المقاصد الجزئية

الشيخ يوسف القرضاوي

ضوابطها. حجيتها. وظائفها. أثرها في الاستدلال الفقهي

(رسالة دكتوراه)

الشيخ العلامة يوسف القرضاوي

الطبعة الأولى. 1436هـ/2015م

دار المقاصد للطبعة والنشر والتوزيع بالقاهرة

تقديم (1)

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتَّبع هداه. (وبعد):

فإن الدكتور وصفي عاشور أبو زيد - حفظه الله ورعاه، وسدّد في طريق العلم والدعوة خُطاه - ابنٌ حبيبٌ، وأخٌ عزيز، وصديقٌ كريم، ونصيرٌ مبين، وعضوٌ مُؤسِّس في أسرة تلاميذ القَرَضاوي؛ فهو مني وأنا منه؛ أعتزُّ به، وأُقدّر علمه وفضله بين أبنائي وأحبابي، وهو إذا ذُكر العلماء فهو أحدهم، وإذا ذُكر الباحثون فهو في مقدمتهم، وإذا ذُكر المقاصديون فهو في طليعتهم، وإذا ذكر الدّعاة فهو منهم، وإذا ذكر الثائرون على الطواغيت فهو في أوائلهم.

دخل الدّعوة من باب الفقه، ودخل الفقه من طريق المقاصد، وفَقِهَ المقاصدَ من طريق فقْهه للقرآن الكريم، وللسنة النبويَّة المطهرة، ولفقه الصحابة والراشدين، وفقه تلاميذهم الأبرار من التابعين لهم بإحسان، ثم بفقه ما خلَّفه لنا الأئمة وأتباعهم من مصادرَ ثَريّةٍ، وكتب غنيّة، تركها الأولون، وزاد عليها الآخرون، فنهل منها جميعاً نَهْلَ الظمآنِ من الماء الـمَعين، وأعملَ فيها عقله الناقد، وحسَّه الواعي، فأعطته ما يُرضي فطرته، وما يُشبع فكرته، وما يَملأ وجدانه، فنال من منابعها الزاخرة، ومن منابتها الأولى والآخرة، أكثر مما ناله غيره على قدر جدّه ونيّته، ولله الفضل والمنّة.

وقال ما قاله إمامنا ابن القيم في إعلامه: "الشريعةُ عدل كلّها، ورحمة كله، وحكمة كلّها، ومصلحة كلّها، وأي مسألة خرجت فيها من العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى ضدها، ومن الحكمة إلى العبث، ومن المصلحة إلى المفسدة، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل".

لقد رأى الباحث الكريم أن الإسلام كله رسالة مقاصد، فله مقاصده في الشريعة، وله مقاصده في العقيدة، وله مقاصده في الأخلاق، وله مقاصده في كل ما يشرعه للناس، الذين يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، ويريد التخفيف ولا يريد التضييق، ويريد السعة ولا يريد الحرج، كما قال تعالى معلقا على أحكام الصيام: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة: 185 ]، وقال تعالى بعد أحكام النكاح والتحريم: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}[ النساء:28 وقال عز وجل:{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [ الحج:78].

وقد كتب الدكتور وصفي عاشور كتابه في" المقاصد الجزئية في الشريعة الإسلامية"، ورجاني أن أكتب له مقدِّمة، وسلَّم إليَّ الكتاب، وبعد ما أصابني من وعكة صحية، وبعد انتصار الثورة المصرية، وبعد وفاة أخينا الحبيب، وشيخنا الكبير الشيخ عبد المعز عبد الستار، وشعرت بعدها بفتور الهمَّة، وخمود الجذوة، وضعف الشعلة، حتى هيأ الله - تباركت آلاؤه، وتعالت أسماؤه – لي هذه الفرصة لأمسك بالقلم، وأخط هذه السطور لتقديم باحثنا المحبَّب، وعالمنا المهذَّب.

وقد عُرِف د. وصفي بعلمه وبحثه وتخصُّصه في مقاصد الشريعة، وبعنايته بالجوانب الإصلاحية في مجتمعاتنا الإسلامية، وغيرته على الإسلام وأمته، وما تتعرض له من أعدائها وخصومها، في الداخل والخارج، ولهذا تعرفتْ عليه الجهاتُ الإسلامية المختلفة، وتعارف عليه الشباب الواعدون الصاعدون في دراسة الشريعة الإسلامية، والعقيدة الإسلامية، والأخلاق الإسلامية، ولهذا رأينا مركز الدراسات الذي قام من أجل الوسطيَّة في الكويت وكُلف بإدارته الدكتور الداعية عصام البشير، يختطفه من القاهرة، ويضمّه إلى صفّ العاملين معه، حين كان في أوج قوته، وبداية مشواره.

