إلى اللاذقية والجبيلية

د. محمود حسين صارم

إلى روح بدوي الجبل

في الذكرى العشرين لوفاته

إلى اللاذقية والجبيلية

د. محمود  حسين  صارم

تخيلت أنني دُعيت إلى اللاذقية, وأنا ابنها الذي عاش بعـيدا عنها. مقيما في الرقة لمدة تزيد على ربع قرن. وتخيلت أن الدعوة كانت لإحياء ذكرى رحيل  شاعر العربية الكبير بدوي الجبل الذي توفي في آب لعام 1981. فكانت هذه القصيدة التي لم تسمح الظروف القائمة بنشرها لا في هذا الوطن ولا حتى في الأوطان العربية الأخرى .

    يا لاذقـيةُ يا ابــنةَ الأمــجادِ   ومـنارةَ التاريخِ  للآبـــادِ

    أنا إنْ  تركتُك أو هجـرتُ مرابعاً   فلأنني لم أرضَ لجـمَ جوادي

    ولقـد حملتُ  إلى الفراتِ رسالةً   منكِ لماري في ضفافِ الوادي1

    واللهِ ما خـنتُ الأمانةَ مـطـلقاً   فالحبُّ باقٍ  في شغافِ فؤادي

    واليومَ ذ كـرُ العبقـريِّ أتى بنا   لنغورَ في  أعماقِه ومــبادى

  "الدهـرُ ملكُ العبقـريةِ وحـدَها   لا ملـكُ جبـارٍ ولا جــلادِ2

    والكونُ في أسرارِهِ  وكــنوزِهِ   للفكـرِ لا لوغىً  ووريِ  زنادِ

    ذرتِ السِّـنونُ الفاتحـين كأنها   ريـحٌ تهـبُّ على تلال رمـادِ "

    وبقيتِ أنتِ وفي الورى أسطورةً  يـرويكِ هذا الـبحرُ كل سوادِ3

    من رأس ِِِِِِِِ شمرا للعوالمِ  أبحرتْ   سـفنٌ تُـقل أوائلَ الــرُّوادِ

   هـذي الحروفُ الأبجديةُ شاهـدٌ   أنَّ الـحضارةَ مهدُها بـبلادي

   من بابلٍ حتى " توليدو" لا تـرى   إلا صـروحَ حضارةِ  الأجـدادِِ4

   والبحرُ بحرُ الرُّومِ  فيه تقاسمتْ   كلُّ الشعوبِ رسـالةَ المــيلادِ

   ورســالةً منْ أحـمدٍ لتُـتمَّها   بالسِّـلمِ  والحسنى وبالإرشـادِ

           

   وأرى الجبيلةَ رغم ما وُصفتْ به   تسمو على الأضغان  والأحـقادِ5

   يا بنتَ مـكةَ أنـتِ منْ  علمتِني   حـبَّ الرسالةِ  والنبيِّ الهـادي

   وأمــيةٍ وفـتوحِها وحـضارةٍ    شـعَّتْ على الدنيا بغير  نـفاد

   أهلوكِ منْ أهــلِ النبي محمـدٍ   وعــليِّ والحسنين والأحـفادِ

           

   يا أيها الغـربُ الذي أمــجادُه   شعت علـى الأكوان من أمجادي

   لا يخدعـنَّك ما ترى في عصرنا   من ظـلم حـكامٍ ومن  قــوادِ

   نحن الألى ركزوا الثقافةَ حيث لا   تمـييزَ بين أمـــيرها وسوادِ

   حـريةٌ عــدلٌ  مسـاواةٌ  وما   للناس  من  أديانـها ومـبادى

   فإذا قصـدتَ معالماً  في  قرطبا   لوجـدتَها دنـيا من الأمجــادِ

   فهنا الكنيسةُ والكنيسُ وجـامعٌ   وهنا عـبادُ اللـه  خيرُ عــبادِ

   هـذا التسامح من ثوابت  ديننا   إرث من الأجـــداد للأحــفادِ

           

