الآلام والتّباريح

صدقي شعباني

1

مدن تضيق بساكنيها _

ضاقت المدن العتيقة بي،

وضاقت...

فانتضتني من خواطرها _

تلتني في خطاب عابر،

لم ترحم العمر الّذي قضّيته فيها،

ولم ترحم قوافيها،

كأننّي لم أصغ يوما مراثيها،

ولم أزرع حروف مدائحي

في كلّ درب...

لم أهرّب في خبايا الوجد ذكراها _

ولم أرسم على قلبي مجاليها

ولم أعط المدائن في سنين الجدب /

من شوقي لكي تحيا

وكي نحيا /

ونحيا _

آه من مدن التّجنّي /      

                    والتّجلّي!!

2

ضاقت المدن العتيقة بي،

كأنّي لم أكن يوما بحاميها

ولم أرسم بواديها حدود ممالكي /

                                     ومهالكي...

وكأنّني يا أيّها الرّبع المنيخ _

تبعثرت منّي القصائد

فاحترفت اللّيل _

لا يذكي سوى ولهي

فأسكر بالحروف

وتمتطي فيّ القصائد

كلّ بيت من بيوت الشّعر...

يا ألق الجزيرة:

كم أراك ولا أراك!!

ويا اختفائي في حزونك _

في وهادك...

في التّشتّت كلّما (

أوغلت في حدّ المضارب!!)

هذه ليلى تراني _

هدبها _ /

غمّازة في أسفل الخدّ الأسيل إلى اليسار _ /

ونظرة كالسّيف!!

آه من التّطلّع في محيط عيونها!؟

آه من الوجه الوضيء (...)

يعطّر الشّمس الحييّة!!

آه من إقبالها،

وهفيفها

وروائها

وبهائها _

إدبارها،

والسّحر لا يرقى إلى أشيائها /

                                 وسمائها!!؟؟!!

يا أيّها الوجه استعد ما كنت تملك _

في الجزيرة من بذار،

واستعد ما كنت تملك من دوار الشّعر،

من كلّ انتظار،

من نهار لا يكون إذا اختفت فيك الإشارة /

                                      والعبارة /

                                      واختصار الشّوق

يعتقه الإسار!!؟؟!

       يا أيّها الطّلل:

       _ الجزيرة لم تعد تعطي الجزيرة صبرها؛

       ظمأى رواحلها _

       الجزيرة لم تعد تعطي الجزيرة موتها وحياتها؛

       جفلى مرابعها،

       وشاء القوم جاعت،

       أجدبت كلّ الصّحارى،

       ما تبقّت في بوادي الشّام غير مآذن وصوامع  

_

      كانت هنا رهبان بصرى،

      والحجاز هو الحجاز _

      كانت هنا عرّافة وعرافة،

      وعصا تهشّ على القوافل والبعير،

      تسارق اللّحظ المولّه للصّبيّ /

      إذا انتحى ركنا قصيّا _

      تختفي بين الموائد والقدور الرّاسيات،

      وتحتفي بالقوم _

      تسائلهم:

      عن الصّيف الّذي ولّى،

      ومن نفقت تجارته،

      وعن سادات بيت اللّه،

      من منهم رأى الإيوان؟!

      من ذاق الخمور

      ومالأ الصّبيان في سوق العبيد؟!

3

_ أنا بحيرى _

يا ابن شيبة _

هذه كتبي وأورادي وعلمي _

هذه كلّ السّنين وراء ظهري،

هذه ترنيمة الإنجيل فاسألني أجبك /

أو خلّني أسألك عن ذاك الصّبيّ:

_ لمن يكون؟!

_ ومن يكون؟!

قل يا ابن هشّام الثّريد؛

قل يا ابن شيبة _

إنّني ما جئت من سغب الصّحارى،

ما تعرّت جمّتي _

إلاّ لكي أقتات من نفس الحجاز...!!