ورأيناه ينضم من أول يوم، ومن قبل البدء، إلى مدرسة تلاميذ القرضاوي، التي بدأت في الدوحة، وأبلغت دعوتها إلى المشارق والمغارب، ليتجاوب معها كثير من الشباب والكهول، الذين يعرفون بالفكر الوسطي والتجديدي المتميز والمعمَّق، والذي يعتمد على علم المقاصد، وفقه الأولويات، وفقه المآلات، وفقه الموازنات، وغيره من أنواع الفقه العملي التطبيقي الذي تحتاج إليه الأمّة في نهضتها العلمية والعملية والتشريعية.

وحين بدأت ثورات الربيع العربي بدءًا من تونس، وتثنية بمصر، ثم بليبيا واليمن، ثم بسورية، كان في مقدمة الذين حملوا اللواء، ولبّوا النداء، وقدموا الفداء، ونادوا الجماهير، لتقوم بدورها، وتؤدي واجبها في نصرة الحق، ومقاومة الباطل، والدفاع عن الشعب، ومطاردة السفاحين، والنهابين، الذين ظلموا الشعوب، وسفكوا دماءها بغير حق، وانتهكوا حرماتها بالباطل، وأكلوا أموالها حراماً، وسرقوها بل نهبوها، وهربوها إلى الخارج بالبلايين.

كان وصفي عاشور في طليعة الثائرين، مع إخوانه وشيوخه، الذين كفروا بالباطل والطاغوت، وآمنوا بالله وبالحق، وقد وفقني الله جلَّ شأنه لأقوم بدور في هذه المعركة الكبيرة، رآه بعض الناس بعين البصر والبصيرة، واضحًا كالشمس، راسخاً كالجبل، متينًا كالحديد، فكان وصفي من هؤلاء الذين رصدوا هذه المسيرة من جوانبها المتعدِّدة، وكتب فيها كتابه:لقرضاوي الإمام الثائر، دراسة تحليلية أصولية في معالم اجتهاده للثورة المصرية".

وكتب من قبل دراسته التي ترصد المقاصد في كتبي وفتاواي في كتاب سمَّاه: "رعاية المقاصد في منهج القرضاوي: رؤية استقرائية تحليلية". صدر عن دار البصائر في القاهرة، وقد عدّني -وفقه الله- من أبرز العلماء المعاصرين الذين راعوا المقاصد في سائر ما ارتادوه من مجالات تتعلق بقضايا الأمة المسلمة. وقد كتب غيره أيضاً حول صلتي بالمقاصد، منهم الأستاذ محمد شاويش في كتابه "المنهج المقاصدي عند الشيخ يوسف القرضاوي" طبع بدار الفكر بدمشق عام 2009، واقتصر فيه مؤلفه على المقاصد في كتاب "الحلال والحرام".

 وبين يدي الآن: رسالة ابني الحبيب وتلميذي النجيب الدكتور وصفي التي قاربت الخمسمائة صفحة في "المقاصد الجزئيَّة: ضوابطها. حجيتها. وظائفها..." وقد جعلها في مقدمة وستة فصول، وخاتمة ونتائج وتوصيات وفهارس.

ومن أجمل مواضيع الكتاب: حديثه عن الوظائف العامة للمقاصد الجزئية، وأهمها: العمل على  بيان خلود الشريعة وعمومها وصلاحياتها، والتَّسديد في الفقه والفتوى، وتوسيع أوعية الاجتهاد والتوسط في الاجتهاد والأحكام، والعمل على شرعية المصالح واجتهادها، والعمل على اعتبار الاجتهاد المآلي.

وما أجمل كلامه عند حديثه عن التوسط في الاجتهاد والأحكام: "إننا نعاني في حياتنا الفقهية والفكرية والثقافية من الجنوح إلى طرفي الإفراط والتفريط، وكل تفريط ينتج إفراطا، كما ينتج كل إفراط تفريطا، ويضيع المنهج الوسط والقول الوسط بين الجافي عن الدين والغالي فيه". كما أجاد أيضا في بحث الوظائف الخاصَّة للمقاصد الجزئية.

