دمشق مدينة السحر والشعر

لمحمد كرد علي

إياد خالد الطباع

أقترح على الأستاذ كرد علي خريف سنة 1943م أن يكتب لسلسلة اقرأ كتاباً مختصراً في وصف مدينة دمشق وتاريخها واقتصادياتها وغوطتها، فكتبه في 150 صفحة صغيرة لها.

ولما فتن كرد علي بمدينة دمشق، لم يجد عبارة يصفها بها سوى أنها مدينةٌ تسحرُ من رآها، وتدفع الأديب والحالم إلى البوح عما في نفسه من شعور طيب، لما فيها من جمال أخاذ، هذا الجمال تجلى في الإنسان والعمران، والتاريخ والطبيعة والجغرافية.

بدأ الأستاذ كتابه بوصفٍ موجز لدمشق وطبيعتها، ثم أتبع ذلك بتاريخ دمشق السياسي: في القديم، وقبل الفتح العربي، وفي الإسلام، وفي عهد العباسيين، وفي عهد السلجوقيين، وعلى عهد الدولتين النورية والصلاحية، وعلى عهد المماليك، وفي عهد الدولة العثمانية، وفي العهد الأخير.

ثم خصَّ الكلام على عمران دمشق من عهد الرومان، فالعهد الأموي، خاصاً الجامع الأموي بمزيد كلام، فالعهد العباسي، ثم الدولة المتتابعة.

ثم أفسح القول في كتابه للكلام على خطط دمشق ومصانعها، والكلام على بعض الكتابات والنقوش الأثرية المتوافرة في المدينة، ووصف القدماء والمحدثين.

يقول الأستاذ كرد علي في وصف دور دمشق وعمرانها: "اشتهرت دور دمشق بأن داخلها حوى الجمال برمّته، وخارجها لا ينبئ عن شيءٍ كثيرٍ، وهذا يومٌ كان جل الاعتماد في البنيان على الطين والخشب، يقوم قال فيها البحتري:

وتأملتُ أن تظلَّ ركابي=بين لبنان طلعاً والسنير

مشرفاتٍ على دمشق وقد أعـ=رض فيها بياضُ تلك القصور

والبيت الدمشقي في العادة عبارةٌ عن صحن أو فناء فسيح في وسطه حوضُ ماءٍ، يتدفق إليه من أنبوب أو فوارة لا ينقطع جريها، وقد غرست فيه من الرياحين والأشجار المثمرة كل جميل وعطر، وعلى جوانب هذا الصحن المخادع والغرف والقاعات، وفي القاعة بركةُ ماء أيضاً، وربما جرت على قامة في الجدار لتزيد في رطوبة المحل في الصيف، وفي الطبقة الثانية العلالي، وهي خاصة بالشتاء على الأغلب، فبيوتُ دمشق القديمة حوت جميع المرافق، ومنها الحديقة والأشجار والمياه.. والغالبُ أن الزلازل في الدهر السالف دعت الأهلين ألا يستخدموا الحجر في بنيانهم إلا نادراً".

وأردف المؤلف ذلك بوصف خصائص سكان دمشق وتركيبتهم وهجرتهم إليها، ويذكر من خصائصهم قوله: "والدمشقيون من أكثر العرب حنيناً إلى بلادهم إذا اغتربوا، وإذا اغتنى الدمشقي قليلاً لا يلبثُ أن يعود إلى مسقط رأسه".

ويقول: "وفي الدمشقي قوةُ التمثل، إذا دخل بلاد الترك أو الهند أو فارس، أو أرض الإفرنج تعلم في الحال لغة البلاد التي نزلها. أما من تعلموا لغة من تلك اللغات الغربية في المدارس فإنهم يتكلمون بها ويكتبونها كأهلها، وهكذا كان لنا أدباء بالتركية، وأدباء بالفرنسية، وأدباء بالإنكليزية، ويشبه استعداد الدمشقي في باب إتقان اللغات الأجنبية استعداد أهل بولونية في أوربا لتلقف اللغات".

ثم دلف في الكلام على الحياة الأدبية والفنية والصناعية فأفاض القول في العلم والأدب والفنون الجميلة والصناعة والتجارة فيها.

ثم ختم كتابه بالكلام على حبه غوطة دمشق، التي قضى فيها طفولته إلى الشباب، والشباب إلى الكهولة، والكهولة إلى الشيخوخة، ولاقى ربيعها وصيفها وخريفها وشتاءها يقول: "أنعشني هواؤها، وأدهشتني أرضها وسماؤها، وما فتئت منذ وعيتُ أقرأ في صفحة وجهها الفتان آيات الإبداع والإعجاز.

في ربوعها شهدتُ الطبيعة تقسو وتلين، وتغضب وترضى، وتشح وتسمح، فراعني جمالها وجلالها، وشاقني تجنيها ووصالها.

نشقتُ أنفاس رياها، وهي ترفل في زهرها ووردها، واستهوتني مجردة من ورقها وثمرها ونباتها، فأخذت بها كاشيةَ عاريةَ.

طبع الكتاب مرتين، الأولى سنة 1944 بالقاهرة وصدرت ضمن سلسلة اقرأ، والطبعة الثانية في دار الفكر بدمشق سنة 1404هـ = 1984م.