الّذين شاركهم إيّاها بسخاء وحبّ، ومن طالع الكتاب لا بدّ أنّه قد شاهد صور أحفاده يتألّقون بين الصّفحات كزهور النّرجس البهيّة، يضيفون عطرا زكيّا إلى باقة ذكرياته. وهو يدرك أهمّيّة نقل خبراته إلى الأجيال النّاشئة، لذا.. أخذ يصطحبهم إلى البحر، ليعرّفهم على أنواع الأسماك، ويطلعهم على طرق صيّدها، ويكشف لهم خفايا البحر.

لقد حرص نقّارة على غرس حبّ الطّبيعة في نفوسهم؛ لتتّسع آفاقهم وتنشأ لديهم روح المغامرة والاستكشاف، ولأنّ البحر جزء لا يتجزّأ من الوطن، علّمهم حبّه، أراد لهم أن يكبروا وهم يعشقون هذا الامتداد الأزرق، يتأمّلون امتزاج الضّوء بمرايا الماء المختالة، وانعكاساتها على صفحة الماء، يستمتعون بعذوبة الموج وهو يقصّ حكاياه، بموجة تتبعها موجة، وكلّها تتكسّر أمامهم وتذوب، لتترك قلوبهم مغطّاة بالطّراوة والنّداوة، وكأنّه بذلك يخبرهم عن أجدادنا الّذين عاشوا على هذه الأرض الطّيّبة، وعرفوا قيمة البحر وأحبّوه، فحبّ البحر يتجذّر في القلب كما يتجذّر الشّجر في الأرض.

يكشف لنا عن دوافعه لخوض غمار تأليف هذا الكتاب، فيقول في الصّفحة التّاسعة: "لطالما راودني حلم تحويل شغفي بالبحر إلى كلمات، فأنا عاشق للكلمة، أرى في كلّ سمكة حكاية تروى، لهذا السّبب، حملت قلمي بعزم وإلهام، أخذت أسطّر هذا الكتاب؛ ليكون رحلة غامرة إلى أعماق البحر، أشارككم فيها تجاربي وخبراتي ومعلوماتي، بلّ وحتّى ذكرياتي".

في الواقع، يتجلّى عشق الأستاذ نقّارة للكلمة والكتاب في كلّ عمل له، فإسهاماته الجليلة في خدمة الثّقافة المحلّيّة مشهودة، فمنذ سنوات طويلة، يعمل على تنظيم الأمسيات الأدبيّة والنّدوات الثّقافيّة، يشجّع على القراءة ويقدّم الدّعم للمبدعين، وكلّ ذلك تطوّعا وبهدف إثراء مشهدنا الثّقافيّ.

يصف كلماته قائلا (ص9): "حرصت على جعل كلماتي تعكس تجاربي الحيّة وذكرياتي الشّخصيّة، ففي هذا الكتاب تجدون القصص النّابعة من القلب، والمشاعر الصّادقة والأحداث الحقيقيّة الّتي عشتها بنفسي".

خلال رحلة بحثه عن المعرفة، غاص في أعماق الكتب البحثيّة والمؤلّفات، يفتّش عن كنوز المعرفة في مجال عالم البحار، لكنّه لم يعثر على ضالّته، فقلما وُجِدَت هذه المؤلّفات في عالمنا العربيّ، وخاصّة باللّغة العربيّة.

يقول عن ذلك (ص9): "لم أسعَ وراء المعلومات العلميّة المجرّدة، على الرّغم من بحثي الطّويل عنها، ففضّلت مشاركة تجاربي معكم؛ لنكتشف كنوز البحر، أردت أن أقرّبكم من هذا العالم، لا كباحثين عن معلومات جافّة، بل كمشاركين في رحلة مثيرة تلامس مشاعركم".

عن احترامه وحبّه للطّبيعة، يقول (ص11): "تعلمّت من الصيّد أن أعتمد على نفسي، وأن أحترم الطّبيعة وأقدّر جمالها، فعلى مدّ البصر، أستمتع بالنّظر إلى فضاء البحر، أقف على شاطئه، فيعلو في داخلي حبّ الحياة، وأدرك أنّني جزء صغير من هذا الكون الفسيح، وأنّ عليَّ أن أعيش في وئام مع الطّبيعة، وأن أحافظ عليها".

لقد أورد كاتبنا الصيّاد معلومات كثيرة عن أسماء الكائنات البحريّة، صفاتها ومساكنها، فمنها ما يفضّل الاقتراب من الشّواطئ، ومنها ما يفضّل الغوص في الأعماق، ولم يكتفِ بما رآه واصطاده فقط، بل تجاوز حدود خبرته ليطلعنا على أنواع أخرى من الأسماك، وكأنّه بذلك أراد أن يهدي القارئ موسوعة بحريّة، تغني معرفته، وما كان له أن يبدع هذا الإبداع لولا صدقه وعشقه الحقيقيّ للبحر.

نعم.. فهو ابن الشّاطئ الّذي خبر علومه، لذلك.. نجده يكتب بأسلوبه الخاصّ، مبتعدا عن جفاف الكلمة والمعلومة كما أسلفنا، مقتربا من العلاقة الّتي تربطه بالقارئ، مثيرا فيه الرّغبة في متابعة التّعرّف على خبايا البحر والتّأمّل في جمال كائناته المختلفة.

ولأنّ الحديث عن البحر يذكرنا بمن غنّوا له وعشقوا أمواجه، يطفو على سطح الذّاكرة في هذا السّياق، كتاب "أغاني البحر"؛ للرّاحل زكي العيلة، الّذي يزدان بأغاني الصيّاد الفلسطينيّ الشّعبيّة.

