أبو الشعر

أيها أبا خالد، يا صخرة الوادي

يا نبعة الشعْر، يا قيثارة النادي

عنّيْتَ شعْبك، لم تركعْ لمغتصب

ولا سجدتَ لغير الواحد الهادي

يا شاعراً ملك الدنيا بمنطقه

وما له غير حبّ الله من زادِ

لم ترجُ دنيا ولم تهتفْ لطاغية:

"مولاي أسعف فمي"، والقحْطُ في الوادي

قد كان لي شرف الإصغاء في أدب

لما وقفْنا سويّا قصد إنشاد

ما زلتُ منتشيا من وقْع سكرتها

وسكرة الشعْر تروي غلة الصادي

ركبتَ ظهر الرياح الهُوج مدّرعا

صبرَ الكماة، وعزمَ الشّاعر الحادي

وخضتَ بحر المنايا غيرَ مكترث

بصوت طاغيةٍ أو سوط جلادِ

وكم ظمئْتَ إلى كأس منوّرة

قدْسيّةِ الوِرد تروي غُلّة الصادي

وكم تشكّيت، والستّونَ سابغةٌ،

طولَ الحياة وقوما غير أجواد

لكنّ سيفك لم تفلُلْه حادثة

إنّ الحوادث تفري سيف حدّاد

وللعزائم سيفٌ غير ذي شطبٍ

عزمُ الرجال مناطُ الكوكب الهادي

أنَّ العراقُ فلم يحزن لأنّتهِ

إلا الكريمُ الشريد الضّامر البادي (1)

أنّ العراق – تعالى الله بارئه -

فارتاع ما بين (تبُقْالٍ) و(توْباد)

