نظرية الشعر الإسلامي بين الـمنهج والتطبيق في الـميزان -منظور عباس الـمناصرة نـموذجاً-

د. محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـة

clip_image002_f9d89.jpg

الجزء الثاني

الوثائق الخمس لاستخراج نظرية الأدب الإسلامي

لقد بنى الدكتور عباس المناصرة جهوده للتأسيس لنظرية للأدب الإسلامي على ضرورة الاعتماد على الوثائق الخمس، وفي مقدمتها القرآن الكريم، الذي نلفي فيه جملة من الشواهد التي تؤسس نظرية للأدب، وقد صنف الدكتور المناصرة تلك الشواهد إلى ثلاثة خطوط رئيسة هي:

نعمة اللغة، والبيان، حيث إن البيان البشري بشكل عام هو فطرة ربانية، ومنه فنون الأدب: الشعر، والنثر، والقصة، والفنون الأدبية التي لا حرمة فيها، إذا استعملت بشروطها الشرعية.

قيمة البيان وخطره، حيث إن الإنسان يُحاسب على هذه النعمة، إذا خرجت عن وظيفتها، وفي هذا مقدمة شرعية للبحث عن نظرية الالتزام، والأدب، والأخلاق.

قضية الشعر، وتفاصيلها في القرآن الكريم، وهي تمثل المقاييس الشرعية، وثوابتها للقضية الأدبية من كلام الله سبحانه، وتعالى، إذ أن الأدب فن يعتمد البيان، وهو فن قولي له مقاييسه التي تميزه عن باقي فنون القول في الحياة البشرية.

أما الوثيقة الثانية فهي السنة النبوية الشريفة (الأحاديث)، حيث يُنبه الدكتور المناصرة لدى عرضه لهذه الوثيقة، إلى أنه يُمكن تصنيف الأحاديث الشريفة في قضية الأدب، ولاسيما في فن الشعر إلى نوعين:

     النوع الأول: وهو الذي يتحدث عن قضية الشعر، وتفاصيلها بشكل خاص، ومباشر.

النوع الثاني: وهو الذي يركز على أثر البيان، وخطر الكلمة، وقيمة البيان، ومسؤولية الكلمة، فالأحاديث النبوية الشريفة يُمكن أن تكون مادة غنية للمنظِّر الأدبي، إذا جمع بين الخبرة الكافية، وسعة الأفق في إدراك مقاصد النظرية الأدبية، كما أنه يتوجب عليه أن يُحسن الاستقراء، والاستنتاج منها.

ويُعد الدكتور عباس المناصرة أدب الصحابة الكرام (الشعر والنثر)، وثيقة ثالثة، لها أهمية خاصة، حيث شرحها بدقة، وإسهاب، وأرجع أهميتها إلى أمور كثيرة منها:

كونها تمثل النموذج الفني الإبداعي، و«الوثيقة الفنية للأدب الإسلامي، الذي استجاب لله ورسوله، فأنتج أدباً إسلامياً تتجسد فيه المقاييس القرآنية والنبوية، في فنون أدبية متعددة: كالشعر، والرسائل، والوصايا، والحكمة، والخطابة.

إن هذا الأدب أصبح جزءاً من التشريع الإسلامي، والسنة النبوية (التقرير)، لأنه نال إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم، ورضاه…، وهو يفرض على المنظرين استخراج مقاييس النظرية الأدبية الإسلامية من أدبهم الذي نال إقرار النبي عليه الصلاة والسلام.

إن هذه الفترة، هي التي تمثل خير القرون، وكانت السيرة النبوية النموذج الشامل للإسلام في مختلف جوانب الحياة…، وبهذا تكون هذه الفترة، هي التي قدمت نصوص النموذج الأدبي للإسلام، وهي النصوص التي نالت تقرير الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي النموذج لأدب إسلامي مقر شرعياً، من الذي لا ينطق عن الهوى..»)7(.