   يا شاعراً في الخلدِ طابَ مقامُهُ   بجــوارِ آلِ الــبيتِ والأنـدادِ

   أكــرمتَ شعرَك للنبي  ودينِهِ   قسماً لأنتَ أمـيرُ شــعر الضادِ

   ما راعـُكمْ هذا الزمانُ وعسفُه   بإبائِـكم ريـعَ الزمانُ الــعادي

  يا حاملاً بؤسَ الـعُفاةِ وهمَّهـمْ   وجراحَهم في القلــبِ والأكـبادِِ

  يا أيها الـطودُ الأشـمُ  بعبقـرٍ   شمختْ ذراكَ على ذرى الأطـوادِ

  صدقتْ نُبوءَ تُك  التي أعلنتَـها   بحصـافةٍ  وشـجاعةٍ  وعــنادِ

  أنا لن أثـيرَ اليومَ  أي حمـية    إلا حمــية  هـذه الأضـــدادِ

  التائهـونَ هُنا وفي بغـدادَ  ما   زالـوا بــوادٍ  والكـرام ُ بـوادِ

  خمسون عاماً والتقاتلُ  بينهـمْ   في شامـنا  في مصرَ  في بغـداد

  كلٌ يُـزايدُ في الجهـاد  وكلهمْ   للقـدس فـتحاً أو إلى استـشهادِ

  حتى إذا حميَ الوطيسُ بساحها   فـرَّتْ جيُـوشُهُمُ  كخـيلِ طـرادِ

  فـرَّتْ لتحميَ أنظماً بفـسادِها   حـتى على جثـثٍ  منَ  الأجنـادِ

  عقمتْ عقولُهمُ  وأمسى فكرُهمْ   مستنقـعاً  للخــزي  والإفسـادِ

  وتجمَّعتْ ثـرواتُنا  بجـيوبِهمْ   والشــعبُ في ذُلٍّ  وقــلةِ  زادِ

           

 القدسُ عـادتْ تستجيرُ وجرحُهَا   دامٍ.. ونحنُ اليـومَ في الأصـفادِ

 أبناؤها الأشـبالُ جـندُ محمـدٍ   وعـليِّ والـفاروقِ  بالمــرصادِ

 تتقـدم الساحَ العـرمرمَ جيشها   لــتعلمَ الدنـيا دروسَ  جــهادِ

 فترى الشعوبَ فقـيرها وغنيها   كالنار  تسترها  شفـوفُ رمــادِ

 بـردى سمعـتُ بكاءه وأنـينَه   زفـراتُه تـعلو تخـومَ  الـوادي

 أمّا الفـراتُ فلم يزل في  حزنه   من قـبل هـذا موشـحاً بسـوادِ

 يبكي العـراق وما أصاب دياره   من ظـلم جـبَّارٍ ومن جـــلاّدِ

 هذا المغيرُ على الكويت يسومه   حـرقا ويأسر فــلذة  الأكــباد

أبناؤها جــادت  بكـل نفيسة    للقـــدس من مـال  ومن أولاد6

الساحـلُ الشاميُّ حـن لدجـلةٍ    والنـّيلُ حـنَّ  لهـورِه ِونــجادِ

لن ترضى إلا أن يعودَ  لكـرخِهِ    بـردى يُروِّي النخـلَ  في بغـداد

قم جدد التاريخ  يا ابـن أمـية    وأعـدْ  رســالةَ أمـةِ الأمـجادِ

هوامش :

       1- ماري : عاصمة مملكة قديمة على ضفاف الفرات تحمل نفس الاسم

       2- أصل الأبيات الثلاثة من قصيدة البدوي في ذكرى أبي العلاء المعري وهي:

الدهرُ ملكُ العبقريةِ وحـدَها   لا ملك جـبَّارٍ ولا  سفَّاحِ

والكونُ في أسراره وكنوزه   للفكر لا لوغى ولا لسلاح

ذرت السنون الفاتحين كأنهم   رمل تناوله مهـب رياح

      3 – كل سواد: كل ليلة,  تروي فيها الجدات الحكايات.

      4 – توليدو: هي طليطلة الأندلس.

      5 - الجبيلة :  هي في الأصل الجبيلية , وهي تصغير " الجبل " ومن ثم تأنيثه

وإضافة ياء النسبة ليصبح اسم القرية التي ولدت فيها الجبيلية . ومن بيتنا في الجبيلية انطلق البدوي في حملته الانتخابية في خريف /54 / .. ولهذا ظل البعثيون في مجلتهم الداخلية "مجلة المناضل", يتهمون أهـلنا في الجبيلية بالرجعيين منذ انتخابات /  1943 /  التي فازت بها الكتلة الوطنية فوزا ساحقا وفاز البدوي الذي كان قد خرج للتو من سجن قـلعة كسب, حيث كان معتقلا من قبل السلطات الفرنسية. والجبيلية  اليوم هي كغيرها من القرى السورية!

   6 - في حرب تشرين كنت طبيبا مجندا أعمل في مشفى حرستا العسكري. وقد جاءتنا حالات إسعاف من الكتيبة الكويتية ومن اللواء السعودي المشاركين في الحرب.