نتذكّر أيضا، عمالقة الرّواية العربيّة، الّذين استلهموا من البحر عوالمهم الرّوائيّة، وأبدعوا في نسج أعمال زيّنت قلادة الرّواية العربيّة، وأثرتها بحكايات تعكس عمق التّجربة الإنسانيّة في مجتمعاتنا.

نستذكّر هنا الأديب حنّا مينه، الّذي ارتبط اسمه برائحة البحر ولون السّماء، وهو من أهمّ من خطّوا سطورا عن عالم البحر، وقد أثرى المكتبة العربيّة بكنوز من الرّوايات، مثل: رواية "الشّراع والعاصفة"، ورواية "حكاية بحّار".

أما الأديب الفلسطينيّ جبرا إبراهيم جبرا، فكتب رواية "السّفينة"، حيث حملنا على متنها في رحلة بحريّة وجمع بين طيّاتها ثلّة من البشر، كلّ يحمل في جعبته حكاية مختلفة.

لعلّ تجربة الكاتب مع البحر في طفولته، كانت الشّرارة الّتي صاغت رؤيته الّتي نضجت، وانعكست بوضوح في هذا الكتاب، ليهدينا صورا نابضة عن تلك التّجربة.

في القسم الأوّل من هذا الكتاب نجد أنفسنا أمام سلسلة من القصص والحكايات الّتي سُطِّرَت، وكأنّها مذكّرات رسمت على رمال الشّاطئ، فيها من الوصف وجمال السّرد ما يحملنا إلى عالم يمتزج فيه الخيال بالواقع؛ فنعيش مع كلّ قصّة مشاعر مختلفة، ونخرج منها بدروس عن الحياة والإنسان والطّبيعة، وعن الصيّادين من أصدقاء الكاتب، ومغامرات الصيّد المختلفة، مخاطرها ورهبتها.

ورد في صفحة (127): "يدرك الصيّادون عظم مخاطر البحر ورهبة عواصفه، لكنّهم لم يستسلموا يوما لهذه المخاوف، بل ظلّوا يمخرون عبابه، بحثا عن الرّزق والمغامرة".

يصف بعض الأحداث الدّراماتيكيّة المليئة بالمفاجآت غير المتوقّعة، ممّا يجذب انتباه القارئ ويجعله يتفاعل ويتشوّق لمعرفة ما سيحدث تاليا، وكلّ ذلك بأسلوب مشوّق، تكتنفه روح الطّرافة، وتتخلّله المشاعر الإنسانيّة النبّيلة، كالأخوّة والصّداقة، التّعاون والمحبّة والعطاء.

كما تتزيّن الصّفحات بصور زاهية الألوان للأسماك الموصوفة، كأنّها لوحات فنّيّة تبرز جمالها وتفاصيلها، يرافق كلّ صورة شرح مفصّل، يلقي الضّوء على خصائص كلّ سمكة وموطنها، وزنها وطولها وسماتها المميّزة، وحتّى مذاقها بعد الطّبخ، وكأنّ الكاتب يريد أن يشاركنا تجاربه الشّخصيّة الغنيّة في هذا المجال.

في صفحة (124) نجد موضوعا بعنوان: "غياب مقلق للأسماك في شواطئ حيفا وعكّا، فأين ذهبت؟"، وهنا يلفت النّظر إلى ظاهرة مقلقة تخيّم على شواطئنا، حيث تغيب الأسماك وتختفي في لجّة البحر، فيعرب عن خشيته من أن تهدّد هذه الظّاهرة مصدر رزق العديد من الصيّادين، وأن تؤثّر على وفرة المأكولات البحريّة، فيستكشف الأسباب المتعدّدة وراء هذه الظّاهرة، مؤكّدا على ضرورة تضافر الجهود؛ لاتخاذ خطوات جادّة على جميع المستويات لمعالجة هذهِ المشكلة، وحماية الثّروة السّمكيّة.

كما يتطرّق إلى التلوّث البيئيّ، حيث تعدّ ممارسات الصّرف الصّحيّ غير المعالج، وإلقاء النّفايات في البحر، من أهمّ أسباب تلوث البيئة البحريّة، مما يؤثر سلبا على صحّة الأسماك ويهدّد حياتها، وكذلك الصيّد الجائر الّذي يؤدّي إلى استنزاف المخزون السّمكيّ، الأمر الّذي يسبّب نقصا كبيرا في أعداد الأسماك على المدى الطّويل، ولا ينسى التّغيّرات المناخيّة الّتي تؤثّر على درجات حرارة الماء ومستويات الحموضة، وبالتّالي تؤثّر على سلوك الأسماك وتكاثرها.

يذكّر أيضا بأنشطة الإنسان مثل البناء على السّواحل، الّذي يدمّر موائل الأسماك الطّبيعيّة، ما يجبرها على البحث عن بيئة جديدة للعيش والتّكاثر.

في خاتمة الكتاب، يلتقي شغفان عزيزان على قلب المؤلّف، وهما: الصيّد، وجمع الطّوابع.

يضمّ هذا القسم مجموعة منتقاة من الطّوابع الّتي تحمل صورا للأسماك من مختلف الدّول العربيّة، تلك الّتي أُفرِدَ لها مكانا خاصّا في هذا الكتاب، كلّ طابع منها هو بمثابة نافذة سحريّة تطلّ على عالم البحار، تروي حكاياته المنسيّة في أعماق الزّمن.

