الـمـقــامات

شعر:د. حسن الأمراني

[email protected]

 

 مقــام الشــوق

ما بالُ فاسَ اليوم أبهى من عيون العاشقينْ

وغبار خيل الفاتحينْ؟

وسَـبُـو؟ لمن غنّى،

فغطّتْ شاطئيه بلابلُ النجوى

وأبحرتِ العذارى في عُبابٍ من حنيْن!

والسيّد البدويّ؟

كيف يشدّ من طنطا الرحال هنيهةً

ليرى مريديه الذين تجمّعوا يوما بباب أبي الجنود،

ليشهدوا في خرقة الفقراء نور السالكينْ

تركوا الذي من أجله خرجوا

فقد ثملوا بكأسٍ من يقينْ.

السيد البدويّ يذكر كيف دسّ الشانئونَ

له أعاصير الغواية في أساور غادةٍ

مزهوّةٍ ببهائها الغض المبينْ

لم يعتقله زُخرفُ الدنيا،

وغضّ الطرفَ عن سلطانها الذاوي

                        وأسلم للحنينْ

مجدافه،وبكى !

      وقد ملكتْ جوانحه أعاصيرُ الجنون:

خذني إلى ملكوتك الوهّاجِ

خذني يا حبيبي،إنني أدركت بالحبّ اليقين.

 

 ظمآنَ يخلع خرقة الدرويش:

هل يصغي الدراويشُ العراه؟

هل يعلمون بأن خرقتهم ستارٌ يحجب الرؤيا؟

وهل يدرون أن تأوّهَ الفقراء يفضي للمتاه؟

خالطْ جموعَ الشاردين من الشياه

خالطهمُ واصبرْ لينفتح الطريق إلى الحياه

يا أيّـها الدرويش:

"ما في الجبة الورقاء إلا الله"

                                     وسوسة العصاه

فاهتف إذا انفتح الطريق إلى الحبيبْ:

حمداً لك اللهمّ،أنت وهبتني سرّ الحياه

حمداً لك اللهمّ، أنت وقيتني شر المتاه

ومنحتني بصراً حديداً فانطلقتُ إلى مرادي

واخترقت الحُجْبَ!

ظلمةَ قبريَ المحفوفِ بالأهوالِ،

يا سُـبْحانك اللهمّ،

أنت كشفتَ ما بي من كروب.

 

 سُـبْحانك اللهمّ،فاسُ اليوم واحه

وهبتْ فتاها ما يطيب  من الهوى

وشفت جراحه!

من قال:فاسُ تمدّ خيط الشوق نحو مدائنٍ

مجبولة بالنورِ؟

أو من قال:إن عرار نجدٍ في حمى البطحاءِ

ينسج للشريد المستحمّ بشوقه الدامي وشاحه؟

وأبو عنانِ من عناقيد المرينيين

يعصر للفتى المجنون راحه!    

     

مقــام التوبــة

يَـدٌكِ البهـيّـةُ نعمةٌ من خالقي

مرّت على جدثي

فأحيت دارساَ

من خفقةٍ موصولةٍ بحقائق

بحرٌ من الكلماتِ يغدقُ بالعطايا

عدتُ من  أعماق بزوارق

مملوءة حبّا ..وتوبة صــادق

هي توبةٌ هـزّت بجذعي الباسق

فاسّاقطَ الجذع الغريبُ

بما تناثر من فؤاد شائق

ورجعت من شطآن مملكة الأميرةِ

مونقا ومرنّقا بحدائق

قدسـيّـةِ الأثمار لم تحلمْ بها

مـن قبل ريشة شاعرٍ

كلا ولا امتدت إلى عرصاتها

من قبل مقـلة عاشق

ولآلئٍ عزّت على الملاّحِ

أبحـر فُـلْـكه المـوّارُ

في بحرٍ من الظلماتِ.

