نبضٌ على بابِ السّماء

نبضٌ على بابِ السّماء

شعر: أحمد السيد

الأرض ليلاً..

الأرضُ ليلاً غابةٌ

سَكْرى بأقداحِ الخِصامْ

الوَحشُ فيها لا يَنامْ

الوحشةُ السوداءُ تأكلُ كلَّ أُنسٍ أوْ بصيصٍ من وئامْ

لمْ يبقَ فيها غيرُ أشباحٍ تعذّرَ أنْ تَنامْ

يَتجرعونَ الجوعَ منْ عامٍ لعامْ

عاشوا رَماداً في سبيلِ الآخرينْ

والآخرونَ يُدبّرونْ

ويلاً بليلٍ كُلَّ ليلْ

حتى تَكُفَّ الأرضُ عنْ دَورانها

حتى يَنامُ الليلُ في هذا المُقامِ.. بلا قيامْ

ويُقهقهونَ مُردّدينْ:

قدْ أقفلَ التاريخُ بابَهْ

والأرضُ، كلُّ الأرضِ، غابةْ

*   *   *

الأرض في وضح النّهار

الأرضُ في وضحِ النَّهارِ فضيحةٌ

تبقى تدورُ وكُلُّ ما فيها دُوارْ

بَحرٌ كبيرٌ لا ضفافَ لهُ.. ولا

تجري على أمواجِهِ الحُمرِ السّفائنْ

والناسُ أسماكٌ تعومُ، بغير ماءٍ، في الدّماءْ

يَتنازفونَ ويأكلونَ ويُؤكلونْ

.. حتى الجُنونْ

*   *   *

الأرضُ اليَباب..

في هذه الأرضِ اليَبابْ

نِيْرونُ يجلسُ فوق أهرامِ الجماجمْ

روما حريقٌ أو خرابْ

آهاتُها، تحتَ الرُّكامِ، تموتُ.. كَيْ

تَحيا الهزائمْ

فالقِرشُ –وهو الوحشُ- منتصرٌ بِلا

أيِّ ارتيابْ

الجنّة الغَنّاءَ أحرقَ.. لا لشيءْ

إلا ليُمتِعَ نفسَهُ

بأثيرِ شَيءْ

فالوحشُ باتَ مثقَّفاً

ما عادَ يَرضى اللحمَ حَيّْ

عنْ صَدرِها.. الغَبراءُ قدْ

كَشفتْ وأعطتهُ النّفائسْ

فرأى بَنيها قيدَ نابِ حديدهِ

مثلَ الفرائسْ

والبأسُ فيهِ أُهينَ حين عَوى ولمْ

يظهرْ مُنافسْ

هوَ ذا يُداعبُ جَروَهُ

كالرأسِ حَرَّكَ ذَيلَهُ:

يا خادمي

يا عابداً قِرشي

يا مَنْ يُسبّحُ خاشِعاً

ومُمجّداً بَطشي

إنّي ربطتُكَ مُحكِماً أمري

فأُصبتُ بالخُسرِ

إذْ كنتُ قبلكَ رابطَ الجأشِ

فأهانَ رأسُكَ حبلَ بأسي.. ها أنا

أُدْعَى أخيراً رابطَ الجَحشِ!

*   *   *

طِفلُ الجمال.. بدرُ البَهاء..

في هذه الأرضِ التي يَعلو على أشلائها

بالنّارِ قابيلٌ كما الوحشِ

بالقِرشِ مُفترسٌ كما القِرشِ

قدْ ضاعتِ الألوانُ، ماعَ دَمُ الجُدودِ، ولَمْ تَعُدْ

للنّاسِ أصواتٌ ولا طعمٌ ولا أسماءْ

كُلٌّ –وقد خُلطَتْ- لَهُ

رقمٌ كفئرانِ التَّجاربْ(1)

