الطوفان !

عمر بهاء الدين الأميري

كنت في طريقي إلى الجزائر ، أعزي بإمامها المجاهد الشيخ البشير الإبراهيمي ، رحمه الله ، وتوقفت ليلة في “ جنيف ” بضيافة شركة الطيران.

وفي نادٍ… كنت أجلس وحيداً ، أتأمل الناس ؛ جاءت إحدى المضيفات تجلس بجواري ، وسألتني :

أتشرب هنا عصير البرتقال ؟!

قلت : نعم .

قالت : وهل يمنعك الطبيب من شرب الكحول ؟!

قلت : طبيب الكون الأعظم ، الله ، قد حرّمها ، وأنا مسلم مطيع .

قالت : فقدم لي كأساً من الخمر .

قلت : معاذ الله ، كيف أقدم الأذى للناس ، وقد صنت عنه نفسي ؟!

قالت : وماذا يهمك من أمري ؟!!

قلت : نحن من أسرة واحدة .

عجبت ، وسألت : كيف ؟!

قلت : أسرة الإنسانية ، إنها كلها أسرة المسلم .

قالت : ومن أنبأك أني إنسانة ؟! لقد أُنسيت ذلك من زمن طويل !

قلت : بل إنسانة ! والمسلم لا ينسى الحق .

قالت : دعك من إنسانيتي ! أنا هنا لأمارس حيوانيتي…

قلت : وليس مكانك هنا !

قالت : وأين ؟!

قلت : إلى جوار سرير طفل… في كنف زوج .

فأخذتها حرقة ، وتساقطت من عينيها دموع ، وتمتمت :

ما أرحمك… وما أظلمك !! ذكرتني بإنسانيتي ، فأحييتني حتى أبكيتني !! ولكن ، ما الجدوى ؟! إنسانة ! ولا أستطيع أن أعيش إنسانيتي ربع ساعة ، نتابع حديثنا ؟! فإن عليّ أن أقوم فوراً ، لأمارس “ حيوانيتي ” مع سواك ، وقد أخفقت معك ، لأنها مهنتي ، ونظرات صاحب النادي تلاحقني لذلك ، بضراوة لا رحمة فيها :

طوفان

البائساتُ المائساتُ ، كآلة من غير روحْ

الناشراتُ شذى ، ومن أعماقهن أذى

يفوحْ

الضاحكاتُ ، وقد طوين قلوبهن على جروحْ

آلامُها الحرَّى ، مع الزفرات ، في لهث ، تنوحْ

  •       ●        ●
  •       ●        ●

ولقد يُقال : أَلِفْنَ ما يحيين فيه من الجنوحْ

ونجينَ من رهق العقول من الغموض من الوضوحْ

وسعدنَ بالأيام تمضي بالغبوق وبالصبوحْ

فنقول : بل خدَّرنها وغداً يكون لها جموحْ

ولعل ذا قلبٍ يرى مأساتهن كما تلوحْ

وسلوا الشقاء ، وإنه بئس المصير ، فقد يبوحْ

  •       ●        ●
  •       ●        ●

ما للحياة ، حياة دنيا الغرب ملأى بالقروحْ

الرقُّ فنٌّ ، والتسابق في الضلال هو الطموحْ

و « الجاهليةُ »  هكذا تمضي وإن لبست مُسوحْ

يا ردةَ البشريةِ الرعناء عن هدي سَبوحْ

الطائرُ المكدودُ في الأوداءِ كَلَّ عن السفوحْ

سيغيب في وهداته فكأنه آلٌ سنوحْ

حتى ولو راد الفضاء وشاد في النجم الصروحْ

ما قيمةُ التحليق في الأجواء نلتمس الفتوحْ

والشرُّ في أرض الخلافة من مفاسدنا رَموحْ

يا أمةَ الإيمان نهداً قد كفى طي الكشوحْ

مستخلفون على الحياة أما نشدُّ أما نروحْ ؟!

أين الأبوةُ والهدى ؟ أين المبادرة الطموحْ ؟!

الكَلْكَلُ الغربيُّ والدنيا رزوحٌ في رزوحْ

لا بد للظلمات والظلم المركب من نزوحْ

يهتزّ ميزانُ الدنى والحق أصمدُ للرجوحْ

والدهر قسطاس ، وإن أغضى ، فما هو بالصفوحْ

  •       ●        ●

الآلةُ الصماءُ ، والشهواتُ ، والطبعُ الجموحْ

من ذاتها بأذاتها ، سيهدها قرنٌ نطوحْ

  •       ●        ●

يا نجدةَ الإنسانِ بالقرآن بالخير النفوحْ

إني لأخشى قبل مُنبلج السنا طوفانَ نوحْ

وسوم: العدد 897