أليس أنّا، وإن كنّا ذوي عَددٍ،

من فضله جسدٌ ينمى لإفْراد؟

إذا اشتكى منه عضوٌ ضجّ سائره

وراح يجأر من حُمَّى وتَسْهاد

أنَّ العراقُ، فما ردّدتَ أنّته

حتى أجابكَ صوتٌ نائحٌ شادِ

عرّاكَ جهلا من التّعْريف طاغيةٌ

وأنتُ أشهر في قارٍ وفي بادِ

وكيف يتنزعُ السُّلطانُ ما نسجتْ

كفُّ القَضَاءِ وحاطته بأشْهاد

أراد منكَ لباساً أنت تاركهُ

لكل زعْنِفِة أو بيدقٍ سادي

إذ يحمدُ الظُّلْمَ، يمشي في مباذلهِ

تيها ويسعد إن يعصفْ بأسيادِ

أنتَ العراقُ، وكلُّ الظالمين سُدى

وصولةُ الشِّعْر لا تفنى بتنْقادِ

أنتَ العراقُ، وكمْ لي في العراقِ هوًى

يَسبي الخليَّ ويُصْبي قلبَ زُهَّادِ

أنتَ العراقُ، ويا بغداد ُكم سفحتْ

روحي من الهمِّ، أطوادا بأطوادِ

يمضي الطُّغاةُ، ومجدُ الشّعر ما بقيتْ

شمسُ الحقيقةِ مصباحاً لمرتادِ

بغدادُ أنتِ الهوى، والرُّوح ظامئةٌ

وكم أضرَّ بروحي طولُ إبعادِ

بغدادُ أنتِ الهوى المشبوبُ في كبدي

وكم شقيتُ بتغويري وإنجادي

بغدادُ يا قلعةَ الإسلامِ ما برحَتْ

تحميكِ جُنْدٌ لِطاغوتٍ بمرْصاد

متى اللقاءُ وسيفُ الرُّومِ منصلتٌ

من دوننا، وجِيَادُ الرُّومِ في الوادي

متى اللقاءُ وخيلُ الله يحبسها

جَوْرُ الأكابرِ، لا أصفادُ حدَّادِ

متى اللقاءُ وأهل الحقِّ في رَهَقٍ

والنَّاسُ في حنَقٍ من شنْقِ أجْوادِ؟

كم في العراقِ من الهلْكَى، وكم حَمَلٍ

يصيحُ: "أمِّي" ويبكي الوالدَ الفادي

كم ابنِ سبعينَ يشقَى في تأوّهِهِ

من وطْأة القَهْر لا من وطْء آبادِ

وكم فتىً يحتسي الآلامَ في جَلَدٍ

وكم رضيعٍ لحِجْرِ الجوع مُنقادِ

وكم جريحٍ، ولا يأسو جِرَاحَتَهُ

آسٍ، فما منهمُ إلا بلا زادِ

يا أعْظميَّةُ! ما للقَطْرِ منحبسٌ

عن الكرامِ، وممدودٌ لأوْغَادِ

يا أعظميَّةُ! إنَّ المسلمين يدٌ

أما لعُرْوَتِهِمْ مِنْ ناصرٍ فادِ؟

إيهاً عراقُ! عراقَ الأكثرينَ حصىً

والأكرمينَ أباً من نَسْلِ أمجاد

إيهاً عراقُ! عراقَ الأكْثرينَ ولا

أُحْصِي الأَشاوسَ مِن "سَعْدٍ" و"مِقْدَادِ"

