طيفُ والدي

رحل رحمه الله قبل مايقربُ من ثمانية عشر عاماًإلى دار البقاء تقبله مولانا عنده في علِّيِّين كان يوماًحزيناً بالنِسبة لي لكنه القدر والتَّسليم فالحمد لله

ذاك يومٌ لاأنساه والأدهى أن تبقى بعيداً لاتستطيع القيام بواجب أبيك و تكون بقربه لتشييعه وتوديعه ، كتبت ليلتها قصيدة يارحمة الله (هبي  فوقه سُحُباً )وأسمعتها إخوتي ووالدي مسجىً على سريره قبل دفنه قلتُ فيها:

لأتابع وأنا في انشداهٍ مماجرى  قائلاً له:

لتفيض مشاعري بماتُحسُّهُ نحوهُ قائلةً:

لأعود متذكِّراً المُصابَ مُخاطباً إيَّاهُ من جديد:

لأقول له في الخِتام :

وكتبت تحت القصيدة ابنكم الذي نمت أكتافهُ من خيركم ، وترعرع في حضنكم ، وسيبقى مخلصاً لكم

وقد أنشدها المنشد الأحسائي القديرفهد العوبصي حفظه الله بفيديو كليب رحم الله والدي وأسكنه فسيح جناته.

ولايزال طيفُ والدي يعيش معي في  قيامي وقعودي ،في دعائي وسجودي، في صحوتي وخلوتي ومابرحت ذكرياته تطوف بأُنسه،وترفرف بقصصه وتجول بجميل أدبه،

وتذكرني بروعة بيانه وعذب شعره أجل .. إنَّهُ والدي الحبيب رحمه الله الشَّاعرُ والأديب، والصَّحفيُّ الألمعيُّ، الأستاذ القدير صلاح الدِّين زاكي العكاري رحمه الله الذي قضى حياته في التَّعليم في حماة والحسكة ودمشق ليكون آخر مشواره في التعليم أمين سر ثانوية أمية في دمشق                             كما عمل خلالها في الصحافة في عدة صحفِ دمشقية (دمشق المساء- الفيحاء -الوحدة) ثم ليكون رئيس تحرير جريدة بردى وقد نُشِرَ لهُ في أغلبالصُّحف والمجلات االأدبية في الشام.

تذوقتُ الشِّعر عذباً سلسلاً من فيه مذ كنت صغيراً ،ورضعتُ لُبانة القريضِ من قراحِ شعره في دوحة بيتنا الذي يحب الشعر ويعشق الأدب  ،فطربتُ وانتشيت به وبروعة إلقائه ، وجمالِ أسلوبه ،وحفظت منه أمهاتِ الشعرالعربي من مختلف العصور ، بدءاَ بالعصر الجاهلي حتى عصرنا الحديث وشعراء المهجر ،،حيث كان بيتنا في دمشق الفيحاء صالةً أدبيةً وروضةً غَنَّاء تصدحُ فيها بلابلُ الشِّعرِ وتُغرِّد عنادلُ القوافي  لتستبرد من رذاذ أمواج بحور الخليل،وماأجملها تلك الأماسي بحسِّه ونبضه وماأروعها عندما يجود علينا يشعره أو مما يسرده علينا من قصص الشعراء ومايحفظه من عيون الشعر حيث كانت القوافي  تتهادى مع الأنسام المسائية العليلة في مساءات شام الجمال وقاسيون يطُلُّ علينا ينبضه وحسِّه، بشموخه وبهائه ، وكأنَّهً يُنصتُ معنا للحديث ، ويطرب  من سحر القوافي لنشعر دائماً وكأنَّهُ أحد الجالسين معنا،المسامرين لنا.المؤنسين لسهرتنا أجل لقد كان للوالد رحمه الله سحرٌ في إلقائه ، ونبرةٌ جذابةٌ في حديثه،لتعيش معه الحدث كأنَّك فيه وماأبدع لطائفه ورقائقه الأدبية التي يستقدم فيها الطرائف والحكم والنوادر من الآداب

