راعفٌ جرحُ المروءَة..

عبد الله عيسى السلامة

(ملحمة الشهيد محمد الدرّة)

شعر: عبد الله عيسى السلامة

قَـدراً  قُـدِرْتَ، فـما محاكَ الماحي   هـيـهـاتَ..  أنتَ الروحُ iiللأرواحِ
أنـتَ  الـشَـهادةُ والشهيدُ.. iiوشاهدٌ   يَـروي  لمنْ في الأفقِ ما في iiالساحِ
أنـتَ الـبـراءةُ كـلّـهـا.. وأقلُّها   أنْ طِـرْتَ فـوقَ الـغيمِ دونَ جَناحِ
غَـدروا..؟!  كـذلك يفعلون، iiمخافةً   مـنْ  أنْ يُـشـابَ فسادُهمْ iiبصلاح

           

مـحـمّد يا أسمى الكنوزِ، ويا iiأغلى   ويا روضنا الأبهى، ويا حُلمَنا الأحلى
بَـلوتَ  صُنوفَ الرُّعب، ثم iiسَلوتَها   غـداةَ رشفتَ الأمنَ في الملأ iiالأعلى
تَمازجَ فيك البؤسُ والبِشر في iiضُحىً   أمـرَّ  من الدّفلى، وأزهى من iiالدّفلى

           

أيها الغصنُ، الغُلامُ، النورُ مَذعوراً سَمَوتْ

صادكَ الموتُ لتحيا، حين صارَ العيشُ من حولكَ..

كلُّ العيشِ، موتاً، ثم موتاً، ثم إنذاراً بموتْ.

جوقَةُ الموتِ صغيري:

كلُّ هذي المفردات الصُّفْرِ والسّودِ، من الأشياء والناسِ..

وجلُّ الناسِ أشياءٌ.. ومن بعض بقايا الغابرينْ..

فمنَ الصُّفرِ: وجوهُ الخائفينْ

ومن السُّودِ: جباهُ المجرمينْ

ومن الصفر: رصاصُ الغادرينْ

ومن السود: حديدُ القاتلينْ

اِسمع الجوقةَ تهذي، يا محمدْ:

قِفْ.. رصاصْ

مُتْ.. قذيفهْ

ومضى جزّارُهم دونَ قصاصْ

وتولّى راجِمُ الصاروخ مَزهوّاً يُغني..

ناشراً كفّيه للريح، بقلبٍ مُطمئنّ:

ما الذي يَحظى به الأمواتُ منّي؟!

ما الذي يَهذي به الأحياءُ عني؟!

كلُّ ما يقضي به القاضونَ، والقانونُ، سطرٌ في صحيفهْ

وصُراخاتُ ثكالى تترامى في الفجاجْ.

ودهاليزُ على جدرانها الزُّرقِ، عبارتُ رثاءٍ..

واعتراضاتٌ.. وشجبٌ.. واحتجاجْ

           

سَمَوتَ لتُنبئَنا يا محمدُ، أنَّ الهُبوطَ عَدوُّ الحياهْ

وأنَّ ضريبتَه الانسحاقُ، وذُلُّ الجباهِ لغيرِ الإلهْ

وأنَّ بدايتَه الانحدارْ..

وأنَّ نهايتَه الاندثارْ..

وأنَّ السكوتَ على ألِف الظلم، يُوصلُ للياءِ، بعدَ العَياءْ

وأنَّ البدايةَ أم النهايةِ، يَدري بها كلُّ طينٍ وماءْ

وأنَّ بَني الأرضِ إلا، نفوساً تسامَينَ نحوَ السماءْ

وأنَّ الحياة بغير إباءٍ فناءٌ، وأنَّ النفوس هَباءْ

           

تَـمهّلْ  صغيري، فما زالَ وَجديْ   لـهـيباً،  وما زِلتُ أمضغُ iiجَمرا
تـمـهّلْ،  فعُمريْ الذي شُلّ iiقهراً   قُـبـيـل ارتقائكَ، ما كان iiعُمرا
تَـجـمّـدتَ  رُبـاً بحجر iiأبيكَ،   وخـوفـاً عـلـيـكَ تجمّدَ iiذُعرا
وجـمـدتِ  الأعينَ iiالشاخِصاتِ،   ثـوانٍ جَـمـدنَ، فأصبحنَ iiدَهرا
وغـابَ الـزمانُ، وذابَ iiالمكانُ،   وكـلُّ ابـنِ أنـثى تحوّلَ iiصِفرا
ولـم يـبـقَ إلا نـيوبُ iiالذئابِ،   تُـمـزّقُ  شِـلـواً، وتهتِكُ iiسِترا