وقد اعتبر الدكتور المناصرة قضية خلود المذهب الإسلامي واستمراره وثيقة رابعة، وهي وثيقة واضحة تثبت قدرة هذا الدين على الاستمرار، حيث يستمر مذهبه الأدبي، وتظل قدرته ثابتة في توجيه الأدب العربي لصالحه، حيث إن هذه الوثيقة تنفي الادعاءات التي ترى أن الأدب الإسلامي مصيره الموت، والوأد، وهي الادعاءات التي يدعيها دعاة التغريب كما يذكر الباحث عباس المناصرة، ويذهب إلى القول في هذا الشأن:«…حاول دعاة التغريب تمرير أفكارهم الخبيثة، التي تصور أن الإسلام أنتج أدباً إسلامياً في فترة الدعوة الأولى (أدب الصحابة)، وبعدها انتهى تأثير هذا الإسلام على الأدب العربي، وعاد الأدب العربي إلى سابق عهده قبل الإسلام، بمؤثرات قليلة من الإسلام، ولذلك نجد أنهم يحاولون وباستمرار طمس حياة مذهب الإسلام في الأدب، أو النظرية الأدبية الإسلامية، وينكرون استمرارها من أجل تشويه الأدب العربي، وحرف مساره في محاولة لوأد هذا الأدب، من خلال عدم تشجيع الدراسات النقدية الجامعية للتنقيب عنه، واعترفوا به فقط ضمن تاريخ الأدب العربي كمذهب منقرض لا امتداد له، وهنا يتأكد الواجب الكبير على دعاة النظرية، أو المذهب الإسلامي في الأدب، أن تنصب دراستهم النظرية والعملية على الأدب العربي، لإثبات إسلامية هذا الأدب، لأن هذا الإثبات معناه استمرار حياة وخلود المذهب الإسلامي، وفي هذا تحصين للأدب العربي من الهجمة التغريبية»)8(.

كرس الدكتور عباس المناصرة القسم الأخير من جهوده لاستخراج نظرية للأدب الإسلامي، للحديث عن الوثيقة الخامسة التي وسمها بـ«التعبير عن طموحات النظرية الإسلامية وهمومها في ظل الثوابت والأولويات الشرعية»، وهذه الوثيقة تتجلى أهميتها في الاعتراف بحق أبناء هذا الزمن في التعبير عن هموم، وهواجس النظرية الإسلامية، وطموحاتها، في ظل الثوابت، والأولويات الشرعية، وفي ضوء الخضوع لها، والتقيد بها، ويُعدها الباحث عباس المناصرة حقاً لكل أديب، أو ناقد مسلم في كل الأزمنة، والأمكنة، فيتوجب عليه أن يفكر، ويجتهد من أجل تطوير المناهج، والوسائل، والأدوات التي ترقى بالنظرية الإسلامية، وتطبيقاتها في الأدب، وهذا من شأنه أن يُعمق النظرية، ويضيف إليها الكثير، من خلال حشد الطاقات، والخبرات العلمية، والتذوقية، والمنهجية.

   إن ما يُلاحظ على جهود الباحث عباس المناصرة هو أنه لم يقتصر على التحليل، والنقاش، والطرح فحسب، بل سعى إلى إيجاد حلول ناجعة، وقدم أفكاراً ورؤى تستحق الإشادة، والتنويه، وهي أهل لأن ينظر، ويدقق فيها النقاد الذين يهتمون بقضايا الأدب الإسلامي، ومن أبرز الأفكار التي سعى الدكتور عباس المناصرة إلى تكريسها للنهوض بنظرية الشعر الإسلامي:

   أولاً: الوضوح والإيصال: فهما غاية البيان، وهذا يقتضي أن يكون هدف الفنية الإسلامية في الأدب التبليغ، الذي يُنافي الغموض، ولأن الغموض سيؤدي حتماً إلى قتل غايات الأدب، ويضعف تأثيره.

   ثانياً: يجب التفريق بين (طبيعة الأدب)، التي تنهض على الفنية، وتميز الأدب عن سواه من الفنون، والعلوم، و(وظيفة الأدب)، التي تقوم على توظيف تأثيره في خدمة قيم الدين، والأخلاق، وكلاهما في الإسلام أصل شرعي، لا يمكن التهاون فيه على حساب الآخر، حيث يرى الدكتور عباس المناصرة أن التهاون في مواصفات (طبيعة الأدب) يعني الخروج من الأدب نفسه، كونك تتنازل عن الفنية، والصنعة، والتميز، وهذا يعني التفريط في الإتقان، وهذا يعني الاعتراف بالأدب الضعيف، والذي يصبح عاجزاً عن القيام بوظيفته.