قل يا ابن شيبة _

إنّني ما اخترت أن أنأى

وأن أجتثّ روحي من بقاياها العريقة،

ما رغبت عن الحرير،

وروضة الرّيحان

والحور الجميلات اللّواتي ما طمثن

وقهوة...

كم كنت أرجو لو سكبت مدادها في راحتيّ،

وما تنامت لحيتي،

ما استصحبتني الوحش واللّيل الغريم

وما نسيت أوائلي وخواتمي

إلاّ لكي ألقى الغلام _

فلا ترغ _

إنّي أراه هو النّبيّ...!!

4

   (وأنا بحيرى لا أنام وأهجر الأصحاب إن ولّى النّهار، وكلّما أثبتّ نجما نافرا في اللّيل صحت: _ إلى متى الإسراء؟! كم... كم شقيت أيا بحيرى! كم حفيت! وكم بليت فما ابتليت!! أنا بحيرى، سمّيت باسمي النّجوم جميعها، والأرض جاعت فاحتضنت مذاقها، كانت روائي واحتراقي... كانت العقبان عقباني، وكانت كلّها الوديان ودياني، وكلّ الشّمس شمسي، والحجاز هو حجازي... آه، لكن حرفه ما غاب عنّي، ريحه، استحضاره من قبل أن يهفو الفؤاد إلى الفؤاد!!؟ فيا حروف سطوعه، يا كلّ خطو من خطاه، ويا رؤاه، ويا كلامي حين ألقاني سميّ الرّوح، تسمو كلّ نفسي... فانتشر، يا أيّها الإنجيل، مدّ وساطتي تلقاه فردا، مدّ أوردتي / دمي!! يا ليتني ألقاه عبدا، ثمّ مثنى... يا حروف ضراعتي كوني ثلاث، وكلّما هزّت ترانيمي الجوارح كلّها، مدّي ومدّيني رباع...)

       أنا بحيرى:

       _ ربّما كنت امتلكت!؟

       _ وربّما كنت احتملت!؟

       _ وربّما كنت انتسبت إلى الدّيار وطيبها!؟

       _ ولربّما كنت اشتريت!؟

       _ وربّما كنت ارتويت من النّساء،

       عشقتهنّ،

       ولدن لي ألفا من الغلمان؛

       ملّكت الحرائر كلّها،

       قرّبت قيصر من دياري، من دثاري،

       كان لي مثلي،

       ومثل النّبض للقلب المعنّى،

       مثل نار ألهبت ظهر الرّماد،

       ومثل عمر عاش في عمر الصّقور

       وما بلي!!

       ( لكنّ قيصر خانني!!؟! )

       _ ولربّما كنت اعتنقت ديانة الآباء يوما

       وامتثلت لأنّني جرّبت حبّ الغيد:

       أغوتني العيون وسحرها

       فرشفت من أكنافها

       وغرقت في أغوارها!!

       _ ولربّما...

       _ ولربّما...

       حتّى انتهيت إلى الحجاز

       فكان لي!!

5

   (... اللّيل يخشى أن أصارحه فيأبى أن أحدّد وجهتي فيما انتشلته من هسيس رطانة أودعتها سرّي ولم أفهم رموز الشّوق فيها، علّني إن نمت أو حاولت نوما ترجمت كلّ الرّموز إلى لغات، واستلمت الحرف أشتاتا، فجمّعت الحروف إلى اتّساق مدارها، ونذرت نفسي للنّداء: إلى مزاري، يا حجيج البيت، ركبانا، زرافات، ووحدانا؛ إلى فيئي وظلّي إن تشاءمتم، أو أعرقتمو، أو... أو تيامنتم؛ فهذي أضلعي، من كلّ ضلع مهّدوا شوطا، فسيروا سبعة، روّوا التّراب بما تيسّر من حنين البيت... روّوا أعظمي من قطر مكّة إنّ قسطنطين أهلك عترتي وجبى خراجي، والقساوسة الّذين تأوّلوا، وتآمروا كانوا استراحوا من أناجيلي الّتي ما كنت أرضى أن أدنّس عطرها بفصاحتي، وأوارب الكلمات حتّى تختفي كلّ الصّفات، وتسقط الصّلبان في صدر الحجاز... كلاّ وربّي، ربّ إبراهيم، ربّ الأوّلين، ربّ موسى والمسيح، طعنتهم بالسّفر إثر السّفر، ما خفت الصّكوك، ونقمة الحرمان، كانوا خمسة وازدادوا عشرا، كانوا عصبة وازدادوا في حمّى الضّجيج مثانيا ومثالثا، وأنا بحيرى واحد، لا ربّ لي إلاّ الّذي قال:

