أبو تمام .. وعروبة اليوم

عبد الله البردوني

قبل أكثر من أربعين عاماً تقريباً .. في بغداد .. تثاءب بعض الحضور في قاعة (ملتقى المربد الشعري)!!

وأوشك آخرون على مغادرتها!

لمّا قام شاعر يمني (كفيف) ...

بشعره الأجعد ..

وآثار (الجدري) تكسو وجهه ..

وسار بهدوء ...

وهو يمسك بالرجل الذي يقوده ...

وصعد إلى المنبر ...

وهو يمسح أنفَه .. بِكُمِّ معطفِه !

مما أثار بعضا من اللغط .. والدهشة ... في القاعة التي كانت تغصُّ بجمهور حساس محب للشعر..

تنحنحَ (عبدالله البردوني) ... ثم بدأ يقرأ قصيدته ...

(أبو تمام .. وعروبة اليوم)

والتي يعارض بها قصيدة الشاعر العباسي (حبيب بن أوس) الشهير (بأبي تمام) التي يقول في مطلعها:

السيف .. أصدق إنباءً من الكتب ..

في حده الحد .. بين الجد واللعب ...

فألقى (البردوني) قصيدته بصوت أخَّاذ .. جميل .. وبأداء تستحقه تلك القصيدة الجميلة ... فقال:

ما أصدقَ السيف .. إنْ لم ينْضِهِ الكذِبُ .. 

وأكذبَ السيف ... إن لم يصدق الغضبُ ...

أدهى من الجهل .. عِلْمٌ يطمئنُّ إلى ..   

أنصافِ ناسٍ ... طغوا بالعلم واغتصَبوا ...

قالوا .. همُ البَشَرُ الأرقَى .. وما أكلوا ..     

شيئاً ..  كما أكلوا الإنسانَ ... أو شربوا ..

وأدهشت المفاجأة الجميع!

ووقف الحاضرون إعجاباً ... وفي القوم فطاحل الشعراء أمثال:

نزار قباني

والبياتي

وغيرهم

إذ لم يكن من المتوقع أنَّ رجلا كفيفا .. بمثل تلك الهيئة .. يمكن أن يُفاجئ القاعة بمثل هذه الأبيات!!!!

وسجل (البردوني) إبداعه بأحرف من نور ... وهو يخاطب (أبا تمام) بقوله:

(حبيب) .. وافيتٌ من صنعاء .. يحملني نسرٌ ...  وخلف ضلوعي .. يلهثٌ العرب ..

وتصاعد البردوني في إلقائه .. حتى شدَّ الحاضرين من أدباء .. وشعراء .. وجمهور على مستوى عال من الاستجابة ... إلى قصيدته .. وهو يقول:

تســـــعون ألفـــــــاً .. ل(عمّوريـة) .. اتَّقَدوا ..     

وللمنجم  قالـوا :  إننـــــــــا الشُّــــــهُبُ ..

قيل انتظارِ قطافِ الكرم .. ما انتظروا ..     

نُضْجَ العناقيـد ..  لكنْ قبلَها التهبوا ..

واليوم تسعون مليوناً ... وما بلغوا  ..     

نضجاً .. وقد نضجَ الزيتونُ .. والعِنَبُ ..

ماذا أحدِّثُ عن صنعاء .. يا أبتي؟       

مليحةٌ ... عاشـقاها :  السِّـلُّ .. والجرَبُ ..

ماتتْ بصندوقِ (وضَّاحٍ) ... بلا ثمنٍ ..     

ولم يمُتْ في حشاها ... العشقُ .. والطرَبُ ..

وعندما نزل عن المنبر .. ظل التصفيق يتوالى .. ثم التفَّ حوله العشرات .. في القاعة وفي صالة فندق الإدارة المحلية ... وظل يستقبل العشرات من المعجبين .. وهم يُشيدون بقصيدته .. لأنه كان بحق نجمَ المهرجان.