سقطتْ طيورُ الحُلمِ يخنقُها الدُّخانُ مُسَرْطِناً

رِئةَ الفضاءْ

وهوى الخيالُ بصعقةِ الصُّورِ التي ازدحمتْ بِها

شاشاتُ وحشِ الكهرباءْ

: طارَ الحديدُ إلى السّماءْ

طارَ الحديدُ إلى تَبيعِ الأرضِ، ساعتِها، ومصباحِ الليالي،

والمُمَغْنِطِ: كُلَّ عَينٍ.. كُلَّ قلبٍ.. كُلَّ حرفٍ.. كُلَّ ماءْ

يَلهو كطفلٍ بالحياةِ.. إلى نِهاياتِ العَياءْ

ليَنامَ آخرةَ الزَّمانِ على سَريرِ المُستقرّْ

طارَ الحديدُ إلى المُدلَّلِ بالأغاني والمُكرَّمِ بالسُّوَرْ

طارَ الحديدُ إلى المَلاكِ مُلألِئاً

بينَ النُّجومِ كيُوسُفٍ بجمالِهِ

وكأنَّهُنَّ –وكلُّهُنَّ زُليخةٌ-

يَنْحُلْنَ حولَ بَهائِهِ

بالحُبِّ.. باليأسِ المَديدِ منَ الوِصالِ.. مدى الليالي.. بالسَّهَرْ

طارَ الحديدُ إلى الذي

قدْ هَلَّ بَدراً منْ ثَنيّاتِ الوَداعِ.. على قَدَرْ

وأتَى الوُجودَ مُجدِّداً

كالغيثِ وجهَ الأرضِ.. كالآياتِ أرواحَ البَشَرْ

.. حتى إذا قَطَعَ الفَضاءَ الشاسِعَ اصطدمَ الحديدُ بصخرةٍ

خَرساءَ.. لوْ نَطقتْ لقالتْ: لنْ تجدْ

فوقَ القمرْ

ذاكَ الذي تَدعونَهُ

في أرضِكمْ

في ليلِكمْ

باسمِ (القمرْ)!

وَيلَ البَشرْ!

وَصَلَ الحديدُ إلى السّماءْ

وإذا القمرْ

لا وَجهُ ليلى.. بلْ سُكونٌ من حَجَرْ

لا نارَ فيهِ ولا مَطرْ

لا شِعرَ يَنبضُ، لا شُعورَ ولا طيورَ ولا شَجرْ!

لمْ يلقَ (نِلْ أرْ مِستِرنْغُ) هُناكَ منْ أرواحِنا

شيئاً.. فقدْ ربِحَ الحديدُ ولمْ يَفُزْ

حُلمُ البشَرْ

يا ويحَ وجهِ الشَّهرِ مَخسوفاً و(مَكسوفاً) بأفعالِ البشَرْ!

: وَطِئَتْهُ قِطعةُ كهرباءْ

ما عادَ فاكهةَ السَّمَرْ

ما عادَ يُؤنسُ عاشقَينِ بجُملَتينْ

ما عادَ يُلقي في جُيوبِ الشِّعرِ ألفاظَ اللُّجَينْ

ما عادَ يَذرِفُ للحَزانى، كُلَّ ليلٍ، دَمعتينْ

ما عادَ وَعْداً للسُّراةِ: الظّالمونَ إلى زَوالْ

أيْ: أنَّ بَعْدَ دُجا المُحاقِ وِلادةً

تُهدي بِغُرّتِهِ الهِلالْ

فَلَقَدْ هَوَى

منْ عَرشِهِ

طِفلُ الجَمالْ!

وَيلَ البَشَرْ!

فلقدْ هَوى منْ عرشِهِ

بَدرُ البَهاءْ

طَبَعَتْ عليهِ الخُطوةُ الأولى النِّهايةْ

وَصَلَ الحديدُ، ونحنُ في دَرَكِ الغِوايةْ

وصلَ الحديدُ إلى السّماءِ وما ارتقَى

شِبراً منَ الأفواهِ للهِ الدُّعاءْ!