           

عُـذراً  إلى (الليكودِ) iiو(المِعْراخِ)   وذئاب (شاسٍ) والقُرودِ بـ ii(كاخِ)
أعـوانُـكم  في داخلي غَلُّوا iiيديْ   عنكم،  وغطُّوا بالطبول iiصُراخي
أحـبـارُكـم قـد ورّثوكم حقدهم   وورثـتُ حبَّ الخير عن iiأشياخي
وعـبيدكمْ  نبذوا الهدى، iiوتسابقوا   فـي  الـهُونِ، بين بلاقعٍ iiوسِباخ
أشـرَبـتُـموهمْ  عِجلكمْ iiفتهافتوا   يـحـمـونـكـم  بـمودّة iiوتآخ
جـرَّعـتـموهمْ  شرَّ سُمّ iiفانتشَوا   وتـصـايحوا:  سلمتْ يد iiالطبّاخ
وتـساقطوا مثل القنافذ في iiالدجى   يـعـوون بـيـن مصائدٍ iiوفِخاخ
سـكنوا القُصور بذلّةٍ iiوتصاغروا   عـن عـزّةِ الشرفاء في iiالأكواخ
وغـداً سأكنسكمْ، وأغسلُ iiموطني   مـمـا  نـثـرتمْ فيه من iiأوساخ

           

فـي زمـانٍ هـائـمٍ في iiالأمكنهْ   ومـكـانٍ  هـجَـرتْـهُ iiالأزمنهْ
قـابـعٌ "زيـدُ بن عمرو" iiعُمْرُهُ:   ثـلـثُـه  قـرن، وثـلـثاهُ iiسنّهْ
يـعـرفُ الأعـوامَ من iiأوجاعها   فـالـذي  أدمـاكَ مـنـها أثخنه
مـا  مضى من عُمره ضاع iiسُدىً   والـذي لـم يـأتِ أمـسى iiدَيدَنه
لـم  يـكـنْ إلا يـداً iiمـغـلولةً   ولـسـانـاً حـاصـرتهُ iiالألسنه
غـارقٌ  فـي صورةِ الطفل iiالتي   جـابـتِ الـعـالـمَ تُخزي مُدنه
فـاعْـفُ  عـنه يا صغيري iiإنّهُ   جُـثـةٌ، لـولا نـداءُ الـمِـئذنه
هـو  فـردٌ فـي قـطـيعٍ خانعٍ   مـضَـغَ الإذعـانَ حـتى iiأدمَنه
عُـذره  –لـمّـا رأى ما قد iiرأى   أنـه  مـن أمـةٍ iiمُـمـتـحَـنه
شـلَّـهُ عـنـكَ، وعـنـهُ، iiقيدُهُ   وإراداتُ رُعــاةٍ iiمُــذعِـنـه
والــذي أرداكَ أردى iiعـزمَـهُ   بـيـن  جـدرانٍ دعاها ii"موطِنه"

           

تناثَري يا شظايا الشمس في المدنِ   مـن  الرباط، إلى يافا، إلى iiعدَنِ
إلـى دمـشقَ، إلى تبريزَ iiمُرسلة   بعضَ  الشُّواظ إلى أحفاد ذي iiيَزَنِ
وبـاركي كل حيٍّ في الثرى iiآنفٍ   وأحـرقـي كلَّ ميْتٍ ناشطِ iiالبدَنِ

           

تـبـعـثـري.. iiتـبـعـثـري   بــيـن  فِـجـاج الأعـصُـرِ
فــي كــلِّ روضٍ iiمُـقـفِـرٍ   وكــل قــفــرٍ iiمُــزهِـر
وكــلّ  لــيـلٍ iiمُـشـمـسٍ   وكــلّ  صــبـحٍ iiمُـقـمـر
وك_ــلّ ق_ـل_ـبٍ أس_ـودٍ   وك_ــلّ  م_ـاءٍ  أح_ـم_ـر
تــطــايــري..  iiوحـذّري   وهَـوِّمـي..  iiواسـتـنـفـري
وبـاركـي..  iiواسـتـغـفـري   أو أح_ــرق_ـي.. ودمّ_ـري
هـذا  الـذي.. تـلـك iiالـتي..   مــن بــائــعٍ iiومُـشـتَـر
وب_ــائ_ــسٍ ون_ـاع_ـمٍ   وأب_ــي_ـضٍ وأص_ـف_ـر
وف_ــارسٍ مُ_ــك_ـب_ـلٍ   وســادرٍ  iiمُــســتـهـتـر
زُوري الــورى، كـل الـورى   لا  تـكـسـلـي، أو iiتـفـتُري
لا تـتـركـي ثـأر الـفتى iiالـ   ـمـظـلـومِ، حـتـى iiتـثأري