يكتب (ص179): لعلّ هذا هو السّبب الّذي دفع العديد من الدّول الّتي تزخر بالثّروة السّمكيّة إلى تصميم طوابع بريديّة، تحمل صورا للأسماك الّتي تعيش في مياهها؛ لتبرز هذا التّنوّع البيولوجي الفريد.

لا عجب أن يثير عالم البحر خيال الإنسان، ويلهمه قصصا وأساطير عن كائنات غريبة، تسكن أعماقه وتحكم أمواجه، في الأساطير اليونانيّة مثلا، نجد "بوسيدون" إله البحر والزّلازل، يصوّر كرجل قويّ يحمل رمحا ثلاثيّ الشّعب، ويسيطر على الأمواج والكائنات البحريّة، وهناك أسطورة حوريّات البحر، وهي كائنات خياليّة نصفها إنسان ونصفها سمكة، تشتهر بجمالها الّذي يغوي البحّارة.

إنّ هذه الأساطير بما تحمله من رمزيّة وغموض، تلقي الضّوء على علاقة الإنسان بالبحر وعالمه الغامض، وتشكّل جزءا هامّا من التّراث والميثولوجيا للعديد من الشّعوب، لذا فإنّ هواة جمع الطّوابع لا ينظرون إلى طوابع الأسماك كقطع فنّيّة فقط، بل يرون فيها نافذة على التاّريخ والثّقافة واكتشاف معلومات جديدة.

وبعد.. يشكّل هذا الكتاب المتفرّد، الّذي لم تخض غماره الأقلام العربيّة من قبل، إضافة نوعيّة تثري علاقة الفلسطينيّ بالبحر، وتضيف إليها أبعادا معرفيّة جديدة، تتجاوز حدود الصيّد والملاحة؛ لتشير إلى الإبداع والمعرفة المتنوّعة، وتؤكّد على عمق هويّتنا وثقافتنا العصيّة على المحو والتّجاهل أو الطّمس والإلغاء.

هو كتاب يروي حكاية شعب وجد في البحر امتدادا لأرضهم وصدىً لأحلامهم، وهو وثيقة تحفظ للأجيال القادمة ذاكرة بحرنا، وقصيدة تترنّم بألحان أمواجنا، وسفينة تبحر بنا عبر عباب مسيرتنا، وتؤكّد على أنّ الفلسطينيين كانوا وسيظلّون جزءا لا يتجزّأ من هذا البحر، يحملون في قلوبهم حبّ الوطن وحبّ الحياة.

sdfggfg1118.jpg

سفر بلا عنوان ديوان شعر للشاعرة الألقة عفاف غنيم من اصدارات ديوان العرب للنشر والتوزيع 2022 م، ولوحة غلاف من تصميم سارة أحمد وهي تصور فتاة تغفو على ظهر جواد مجنح كما نرى بالأساطير ممسكة بيديها عنق الجواد على حافة نهر يفصلها عن غابة كثيفة الأشجار، وعلى الغلاف الأخير نص من الديوان، وبداية أشير للعنوان الذي مثل بحد ذاته فلسفة تخص الشاعرة في الحياة، فالسفر المعتاد دوما له وجهة محددة، ولكن هنا كان العنوان "سَفر بلا عنوان" وكما قالت في إهداء وهو تقديم للكتاب: "الحياة رحلة قصيرة نجري بها وتجري بنا.. هي سَفر بلا عنوان.. أجل هي سَفر بلا عنوان فمن منا يعلم ما يخبئه الغد لنا في مسيرة الأيام"، وهذا ما سيلمسه القارئ في قصيدة كانت هي عنوان الديوان، وأيضا كان العنوان اشارة تشير كيف كانت الشاعرة في ديوانها تحمل القارئ في العديد من المحاور في اثنين وستين نصا ومئة وسبعين صفحة، وأيضا التنقل بين الفكرة وبين الأمكنة، فنجدها تنقلنا من القدس فجأة فنجد أنفسنا في عمَّان، ومن عمان الى جرش والى لبنان وبيروت ومن مكان لمكان حتى نصل بلدة سحاب شرق عمَّان، وحين كنت اقرأ الديوان للمرة الثانية كنت أشعر أني عدت للشعر العربي القديم، فالديوان تمت صياغته بأسلوب الشعر العمودي المحبب لروحي، وأشير أيضا أن الشعر العربي منذ عهد ما قبل الإسلام كان يتميز في الغالب في ذكر المكان في بداية القصيدة، وكان يتراوح بين محاور المديح والهجاء والفخر والرثاء والعشق وغيرها، وهذه المحاور سنراها جلية في سَفر بلا عنوان، وكما قالت د. مرام أبو النادي في اضاءتها في مقدمة الكتاب: "السرد الشعري سيأخذك بتفاصيله حيث يجب أن تكون.. حيث أرادت بلقيس الحرف الشاعرة المقدسية عفاف غنيم"، وكنت قد همست للدكتورة مرام: وماذا تركت لنا أن نكتب بعد هذه الاضاءة؟