وأنا أُمجّدُ في الحقيقةْ

إبحارَ (ناسا) في فِجاجِ الكونِ بَحثاً عنْ حقيقةْ

وأنا أرى

أنّا –بني حَوّاءَ- سُدْنا الأرضَ بالنُّورِ الذي

سَطَعَتْ بهِ شَمسُ العُقولْ

شمسٌ تُزيحُ ستارةً

أعمى بِها الليلُ الجَهولْ

شمسُ الحضارةِ وهيَ تَسري في مَدى الدّهرِ الطّويلْ

فَتَحتْ لنا الآفاقَ باسمِ الناسِ تمضي كالدّليلْ

منْ يومِ رَبّى السّاحلُ السُّوريُّ أُمَّ الأبجديّةْ

حتى انضمامِ الطفلِ (سِدنا)(2) عاشِراً

في أُسرةِ الشمسِ البَهيّةْ

والأُسرةُ البشريّةُ الفُضلى بأضواءِ العُقولْ

تَمشي.. تَئِنُّ من التَّمزُّقِ والضّياعِ.. فلا سلامَ ولا هُويّةْ!

وأنا أُرَنِّمُ: إنني –الإنسانَ- باقٍ لا أرى

وَجهَ القمرْ

إلا بعينيْ عاشِقٍ

أوْ صائمٍ.. ظمآنَ للعدلِ المُضاعِ المُنتظَرْ

أوْ باحثٍ في العِيدِ عَنْ

عيدٍ يُضيءُ القلبَ بالوَجهِ الأغرّْ..

...   ...  ..

....

وأتى على القمرِ الصَّغيرِ (مُحمَّدِ الدُّرّةْ)

وحشُ الرَّصاصِ بطلقةٍ مُرّةْ

ومَحا الظّلامُ بَهاءَ (ياسينَ) الذي اكتملَ الفِداءُ بهِ

بَدراً.. فغابَ كأُمّةٍ حُرّةْ

يا أيُّها النُّورُ الشَّهيدْ

سَلِّمْ على أهلِ الخُلودْ

تَسري إليكَ قلوبُنا

في ظُلمةِ الليلِ الذي

أدمى الوُجودَ بحَدِّ أنيابِ الحديدْ

*   *   *

بابُ الرَّجاء..

الآلةُ العَمياءُ تَقتُلُ كُلَّ رُوحٍ: لا اشتياقَ ولا غَرائبْ!

(خَلَقَ) ابنُ آدمَ آلةً

فطَغَتْ عليهْ

فَبَدا يَعَضُّ منَ المُصابِ على يديهْ

أتكونُ هذي الآلةُ الصّمّاءُ مُخطِئةً.. إذا

وَلَدَتْ.. كَما

دارتْ.. مُصيبةْ؟

أنكونُ طَعْماً للحديدِ العابِرِ الأرضَ الكئيبةْ؟

هَلْ ثَمَّ في المصباحِ منْ زيتٍ يُضيءُ طريقَ أجنحتي إلى

دُنيا العجائبْ

حيثُ القصيدةُ والحبيبةْ؟

إنَّ المصائبَ كمْ تُولِّدُ منْ جَمالٍ.. منْ مُحالْ..؟!

ومنَ المصائبِ ما تَؤولُ بهِ الجبالُ إلى زَوالْ

وإذا تناوبتِ المصائبُ فوقَ أقدارِ الرِّجالْ

صُقِلوا.. كأنّي بالرّجالِ معَ المصائبِ كالنِّصالْ

وإذا الرُّجولةُ رفرفتْ

طَيراً بأجنحةِ الشّهادةْ

عافَتْ حياةً منْ مَواتٍ، منْ بَياتٍ، منْ غُثاءْ

وإذا رأيتَ الأُمّةَ الزَّهراءَ، أُمَّ الفاتحينَ، وبِنْتَ

مَجدِ الأنبياءْ

أمةً تُباعُ بِلا إرادةْ

فانهَضْ وفتّشْ عنْ رَجاءْ

لَمْ يَبقَ حادٍ للرَّجاءْ

لَمْ تَبقَ أُذْنٌ للنِّداءْ

لمْ يبقَ إلا أنْ تَدُقَّ قلوبُنا

نَبضاً.. على بابِ السّماءْ

*   *   *

سَلِّمْ.. لِتَسلَم..