           

اِرمِ  يـا رامـي الـضنى iiوالقَلَقا   فـي مـآقـيـهـم شُواظاً iiمُحرقا
اِرمـهـم.. أنـتَ بـعيدٌ.. iiفوقهم   فـابـعـثِ الـسُّـهد لهم والأرقا
مَـزّقـوا  صـدركَ والزيف iiمعاً   فـتـسـامـيـتَ.. وأودى iiمِزقا
وارتـقـى  مجدُكَ يُخزي iiذِكرَهم   إنَّ درب الـخُـلد صعبُ المرتقى
لا تَـلـمـهـمْ يا صغيري، iiإنهم   مـنـذ كـانـوا لم يُراعوا iiمَوثِقا
عـبـدوا  الـعِجلَ وموسى iiبينَهم   أفـيُـرجـى مـنهم اليوم iiتُقى؟!

           

محمدُ.. جاء الغدُ المستحيلُ، الوسيمُ البريءُ الوضيءُ الجميلْ

أطلَّ بصيحات "الله أكبرُ" تُحيي النفوسَ، وتَشفي الغليل

وباتَ المحيطُ يهزُّ المحيطَ، وبينَ المحيطين يعلو الصهيل

           

والمنابرْ

بَعضها يدعو إلى فتح المعابرْ..

بين مَغدور به، أودى بلا ذنب، وغادَرْ..

بعضها يَزدرد الأحزانَ في صمتٍ، على أهل المقابرْ،

بعضُها يجتاح "بالصوت" جبالَ الأرضِ..

والشّلال من شِدقيه هادرْ

بعضُها يبكي على ما نال أبناءَ الأكابرْ..

من رزايا.. أو خسائرْ

بعضُها يتلو أناشيدَ السلام العذب، ما بين العشائرْ،

وبكفّيه دنانيرُ، وأكوابٌ، وكيسٌ من بشائرْ

بعضُها يعزو إلى بعض المصادرْ..

طُرفةً أندرَ من كلّ النوادرْ:

أنّ منخوراً من الأوثان، قد هبّ على هيئة ثائرْ..

كي يُعيد الأرضَ، والتاريخَ، والمجدَ.. بألوان المساخرْ

           

مـحمدُ..  يا أنا، وأبي، iiوجَدّي   وذُخـري  في التجلّد iiوالتحدّي
وأبـنـائي،  وأحفادي، iiوأهلي   جمعياً.. والضياء العذب iiعندي
وتـاريـخـاً  تجسّدَ في iiغُلامٍ   وجُـرعة حنظلٍ في كأسِ iiشَهد
رأيـتُكَ  قادماً من نصف iiقرنٍ   تُـثير بوجهك المحزونِ iiسُهدي
غـداةَ  شَـردتَ من عكا iiويافا   تُـقاسي الويل، من جوع iiوبَرد
وعشت، وعاشتِ الأحلام تَترى   وعـاش  الشوق في جزر iiومدّ
وكان.. وكان ما قد كانَ iiحَسبي   أثـارتْ  ذكرياتُ القهر iiوَجدي

           

يا صغيري..

غاصتِ المأساةُ في الملهاةِ حتى الأذنينْ.

لا تسلْ: كيفَ؟ وأينْ؟

إنها في العظم، تحت الجلدِ، في الأضلاع، خلفَ المقلتينْ

تحت أظفار اليدينْ

يرحل الآلاف، آلاف المغاوير، الأساطير الأزاهيرِ..

الأباةِ الشُّمّ، خلفَ الشمسِ، تحت الأرضِ جَرحى، ثم قَتلى..

ثم صَرعى بينَ بَيْن

ثم يختال هُواةُ القتل، أبناءُ الأفاعي

حين يروي "رأسهم" للناس، في شتّى البقاعِ:

"سَحقتْ قواتُنا بعضَ الرّعاعِ"

وإذا ما عاقبَ الشعبُ المعنَّى "مُجرمين"

قيل: عجّلْ واعتذر يا..