ومن الطرائف ... ان نزار قباني .. قال للبردوني : لم تبقي لنا شيءاٌ نقوله ... فقد اوجزت بقصيدتك .. كل مانريد ان نقول ....  ثم عرفه بنفسه .. وقال له : انا نزار القباني .. ولفضها بفتح النون ... فقال له البردوني : لاتقل نزار بفتح النون ...  بل قل نزار بكسر النون .... لأن نزار بكسر النون .. تعني ندرة الشيء .... فقال له نزار : والله لم اعرف معنى اسمي الا اليوم !!

رحم الله البردوني إنسانا وشاعرا وأديبا.

القصيدة كاملة :

______________

ما أَصْدَقَ السَّيْفَ! إِنْ لَمْ يُنْضِهِ الكَـذِبُ

وَأَكْذَبَ السَّيْفَ إِنْ لَمْ يَصْـدُقِ الغَضَـبُ

بِيضُ الصَّفَائِـحِ أَهْـدَى حِيـنَ تَحْمِلُهَـا

أَيْـدٍ إِذَا غَلَبَـتْ يَعْلُـو بِهَـا الغَـلَـبُ

وَأَقْبَـحَ النَّصْرِ..نَصْـرُ الأَقْوِيَـاءِ بِـلاَ

فَهْمٍ. سِوَى فَهْمِ كَمْ بَاعُوا وَكَمْ كَسَبُـوا

أَدْهَى مِنَ الجَهْـلِ عِلْـمٌ يَطْمَئِـنُّ إِلَـى

أَنْصَـافِ نَاسٍ طَغَوا بِالعِلْـمِ وَاغْتَصَبُـوا

قَالُوا: هُمُ البَشَرُ الأَرْقَـى وَمَـا أَكَلُـوا

شَيْئَاً كَمَا أَكَلُـوا الإنْسَـانَ أَوْ شَرِبُـوا

مَاذَا جَرَى.. يَـا أَبَـا تَمَّـامَ تَسْأَلُنِـي؟

عَفْوَاً سَـأَرْوِي .. وَلا تَسْأَلْ .. وَمَا السَّبَبُ

يَدْمَـى السُّـؤَالُ حَيَـاءً حِيـنَ نَسْأَلُـُه

كَيْفَ احْتَفَتْ بِالعِدَى «حَيْفَا» أَوِ «النَّقَـبُ»