أيكونُ أنَّ العالَمَ النُّوريَّ أقفلَ كُلَّ بابْ؟

أسحائبُ الرَّحماتِ غابتْ في مقاليدِ السّماءِ.. كما الصّباحْ؟

منْ كُلِّ صَوبٍ –أيُّها المكسورُ- تأتيكَ الرّياحْ

كُلُّ الجِهاتِ عليكَ، والأطوادُ –صامتةً- تَميدْ

بِكَ –أيّها الفاني المعذَّبُ بالأمانةِ والوُجودْ-

قدْ صارَ هذا المسرحُ الطينيُّ منفَى ميّتينْ:

ماتوا قُبيلَ العَيشِ، ماتوا حينَ عاشوا، ثمَّ ماتوا عابرين

أبَتِ السماواتُ، الجبالُ، الأرضُ: حِملَكَ يا ابنَ عاصْ

طاشتْ سِهامُكَ! أنتَ قاتُلكَ الوحيدُ.. فلا قِصاصْ

قابيلُ محتفلٌ –حِداداً- بالزّفافْ

البَدلةَ السوداءَ يَلبَسُ.. مَنْ كتلميذٍ معلّمُهُ الغُدافْ؟

وعروسُه تمشي بأكفانِ الشهيدِ على الغِناءْ

بدَمٍ وزَغردةٍ نُوقِّعُ: صرخةَ الطفلِ الوَليدِ،

وفرحةَ العُرسِ السَّعيدِ، وغَيبةَ البطلِ الشَّهيدْ

قُوموا لنَبْكينا فنحنُ فَرائسُ الدَّهرِ

الكلُّ مَطويٌّ على قَبْرِ

فإذا رأيتَ فتىً وشَهدُ الحُبِّ في عينيهْ

يُزهَى.. كوردٍ للحبيبِ.. مُعطَّرٍ بيديهْ

فاشهدْ بأنَّ الشّوكَ فيهِ يَنامْ

الآنَ خَمرٌ ثُمَّ بعدَ قليلْ

يَصحو بهِ قابيلُ أوْ هابيلْ!

: سَلِّمْ لِتسلَمَ.. فالخلاصُ سَلامْ

للنَّفسِ، للإنسانِ، للكونِ المُسَبِّحِ بالحياةِ، وأنَّ وَجهَ الحَيِّ

لا يَعنو لغير الحَيّْ

دُنيا! تدورُ على الجميعِ، فهلْ نَضيعُ وفي مصابيحِ القلوبِ

على الدُّروبِ سَلامْ؟

*   *   *

اللحمُ والحديد..(1)..

في هذه الأرضِ الجريحِ بكلِّ ريحْ

دارتْ بأيدينا علينا وَحشةُ الأيّامْ

دارتْ بأيدينا علينا والخلاصُ سلامْ

ما دامَ في أرجائِها

دامٍ.. فكُلٌّ دامْ

في هذه الأرضِ الجريحةِ كالفضيحةْ

ما عادَ وحشُ الليلِ، قِرشُ الوَيْلِ، يَلقَى في معاركِهِ القبيحةْ

بعضَ التَّّوازُنِ.. كي تكونَ الحُرْبُ –وهيَ خطيئةٌ-

حَرْباً صحيحةْ:

فالأرضُ ميدانٌ لمنْ يُلقي بأطنانِ السّلاحْ

فوقَ الذي ما عادَ يملكُ غيرَ لحمٍ آدميّْ

وبهِ يَصُدُّ الاعتداءَ.. بِما تجودُ بهِ الجِراحْ

كي لا يُحيلَ الوَيلُ مَهدَ العاشقينَ إلى حَفيرِ جَهنّمِ

كي لا يظلَّ الليلُ رَدماً فوقَ أنفاسِ الصَّباحْ

كي لا تظلَّ بِجُنحِهِ:

تَعلو (الأباجي)(3) مثلما التّنّينْ

تًنقضُّ تَمحو مُقعَداً

قدْ ناهزَ السَّبعينْ

شَيخاً يُسبّحُ مُشرقاً..