قد قتلتم في قراكم "تائهينْ"

           

دَفـعـنـا –محمدُ- جيلاً iiفجيلا   رُسـومـاً،  ضرائب، ذُلاً iiذليلا
لماذا؟ لمن؟ كيفَ.. لا لن أقولَ..   "كـرابـيـجُ"  تمنعني أنْ iiأقولا
دَفـعـنـا لـندفع ما ليس يُدفَـ   ـعُ، إلا إذا أصـبـح الفأر iiفيلا
وإلا  إذا أصـبـح الـفيلُ iiفأراً   وليثُ  الغضى صار قِرداً iiهزيلا
وقـد  صار هذا، وهذا، iiوذاكَ..   وصـار لـنـا القهر ظِلاً ظليلا
مـبـعـثـرةٌ جُـثَتي يا محمدُ،   غـرباً  وشرقاً، وعَرضاً iiوطُولا
هـنـا  مـهجتي.. وهنا iiمُقلتي   ونـفـسـي تُـكـابِدُ داءً iiوبيلا

           

دعكَ منّا يا بُنيْ..

دعكَ من هذا الهُراءِ الغثِّ، واللغو الغبيْ

كلنا يحتال كي يسرد عُذرا

كلّنا يبتكر الأعذار تمويهاً ومَكرا

أين مكرُ الكهل من طُهر الصبيْ

أنتَ يا رامي حياةٌ غادرتْ موتى..

وكم ميتٍ به أنفاسُ حيْ!

فارثِ للأمواتِ من أحيائنا السارينَ..

في درب الشقاء المرّ، والوهم الشقيْ

           

إنَّ أنقى فارسٍ في الملحمة

فارسٌ يسلبه الغدر بلا جرمٍ ولا ذنبٍ دَمهْ

فارسٌ طفلٌ بريء، لم يكد يفتح، لولا دهشة الذعر، فمَه

كان مشروعَ كميّ، أو زعيماً عبقرياً

يُلهم الأجيال، في ساعة عزّ مُلهمهْ

كان مشروعَ فدائيّ معدّ لليالي المعتمة

فتغشاه الفداء الصعب، حتى صار في لحظة وَجدِ

واحتراقٍ، وانبهارٍ.. رمزهُ بل عَلمهْ

أنتَ ذاكَ الفارس الأسمى الذي..

في كلّ إحساسٍ لنا منه.. له فينا سِمَهْ

وحدتْكَ اللحظة الحمراءُ فينا.. وحدتنا فيكَ..

صرنا جمعَ أحرارٍ.. وما في القوم عبدٌ أو أمَهْ..

وعلِمنا وحلِمنا أننا أبناء شعبٍ مؤمنٍ..

لا لحظةٍ مأزومةٍ، مهزومةٍ، مُستسلمهْ.

           

إذا  البرق لم يُبرق، ولم يَرعُدِ الرعدُ   فـلـن يُرتجَى للعيش سهلٌ ولا iiنجدُ
ولـن  تبسُمَ الدنيا، ولن تُورق المُنى   ولـن  تُثمرَ الأحلام، أو يَنبت iiالورد
إذا ضـنَّ شِـريـان الـفؤاد iiبدمعِهِ   أنرجو بدمع العين –أن يُزهر الخدّ؟!

           

رقـيـتَ نـقـيّـاً، ومـثلُكَ iiيَرقَى   ونَـحـتـاجُ نـحـن إبـاءً iiوعِتقا

لنكسر قَيداً، وندفن رِقّا

ونحتاج غَيماً، ودعداً، وبَرقا

ونحتاج حُبّاً، وطهراً، وصِدقا

ونحتاج نوراً يغوص عميقاً        يُطهّر عُمقاً.. ويُدفئ عُمقا

ويَنسلَ.. يُوغل بينَ العروقِ        يُحفِّز عِرقاً.. ويُبرئ عِرقا

ونحتاج كي لا يذلَّ الرجالُ        دماً في الشرايين يدفُق دَفقا

ونحتاج ألا نكـون قطيعـاً       لوغْدٍ يرى الظلم عدلاً وحقا

ونحتاج ألا يَعيثَ بنا وَ        ثنٌ، عابثٌ، يسحق الشعب سَحقا

           

راعفٌ جُرحُ المروءهْ..