   ديوان "سفر بلا عنوان" للشاعرة عفاف غنيم تناول محاور متعددة من خلال قصائد شعر تعكس تجربة انسانية وحياة عاشتها الشاعرة بكل تعقيداتها، بحيث تميز الديوان بتنوع المواضيع التي حلقت بها الشاعرة، فنجد في ثنايا القصائد حساً انسانياَ رفيعاً بتناولها مسائل مختلفة من مشاعر وأحاسيس متنوعة مثل الفكرة والتجارب الخاصة بمسيرة حياتها، وكل ذلك بلغة رقيقة ولوحات مرسومة بدقة،  وربما بحكم معرفتي القوية والقديمة بالشاعرة كنت مطلا على بعض منها، ويمكن أن أشير من خلال قراءتي النقدية للمحاور الأساسية في الديوان إشارات سريعة، والمحاور الأساسية هي المكان والفخر والبحث عن الذات والرثاء والحنين والحب والوطن والهوية والمديح والهجاء والفقد، ولكن سأشير بسرعة لبعض هذه المحاور، وفيما يلي بعض منها:

   المكان والوطن: والمكان لدى الشاعرة عفاف غنيم مرتبط بالوطن العربي بشكل عام وليس فلسطين فقط، وإن سيلاحظ القارئ كم أفردت الشاعرة للقدس من مساحات وقصائد، فهي مدينتها وذكريات طفولتها بحلوها ومرها، فنجد القدس في قصيدة "أنا من هناك" فتقول: "تلك القريبة والبعيدة عني.. قدس تلازم غربتي وزمانِ"، وفي قصيدة عديّ الأسطورة تقول عن القدس: "فالقدس وعدٌ في ربى أسفاره"، وفي نفس النص تقول: "هذي هي القدس البسالة والفدا.. مسرى الرسول وملتقى اخياره"، وفي نصها "العزة بُنيَتي" تقول: "وقدسي نبض حب في قصيدي.. كنبع الماء يغشاه الحيارى"، وفي نصها "لحن العودة" تربط بين القدس وأمها بالقول: "أشتاق قدسي، طيف أمي مرهمي"، وفي الديوان قصيدة "لأنها القدس" تألقت في البوح عن القدس وبدأتها بالقول: "للقدس الف قصيدة وقصيدة.. نهر من الأحزان جف وريده"، وكذلك كانت قصيدة "ليالي العائدين" أيضا وتقول فيها: "فالقدس نبضي، وحي حرف قصيدتي.. قدسية، وبها صمود سامي"،  وبالكاد تخلو قصيدة من ذكر القدس والإشارة لها مثل قصائد "أنا وطن" و"إلى كل حر" و"مفتاح عمري"، كذلك "نار بلا مطر" و"سبعون غصنا" و"صرخة من الجب" و"سراج العمر" و"شوق اللقاء" والغيمة الحبلى".

   ونجد الوطن العربي والحنين للوطن الفلسطيني المغتصب يرد عبر ذكر مدن ودول عربية وفلسطينية، فتحلق من أفق الاقليم "الأردن وفلسطين" إلى الأفق العربي، فنجد لبنان وبيروت في قصيدتها "عذرا لبنان" فتقول: "لبنان يا وجع العروبة جلّها.. شعب يلاقي بعد قذف مصرعه" وتقول عن بيروت: "بيروت يا نبع الجنان وبسمه.. أنت المنى، فيك الهوى والأشرعة"، ولا تنسى عمَّان في نص "إلى عمَّان مع حبي" فتقول: "عمَّان يا نبض العروبة جُلها.. جيل يناجي بعد جيلٍ مطلعه"، وفي نص تحية فخر تقول: "عمَّان عزي والمليك إمامي"، وفي نفس النص تقول أيضا: "إني رأيت العز صرحا شامخا.. تعلو بها عمَّان بالأعلام"، ولا تنسى مدينة جرش فتقول في قصيدة "جرش الأصالة": "جرش العراقة والبها إسبالها.. صرح تسامت للسما أطلالها"، ونجد في قصيدة "صرخة من الجب" ذكر لبنان والشام وبغداد والقدس وغزة، وكذلك الشام في قصيدة "لمن نشكو"، والوطن عامة في "محابر الشعراء"، وفي قصيدتها "طريق الحرية" تعرج على ذكر نابلس وابطالها، و"سحاب" في قصيدة "ريح الأحبة" ومصر في "شوق اللقاء".

   الفخر والمديح: ويتجلى ذلك في قصيدتها "أنا من هناك" حيث تقول: "إن كنت تسأل من أنا في دهشة.. فأنا اليمامة في سما أوطاني/ وأنا العفاف ولي قصيد ثائر.. قلمي سديدٌ والشموخ عناني/ هذي حروفي تقتفي ريح الفلا.. تغدو بقدسي، تقمع الطغيان"، وفي قصيدتها "العزة بُنيَتي" تفتخر بنفسها فتقول: "أنا من صنت نبض قطاف قلبي.. وحرف قصيدتي هز الديارا"، وفي قصيدتها "عد إلي" تقول: "فهل تاهت خطاك إلى ديار.. ترى فيها جمالا غير بدري"، ونجد الافتخار بالذات في قصيدة "أنا وطن" فتقول فيها: "إني أنا وطن، لي بصم قافية.. أرتل الشعر ألحانا وأفتخر"، وكذلك في قصيدة "إلى كل حر" حين تقول: "فأبي عريق كالجذور وأوثق.. وسنابلي من شمس أمي تبرق"، وكذلك نجد الفخر بالذات في قصيدتها "سبعون غصنا"، "شعاع البدر"، "أراني مهرة".