       _ الحجاز هو المعاد!

       الأخشبان هما اللّذان /

       تنافسا في ضمّه...

       تنافست كلّ المراضع } في {

       اقتسام سنيه _

       مهّدن الثّرى لصباه...

6

(... خلت المدائن... قارف البحر اختفاءه... شمعة في بطن حوت أو نبي... أو صليل / ربّما صوت وصار الصّوت نجوى أو نداء: إنّني آمنت في التّيه الأخير... وهذه كلّ الحليّ نسفتها نسفا، وهذا السّامريّ رجمته ولعنته: لا ماء يشرب لا طعام، ولا مساس ولا منام... / سلام إسرائيل والتّوراة والعشر الوصايا أنت آخذه فخذه باقتدار الأنبياء، أيا كليم، وإن رجعت فمكرهم ما كان أوّل ما عرفت ولا أخيرا سوف تعرفه، فلا تغضب ولا تمسك بلحية من سألت بأن يكون لك الظّهير وأن يكون لك الوزير...)       

7

_ إنّي غفرت

/ بلى غفرت / !!

وكنت خالقهم،

فقلت:

"لتكفرنّ بما منحت...

آباءكم؛

ولتهزمنّ وتقتلنّ،

وتتركنّ بقيعة...

ولتذكرنّ بأنّني:

فضّلتكم...

وأمرت موسى /

أن يذيب الصّخر ماء

فاستقيتم،

وارتوت أسباطكم؛

ثمّ انزلوا مصرا فقولوا:

_ حطّة!

نغفر لكم من كلّ ذنب _

أيّ ذنب قد غفرناه لكم!

ثمّ اشربوا من مائها،

ثمّ كلوا من بقلها /

         من فومها /

              قثّائها...

إنّي غفرت _

فلو صدقتم،

اقتلوا أبناءكم،

ثمّ اقتلوا أشياعكم ونسائكم؛

يا أيّها الرّهط الّذي أدنيتهم،

يا أيّها الرّهط الّذي نجّيتهم _

أنزلت سلواني عليهم،

ثمّ منّي...

وانتصرت من الّذي استحيا /

                                   الحرائر

والسّراري:

كم عفوت فمار رعيتم حرمتي!

كم مرّة أودعت فيكم حكمتي!

ونفثت من سرّي وآياتي _

إلى أخياركم...

وقضاتكم...

وملوككم...

ونذرت موسى كي أكلّمه نجيّا _

كان مرضيّا صفيّا، اقترب من

جانب الطّور الّذي باركت فيه،

وخذ من الألواح ما أعطيته،

قال النّبيّ لربّه:

يا ربّ هل

أحظى برؤياك العليّة، هل

أكون من الّذين تنعّمت

أسماؤهم من نسل آدم والخليل

ومن حملت على السّفينة من

بني نوح وكلّ الصّالحين، أيا

كليم، إذا تجلّت طلعتي للطّور

فانظر، إن تر الطّور استقام

فقد رأيت، أيا كليم تصدّعت

أركان طورك، قال موسى:

إنّني آمنت أنّ الله ربّي واحد،

لا شيء يشبهه

وليس له حلائل،

لا ولد."

( _ وتقدّست أسماؤك الحسنى _

                                إلهي!!)