إيهاً عراقُ، جراحي فيك ضارعةٌ

كأنما في وريدي سهْمُ صَيَّادِ

الْحُرُّ يجلو ظلاماً بعد غفْوَتِهِ

والسَّيْفُ يمْحو الخطايا بعد إغْماد

فكيف تأنسُ لاستبداد من جَلَبُوا

وكيف تعنو لجزّارٍ وجَلّادِ؟

وأينَ طعْنَتُكَ النَّجْلاءُ يُرْسِلُها

أهْلُ الشَّهامةِ منْ عُرْبٍ وأكْرادِ؟

فلا المغولُ اسْتَقَرُّوا في رُصَافَتِهَا

ولا (التَّميزُ) عَلَوْا فيها بأوْتَادِ

واليومُ لا غَضْبَةٌ تُذْكي مجامِرُها

شُهْبَ الحِفاظِ، ولا نيرانُ أنْجاد

ولا الصَّدِيقُ صدِيقٌ في مودَّته

ولا العدُوُّ وَفِيٌّ بَعْدَ مِيعَادٍ

وكيف يُرْجَى وفاءٌ من أخي كَذِبٍ

الغدْرُ شيمَتُهُ رغْم الهَوَى البِادي

شلّتْ يدُ الظُّلْمِ، كم أدمتْ وكم هتكتْ

من المحارمِ، كم غَصَّتْ بميلاد

كم شرَّدتْ من رجالٍ (وادِعِينَ) وكمْ

تاهتْ علينا بإعْدادٍ وأعدادِ

كم أدْمَنَتْ من كؤوس النَّفْطِ ما سكرتْ

به البغاةُ، وشعبي ساغبٌ صادِ

ما لي أرى الياسمينَ الغضَّ قد ذبلتْ

منه البراعم وهْوَ الزَّاهرُ البَادِي

والأقْحُوانُ الضَّحوكُ الثّغْرِ ناعسةٌ

منه العيونُ كأنْ باءَتْ بتَسْهَادِ

إيهاً عراقُ! وأهلُ الفكْرِ في ظَمَأ

يُرْدي، وأهلُ الخنا أخْدانُ إرْفادِ

من كلّ أخرقَ مَشَّاءٍ بفَاحِشةٍ

بين العِبَادِ، ويُكْسَى ثَوْبَ زُهَّادِ

أو غادةٍ هتكتْ ثوبَ الحياءِ ضُحًى

(سادتْ) علينا بِقَدٍّ صَاحَ مَيَّادِ

أو مُتْرَفٍ دَنِسِ الأثوابِ مُنْتَفِجٍ

للسَّوْءِ مُبْتذِرٍ، للخير حَرّادِ

لا أنزعُ الفضلَ عن ليلى وعاتكةٍ

ولا نسبيةَ تفْرِي هامة العادي

ولا الثريّا، ولا هندٍ وما حملتْ

ذاتُ النِّطاقينِ في الأسْحَارِ من زادِ

وكيف والأرضُ أنْثَى في توجُّعِهَا

تُهْدي الخصوبة للدُّنْيا بميعادِ؟

سلِ البَتُولَ عن التَّقْوى وآسيةٍ

ما نالَ منها وقدْ أوعى ذو الاَوتاد؟

وسلْ خديجةَ والرّحمنُ يُقرئها

منه السَّلامَ، تعالى الخالقُ الَهادي

لا أمنحُ اللَّوْم سلطاناً فشهْوَتُهُ

حمراءُ ما لم يصنها حُكْمُ سَدَّادِ (2)

لكنَّ لومي (لأزلام) وحاشيةٍ

يُزَيِّنُونَ فَعالا شرُّهَا بادِ

هامانُ أرجى لإنصافٍ وشيعته

إذ قيل: "أرجهِ حتى يُحشَر النّادي"

لكنَّ قوْميَ جاءوا السُّوء وابْتَدَرُوا

زُلفى مَقَالةَ نُكْرٍ: "بادِهِ بادِ" (3)

إيهاً عراقُ! عراقَ الخير معذرةً

أنْ صرْتَ ملْجأ زوَّارٍ وقُصَّادِ

تقَصَّدَتْ مُرْهَفَاتُ الغَدْرِ في كبِدي

وزارَ روحيَ هَمٌّ غيرُ مُعْتَادِ

فجئتُ أنْفضُ في كَفَّيْكَ ما حملتْ

كِنَانَتِي وحواهُ القلْبُ من زادِ

قلت: العراقُ! وعندي أنه وطنٌ

يمتدّ ما بين أقطار وآماد

من الرّباطِ لوهْرانٍ، ومن حلَبٍ

لأرض بلْقيسَ... من سِينا لبَغْدَادِ

ومن دمشقَ... إلى الخضراءِ لائمةً

أعتابَ مؤتزرٍ بالنُّكْر شدَّاد

إلى الجزائرِ، وهْيَ اليوم مُحْصَنةٌ

تنهدُّ ما بين جُهَّالٍ وحُسَّادِ

أرضَ الكنانةِ! إنَّ الفضلَ أجْمَعَهُ

في ضفّتيكِ، فمن أغرى بآسَاد؟

أأسألُ الهرمينِ اليوم عن زُمَرٍ

كانوا النُّجومَ، وكانوا زينة النادي؟

فأصبحوا لا ترى إلا مآثرهم

بين العِبَادِ، وكانوا خير عُبَّادِ

أم أسألُ الكَرْنكَ المحزُونَ علَّ لَهُ

مِنْ عِلْمِهِ ما يُرَوّي غلَّةَ الصَّادي

أم الصعيد وقد أدمت مناسمه ال

سهام من كل صعّاد ووهّاد؟

أرضَ الكنانةِ، ما للسامريِّ غدا

يعيث فيك فساداً أيّ إفساد؟

يا مصرُ! أربت يد الباغين فيك على

فعلِ الطواغيت جابوا الصخر بالوادي

لكنَّ صبحك يا (أمّ البلاد) غدا

أدنى لناظره، يا مصرُ فارتادي

هيهات! لن تنضبَ الأنهارُ فيكِ جرتْ

من عهدِ منْ لم يكنْ في رأيه البادي

ويا محاريبَ هدْيٍ –كان– ما صنعتْ

من بعد عقبةَ أحفادٌ بأجدادِ؟

قد جئتُ، يا تونس الخضراء، في كبدي

جرحٌ فآسيتِ يا خضراءُ أكبادي

وقد تحمّلتِ عني – والكريمُ يدٌ

لكلّ مغتربٍ – ما آد أوْتادي

كم كانَ لي من نديمٍ في مرابعِها

الذّكرُ ألحانه والكأسُ إسعادي

ما يبتغون سوى الحُسْنى لأمّتهمْ

وإن تخرَّمَهُمْ إرجافُ أوغادِ

والجامعات زهتها كلُّ منشدةٍ:

يفديكِ، تونسُ، إطرافي وإتلادي

أفديكِ يا كعبة َ(الزّيتونةِ) انصلتت

سيفاً على كل باغي الشّرّ معْتاد

يا مربع الخفراتِ الخرّدِ انطلقتْ

تبغي الرباطَ، ويا أكنافَ زُهَّادِ

يكادُ يَشْرَقُ (حَلْقُ الوادِ) من حزَنٍ

على الكرام، وتَضْحَى ظبيةُ الوادي

كم من شجٍ في حناياها وقانتةٍ

تشكو لبارئها بغيَ الورى البادي

إذ مزّقوا عِرْضَها من بعدما هتَكَتْ

حِجابها العفَّ كفٌّ ذاتُ أنْكاد

جميلة، يا ابنة النّجّارِ، قدْ هَتكتْ

         كفّاكِ عن صنَمٍ أثوابَ أحْقادِ(4)

جميلة صنعتْ نعْشاً لطاغيةٍ

بظُلْمِهِ فتلقّاهُ بإرعادِ

      ويا عبيرَ ابنِ باديسٍ وصولته

    ويا مرابعَ عبدِ القادِرِ الهَادي

ويا مراتعَ غزلانٍ محَصَّنَةٍ

من العفافِ، ويا آجامَ آسادِ

قد جئتُ يسبقني قلبي، وتسألني

ليلَى وقد عجِبتْ من طولِ تردادي (5)

ليلى! ويغرق قلبي في أضالعه

مما يلاقي، ويشقى بعد إسعاد

قد كان أوّل أشْواقي وآخره

فيها، وأعذب أشعاري وأورادي

فكيف أصرف عنها وجه قافيتي

إلى سواها، وألحاني وإنشادي؟

وكيف أهجرها والجرح متّسع

إذن لقد جئت آدا أَيَّما آد (6)

كم لي بها من صديقٍ كانَ خِدْنَ صِبا

الصَّخْرُ يعرفُنا والسَّهْلُ والوادي

وكم هنالك من ريَّا مخدّرةٍ

جادتْ عليَّ بها أرواح (تمقاد)

رحماكَ ربّيَ إنّ الحُبّ مثَّلَ بي

حتى غدوتُ حديث الرائح الغادي

إذا نطقتُ تنادوا: زلَّ صاحبكمْ

وإن سكتُّ فأمري المضمر البادي

تحدو ركابي تلمسانٌ وآونةً

تحدو قسنطينةٌ.. طاب الهوى الحادي

لكنّ حبِّيَ فوق الحبِّ لو علموا

معناه قرَّتْ به أجفانُ حُسَّادي

إنْ قيل يوماً: بشيرُ الصُّبْحِ منْبلجٌ

طاف النَّعِيُّ بأرواحٍ وأجسادِ

يا كمْ خليلٍ نقيِّ الثَّوْبِ غَيَّبَهُ

جوْرُ العساكرِ عن أهْلٍ وأولادِ

وكم قريبٍ ظلامُ الشَّكِّ أوردَهُ

ظلْماً غيابةَ جُبٍّ ذاتِ أنكاد

وكمْ هنالك في الأوراسِ من لِدَةٍ

أودتْ به غدرةٌ من كفِّ جلاد

وكم فتىً ماجدٍ أودى بطلْعتِه

خِبٌّ، وكان تقِيًّا بين أنداد

فإن يكُ ابنُ نبيٍّ من أرومتها

صاغ الحروفَ رشادا وابنُ حداد (7)