   وفي قصيدة "تحية فخر" نجدها تفتخر بالأردن قيادة وشعبا فتقول: "وجيوشنا درع يصد المعتدي.. من رحم شعب مخلص متسامي"، وتمدح جلالة ملك الأردن في قصيدة "جرش الأصالة" فتقول: ملك الملوك دعا وأعلى شأنها.. كي يحفلوا في شمسها وظلالها"، وفي قصيدتها "دمع النوى" تمدح الشهيد منذر بالقول: "يا منذرا تعلو السماء برفعةٍ.. يا نهر شهدٍ يرتجيه فطامي"، ونجد المديح في قصيدة "اصح يا نايم" في مديح شهر رمضان، وفي قصيدة "ناصر الاسلام والمسلمين" في مدح الرسول محمد عليه أطيب الصلاة والسلام، والمديح لمليك الأردن في قصيدة "عيد سعيد".

   البحث عن الذات: ونراه في نص "ربانةُ الشعر" بقول الشاعرة: "إني سأرحل عن هم أنوء به.. أحتاج فجرا بلا قيد وذا الفرج"، وهذا يظهر مجددا في نص "فصول العمر" بقول الشاعرة: "أراني شمعة ذابت بليل.. عيون البدر أعياها الرحيل"،وكذلك في قصيدة "نظرة أمل" بالقول: "أنظر بعيدا، لا تنادي ما انقضى.. فالله يقضي حكمه ويشاء"، ونجد البحث عن الذات في قصيدة "كن أنت" بقولها: "إن الحياة قصيرة فاسمو بها..كم ترتقي من بسمة وصفاء"، وكذلك في قصيدة "رداء أبيض" وفي قصيدة "عابر في غربة"، "جمرة القصيد"، "جرعة ألم"، "الصبر مفتاح الفرج"، "العمر معتقل"، "فات الوقت".

    الرثاء: ونجد أنموذجا لذلك في العديد من القصائد ومنها "عدي الأسطورة" حيث تقول: "طوبى لمن نادى الحياة مجاهدا.. يا نعمَ شعر يعتلي بجواره"، ويتكرر الرثاء للمرحوم زوجها في العديد من القصائد ومنها قصيدة "وجع القلوب" فتقول: "حزني تمادى من رحيل حارق.. قبطان عمري لم يزل في روحي"، وأيضا في قصيدتها "عكاز الهوى" بقولها: "أسامر وحدتي والدمع يجري.. ودمعة غربتي كالجمر تصلي"، وتتجلى بالرثاء في قصيدة "همسات حانية" فتقول مخاطبة أمها: "يا لوعة من جمر حب قد قضى.. أمي ملاكي في حياتي القاسية"، ونجد الرثاء أيضا في قصيدة "صرخة من الجب" حيث ترثي الطفل المغربي ريان وترى أنه في كل بلد عربي هناك ريان آخر يعاني ويموت، فتذكر الشام وبغداد ولبنان وغزة والقدس، وكذلك في قصيدة "عثرات الزمن" حيث تذكر الرافدين كرمز للعراق.  

   الحب: وفي هذه القصائد تسكب حبها لزوجها قبل وبعد رحيله فنراها في قصيدة "سفر بلا عنوان" تقول: "قبطان عمري أنت لي لحن المنى.. أنت الربيع. ونزهتي سمّاري"، وفي قصيدتها "ذاك البعيد القريب" تقول: "هذا الهوى كم دعى أشجاننا ولها.. حرفي من العشق كم نبض له طربا"، وتتغنى بالحب بقصيدة "قمري أنت" فتقول: "حب أقام على ربيع قصيدة.. فيض من الأسرار في أشعاره"، وفي قصيدة "فصول العمر" تقول: "تعال إلى ربوع نرتجيها.. فنهر الحب ماء سلسبيل"، وهي تؤكد في هذه القصيدة على جمالية الحب وروعته فهي ترى أن: "سراج الحب شمس لا تزول"، وكذلك في قصيدة "سحر الهوى" حين تقول: "الحب عندي يعتلي بصفائه.. ويغب من نهر الحنين حبيب"، وتتجلى في قصيدة "رسالة شجن" بقولها: "حبي شغوف رؤوف؛ نبض أوردتي.. قلبي إذا صنت إقرارا له استجبا".

  وفي قصيدة "قميص النوى" تقول: "الحب: بحر وأمواج بعاتية.. من لم يجد خوضه فالموج قاهره"، فتستخدم تشابيه جميلة واستعارات تلفت النظر، وفي قصيدة "ترنيمة عشق" تعبر عن الحب بالقول: "أعاتب الليل بالنجوى فيطربني.. بهمسة من طيور الحب ألحانا"، وأيضا في قصيدة "همزة الوصل" فتقول عن الحب: "وطالما العشق يشجيني سأسكنه.. وأسكب الحب، كي تحضنه أسراري"، وتواصل الحب والتعبير عنه في قصائدها: "حنين عمري"، "همس العيون"، "لوعة الشوق"، أسطورة الهوى"، هروب"، "أقدار"، "أحبيني"، "عذرا وأكثر"، وأخيرا قصيدة "محكمة" وهي قصيدة طريفة.

   والخلاصة بعد تجوالي وسفري مع سفر بلا عنوان وجدت شاعرة تطورت وارتقت كثيرا من ديوان لديوان، ومع ذلك لم يخل الديوان من أخطاء لغوية ونحوية وإملائية سقطت سهوا وإن كانت قليلة، وفي هذا الديوان الشعري الجميل نجد قصائد ذات طابع مميز وجميل يختلف عما سبق لها، فقد اعتمدت أساليب شعرية مختلفة أضفت للديوان نكهة جمالية خاصة، فمن يقرأ سيرى نفسه بين الأسلوب القديم من الشعر العربي متمازجا مع الشعر الحديث بين شعر تفعيلة وسرد شعري، اضافة للغة قوية حتى أنها وضعت تفاسيرها في الهوامش، ولكنها سهلة وثرية في نفس الوقت وابتعدت عن التقعر باللغة واستخدام الكلمات الصعبة إلا قليلا، فكان التوظيف اللغوي جيد بشكل عام، إضافة أن الديوان حفل بأحاسيس الشاعرة وتجاربها في الحياة وفلسفتها فيها، فكان استخدام رمزية السفر تعبير رمزي عن مسيرتها والبحث فيما مرت به بتجربتها وبحثها في ذاتها وسعيها للتغيير.