وما أجمل كلمته عند حديثه عن وظيفة تقييد إطلاق النص، وحمْل المطلق على المقيد رعايةً لمقصد من مقاصد الشريعة، وضرب المثال المعروف في إطلاق الرقبة في سورة المجادلة من كل وصف وتقييدها في سورة النساء بالإيمان، وأنَّ الإطلاق حُمِل على قيد الإيمان رعايةً لمقصد تحرير رقاب المسلمين.. قال – وفقه الله -: "وما أحوج أمتنا المؤمنة اليوم إلى من يحرر رقبتها لتنطلق من رقها الاقتصادي والسياسي والثقافي والفكري، فهي بحاجة لمن يحررها من هذه العبودية، وهي أوجب من تحرير رقاب الأفراد والعبيد، إنْ فرضنا لهم وجوداً واسعاً في هذا العصر".

  وقد ختم رسالته النافعة بملحق تطبيقي مستقل مهم: أورد فيه خمس تطبيقات: في العبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية، والحدود والعقوبات، والسياسة الشرعية، وقد دلت هذه التطبيقات على فهمه للمقاصد وتشربه لها.

 وقد ضرب مثالاً فيما يتَّصل بالعبادات بوقت رمي الجمرات، وذكر مقصد الحكم بأن المقصود من الرمي هو ذكر الله عز وجل، إضافةً إلى مقاصد أخرى تدعو إلى التوسع في وقت الرمي كما أفتيت بذلك وأفتى من قبلي وبعدي الكثيرون الذين أتى الأخ وصفي على ذكرهم.

وضرب مثالاً يتصل بالمعاملات في التَّسويق الشبكي، وانتهى إلى حكم هذا البيع بناء على مقصده، وأنَّ المقصود من التَّسويق الشبكي هو تسويق العملات وليس المنتج، مما يحكم عليه الفقيه المقاصدي بالتحريم.

وضرب مثالا ثالثاً يتَّصل بالأحوال الشخصيَّة في زواج المصلحة، القائم على قضاء المصالح فقط دون لقاء بين الزوجين، وذكر له عدَّة صور لاسيما في بلاد الغرب، ناقشناها في المجلس الأوروبي للإفتاء، وقد انتهى بعد عرض الأدلة لعدد من الفقهاء المعاصرين، عرض من بعدها لموقف الفقهاء من مسألة الألفاظ والقصود عند التعاقد، وعرض مقاصد الشريعة من الزواج وأثر ذلك في الحكم على هذه المسألة، وانتهى إلى عدم جواز زواج المصلحة الذي يفرِّغ العقد من معانيه ومقاصده، إضافة إلى أنه يُشوِّه صورة المسلمين في الغرب.

وضرب مثالاً رابعاً يتَّصل بالحدود، وهو حكم قتل المرتد، وقد أورد نصوص القرآن والسنة في المسألة، وتتبَّع أحاديث السنة في هذا الموضوع، وأظهر أن مجرَّد الردة ليس موجباً للقتل، وإنما الموجب لذلك اقتران الردة بالحرابة والخروج المسلَّح ومفارقة الجماعة، ونقل آراء الفقهاء المعاصرين، وانتهى إلى مقصد الحكم ودوره في الاستدلال، وهو منع الفتنة والمحاربة والخروج على جماعة المسلمين.

وأورد مثالاً خامساً يتَّصل بالسياسة الشرعية، وهو التظاهرات السلمية التي ظهرت في صورة ثورات شعبية أدَّت إلي خلع حكام وتغيير أنظمة، واستعرضَ آراء الفقهاء المعاصرين على هذه النازلة، فذكر أدلة من يحرِّمها، وأدلة من يجيزها، وناقش أدلة القول الأول الذي غاب عنه التصور الصحيح لواقع المسألة، فحكم على المظاهرات بالخروج على الحاكم، وأنها بدعة، أو فتنة.

ورجَّح بناءً على مقصد المظاهرات بأنها وسيلةٌ للاحتجاج على الأنظمة الطاغية المستبدة، وهذه الوسيلة إذا كانت من أجل الأخذ على يد الظالم، ورفع الظلم، وتحقيق كرامة الإنسان، واسترداد حريته فلا يماري عاقل في القول بالإباحة، بل الوجوب إذا توافرت فيها السلمية وتحقيق المصالح المترتبة على إقامتها أكثر من الخسائر والمفاسد.