راعفٌ.. ينهلُّ منه الغيثُ ورديّاً، ويأبى أنْ يسوءَهْ

راعفٌ، يا وردةً في مهمهِ الروح، وسطراً في نبوءه

يا سراجاً أشعل الغابات في أعماقنا لما اشتعلْ

فتلظى لهب التنّور يجتاح الحنايا.. والمُقلْ

وتداعتْ حُزم الأشواك.. أشواك الرياء المنتشي فينا..

وأغصانُ الدجلْ

وتهاوتْ كتلاً فوقَ كُتلْ

والمشاريع، مشاريعُ الأناسي، التي نسعى إلى إنشائها فينا..

بريثٍ أو عَجَلْ

كلها هاجتْ كأفراح البراكين.. تسامتْ، كلّ بركانٍ بصدرٍ..

يبتغي رأسَ جبلْ

ثم جفّ الزيتُ.. وانهارتْ ذُبالات المصابيح، وأجساد الشموعْ

وترامتْ عند أقدام الفتور العذب، ما بين الضلوعْ

وتراكضنا قطيعاً هائماً خلف قطيعْ:

ها هُنا لفحة بردٍ.. ها هُنا لمعة تبرٍ.. ها هُنا عضة جوعْ

إنها اللعبةُ في أعماقنا منذ الأزلْ

صَعد اللاعب فيها.. أو نزلْ

لعبة اليأس الذي يطغَى.. فيُرديه الأملْ

يعصف الموت بنا، قبل اكتمال الوهج، لا يُقصيه ذعرٌ أو وَجلْ

ما نجا إلا نبيّ من زَلَلْ

أو شهيدٌ، قبل إتمام لياليهِ، نما حتى اكتملْ

صار بدراً، ثم قرصاً من عَسَلْ

وتسامى.. وارتحلْ

           

عُد إلينا يا محمدْ

لا تعُدْ شِلْواً مُدَمَّى، أو فؤاداً يتنهَّدْ

أنتَ في وجداننا ذكرى من النيران والأحزانِ..

في كلّ صباحٍ ومساء تتوقّدْ

عُدْ إلينا.. لا..

إلى ما ظلّ فينا منك، في أحداقنا مما رأينا..

دفقَ حبّ، نفح روضٍ، ضوءَ فرقدْ

عُدْ لنا بالفرح الأسمى، الذي في كل يوم يتجدّدْ

أنتَ من فجر آلاف الينابيع، من الحبّ الذي قد كاد يَنفدْ

إن بُغض الشرّ والأشرار حبّ لمعاني الخير فينا يا صغيرْ

إنّ مقتَ الظلم والظلاّم عزٌّ يا أميرْ

أيها الرمح الردينيّ المسدَّدْ

أيها الرمزُ الذي فينا، وفي العلياء، يَصعدْ

إنَّ سيفَ الحق بتّارٌ، ولكنْ في قراب الجبنِ مُغمَدْ

عُدْ، فإنّ العَود من أمثالكَ الأبرار، أبناء الغد الوضّاء.. أحمدْ

عُد.. فإن العود أحمدْ..

           

عُدْ إليك..

عُدْ إلى ما أنتَ فيهْ

عدْ إلى أعذبِ شَهدٍ تَحتسيهْ

ياسَناً، يا درّةً، يا طيرَ أيكْ

           

طِرتَ.. لا تحملُ حتى برتقالهْ

يا جواباً دَبجَ البغيُ سُؤالَهْ

وعلى الشمس، من الحزن، غِلالَهْ

ورشفنا كأسنا حتى الثمالهْ:

قطرة من بعد قطرهْ

عَبرة تطرد عَبرهْ

نظرة تحرق نظرهْ

فكرةً تسحق فكرهْ

جمرةً تأكل جمرهْ

حسرةً تخنق حسرهْ

والدمُ "القدسيُّ" يسقي القدس، كالشلال، من شريان زهرهْ

زهرةٌ تنبتُ في أحضان زهرهْ

دُرّةٌ تحرسُ دُرّهْ

تصعد الروح إلى الأعلى، لتبقى "درّة الأرواح" حرّهْ

ولتبقى غضّةً، في أعين الأجيال، أحلام الغد الآتي المُوشّى

بالمسرّهْ

يا صديقي.. يا صغيري..