وإن أنسَ لاأنسَ ليلة ألقى رائعة إيليا أبو ماضي عندما قدم إلى الشام  بعد ربع قرنٍ من الغربة في سان فرنسيسكو وأقام له حينها رئيس الحمهورية شكري القوتلي رحمه الله حفل استقبالٍ مهيب تكريماً له وللأدب والشِّعر كان ذلك على مُدرَّج جامعة دمشق ، بحضور الوزراءوالأعيان والصَّحافة وكان والدي حاضراً حينها كان ذلك عام 1957م عام ميلادي وألقى حينها إيليا أبو ماضي قصيدته الملحمة في الشام التي سمعتها وحفظتها من والدي وأعتبرها بحق من أروع ماقيل في الشَّام وليتكم تطَّلعون عليها كاملةً وركِّزوا على مطلعها وبماذا يستفتح قصيدته  وهوالشَّاعر النَّصرانيُّ  يستفتحهابمطلعٍ رائعٍ وإليكم بعض ماقال فيها:

فالثُمْ بروحك أرضَها تلثُمْ عُصًوراً للعُلا سَكَنَتْ حصىً وتُرابا

ذكرياتٌ لاتُنسى مع والدي أذكر فضله وتشجيعه لي منذ نعومة أظفاري يوم دفعني صغيراً إلى المدرسة لأكون مع أخي الشقيق الذي يكبرني بسنتين وهود. معتز طبيب استشاري  عينية المهم كان لي شرف أستاذية والدي ورعايته والتتلمذ على يديه حيث درَّسني في ابتدائية الملك فيصل عند السبع بحرات في دمشق التي قضيت فيها كل دراستي الابتدائيةلأتذكَّر موعداً مهمَّاً لي مع الإلقاء حيث دفعني والدي واختارني لألقي كلمة المدرسة للتَّنديد بوعد بلفور المشؤوم كنت حينها في الصَّف الخامس  حيث أعطى رئيس وزراء بريطانيا آرثر بلفور اليهود وطناً قومياً لهم  في فلسطين عام 1917م ومازلت أحفظ مقدمة الكلمة وختامها تلك التي قلت فيها بأنَّ الحقَّ مهما غاب عن أهله سيعود إليهم بإذن الله طالما كان للحق أهلٌ وساعدٌ وعزمٌ وبيان وإنَّ غداًلتاظره قريبُ.كانت تلك الكلمة أمام حميع طلبة المدرسة والأساتذة دفعةً قويةً لي وحافزاً لي للتحليق في فضاءات الإلقاء، ذاك موقفٌ له معي لاأنساه رحمه الله وطيب ثراه .

أصدر في حياته ديواناً واحداً قدَّم له الأستاذ الدكتور عبد الرَّزاق حسين حفظه الله ورعاه كان قد جمع فيها أغلب شعره أسماه عرائس الأحلام تُراهُ أسماها هكذا لأنَّه عرف حقيقة الحياة ؟..وأنَّها حُلُم ...، أوأنَّه أسماها كذلك لتتراقص عرائسه على أوتار قيثارة الشعر الحالمة عنده أياًكان فقد قال عنه أستاذنا الدُّكتور عبد الرَّزاق حسين بأنَّه شاعر القلب ،كتب نبض قلبه على قوافيه ، ولشعره نكهةٌ ومذاق خاص ، خاض في كل أغراض الشعر لكنَّ عنادل الغزل كانت مغردَّةً بامتياز عنده ليصوغها في ثوبٍ من الحشمة جميلٍ وجذَّاب.

شرَّفني بقدومه وأمي  للأحساء مع بداية قدومي إليها وكان لاينقطع عن زيارتي ليحيل المنزل مع والدتي الحبيبة إلى جنَّةٍ حقيقية إلا أنَّ روحه كانت معلقةً في الشام لايقدر على فراقها ولايستطيع أن يفارقها طويلاً.دعي إلى أحديَّة الأديب السَّفير الشيخ أحمد بن علي آل الشيخ مبارك رحمهما الله وأحيا أمسيةً شعريةً مع الأستاذ الفاضل سعد البراهيم حفظه الله كانت محطَّ إعجاب الجميع ألقى فيها قصائد عدة ليشيد أيضاً الشيخ أحمد رحمه الله بروعة شعره وجمال إلقائه، كان مما ألقاهُ فيها (حوارٌ بين حسناء وزهرة)

لتبدأ الزَّهرة بالحوار:

قالتِ الزَّهرةُ للحسناء في تيهٍ وكِبْرِ

أنا عند النَّاس أعلى منك في شأني وقَدْري

منظري يُصْبي وأنفاسي وعَبْقي كأسُ خمرِ

بأناشيد الهوى والحُبِّ شادوا صَرْحَ ذِكْري

أنتِ من طينٍ ولكنِّيَ من عَبْقٍ وقَطْرِ

أنا إلهامٌ ووحيٌ ناطِقٌ في كلِّ عصرِ

فأنا طوراً بصدرٍ وأنا طوراً بِنَحرِ

إنَّ من يهواكِ يهوى بك ألواني وسحري

شبَّهوا خدَّكِ في خدِّي وريَّاكِ بِعِطري

غير أنَّ الشِّبهَ لايُعطيكِ قَدْراً مثلَ قدْري

أنت من بحرِ جمالي نُقطةٌ من ماءِ بحرِ

أنْتِ مِنِّي بعضُ شِبْهٍ وأنا زهرةُ عَصْري

لتُجيبها الحسناء:

كم هامَ قلبٌ في هوايَ وكم تغَنَّى شاعرُ

والنَّاسُ من حَوْلي قلوبٌ كُلُّهُم ونواظرُ

مثلي الحريَّةُ بالأمارَةِ إنَّ حُسْنيَ ساحرُ

مثلي أجلْ والحقُّ في لَحظي وقَدِّيَ ظاهرُ

قيس بن المُلَوَّحُ قد قضى شوْقاً فسحري قاهِرُ

كم خاضَ بحريَ سابحٌ ورسا بِشَطِّيَ حائرُ

وبِسِرِّيَ المشهود حدَّث ظاعنٌ ومُسافِرُ

لا لستِ أهلاً للأمارَةِ أنت طيفٌ عابِرُ

هو ذا الخريفُ به ذوى غُصْنٌ وَصُوِّحَ آخرُ

والرَّوْضُ أضناهُ السُّقامُ فزهرُهُ مُتَناثرُ

أمَّا أنا فأنا الرَّبيعُ المستديمُ الزَّاهِرُ

عودي النَّضيرُ بِكُلِّ فصلٍ ياغريرةُ ناضِرُ

ولي عودة مع شعر والدي ولكني أحببت أن أضع زهرةً فوَّاحةً من باقات شعره عساني أعود لها عن قريب ،وللعلم عند والدي صفةٌ رائعة وحُلَّةٌراقية هنيئاً لمن يحملها وهي سلامة الصَّدر ، وصفاء القلب ، فأبي بفضل الله لايعرف إلا الحبَّ للجميع ولايحملُ في قلبه غلاً لأحد وإن أسيءإليه  رحمه الله لأختتم مقالي هذا بقصيدةٍ لأحد أصحابه وجدتها قصاصةً بين أوراقي لاأعرف من قالها ،  ولاأذكرُ عن قصتها شيئاً ، فحفظ الله من قالها بحقِّ أبي رحمه الله وبارك به وأطالَ في عُمُره   بالصالحات وللعلم أكبر إخوتي هو د.هيثم أخصائي أمراض هضم ليقول صاحبه له:

سلاماً ياأبا الهيثم

   صباحَ الوردِ والبلسمْ

صباحَ النُّورِ أستاذي

بتبجيلٍ ولاأعظم

ومثلكَ أهلُ تعظيمٍ

من العِرفانِ أن يُكرمْ

صباحُكَ كُلُّهُ أمَلٌ

وإشراقٌ بكم مُفعم

تُزيحُ الهمَّ عن صدري

بوجهٍ باسمٍ أكرم

عليهِ نضارةٌ جَزلى

على الأيَّام لايهرم

تُصَبِّحني بأشعارٍ

وأنت الشَّاعرُ المُلهم

بِإلقاءٍ لهُ وقْعٌ

على أُذُني ولاأنغم

كتسبيحٍ وتغريدٍ

بصوتٍ دافئٍ أرخَم

سلمتَ هدىً لأجيالٍ

تُرَبِّيها فلا تأثم

أطالَ الله في عُمُرك

ومنك العُمرُ لاأُحرَم

  رحمه الله وطيب ثراه وأحسن مثواه وتقبَّله في عِلِّيِّين ووالدتي وجميع المسلمين  والحمد لله رب العالمين

وسوم: العدد 872