مَنْ ذَا يُلَبِّـي؟ أَمَـا إِصْـرَارُ مُعْتَصِـمٍ؟***

كَلاَّ وَأَخْزَى مِنَ « الأَفْشِينَ » مَـا صُلِبُـوا

اليَوْمَ عَـادَتْ عُلُـوجُ «الـرُّومِ» فَاتِحَـةً

وَمَوْطِـنُ العَرَبِ المَسْلُـوبُ وَالسَّلَـبُ

مَاذَا فَعَلْنَـا؟ غَضِبْنَـا كَالرِّجَـالِ وَلَـمْ

نصدُق وَقَدْ صَـدَقَ التَّنْجِيـمُ وَالكُتُـبُ

وَقَاتَلَـتْ دُونَنَـا الأَبْــوَاقُ صَـامِـدَةً

أَمَّا الرِّجَالُ فَمَاتُـوا ثَـمَّ أَوْ هَرَبُـوا

حُكَّامُنَا إِنْ تَصَـدّوا لِلْحِمَـى اقْتَحَمُـوا

وَإِنْ تَصَدَّى لَـهُ المُسْتَعْمِـرُ انْسَحَبُـوا

هُمْ يَفْرُشـُونَ لِجَيْـشِ الغَـزْوِ أَعْيُنَهُـمْ

وَيَدَّعُـونَ وُثُـوبَـاً قَـبْـلَ أَنْ يَثِـبُـوا

الحَاكِمُونَ و«وَاشُنْـطُـنْ» حُكُومَتُـهُـمْ

وَاللامِعُـونَ .. وَمَـا شَعَّـوا وَلا غَرَبُـوا

القَاتِلُـونَ نُبُـوغَ الشَّـعْـبِ تَرْضِـيَـةً

لِلْمُعْتَدِيـنَ وَمَـا أَجْدَتْـهُـمُ الـقُـرَبُ

لَهُمْ شُمُـوخُ «المُثَنَّـى» ظَاهِـرَاً وَلَهُـمْ

هَـوَىً إِلَـى «بَابَـك الخَرْمِـيّ» يُنْتَسَـبُ

مَاذَا تَرَى يَا «أَبَـا تَمَّـامَ» هَـلْ كَذَبَـتْ

أَحْسَابُنَـا؟ أَوْ تَنَاسَـى عِرْقَـهُ الذَّهَـبُ؟

عُرُوبَـةُ اليَـوَمِ أُخْـرَى لا يَنِـمُّ عَلَـى

وُجُودِهَـا اسْـمٌ وَلا لَـوْنٌ وَلا لَـقَـبُ

تِسْعُونَ أَلْفَـاً « لِعَمُّـورِيَّـة َ» اتَّـقَـدُوا

وَلِلْمُنَجِّـمِ قَـالُـوا: إِنَّـنَـاالشُّـهُـبُ

قِيلَ: انْتِظَارَ قِطَافِ الكَرْمِ مَـا انْتَظَـرُوا

نُضْـجَ العَنَاقِيـدِ لَكِـنْ قَبْلَهَـا الْتَهَبُـوا

وَاليَـوْمَ تِسْعُـونَ مِلْيونَـاً وَمَـا بَلَغُـوا

نُضْجَـاً وَقَدْ عُصِـرَ الزَّيْتُـونُ وَالعِنَـبُ

تَنْسَى الرُّؤُوسُ العَوَالِـي نَـارَ نَخْوَتِهَـا

إِذَاامْتَطَاهَـا إِلَـى أَسْـيَـادِهِ الـذَّنَـبُ

«حَبِيبُ» وَافَيْتُ مِـنْ صَنْعَـاءَ يَحْمِلُنِـي

نَسْرٌ وَخَلْفَ ضُلُوعِـي يَلْهَـثُ العَـرَبُ

مَاذَا أُحَدِّثُ عَـنْ صَنْعَـاءَ يَـا أَبَتِـي ؟

مَلِيحَـةٌ عَاشِقَاهَـا :السِّـلُّ وَالـجَـرَبُ

مَاتَـتْ بِصُنْـدُوقِ «وَضَّاحٍ» بِـلاَثَمَـنٍ

وَلَمْ يَمُتْ فِي حَشَاهَا العِشْـقُ وَالطَّـرَبُ

كَانَتْ تُرَاقِبُ صُبْـحَ البَعْـثِ فَانْبَعَثَـتْ

فِي الحُلْمِ ثُمَّ ارْتَمَـتْ تَغْفُـو وَتَرْتَقِـبُ

لَكِنَّهَا رُغْمَ بُخْـلِ الغَيْـثِ مَـابَرِحَـتْ

حُبْلَى وَفِي بَطْنِهَـا «قَحْطَـانُ» أَوْ «كَرَبُ»

وَفِـي أَسَـى مُقْلَتَيْهَـا يَغْتَلِـي «يَمَـنٌ»

ثَانٍ كَحُلْـمِ الصِّبَـا...يَنْـأَى وَيَقْتَـرِبُ

«حَبِيبُ» تَسْأَلُ عَنْ حَالِي وَكَيْـفَ أَنَـا؟

شُبَّابَـةٌ فِـي شِفَـاهِ الرِّيـحِ تَنْتَـحِـبُ

كَانَتْ بِلاَدُكَ «رِحْلاً»، ظَهْـرَ «نَاجِيَـةٍ»