كصلاتِهِ.. فجراً.. وكَفّاهُ على كُرسيّهِ

.. لا نارَ.. لا سِكّينْ..!

غيرَ الهُيامِ بأحمدٍ(*) ما كانَ (أحمدُ) يَحملُ

إنَّ الفناءَ بحُبِّ أحمد(*) بالخُلودِ مُكلَّلُ

وبسُورةٍ مثلِ اسمهِ ياسينُ كانَ يُزيّلُ

وهَوى فلسطينَ الشهيدةِ في الدّماءِ مُنزّلُ

أفَبَعْدَ ذاكَ مُجادِلُ؟

مَنْ يُقنِعُ التّنّينَ أنَّ الشّيخَ (أحمدَ) أعزلُ؟

هَلْ يُدرِكُ السفّاحُ أنَّ دَمَ الشهيدِ جداوِلُ

يَجري بِها نهرٌ منَ النّارِ النُّفوسَ يُزلزلُ؟

هلْ يُبصرُ الإظلامُ أنَّ دَمَ الشهيدِ مَشاعلُ

تَسري يها الأجيالُ في غَدِها الطَّريقَ تُواصِلُ؟

مَنْ عَلَّمَ الفقراءَ.. لا قولاً ولكنْ بالتّجسُّدْ؟

الحقُّ بالأبطالِ يَصمُدْ

الأرضُ تَشكُرُ كُلَّ بّذلٍ بالتَّورُّدْ

أوَ ليسَ أكرمَ منْ عَلا الغَبراءَ منْ

يَروي الثُّغورَ الظامئاتِ إلى التَّجدُّدْ؟

يَروي رواياتِ البطولةِ بالدّمِ المُهراقِ.. رّيّْ!

هلْ أُقنِعَ الفاشيُّ أنَّ شهيدنا (المُختارَ) يَبقى

-رغمَ أنفِ الموتِ- حَيّاً.. مُشرقاً

في كُلِّ حَيّْ؟

دفعَ الدُّجا عنْ وجههِ

والفجرَ ظلَّ يُغازلُ

خَطَبَ الحياةَ لشعبهِ

والعُمرُ ظِلٌّ زائلُ

(عُمَرُ) العَزيمةِ عاشَ في

دَمِنا.. فأينَ القاتلُ؟

وانقضَّ قابيلُ الجديدُ بآلةِ الموتِ العَتيدْ

ليُرفرفَ الشّيخُ الشّهيدُ إلى سماواتِ الخُلودْ

وعَلَتْ وُجوهَ الذّاهلينَ سَحابةٌ:

الأرضُ فِعلاً غابةٌ

صارَ ابنُ آوى وَحشَها

مُذْ غُيّبَتْ عنها الأُسودْ

فطَغَى بِها

فِعلَ الجَبانِ إذا تَصيّدَ فُرصةً

باللُّؤمِ يجتازُ الحُدودْ

مُتحَصّناً ضِمنَ الحديدْ

يَعوي بأطنانِ الدّمارِ.. كأنّها

أنيابُ شيطانٍ مَريدْ

لتُمزّقَ اللحمَ الوَحيدْ..

*   *   *

اللحمُ والحديدْ..(2)..

للهِ يا (عبدَ العزيزِ) وقدْ سَمَوتَ إلى العزيزْ،

فأيُّ نَجمٍ قدْ مضى للهِ.. أيّْ؟!

يا ليثَ غَزّةَ.. يا أميرَ النّازفينَ الصّامدينَ بلحمهمْ

في كُلّ حَيّْ!

يا قائدَ الفقراءِ.. أكرمِ مَنْ على الغَبراءِ.. إنَّ اللهَ أكرمهم فهُمْ

يَروونَ ثَغرَ المجدِ رّيّْ!

بَدّلتَ ثوبَكَ أيُّها الحيُّ الشّهيدُ.. فأنتَ فيْ

حُللِ الشّهيدِ –اليومَ- حَيّْ!