المالكان اللذا اقتادا أزمَّتَها

في بارقٍ مِن ظلامِ الليل رعَّادِ

فكم درجتُ صبيًّا في مرابعها

وكم حفظتُ هواها بين أكبادي

ولي إليها  وإن ألْوَتْ  عُرًى متنتْ

من الشريعة، فيْضٌ نورُه هادِ

إن كانَ للأطلس الجَبَّارِ مُنْتَسَبِي

وفي سِجِلْمَاسَّةَ الزَّهراءِ أجدادي

فكلُّ داعٍ إلى الرَّحمنِ فهو أخي

قضى بذلكم الرحمن والهادي

وعُنصُري حسنيٌّ محتداً ويداً

عفٌّ بصحْبي، مثيرٌ غيظَ حُسَّادي

سهْلُ القيادِ لذي ودٍّ وذي خُلُقٍ

سمْحُ الخليقةِ ما لم تُرْمَ أقْتَادي

لكنَّ عَزْمي حُسَيْنِيٌّ إذا غَشِيَتْ

حِمَايَ غاشيةٌ ترنو لأوتادي

أو سِيمَ منْتجعي أو لِيمَ مرْتَبعي

أو ضِيمَ ملْتَجَئِي أو ريمَ إيعادي

آهٍ! وفي كبدي ما ليس تحمِلُه

عنّي الشِّفاه ُكأنْ زُمَّتِ بأسْدادِ

تجري الدِّماءُ ولا يُدْرَى مُفَجِّرُهَا

تكادُ لَعْنَتُهَا تُودِي بالاَوْتَاد

تجري الدماءُ ولا يُدرَى أصانِعُهَا

أخو الأرُومةِ أم من صنْعِ (موسادِ)؟

والحاكمون عن الآلام في شغُل

كأنما جاوروا الشِّعرى بمنطاد

تلهيهم عن جراح الشعب ألوية

و(أنجم) وسرير حشو أنضاد

وراية ونشيدٌ... والجراح فمٌ

أذاك ميراث أجدادٍ لأحفاد؟

مستلأمين دلاص السّوء سابغة

مستحقبين ضلالا غبّ إرشاد

مستمرئين وِجار الضبّ يدخله

عبَّادُ عجْل وتثليث وإلحاد

مسترخصين دماء الشعب تحرسهم

وينصبُون له أعلاق أعواد

لا يُسأل الشعب في ورد ولا صدر

وباسمه كلّ إصْدار وإيراد

وباسمه تنهب الأرزاق وهْوَ عَمٍ

(طاوي المصير كسيف الصيقل الوادي)(8)

ما بين مخصمةٍ تذوي ومنقصةٍ

تغري يعالج أكمادا بأكماد

تنال منه سيوف الذل من سَرَفٍ

"بعد الذراعين والساقين والهادي"(9)