أَمَّـا بِـلاَدِي فَلاَ ظَهْـرٌوَلاَ غَـبَـبُ

أَرْعَيْـتَ كُـلَّ جَدِيـبٍ لَحْـمَ رَاحِلَـةٍ

كَانَتْ رَعَتْـهُ وَمَـاءُ الـرَّوْضِ يَنْسَكِـبُ

وَرُحْتَ مِنْ سَفَـرٍ مُضْـنٍ إِلَـى سَفَـرٍ

أَضْنَـى لأَنَّ طَرِيـقَ الرَّاحَـةِ التَّـعَـبُ

لَكِنْ أَنَا رَاحِـلٌ فِـي غَيْـرِ مَـا سَفَـرٍ

رَحْلِي دَمِي وَطَرِيقِي الجَمْرُ وَالحَطَـبُ

إِذَا امْتَطَيْـتَ رِكَابَـاً لِلـنَّـوَى فَـأَنَـا

فِي دَاخِلِي أَمْتَطِـي نَـارِي وَاغْتَـرِبُ

قَبْرِي وَمَأْسَـاةُ مِيـلاَدِي عَلَـى كَتِفِـي

وَحَوْلِـيَ العَـدَمُ المَنْفُـوخُ وَالصَّخَـبُ

«حَبِيبُ» هَـذَا صَدَاكَ اليَـوْمَ أَنْشُـدُهُ

لَكِـنْ لِمَـاذَا تَـرَى وَجْهِـي وَتَكْتَئِـبُ؟

مَاذَا ؟ أَتَعْجَـبُ مِنْ شَيْبِي عَلَى صِغَـرِي؟

إِنِّي وُلِدْتُ عَجُـوزَاً .. كَيْـفَ تَعْتَجِـبُ؟

وَاليَـوْمَ أَذْوِي وَطَيْـشُ الفَـنِّ يَعْزِفُنِـي

وَالأَرْبَعُـونَ عَلَـى خَــدَّيَّ تَلْتَـهِـبُ

كَـذَا إِذَا ابْيَـضَّ إِينَـاعُ الحَيَـاةِ عَلَـى

وَجْـهِ الأَدِيـبِ أَضَـاءَ الفِكْـرُ وَالأَدَبُ

وَأَنْتَ مَنْ شِبْتَ قَبْـلَ الأَرْبَعِيـنَ عَلَـى

نَـارِ «الحَمَاسَـةَ »تَجْلُوهَـا وَتَنْتَـحِـبُ

وَتَجْتَـدِي كُـلَّ لِـصٍّ مُتْـرَفٍ هِـبَـةً

وَأَنْتَ تُعْطِيـهِ شِعْـرَاً فَـوْقَ مَـا يَهِـبُ

شَرَّقْتَ غَرَّبْتَ مِنْ «وَالٍ» إِلَـى «مَلِـكٍ»

يَحُثُّـكَ الفَقْـرُ ... أَوْيَقْتَـادُكَ الطَّلَـبُ

طَوَّفْتَ حَتَّى وَصَلْتَ « الموصِلِ » انْطَفَأَتْ

فِيـكَ الأَمَانِـي وَلَـمْ يَشْبـعْ لَهَـا أَرَبُ

لَكِـنَّ مَـوْتَ المُجِيـدِ الفَـذِّ يَـبْـدَأه

وِلادَةً مِـنْ صِبَاهَـا تَرْضَـعُ الحِقَـبُ

«حَبِيبُ» مَـا زَالَ فِـي عَيْنَيْـكَ أَسْئِلَـةً

تَبْـدُو... وَتَنْسَـى حِكَايَاهَـا فَتَنْتَـقِـبُ

وَمَاتَـزَالُ بِحَلْقِـي أَلْــفُ مُبْكِـيَـةٍ

مِنْ رُهْبـَةِ البَوْحِ تَسْتَحْيِـي وَتَضْطَـرِبُ

يَكْفِيـكَ أَنَّ عِدَانَـا أَهْـدَرُوا دَمَـنَـا

وَنَحْـنُ مِـنْ دَمِنَـا نَحْسُـو وَنَحْتَلِـبُ

سَحَائِـبُ الغَـزْوِ تَشْوِينَـا وَتَحْجِبُـنَـا

يَوْمَاً سَتَحْبَلُ مِـنْ إِرْعَادِنَـا السُّحُـبُ؟

أَلاَ تَـرَى يَـا أَبَـا تَمَّـامَ بَارِقَـنَـا

(إِنَّ السَّمَـاءَ تُرَجَّـى حِيـنَ تُحْتَجَـبُ)

وسوم: العدد 933