أما التهاون في الأصل الثاني (وظيفة الأدب)، فهو يعني الخروج عن الإسلام نفسه، وفصل الأدب عن الأخلاق، ولا ريب في أن هذا الأمر مرفوض شرعاً، لأنه يعني فصل الدين عن الأدب، ويخلص الدكتور عباس المناصرة إلى أنه لا يُمكن الفصل بين طبيعة الأدب، ووظيفته، فالجودة والإتقان تضمن التأثير، والتأثير معناه القيام بمهام الوظيفة خير قيام.

   ثالثاً: الخيال الإسلامي: فالصورة الفنية تستمد خيالها من عقائدها، وهي تخضع للعقائد، لذلك فنقاء الخيال «من ضرورات محافظة الأمم على نفسها من الاختلاط، والمسخ، والفنيات الأدبية لا تتكون بمعزل عن تصور الأمم وقائدها، فخيال الأمة الإسلامية يرجع في أصوله إلى تفسيرها للكون، والحياة، والإنسان، والذي أخذته من عقيدتها…

والخيال الإسلامي خيال ممتد بحدود التصور الإسلامي، ثم تختزن هذه الخبرات في الذاكرة لتصبح مرجعاً، ومنهجاً يستشار، ويقاس عليه في القضايا الفكرية، والثقافية، وبعدها تأتي قضية الإخراج الفني، والجمالي للتجربة الشعورية القلبية من قبل الخيال»)8(.

يقترح الدكتور عباس المناصرة ثلاثة مقاييس رئيسة يحتكم الخيال لها في الإخراج الفني للقصيدة أثناء عملية الصياغة، والأداء الفني للتجربة الأدبية، وهي:

المعقولية: وهي تعني أن يناسب المقال الحال في البناء الفني.

الجمال: وهذا يعني أن يكون البناء الفني خاضعاً لمعيار الجمال، والتناسب، والتناسق، حيث يبرز الصدق الشعوري، والفني، والواقعي، ويقوم بإيصاله بطريقة مؤثرة، وموحية للمتلقي.

نقل التوتر: وهو مقياس يعتمد على دقة نقل التجربة الشعورية، مما يمكن القارئ من استعادة التجربة، والتوتر الذي رافقها، فيشارك الشاعر أحاسيسه، ويتعاطف مع تجربته الصادقة، على الرغم من المسافة الفاصلة بينهما من حيث الزمان، والمكان.

وينبه الدكتور عباس المناصرة في الختام إلى بعض الموضوعات، والقضايا التي يمكن دراستها، والتوسع فيها من أجل إثراء الأدب الإسلامي، وهي: أهمية الأدب في بناء وجدان الأمة، والعلاقة بين الأديب والناقد، ومبررات الدعوة للأدب الإسلامي، وتفسير الظاهرة الأدبية، وتعريفها.

 الهوامش:

(1) د.عبد الملك مرتاض: نظرية النص الأدبي، منشورات دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر،2007م، ص:35.

(2) ينظر الغلاف الخلفي لكتاب الدكتور عباس المناصرة: مقدمة في نظرية الشعر الإسلامي-المنهج والتطبيق-، منشورات مؤسسة الرسالة ببيروت، ودار البشير في عمان، الأردن، ط:01، 1997م.

(3)   د.عباس المناصرة: مقدمة في نظرية الشعر الإسلامي-المنهج والتطبيق-، منشورات مؤسسة الرسالة ببيروت، ودار البشير في عمان، الأردن، ط:01، 1997م، ص:6.

(4) د.عباس المناصرة: مقدمة في نظرية الشعر الإسلامي-المنهج والتطبيق-، ص:9-10.

(5) المرجع نفسه،ص:43.

(6) المرجع نفسه،ص:48-49.

(7) المرجع نفسه،ص:52.

(8) المرجع نفسه،ص:171.

وسوم: العدد 858