لوْ كانَ بينَ يديكَ منْ

هذا العَتادِ الجَمِّ فيْ

ليلِ المَخازنِ.. أيُّ شَيّْ

لدَرَى ابنُ آوى صاغِراً

أنَّ الفوارِسَ منْ قُريشٍ لم تَمتْ

يَعلو بكفِّ الحقِّ كلُّ مُهنَّدٍ:

فكأنَّ كاليرموكِ (خالِدَ) خالدٌ

وحصونَ خَيبرَ زلزلتْ كفّا عليّْ

حتى تعودَ الأرضُ رَوضَ محبّةٍ

ويُضيءَ فجرُ العدلِ بالوجهِ الرّضيّْ!

لكنْ خَلَتْ..!

وغَدا ابنُ آوى وحشَها

ولقدْ عَوى

تَبَّ الذّليلُ! وقدْ هَوى

-مُستأسِداً ضِمنَ الحديدِ- بنارهِ

مُستفرداً

بدمٍ يُدافعُ نازِفاً

عنْ دارِهِ

ويظُنُّ –بالغَدرِ المُحصّنِ- أنّهُ

قدْ صارَ (روملَ) أو حَكى

(إسكندرَ اليونان) فَتْحاً

تَباً لـ (شَيلوكَ) الجبانِ وذَلَّ غَدّاراً.. وقُبحاً!

كُلُّ الحديدِ بكفّهِ

ويَخافُنا

لحماً وجُرْحا

ويظلُّ يَفتِكُ وهوَ يكذِبُ طالباً

أمْناً وصُلحا!

هيَ أحلكُ السّاعاتِ: عَسعَسَ كُلُّ ليلٍ حولَ أهلِ (الخَندقِ)

واحمرَّ وجهُ الشَّرقِ بالدّمِ.. أينَ شمسُ المَشرقِ؟

قدْ زاغتِ الأبصارُ.. قدْ بلَغَ القلوبُ إلى الحناجِرْ

مَنْ في ركابكَ –يا محمدُ(*)- ليسَ في شَرَكِ المُحاصِرْ؟

الكلُّ ينزفُ.. ليسَ يعرفُ: كيفَ تنجزرُ المجازرُ؟!

يا أيُّها النُّورُ الذي غَمَرَ الدُّنا

هَدْياً ونُصْحا

قدْ كَرَّ ليلٌ عاصِفٌ

يَمحو.. ونَبْتُ الخَيرِ يُمحى

هيَ أحلكُ السّاعاتِ.. فلتُشرقْ كوجهِ الشّمسِ صُبحا

أشرِقْ بحكمتِك الرحيمةِ بَلسماً

فالأرضُ، كُلُّ الأرضِ، جَرحَى(4)

*   *   *

بريشةِ النَّسْر..

ومنَ القوادِمِ، منْ جناحِ النّسرِ مكتوماً بأقفاصِ العَبيدْ

أسْتلُّ بالرُّوحِ المُجرَّحِ ريشةً

شَهباءَ.. عَلَّمَها التَّخيُّلُ أنْ تُحلِّقَ وهيَ فِيْ

سُودِ السُّدود

لأخُطّ في صَدرِ الوجودْ

(نبْضاً) يُضيءُ منَ الوَريدِ.. إلى الخُلودْ:

لَوْ أنَّ في طيرِ الحديدِ منَ الشُّعورِ شُعيرةً

لبَكى.. وأنَّ.. وذابَ.. مِنْ

فَرطِ المُصابِ.. وقدْ أصابَ بطيشهِِ

صَدرَ الشّهيدْ!

*   *   *

جِراحٌ.. جِراح..

ما أضيعَ الإنسانَ في هذا الزّمانْ!

ما أغربَ الشَّرَفَ المُهانْ!

ما أرخصَ –اليومَ- الحضارةْ

القلبَ قدْ قَتَلتْ فباتتْ دُميةً

بيدِ الحقارةْ!

