عذابات ديك الجن الحمصي

عذابات ديك الجن الحمصي

د. حسن الأمراني

[email protected]

فاتحة:

هيا ربّاه كيف حملت على نفسي

على أمر ويكرهه ضميري

وكلّ قبيلة يوماً ستفنى

إذا سكتت على ظلم الأمير

ومن تكن المعيشة أعجبته

فطيب العيش في عظم الأمور

(1)

العندليب جاء يشكو حرقة الشوق إلى سلطانة الطيوب

فقالت الوردة: يا أعذب عندليبِ

إذا تكنْ حبيبي

لا تسقني من دمعك السكوب

فليس وقت الدمع هذا

            واسقني من دمك الصبيب

هيا اسقني من دمك الأخضر

فالدم لا يُقهرْ

أريد أن يروي عروقي بلدي

فلتسقها من دمك المعطار

وازرع تراب بلدي رجالا

وبارك الأبطالا

فالليل طال يا حبيب الروح واستطالا

إن كنت حقّا عاشقاً

فاجعل صداقي دمك المدرار

من أربعين سنةً يأكل عمري سيف الانتظار

من أربعين سنةً يصلبني العدوّ،

والعدوّ ليس بالمغول، يا حبي، ولا التتارْ

من أربعين سنةُ يجلدني الوحشُ

                     ويفري الجلد بالأظفار

لكنَّ عين بلدي احتقار

لبطشه، لعرشه المنهارْ

إن كنت حقا عاشقاً فقم إليه،

لا تشقَّ بعصاك البحر، يا معذّبي،

بل شُقّ صدر الوحشِ، واجعل دمه الفوّارْ

مهر العروس، لا تقابل ناره بصدرك العاري،

وجرّدْ نايك السحريّ، إيمانكَ،

                         سبفَ النار والإعصارْ

(2)

حَرَّكَ صبحاً نايه، فردّد الصدى

أنشودة المستضغفينَ في المدى:

من خطّ حرفا واحداً فيما سوى الثورة فليمحُه

أما رأيتم وطني متَّسعاً جرحُه؟

(3)

أما رأيت خولةً نقفور قد طاف بها

                        عبر ميادين حلب؟

فأين  لا أين  ترى نخوة فارس العربْ؟

يا أيها الغافون، من سيضرم اللهب

في همّة أضحت قرينة العطب؟

(4)

 لما رأيت طفلة غارقةً في الدّمْ

ساقطة للفمْ

وولداً مُقَتّلاً

لأنه أبى الركوع في شمم

للحاكم الصنم

أيقنت أن الدّم لا يمحوه إلا الدّمْ

(5)

 ألوذ بالنومِ

لعلني أنسى الذي ألقاه من قومي

يهجرني نومي

والكأس لا تسعفني في الفوز بالحلم

فكل ما راشوه من سهمِ

يسعى إلى...لحمي

(6)

إن كنت حقا عاشقاً

فاجعل حراب الشوك من رعيتي

كي أمنع الأطفال من أظافر الوحش

                     الذي يصول في الميدان

إن كنت حقا عاشقا

فارفع عن الأرملة الخرساء ثوب الحزن

                      كي يرتفع الأذان

(7)

يُبْعث ديكُ الجنّ من رقدته

ليبصر المدينة الحزينة

غارقة في دمها

قد هجرت ربوعها السكينة

أهذه حمص التي أعشقها؟

أهذه حمص التي كنت إذا جاء المساءُ

                               موهنا أطرقها؟

فتحتفي بي عاشقا، وتخفض الجناح لي؟

كيف سطا الليل على أبراجها، وذبَّح الحمامَ؟

                  كيف استوطنت ربوعها الغربان؟

وانتحر الإنسان؟

(8)

ردينة التي لقيتها على درب دمشق مرّةً

صبيّة يزيّن الصليب نحرها العتيق

رأيتها بعد سنين جثة على الطريق

شاهدة على ضراوة "الرفيق"

كانت ردينة تقول لي

 وقد سألتها عن جذمها العريق:

نحن ثلاث أخواتٍ، وأبي اختار لنا الأسماءْ:

ردينةٌ، جهينةٌ، مزينةٌ،

كان أبي يحبّ ما أورثه الآباءْ

أواه يا ردينة،

ماذا جنيت كي تكوني الآن تحت قدم المسلّة السمراءْ

ذبيحةً، مسمولة العينين، تحت بصر الأبناء

مقطوعة الأثداء؟

(9)

أسير في سوق الحميدية مفرداً

       فيدعو الحكواتي خطوتي الخرساءَ

ملوّحاً بسيفه، وقارعاً طبوله الجوفاءَ:

سوف يجيء البطل الصنديد كي يحرّر الأميرة الصلعاءَ

وبين لحظة وأخرى ينزل السيف على درقته الثكلى النحاسية

فيرسل الجمهور تحت ضربة الصارم صيحة رمادية

سوف يجيء البطل الصنديد يا شآم

ممتطيا سرحانه المقدام

بغيته كسر الحواجز الزجاجية

وبعد حين يمسح النعاس ما قد علق العينين من أحلام

الحكوانيُّ الحزين كان في ضلوعه ضرام

والناس عن مأساته الخرساء كالعميان

أيتها الحشود، يا أغنية اليأس الخرافية

خبّأتُ حُزْن سنوات القحط في ضربة سيفْ

كي ينطوي يوما جدار الخوفْ

وها هو الجدار

بعد سنين..ها هو الجدار

كالقصر في إسبانيا ينهارْ

فليرحل الآن تمور لنك، شقيق الذلّ والبوار

ليطلع النهار.

(10)

توقف الزمنْ

عقارب الساعة لا تدور..

           من يعدّ لي الكفن؟

إذا أنا لم أنصر الوطنْ

ولم تكن لعزّه دمائيَ الثمن؟

(11)

إن كنت حقّاَ عاشقاً

صُغْ لي من العزّةِ، لا من لؤلؤٍ وهّاجِ

أو سطعة الديباجِ

أساوري وتاجي

(12)

لمن تعدّ هذه الأقداحْ؟

لغضبة الرياحْ؟

لمن تعدّ هذه البنودْ؟

للصمت..للحودْ؟

قينتك البيضاء لم يبتلع الرّمادْ

ما اتّشحتْ به من السّوادْ

الأدعياء الكذبة

تخرّصوا عليّ يا دمشقْ

من دون وجه حقّ

لم أقتل الجارية المعذبة

لم أحرق الجثة قطُّ،

ما سكبت دمها كي أشربهْ

لكنّني خبأتها عن أعين الحسّادِ في قلبي،

     ولم أطفئ بقلبي غضبه

غضبُ قلبي في غدٍ أطلقهُ

كي يجرف الطغاة

وتبدأ الحياة

(13)

كان أبو خلدون في سوق (البزورية)

يهيء الحلوى! وفي عينيه أغنيّة

لمن ؟ لمن تهيء الحلوى؟

وهذه تدمر في غربتها

جارية مسبية

تجأر بالشكوى

حزنا على فتيتها المرمية

بسجنها المطمور في صحرائها المنسية

قال أبو خلدون، والدمعة خلف بسمة ورديّة:

هيأتها لقادمٍ بعيد

يحمل في معطفه صباحنا الجديد

ظننت يهذي.. كتمت السر والنجوى

وعندما تطاولت رصاصة الوحش على مئذنة نديّة

أبصرت من بعيد

فارسها العتيد

يمنح شعبي، صانع الملاحم الأبية

قوساً وأبجدية

أولها الحريّة.