   ولهذا نلمس بوضوح أنها تجولت داخل نفسها وذاتها وفي الحياة من حولها، فكان السفر بلا عنوان يجول بين أفكارها وأحاسيسها ومشاعرها ورسائل توجهها، وبين بحثها في الهوية التي تنتمي اليها وبين هوية تحملها وتنتمي اليها في الشق الآخر من وطن كان وسيبقى وطن واحد، لهذا لعب المكان دوره في شعرها إضافة للزمان والأحداث، وهذا منح القصائد عمق بالفكرة وترك المجال بقوة لتأويل النصوص والبحث ما وراء الكلمات، معتمدة في الكثير من النصوص على رسم لوحات شِعرية بالكلمات، مما يخلق حالة من التفاعل العاطفي بينها وبين القارئ المتمعن مما يثير لديه التأمل والبحث والتفكير، فكان بناء النصوص يمتلك الجرس الموسيقي والإيقاع الشعري، فكان تجربة جميلة في واقع الشعر سلطت الضوء على معاني وأفكار ترتبط بالرغبة القوية بالتغيير للواقع العربي ومفهوم الحقيقة والبحث في الوجود.

   وهكذا نجد أن الشاعرة عفاف كان لها أسلوبها وبصمتها الخاصة، فشعرها مازج ما بين البساطة أحيانا والعمق أحيانا أخرى بلغة وأسلوب سلس ومحتويات قوية وعميقة معتمدة الرمزية الدالة على تجارب مختلفة وحالات نفسية كانت تمر بها، تتنقل فيها بين محاور شِعرها التي أشرت اليها أعلاه إضافة لما نلمسه من مشاعر وأحاسيس الألم في بعض القصائد مع المحافظة على التفاؤل والأمل، مما يجعل القصائد في غالبيتها تؤثر في القارئ الحصيف والمهتم وليس العابر عبر الكلمات بقراءة سريعة، فنحن أمام ديوان لا تكفي قراءة سريعة أو نقدية مختصرة للإحاطة بكافة جوانبه وقصائده ومواضيعه.

 adfdfg1118.jpg

  صدرت عن مركز التنور الثقافي الطبعة الأولى (2025) لكتاب "نحبك يا نعيمة، شهادات إنسانية وإبداعية بأقلام من عاصروها وأحبوها"، من تأليف دة. سناء شعلان. سأحاول في هذا التقديم استعراض بعض مضامين هذا المؤلَّف، والقيم الإنسانية التي ينتصر لها، مع التطرق للخصائص الفنية لجنس الشهادة، انطلاقا من المقالات التي تحمل توقيع شخصيات، تتوزع بين الأقارب وأفراد العائلة والباحثين والأكاديميين والأدباء والصحفيين والإعلاميين والناشطين في مجال حقوق الإنسان والعمل الإنساني... والحال أنه ليس من السهل استعراض مضامين هذا الكتاب الضخم (704 صفحة)، لهذا سأستهدي بمجموعة من الأسئلة التي قد تساعد على تحليل محتوياته والتماس خيط أو بالأحرى خيوط ناظمة تجمع بين مختلف الشهادات: ما هي دلالات عنوان الكتاب وأبعاده؟ ما هي القيم التي ينبني عليها جنس الشهادة استنادا إلى هذه المساهمات؟ ما هي الصورة الشخصية (البورتريه) التي ترسمها هذه الشهادات للراحلة؟ ما هي سمات شخصيتها كما تجلوها الشهادات؟ هل يجتمع في هذه الصورة الحميمي الشخصي والعمومي المنفتح على المجتمع والقضايا العامة؟ هل أفلحت بعض هذه الشهادات في تقديم بعض ملامح صورة نعيمة المشايخ، بعيدا عن السمات النمطية المكرورة التي تجعل منها كيانا مجردا لا إنسانة فياضة بالحياة قوة وضعفا؟

  • دلالات العنوان وأبعاده الرمزية

يحمل العنوان، "نحبك يا نعيمة"، بعدًا وجدانيًا عميقًا، فهو ليس مجرد عنوان توثيقي أو تأبيني، بل هو تعبير مباشر عن مشاعر حب وتقدير للراحلة نعيمة المشايخ. فالفعل المضارع "نحبّكِ" يشير إلى استمرارية المحبة، مما يوحي بأن تأثير نعيمة المشايخ لم يتوقف برحيلها، بل بقي حاضرًا في قلوب من عرفوها. واستخدام الضمير المخاطب "كِ" يستحضر الجانب الحميمي الذي يتحدى الغياب، وكأن الخطاب موجّه مباشرة إلى نعيمة، مما يمنح الكتاب طابعًا شخصيًا وعاطفيًا. وأداة النداء "يا" تضيف بُعدًا وجدانيًا، وكأن الكتّاب ينادون الراحلة بأسلوب مباشر يعكس القرب العاطفي منها. كما أن ذكر اسمها مجردًا دون ألقاب يضفي لمسة من الألفة والمحبة. وهو يعكس بدقة طبيعة الكتاب، الذي يضم شهادات لأشخاص عرفوا نعيمة المشايخ وأرادوا التعبير عن حبهم لها، وهو يخرق الطابع الرسمي، ليعكس أجواء الشهادات التي تتميز بالحميمية، والاعتراف، والتقدير العاطفي. واستنادا إلى الشهادات نفسها، قد لا يعني الحب، الذي يشير إليه العنوان، مجرد مشاعر شخصية، بل هو تقدير لدورها الثقافي، الإنساني، والأكاديمي، انسجاما أيضا مع المحتوى الذي يجمع بين الكتابات الأدبية، والإنسانية، والشهادات الشخصية. باختصار، يعبر العنوان بصدق عن طبيعة الكتاب، حيث يخلق حالة وجدانية حتى قبل قراءة الشهادات، ما يجعله متميزا عن العناوين التقليدية التي قد تبدو جافة أو تأبينية.