لكأنَّ شَهدَ القلبِ، مِنْ

ظمأٍ تَبَخّرَ دونَ ماءْ

لكأنَّ طيرَ الرَوحِ، وهوَ حبيسُ أغلالِ الدُّنا،

نَسيَ الفضاءْ

طاوٍ فلا وَرداً يُغازِلُ بالغِناءْ

صَدِئٌ يَئِنُّ بلا ضِياءْ

حُجُبٌ تُغلّفُهُ بأرديةِ المَساءْ

يا مَنْ لهُ الحُسنى منَ الأسماءِ.. جَلَّ بها الثّناءْ!

قلبي تتلمذَ بالأنينِ على الذينْ

في كُلِّ يومٍ يٍسقطونَ.. إلى السّماءْ

أيكونُ هابيلُ القتيلُ هوَ الذي

تركَ اسمُهُ بلِسانِنا

لفظَ (الهَبَلْ)؟

إنّا ضَحايا.. يَسرقونَ وُرودَنا

وحُدودَنا

ووُجودَنا

وأكفُّنا مقطوعةٌ بالظالمينَ السّارقينَ.. فما العملْ؟(5)

هذا الحديدُ، بكَفِّ قابيلَ القَتولِ، مُضرَّجٌ

بدَمي.. وأشلائي هيَ الأقدارُ في جيبِ القضاءْ

ولوَ آنَّ في هذا الحديدِ منَ الشُّعورِ شُعيرةً

لبَكى وأنَّ فذابَ منْ    فرطِ النّحيبِ على الغَريبْ

ظمآنَ رفرفَ بعدَ أنْ   روَّى البعيدَ مع القريبْ

أكلَ الغُروبُ ضياءَهُ   فاحمرَّ في وجهِ المَغيبْ

الجرحُ مفتوحٌ على السّنينْ

الجرحُ ممتدٌّ بِلا تَعيينْ

مِنْ (دَيرَ ياسينَ) إلى

(أحمدِ ياسينَ) ولا

نَلينْ..

الجرحُ مفتوحٌ مدى السِّنينْ

الجرحُ ممتد!ٌ بِلا تعيينْ

كلُّ العِراقِ غَزّةٌ

كُلُّ دَمٍ جِنينْ

والناسُ في الفَلّوجةِ، المُدنَّسةْ

بوطأةِ التّنّينْ،

كالصّخرةِ المقدَّسةْ

في المسجدِ الحزينْ

فإنْ أرادَ الظّالمونَ كَفَّنا

نَمضِ انطلاقاً قانياً

نُفْنِ الفَنا

ولَمْ يَزلْ في كفِّنا

سيفُ المُثنّى.. لمْ يزلْ في كَفِّنا

مثلَ المُنى

قدْ طارَ نمرودُ سُدى=مُقطَّعَ اليَدينْ

وحَظُّ هولاكو غَدا=كفردَتي حُنينْ

كُلُّ الضَّحايا كَربلا=وكربلاءُ دَينْ

وكُلُّ قلبٍ مُغرَمٌ=بالشمسِ والحُسينْ

*   *   *

عَلَّمنا الحُسين..

عَلَّمنا الحُسينْ

أنْ نَكسِبَ الجولة مَرتينْ:

فمرّةً نعيشُها بِعزّةِ الإباءْ

ومَرّةً نفوزُ بالسّماءْ

علَّمنا الحسينْ

علَّمنا الحسينُ أنَّ الظُّلمَ لا يَدومْ

يَمضي ككلِّ جِيفةٍ

ويُشرقُ المَظلومْ

عَلَّمنا الحسينْ

علَّمنا الحسينُ أنْ نَصعَدَ مِنْ دِمائِنا

للهِ ظافرينْ

نُهَوِّنُ الدُّنيا ولا    نَرضى بأنْ نَهونْ

نكونُ شمسَ الحقِّ أوْ   نَمضي معَ اليقينْ

فإنْ فقدنا أمرَنا

في غفلةٍ

فلا تُخيّبْ وفدَنا

يأتيكَ كُلَّ ساعةٍ

مُعطَّرَ الدّماءِ بالفِداءْ

يا مَنْ لهُ الحُسنى منَ الأسماءْ!