ما حكْمُ أكثرهم في العالمين سوى

روايةٍ دلّسَتْ من غير إسناد

إن يسلبوه ثياب العز لا عجب

أن يستبيح كفور دار أسياد

إنّ المملَّك لم يظفَر بأمّته

حصْنا تمرغ في ذلّ وإيعاد

والشعْب ما لم يكن درعاً لأمته

أضحى لشرّ البلايا شرَّ منقاد

إيها أبا الشِّعْرِ! طال الليلُ واختلجت

فيه الدلاءُ وما أفضَت لميعاد

لو كان ليلُ أخي ذبيان يشبهه

لجفَّ بين يديْه كلُّ إنشاد

والشعر ليس أحاديثاً مُزخرفةً

جهلا تُرصُّ بأسباب وأوتاد

والشّعر ليس أباطيلا منمَّقةً

يلهو بريِّقِها السُّمَّار في النَّادي

لكنَّهُ جذوة الرُّوح التي اتّقدتْ

من صيحةِ الحقّ لا وسواسِ إلحادِ

لا كان شعرٌ إذا لم يَعْدُ صيّبُه

يهدي الحيارى ويروي غلّة الصادي

إيهاً أبا الشّعر! قلبي موجعٌ قلقٌ

وبثُّ يعقوبَ ثاوٍ بين أورادي

إيها أبا الشّعر! قلبي موجعٌ ويدي

مغلولةٌ، فمتى تنفكّ أصفادي؟

إيها أبا الشعر! قلبي موجع ودمي

يزكو إذا ما سقى ميراثَ أجدادي

إيها أبا الشعر! قلبي موجع وفمي

مكبَّلٌ، وقصيدي نَوْحُ أكباد

لا عيدَ عندي، سليل الشّعر، يُبْهجني

حتّى وإن كثرتْ في الأرض أعيادي

فللضّحايا صراخٌ في جوانحنا

تعْوي، فهل مُصْرخٌ فيها بإنجاد

وللأسارى أنينٌ، رُبَّ كاشفة

تزور من بعدما غمٍّ وإجهادِ

كم فتيةٍ سجدوا لله واعتصموا

بالله وانطلقوا أنضاء تسهاد

قد أنزلوهم مهاوي لا قرار لها

وأوردوهم عليها شرَّ إيراد

يا ويحهم! كم أرادونا لمعصيةٍ

وكم أردنا لهم أثواب أمجادِ

وكم أردناهم صِيداً بأرضهم

وسادةً كنسورٍ أو كآسادِ

وكم كسوناهمُ حمداً ليبتدروا

والحمدُ للحرِّ لا يغري بإخلاد

وكم عتبنا – على قصْدٍ – ليزدجروا

فعْلَ النَّصوح، كما أبدى أخو عاد

كأنما قُدَّ من صخْرٍ قلوبهمُ

وقد تلينُ رويداً صخرةُ الوادي

وقدْ يُفجَّرُ منها الماءُ مندفعاً

ولا يُفَجَّرُ منهمْ غير أحْقادِ

كأنما خَتمَ الرَّحمنُ    قُدْرتُهُ

جلّتْ – عليها بأختامٍ وأسْدادِ

والله ربُّكَ للمستكبرين    وإن

مُدَّتْ إلى الشُّهْبِ أيديهمْ  بمرصادِ

إيها أبا الشعر! لا جُرحي بمندَمِلٍ

مما نعاني، ولا حُزني بنَفَّاد

هذا رثاؤكَ، إلا أنّه حممٌ

على البغاة سَعَوْا فيها بإفساد

وجدة: ربيع الثاني 1408- سبتمبر (أيلول) 1997.

 

إشارات

(1) البادي ضد المقيم، وسترد مرة أخرى بمعنى الظاهر، وثالثة بمعنى ساكن البادية، ورابعة بمعنى الذي يبدأ الأمر ويفتتحه.

 (2) سدّاد: كثير سداد الرأي.

(3) باده: بادره بالشر، ومنه قول جرير لمن لامه على الهجاء: (إنني لا أبتدي ولكنني أعتدي) أي لا أبادر الناس بالشر ولكنني أنتصف ممن ظلمني.

(4) جميلة النجّار: مجاهدة تونسية، من ضحايا نظام زين العابدين بن علي.

 (5) سألتني أديبة جزائرية عن سر اهتمامي الكبير بالجزائر، اهتماما يفوق بعض أدباء الجزائر أنفسهم، وهذا بعض الجواب.

(6) الأد والإدّ شيء واحد، وهو الأمر الثقيل، والعظيم، والمستهجن، ومنه قوله تعالى: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا  أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا).

(7) المفكر مالك بن نبي والأديب مالك حداد، رحمهما الله تعالى، وهما ممن ثار على المدرسة الاستعمارية، وأخلص لأرومته العربية والإسلامية.

(8) الوادي: طالب الدية، والشعر مقتبس من النابغة الذبياني، مع تحرير طفيف.

(9) اقتباس من البيت الجاهلي المشهور:

تظلّ تحفر عنه إن ضربت به

بعد الذراعين والساقين والهادي

وسوم: العدد 745