  • القيم الإنسانية التي تؤطر الكتاب

تصدر الشهادات المتضمنة في الكتاب عن مجموعة من القيم النبيلة، كالوفاء والتقدير والمحبة والامتنان والعرفان، ضمن ثقافة الاعتراف بأبعادها الإنسانية الرحبة، وأيضا الوجدانية والذاتية. فهذه الكتابات تمثل في الآن نفسه محاولة لتخليد ذكرى نعيمة المشايخ بوصفها "شخصية عمومية"، وتوثيق تجربة فردية وازنة، تجعل من صاحبتها إحدى الشخصيات المؤثرة في محيطها، مع إدراجها ضمن سياقها الثقافي والاجتماعي؛ وتشكل أيضا محاولة لكتابة نوع من التاريخ الأدبي والاجتماعي ورسم ذاكرة جماعية انطلاقا من تجارب إنسانية دالة؛ وتعكس هذه الشهادات، من جانب آخر، تجربة كُتَّابها مع الراحلة، مما يضفي طابعا ذاتيا وحميميا على الكتابة، باعتماد أساليب تتنوع بين السردي والشاعري والتحليلي وفقا لخلفية كل كاتب ومجال اشتغاله وطبيعة علاقته بالراحلة. وهنا تبرز مشاعر الحنين، واستعادة المواقف الشخصية في تقاطع مع فكرة مركزية تتمثل في ثقافة الوفاء والاعتراف، حيث يصبح الكتاب تجسيدًا لمشاعر الحب والتقدير لشخصية خلفت أثرا كبيرا في حياة من عرفوها.هو إذن احتفاء بذكرى نعيمة المشايخ كشخصية ملهمة ومؤثرة، وإنسانة قريبة إلى قلوب من عايشوها ونهلوا من معين عطائها الفكري والإنساني.

  • مضامين الشهادات وتنوع زوايا المعالجة

تنبجس من خلال الشهادات صورة إنسانة تعددت عطاءاتها ومجالات اشتغالها وتنوعت اهتماماتها. هي شخصية أكاديمية وإبداعية بارزة، نشطت في عدة مجالات، منها الأدب والكتابة، فقد كان لها اهتمام خاص بأدب الطفل وساهمت في الترويج للأدب والثقافة عموما، عن طريق التدريس والحضور الوازن في المؤتمرات والندوات العلمية، مع الاضطلاع بدور بالغ الأهمية في تدريب الطلبة وتحفيزهم على الإبداع الأدبي، مع دعم الكتابات الشبابية، من ذلك مشاركتها في تنشيط ورشات إبداعية لفائدة الطّلبة الفائزين في مسابقات الأدب على مستوى المملكة الأردنية. كما أنها ساهمت في دعم حقوق الإنسان ونشر الثقافة العربية وضمان إشعاعها، حيث شاركت في مؤتمرات دولية مثل مؤتمر قسم اللغة العربية والفارسية في جامعة كلكوتا بالهند، مع التعاطي أيضا إلى العمل الإنساني والاجتماعي، حيث حظيت جهودها في دعم قضايا حقوق الإنسان والسلام والأمن الثقافي، بالإشادة والتكريم، من ذلك، على سبيل التمثيل لا الحصر، تكريمها من قبل منظمة "PEACE AND FRIENDSHIP INTERNATIONAL ORGANIZATION" في الدنمارك. وحظيت بتكريم خاص من قبل مبادرة نشمية وطن تثمينا لدورها الرائد في الإبداع الأدبي والإنساني، وحصلت على لقب "الأم المثالية" لسنة 2017 من مبادرة "أكرموهم الأردنية" ونالت لقب "سفيرة الرحمة" من الاتحاد الدولي للقيادة والمبدعين تقديرًا لجهودها الإنسانية والثقافية​. ومن المفارقات الجميلة أن الراحلة لعبت دورًا فعالًا في نشر ثقافة الاعتراف والتقدير، من خلال مساهمتها في توثيق شخصيات ثقافية بارزة والترويج لقيم الوفاء، وجاء كتاب "نحبك نعيمة" ليردد أصداء تلك والثقافة ويعمل على ترسيخها تقليدا إنسانيا نبيلا.