أفدي مُغْـرقي في البحرِ

بحر العارفينَ

فصرتُ أكرم غارق

 

 سيّرتُ زورقيَ الضعيفَ سنينَ

لا مجدافَ من غضبِ المياهِ يجيرني،

لا زاد في سفري الطويلِ

يكادُ حِمْلي يقصمُ الظهر النحيلَ

أسـى وتوشكُ نفخةُ الريح الغضوب

                       تثير لفح حرائقي

سـيّـرتُ زورقيَ العليلْ

في لجّة الشهواتِ

حتى كاد يخذل همّتي العُـمُـرِ الجميلْ

فإذا يَـدُ الأقدارِ

تفتح لي برفقٍ

بابكِ الورديَّ، أيتها الأميرةُ،

وهْي تهتف بي:لقد أزف الرحيلْ

وجوادُ توبتك المجنّحُ

قد أضرّ بجسمه طول الجمامِ
وأشعلت في جوفه الأشواقُ أنّاتِ الصهيلْ

فإذا ركبتَ الآن يا حيرانُ.

فانعمْ بالدخول.

 

 مـقـام المريــد

مولاي، أتعبني المدى

وجياديَ الثكلى تحيط بها الذنوبُ

والشمس تومئ لي أشعّـتُها:

لقد أزف الغروبُ

أو لم يصحْ في عارضيك الشّـيْبُ؟

             يا مغرورُ، قد نصح المشيبُ

وأنا الغريبُ

وأنا المشرّدُ في الدروبِ

            وتبتغي دميَ الدروبُ 

وأنا الذي ضيّعتُ عمري في التماس الشوقِ،

هل لي من سبيلٍ بيّنٍ للشوقِ

أم للشوق أجنحةٌ إليكِ

       إذا جيادُكِ مسّها يوماً لغوبُ؟

 

وأنا الذي ضيّعتُ عمري بانتظار نواله

وأنا الذي سيّرتُ آمـالي  ببحر جماله

يا قلبُ، أين دليلك الهادي

إلى عرصات طاعتك التي حُجِبتْ

لذنبٍ عن محاسنها القلوبُ؟

طوّفتُ أزمنةً،

وطوّح باشتعال الأمنياتِ البيضِ

                      ما في أمره حار الطبيبُ

حتى إذا كادت خوابي اليأسِ

تسقي روحك الظامي

                     ويضطرم اللهيبُ

كشفت يدُ الأقدار ما احتجبا:

يا أيّها الساعي إلى عرصات توبتك الأخيره

ليكن جميل الصّبر أمّاً،في الرضا، وأبا

واركب مع الأسحار أجنحة البكا

واصحب مع الإبكار من يرجون رحمته الأثيره

لا شيخَ يملك أن يردّ عن الفؤاد

                     جحافل الظُّـلَمِ المغيره

لا شيخَ إلا أن تقوم على بصيره

وتسير في درب مشاه الأنبياءُ

 فإن شيخك أنت بارقةٌ من الملكوت تهمي

أو يدٌ برّاقةٌ بأساور التقوى

تمدّ إليك من خلف النجومِ

 قصيدةً خضراءَ تنسجها أميره

 مقـــام المجاهـــدة

 يا أيها الساعي إلى الفردوسِ

               إن كُشف الغطاءْ

فاعلم بأنّ النهر ليس سوى ابتلاءْ

واحذر تألقه فكم من ظامئ لمّا تقحّمه هلكْ.

لك غَـرفةٌ يا أيّها الباغي عراجين البهاء

لك غَرفةٌ..ثمّ السلام عليكمُ

يا أيّها الأحبابُ إنّي راحلٌ

متمسّكٌ بحبال من قبلي سلكْ.

ويجـيئني صوتٌ عظيمٌ أكرمُ:

 ما أصعب المرقىّ، نعم،

لكنني خبّأت لكْ

ما ليس تبصره العيونُ

           وليس يحويه فلكْ

هيّأتُ لكْ

يا عبدُ منزلةً، فمن ياقوتها الوهّاجِ،

تقتبس العيونُ ضياءَها

تجد القلوب شفاءَها

ويسير في جنّاتها المشتاق وهْو منعّمُ

هي غايةٌ من دونها بيض الحمائل

هي غايةٌ من دونها حمـر المناصل

فاركب..وسبّحْ في الغداة وفي الأصائلْ

واصرف هواك إليّ وحدي

لا تلتفتْ.. لتكون عبدي

 أأعـزّ مـمّن رحمةً أكرمْـتُـه

وجعلته، يا عبدُ، عبدي؟

مــقام الحــبّ

 كُشف الغطاءْ

لا ظلّ في الصحراءِ

ندفن فيه غربتنا

ولا أنداءُ بارقةٍ يواسينا

ولا قمرٌ تألّق في سماه

لا  غيمةٌ تحنو على ظمأ الغريب، ولا مياه

لا نسمةٌ عذراءُ يا قلبي

    تمدّ إلى مرابعنا شرايين الحياه

وضربت في الفلوات أزمنةً

إلى أن جفّ عود العمر من سغبٍ

             ومن عطشٍ تشقّقت الشفاه

فإذا صبا نجدٍ يبشّرني بنجمــه

وبظلّ غيمـه

ويقول لي: من سرّه أن يستظلّ

            بواحة خضراء لا تبلى محاسنها

         فإن الحبّ شمس المدلجين

الحبّ مشكاة اليقين

 

ولَـرُبَّ طَيْفِ أميرةٍ،

كجُمانة البحريّ،

أو كالكوكب الدريّ،

مسّكَ من بعيد ريحُـها الموعودُ

فانفتحت مصاريع الشهادةِ،

قد طلبت المرتقى فاصعد إلى ربّ كريمٍ.

رُبَّ طيفِ أميرةٍ،كالشمس تحت الغيمِ،

جلّلها لباسُ العشق والتقوى،

تراءت من بعيدٍ،

حين ضمّخك اسمُها

غمرتك، عند الشاطئ المجهول،

            أمواجُ التواريخ العتيقة:

كان إبراهيمُ يهجر أرض حرّانٍ،

وتحت ردائه شمسٌ مكرّمةٌ،

يقول عظيمُ مصرَ: تهيئي،

 فتهيّأتْ وقنوتها حصنٌ،

تناول غيمَها الساري يدُ الجبّار،

 فاضطرب الدلاءُ،

تحجّرت يدُه،

 يقول فدتك مصرُ وما حوتْ مصرٌ،

بربّك أطلقي كفّي فديتكِ.

كان إبراهيمُ في صلواته الفيحاءِ

يسكبُ دمعةَ الإخلاص في المحراب،

لا زادٌ كهذا الحبِّ

يا شمساً مكرّمةً يُـفَدّيها بنو ماء السماء.

 

كُشف الغطاءْ

فانعمْ بحبّك،واستقمْ،

واسلكْ طريق الأنبياءْ.

مــقـام الـخـوف

                      "ولمن خاف مقامَ ربّـِه جنّـتان".

                                       سورة الرحمن:46

 (أحبّكَ) زادي هنــا وهنالك

فمُـنَّ عليّ بحسـن وصـالك

 

وما بين وعدِ وبين وعيـــدٍ

يجـرجرني زورقي المتهالــك

 

وعيدك يُسلـمني لذنـــوبي

ووعــدك يُطمعني في نوالك

 

وكم أسِـرَتْ خطواتي الخطايا

فنـادى منادِ:ترفّقْ بحالــك

 

وكم غادةِ مثل دوريس حسنا

وورّيتُ عنهـا بسرحةِ مالك

 

ولمّا تجلّت كبرقٍ يمــــانٍ

رأيتُ عليها بديع جمــالك

 

فلمّا اشرأبّ إليهـا الفـؤاد

تضعضع من نفحات جلالك

 

وأنت مننتَ وطوّقت ذاتي

بفيض عطاياك قبل سؤالك

 

إلهي وعالم سرّي وجهـري

ومالك أمريَ.. يا خير مالك

 

أجـرني إذا زلّت النفس يوما

ومن ذا سواك يقيني المهالك؟

 

وهل غير نورك يهدي فؤادي

إذا ما ادلهمّت بعيني المسالك؟

 

إذا أدلج القلبُ قال الضـــمير:

حنـانيك ليس الطريق هنـالك

 

وإن أبحرتْ بي رياح الجنــون

وقالت:تمتّـع بطيب ظلالـك

 

فهذي الملذات طوع اليميـن

وتلك الأمانيّ رهن شمـالك

 

أقول: اطمئني فلستُ يقينـــا

سوى هالك في الهوى وابن هالك