*   *   *

الدَّمُ والبِترول..

يا مَنْ سَقيتُمْ هذهِ الأرضَ الدّماءْ

كي تَحلبوها.. كُلُّ بِرميلٍ منَ البترولِ زَيتٌ للفَناءْ

تَعوي به الآلاتُ حَرباً.. لا ابتداءْ ولا انتهاءْ

في كُلِّ بِرميلٍ منَ البترولِ دَمّْ

في كلِّ دَمٍّ دَمعُ أُمّْ

في كُلِّ بِرميلٍ منَ البترولِ نارْ

في كلِّ نارٍ ألفُ عارْ

ما عادَ في الحربِ انتصارْ

ما عادَ في الحربِ انتصارْ:

كُلٌّ يَعودُ بنعشِهِ

إكليلَ غارٍ وانكسارْ!

*   *   *

بيتُ الجميع..

عُودوا إلى مهدِ الحَنانِ.. لفطرةِ الأرضِ الكريمةْ

عُودوا إلى حِضنِ الطبيعةِ.. حِكمةِ الأمِّ الرّحيمةْ:

إنْ تَروِ أرضَكَ بعضَ دَمّْ

تُنبتْ لنفسِكَ ألفَ هَمّْ

إنْ تَسْقِ أُمَّكَ كأسَ دَمّْ

يَرضَعْ أخوكَ حليبَ سُمّْ

فاسْقِ التُّرابَ منَ المياهْ

تُزهرْ على يَدِكَ الحياةْ

الأرضُ مَنزِلُ آدمٍ

والحقُّ فيهِ.. للجميعْ

أتَهدُّ بيتَكَ جامحاً باسمِ (الأنا)؟

تَبَّ الصَّنيعْ!

والعُمرُ مَحدودٌ فهلْ

تَرضى –بطَيشِكَ- أنْ يَضيعْ؟

أتعيثُ بالطّمعِ الفظيعْ

لتُضيّقَ الرَّحبَ الوَسيعْ؟

تبَّ الذي بيديهِ يَهدمُ بيتَهُ

والبيتُ يتَّسعُ الجميعْ!

هوَ أنتَ.. أنتَ أنا.. فما معنى العَنا؟

لِمَ لا نَمرُّ هُنا.. ربيعاً كالرَّبيعْ؟

هيّا.. لنُبدعَ.. إننا

خُلفاءُ فيها.. للبديعْ!

عَوْداً إلى الرُّوحِ الصّلاةْ..

عَوْداً إلى الأُمِّ الحَياةْ..

دُقُّوا مَعي بابَ الرَّجاءْ

لا تتركوا قابيلَ يُطفئُ بالرّصاصْ

نُورَ الخَلاصْ

عُودوا وإنْ..

لَمْ يبقَ إلا أنْ تطيرَ قلوبُنا

سِرباً منَ الشّكوى بأجنحةِ الفِداءْ

فعسى نُفتِّحُ بالطّيورِ، إذا امتلتْ

عينُ السّماءِ، جميعَ أبوابِ السّماءْ

*   *   *

       

الهوامش:

(1) ومنَ الغرائب: لمْ يعُدْ في الأرضِ شيءٌ منْ غرائبْ!

(2) سِدْنا: الكوكبُ العاشر في مجموعتنا الشمسية، أعلنت ناسا اكتشافه في آذار (مارس) 2004م.

(3) طائرة الأباتشي الحربية الأمريكية الصنع.

(*) صلى الله عليه وسلم.

(4) جورج برنارد شو: ما أحوجَ البشرية اليوم إلى رجل مثل محمد(*) ليحلّ مشكلاتها، وهو يشرب فنجان قهوة(**)

(**) أيْ: بكل يُسر.

(5) وإن صَرَخنا: زوِّدونا كي نذود المجزرة

رَدُّوا الجنونَ فزَوَّدونا (تَذكرةْ)

منْ غيرِ عَوْدٍ.. نحوَ دارِ الآخرةْ