  • نعيمة إنسانة الفرح والتفاعل الإنساني العفوي

هل أفلحت بعض هذه الشهادات في تقديم بعض ملامح صورة نعيمة بعيدا عن السمات النمطية المكرورة التي تجعل منها كيانا مجردا لا إنسانة فياضة بالحياة قوة وضعفا؟

يمكن الحديث عن تنويع في زوايا المعالجة الشخصية، فالشهادات لا تقتصر على رسم صورة تقليدية للراحلة بوصفها "كيانا مجرد" مثاليا، مستغرقا في العمل بآلية وتجرد متعال، بل تستعرض مواقف مختلفة تعكس جوانب متعددة من شخصيتها، مثل روحها المرحة، ولحظات ضعفها، وأثرها العميق في من حولها. هناك أيضا تغليب الأبعاد الإنسانية، إذ إن بعض الشهادات لا تكتفي بالثناء على الراحلة، بل تروي مواقف تُظهر طبيعتها العفوية، مما يضفي على شخصيتها أبعادًا حقيقية تجعلها قريبة من القارئ بدل أن تكون مجرد نموذج مثالي. وتوجد مواقف تكشف مواطن القوة والضعف والإنساني، ففي حين يحتفي الكتاب بإنجازات الراحلة وعطائها، تبرز إشارات إلى صراعاتها الإنسانية، مما يضع شخصيتها في إطار أكثر واقعية وإنسانية. ورغم أن الهدف الأساسي للكتاب هو الاحتفاء بنعيمة المشايخ وإبراز قيمها النبيلة، فإنه يحاول تجنب اختزالها في مجرد كائن مثالي ونمطي، ويتحقق ذلك من خلال استعراض لحظات الفرح، والحزن والتحدي، وحتى الجوانب العفوية في حياتها. ربما يكون هناك تفاوت بين الشهادات في هذا الجانب، لكنها في المجمل تفلح في تقديم شخصية أكثر إنسانية، ونابضة بالحياة، قوة وضعفا، تتأرجح بين لحظات الصراع الداخلي والإنهاك العاطفي في مواجهة بعض التحديات، سواء على المستوى الشخصي أو المهني، ومعاناتها من ضغوط الحياة رغم ابتسامتها الدائمة. إلى جانب مواقف تعكس تأثرها العاطفي الشديد ومرورها بتجارب صعبة، وضعفها أمام الفقد والوداع وتأثرها العميق عند فقدان أشخاص عزيزين عليها، وكيف كانت تواجه هذه اللحظات بدموع صامتة أو تأمل داخلي يعكس ضعفًا إنسانيًا طبيعيًا. مع التوقف عند بعض تجارب القلق والخوف حيال المستقبل القاتم لبعض القضايا التي تؤمن بها، مما يظهرها كإنسانة ليست فقط رمزًا للقوة، بل أيضًا شخصًا يواجه القلق كأي إنسان آخر، وهو ما يجعلها أكثر قربًا من القارئ ويمنحها بعدا واقعيا، كإنسانة من لحم ودم ومشاعر. وهناك ملمح آخر يعزز هذا البعد الواقعي الإنساني، يتجلى من خلال التناوب بين المواقف المرحة إلى جانب الجوانب الجدية والوجدانية، مما يضفي على الشهادات طابعًا متوازنًا يعكس مختلف جوانب شخصية الراحلة نعيمة المشايخ. هكذا تستعيد شهادات ذكريات مضحكة أو طريفة عاشها أصحابها مع الراحلة، خصوصًا في سياقات عائلية أو اجتماعية، حيث تكشفت روحها المرحة وقدرتها على خلق أجواء مليئة بالحياة​، إضافة إلى تعليقاتها الفكاهية، وكيف كانت تضفي جوًا من الفرح حتى في أصعب الظروف، مما يعكس جانبًا إنسانيًا دافئًا في شخصيتها ويبرز حس الدعابة الذي كان يميزها.

  • خلاصة

يمكن القول إن الشهادات في الكتاب ليست مجرد رثاء، بل هي شهادات اعتراف وامتنان تعكس العلاقة العاطفية العميقة التي جمعت الراحلة بالمحيطين بها، مما يجعل الكتاب أكثر من مجرد تأريخ لسيرة شخصية، بل هو مساحة لتوثيق مشاعر إنسانية خالصة. وهو في المجمل تجميع لشهادات إنسانية وإبداعية كتبها أشخاص عاصروا وأحبّوا نعيمة المشايخ، مما يجعله وثيقة أدبية واجتماعية ذات بعد اعترافي قوي، تحاول الاقتراب من شخصية الراحلة وإبراز تأثيرها العميق في محيطها الخاص والعام.

ولا شك أن القارئ سيلفي نفسه أمام تجربة فريدة في ثقافة الاعتراف، حيث يتجاوز مجرد التأبين إلى توثيق مشاعر المحبة والامتنان للراحلة نعيمة المشايخ. من خلال شهادات متنوعة، تتكشّف صورة إنسانة جمعت بين العطاء الفكري، والالتزام الإنساني، والروح المرحة، مما يجعل الكتاب بمثابة مرآة متعددة الزوايا تعكس تأثيرها في محيطها القريب والبعيد. كما يبرز الكتاب التوازن بين البعد الشخصي الحميمي والعمومي الثقافي، حيث لا تقتصر الشهادات على الاحتفاء بإنجازاتها، بل ترصد أيضًا مواقف إنسانية تكشف عن ضعفها وقلقها ولحظاتها المرحة، مما يجعلها أكثر قربًا من القارئ وأكثر حضورًا في الذاكرة الجماعية. هكذا يمكن القول دون مبالغة أن الكتاب يؤسس لفعل ثقافي يتجاوز الفردي إلى الجماعي، حيث يصبح الوفاء والتقدير للراحلة امتدادًا لمسيرتها في نشر ثقافة الاعتراف والاحتفاء بالإنسان في أبعاده المختلفة.

المزيد من المقالات...