نحن لا نرثيكَ.. لا نبكيك.. فالموتى لدينا مثل ذرّات الترابْ

قد ألِفنا موتَنا، حتى إذا ما نام منّا واحدٌ تحت الثرى يوماً، وغابْ

قامتِ الدنيا، ولم تقعدْ، كانأ ما رأينا قبله ميتاً، ولم نقرأ، ولم نسمعْ،

بأن الموتَ مكتوبٌ علينا في كتابْ

أنتَ قد فجّرتَنا، فجّرتَ فينا الحسّ، حسّ الموتِ، حسّ الحبّ،

حسّ العيشِ، حسّ الاغترابْ

نحن لا نرثيكَ.. لا نبكيكَ.. بل نرثي لنا، نبكي علينا..

كلُّ أم في بلاد العربِ والإسلام أمُّكْ

كلّ أمّ من بني الإنسان، لم يخبثْ دم الإنسان فيها، هي أمّكْ

كلما ضمّتْ إلى أضلاعها أطفالَها شوقاً تضمّكْ

كلُّ مفجوع، بلا سيف يرد الظلم عنه، وبلا راعٍ يصدّ الذئب عنه..

حيثما كان.. أبوكْ

كلُّ طفل في فِجاج الأرض، مقتولٌ بلا ذنب جناه.. هو أنتْ..

منذ كان الظلم في الدنيا، وقابيلٌ وهابيلٌ، وأطفالٌ تولّتهم ذئاب الرعبِ

كنتْ

يا صغيري..

عُدْ إلى أشواقنا الخضر، إلى بيض رؤانا.. لا إلينا..

ما حَميناكَ.. وقد نحميكَ يوماً، إنْ حَمينا ما لدينا..

من لصوصٍ سرقوا حتى رغيفَ الخبز من بين يَدينا..

إنْ رشَفنا النور صِرفاً.. فانتشينا..

ثم أسرجنا الرياح الهُوجَ خيلاً، وامتطينا

إننا اليومَ متاعٌ، أو دُمىً، أو.. بينَ بينا

خيَّم الذل، أو الجبن، أو الجهلُ، أو الظلمُ، أو القهرُ.. علينا

يا فلسطينيُّ، يا ابن المجد، يا ابن الشمس، يا ابن القدس، نحو الشمسِ،

مَزهوّاً وصلتْ

سافرَ النورُ الذي في قلبكَ الورديّ، نحو النور، لما صادَكَ الغَدرُ،

فآثرتَ الرحيل المرّ عنّا.. فارتحلتْ

وارتحلنا نحن، نحو التيه، في أعماقنا، نسأل عنّا

فإذا أشخاصُنا مذعورةٌ تهرب منّا

وإذا أكبادنا مفطورةٌ تنفِر منّا

وإذا الصبر لنا محض احتراقِ

وإذا الصمتُ لنا محضُ انسحاقِ

وإذا الساعاتُ، ساعاتُ الفراقِ..

عندما سافرتَ عنّا، حامِلاً صكّ انعتاقِ..

محضُ ملح في الشرايين، وملحٍ في المآقي

           

يا صغيري..

أيها الماضي إلى مجد الحياةِ

أنتَ قد ترجمتَ مأساتي إلى شتّى اللغاتِ

أنت مرآتي التي أبصرتُ فيها عجز ذاتي

أسقطتْ مأساتُك الحمراءُ، أوهامَ السلام المرِّ، أعراسَ السلامِ الفظّ

أحلامَ الصغار البائسينْ

أوغلتْ في الصفر، تحت الصفر، في أعماق بئر الصفر، أشلاءُ أمانيِّ

الحداةِ الخانعينْ

يخجل التاريخ من رجع النّواحِ

إن تهاوى في وهاد الموت أبناءُ الأفاعي

أفلا يخجل إنْ ضاعتْ معاني الحبّ في بحر الضياعِ؟

وإذا صارتْ شعوبُ الأرض، في الأرض، رُكاماً من أضاحِ!؟

           

أنتَ شعبٌ كاملٌ، في لُجةِ الموتِ مُجسّدْ

فانتظرنا يا محمدْ

انتظرْ أبناءنا.. أحفادنا الآتين من فجر غدٍ غير بليدٍ، ودم ينصب

من أوصالنا غير مُجمّدْ

فاعفُ عنّا..

إننا نشهد أنّا!ا..

قد سئمنا الضيمَ، واشتقنا إلى العزة والإقدامِ..

فاشهدْ..