ومن المسائل التي ناقشها في كتابه عند تطبيقاته لحجيَّة المقاصد الجزئية المنضبطة مسألة حكم قتال المسلم الأمريكي إخوانه المسلمين في أفغانستان، واستقرأ آراء الفقهاء في هذه القضية، وذكر أنَّني ممن أفتيت بجواز المشاركة عند الضرورة، وناقشني بأدب وإنصاف.

ورجَّح القول الذي يذهب إلى تحريم المشاركة مع المحافظة- قدر الاستطاعة- على قيم المواطنة، لأن مقصد الحكم هو حفظ النفوس البشرية، وهو مقصد كلي أيضا يتَّصل بهذا الحكم الجزئي.

والواقع أن هذه الفتوى لم تكن من صياغتي، ولم أنسبها لنفسي ولم أنشرها في كتبي وفتاواي المطبوعة، وليس من عادتي أن أكتب فتوى بالاشتراك، وإنما كانت هذه الفتوى بمثابة بيان لمعالجة موقف طارئ، وقد صُوِّر لي بأن عدم اشتراك الجنود المسلمين الأمريكان في تلك الحرب سيلحق ضرراً بجميع المسلمين هناك، وقد رجعت عن هذه الفتوى التي تنسب إليَّ وعددتها من الفتاوى الشاذة في كتابي الأخير "الفتاوى الشاذة معاييرها وتطبيقاته وأسبابها وكيف نعالجها ونتوقاها" ص124-126، وقلت هناك: إن موافقتي على هذه الفتوى مردُّها إلى عدم معرفتي معرفةً كاملة وواضحة بالواقع الأمريكي، وأنَّ من حقِّ الجندي في الجيش أن يعتذر عن عدم مشاركته في الحرب ولا حرج عليه......

وهناك ملاحظات عابرة لاحظتها أثناء تصفحي لرسالته القيمة، نبهت إليها أخي الكريم الدكتور وصفي، وأرسلت إليه ببعضها، في صفحتين؛ ليتداركها عند طباعة الكتاب.

وهذه الملاحظات العابرة لا تقلل من الجهد الكبير الذي بذله الابن الوفي وصفي، الذي استوفى في دراسته المقاصدية ما استطاع، وناقش وأصَّل، وبحث وحلَّل، ممَّا يدل على تضلعه بعلم المقاصد واطلاعه الواسع على ما كتب فيه في القديم والحديث، مع حُسن العرض وجمال الأسلوب .

والأخ وصفي ليس ككثير ممن يحرص على درجة الدكتوراه، كما هو شأن كثير من الحريصين على هذا اللقب، يتدرج آليًّا في مراحل الدراسة حتى يصل إليها، فإذا وصل إليها انتهى عندها واكتفى بها، وإنما نالها بعدما حمل من العلم ما يغنيه عنها؛ فدرس وقرأ، وبحث وكتب، وصحب العلماء والفقهاء والدعاة، فكانت الدكتوراه لأخينا وصفي قطعةَ حلوى على مائدته، إن وجدت نفعت ولذَّت، وإن فُقدت ما ضرت وجوَّعت، ورُبَّ دكتوراه عند آخرين هي خبز المائدة وإدامها ليس عليها غيرها.

أسأل الله عز وجل أن ينفع بابننا وأخينا الشاب النجيب، وفقيهنا الأريب، ليقدِّم المزيد من العطاء العلمي، وأن يُعنى بفقهاء النهضة العلمية الحديثة، ويبرز دورهم في الإصلاح والتجديد وإعمال المقاصد في بحوثهم وفتاواهم؛ ليكون مع هؤلاء الروَّاد، ويحمل مع إخوانه من تلاميذنا النجباء الراية العلمية، ويحقِّقوا لهذه الأمة الريادة، ويعيدوا إليها المكانة، ويضطلعوا بمهمة الفقهاء المقاصديين الذين يعيدون دور الفقه إلى حياة الناس، ويحلون به مشكلاتهم، ويحققون به سعادتهم في دنياهم وأخراهم، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وصلي الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.

القفير إلى عفو ربه

يوسف القرضاوي