رواية "كم بدت السماء قريبة!!" لبتول الخضيري 6+7

مشروع تحليل خمسين رواية عربية نسوية :

رواية "كم بدت السماء قريبة!!" لبتول الخضيري

د. حسين سرمك حسن

(6)

وهنا ، لابدّ أن يحفزك وصف "الطيف الترابي" على أن تتداعى لتستدعي – بدورك – ذاك المقطع الجميل الذي وصفت فيه الراوية وجوه أهل "خدّوجة" التي لم تتذكرها هنا ويا للعجب ! :

(ردّدتُ لازمة في طريقي إلى البيت : "يا حمّصه .. يا زبيبة .. وقت العشا .. تشريبة" . أفكّر : الربيع في مزرعة المشمش ، لولاه لكانت طفولتي مع خدّوجة ترابية كلها . ليس فقط بسبب العواصف الرملية التي كانت تهجم صيفا وأنا معها في أثناء العطلة . لكن أكثر لون يحضر حين اذكرها هو لون التراب (...)

ذرّات التراب في كل مكان ، هذا الغبار الذي يغطّي عباءاتهم السود ، ملاءاتهم ، أثاثهم ، أبقارهم ، بل وجوههم ، كأنه سحر حيويتهم . أهل خدّوجة لا يتوقفون عن الحركة ، متقمّصين ألوان كل ما يحيط بهم ، فإذا كل شىء بلون التراب ، حتى بشرتهم سمراء كالطين . ينتمي الجميع إلى العائلة البنّية ذاتها ، صبغة يتوارثونها بديمومة مثيرة . كم أعجب عندما يصفون سُمرتي بدورهم وأنا قادمة إليهم : "هلا بقرص الخبز هلا" ) (ص 34 و35) .

وفي يوم ما قد يتوقف – طويلا - باحث أنثروبولوجي أو متخصص بشؤون الشخصية القومية أمام هذه الفقرات التي تُمسك بأهم سمات البيئة العراقية التي انعكست ليس على "البنية" الشكلية والمظهرية "الترابية" للشخصية العراقية حسب بل على أدق وأعمق سماتها الدفينة الروحية والمزاجية ، وعلى تشكيل منجزاتها الحضارية ومواقفها العميقة من معضلتي الحياة والموت .

إنّ بطلتنا تعيش – وكما سنرى مستقبلا - آلية "العزل – Isolation" وما يرافقها من "عقلنة – Intellectualisation" في أغلب تفاصيل حياتها وتعبيراتها العقلية والسلوكية العملية ، وهذا هو الإرث – المخالف لإرث حضارة أبيها وثقافته - الذي انسرب خفية من أمّها الإنكليزية إلى روحها الصغيرة منذ طفولتها . لاحظ – وبسرعة – أنّ أباها في عزّ خلافاته مع أمّها كان يحتفظ بذاك الموقف "الترابي" الحاني القابل لمسح التحاملات وذرو الإنحيازات من سطح النفس تجاه الآخر . في أحد المواقف التي نشب فيها خصام بين الأبوين :
(راحت الأم تبحث عن مروحة قش تقليدية ، بعد أن أضاعت مروحتها الإسبانية . قلتَ لها بعد لحظات صمت كأنّ شيئاً لم يحدث :

- إذا رطّبتِها بالماء ستعطيك نسمة منعشة) (ص 68) .

ولاحظ – وبسرعة ايضاً – أنّ حتى الأم العصبيّة والتي تصل حدّ التعجرف المُغثي أحياناً في موقفها من الأب ، قد أقرّت - حين خذلها ديفيد في محنتها المرضيّة الرهيبة - بسِمَة الوفاء والروح الإنسانية الثابتة لدى الأب بحكم تكوينه الشرقي :

(يكفيني شعوري أن والدك ، رغم كل المسافة التي كانت تفصل بين تكويني الغربي وتكوينه الشرقي ، لو أنه ما يزال على قيد الحياة ، لما ترك جانب سريري قبل أن استرجع إنسانيتي) (ص 141) .

وما لا يقل أهمّية بالنسبة لحال المجموعة وصراعاتها هو هذا التناقض اللائب بين رؤى المدام المدرّسة وطموحاتها وحتى إحباطاتها الذاتية ، ومخاوف أفرادها ومصادر قلقهم الحارقة ، هذا التناقض عبّر عنه فاروق في لحظة غضب عارمة خاطب فيها المدام قائلا :

(يا مدام ، الذنب ليس ذنب أحد .. نحن لا نعرف غير الرقص وهذه اللغة لا تُجدي في الحرب .. ربما كنا مخطئين بتمسكنا بما تسمّينه الحلم .. ربما آن الأوان أن نفك الإرتباط هذا إن كان سيدمّر لنا أعصابنا على هذا النحو . على كل حال ، الأمل يتضاءل بشأن انتهاء الحرب قريبا ..

توقّف لحظات عن الكلام يلتقط أنفاسه :

(أوّلأاً ، أحمد سيتزوج صاحبته . ثانياً ، أنا سألتحق بإحدى الوحدات العسكرية وسيذهب تعبنا هدراً . يا مدام ، تعلقنا بك رغم زعيقك وأعصابك المتوترة دائما . حاولي أن تفهمي رؤيتنا نحن .. لماذا تسخريننا كالدمى لتثبتي أن دراستك عند الروس لم تذهب سدى ! على الأقل رأيتِ شيئا من العالم الحقيقي .. ماذا عنّا نحن المساكين ؟! من تدريب العضلات إلى تدريب الطلقات )

انفجر فاروق في وجهها محمرا بانفعال .. وقبل أن يركل باب القاعة بقدمه ، استدار نحوها قائلا بكل غضب :

(وبصراحة تامة .. ليس التصفيق "البرجوازي" الذي تسمعه أذناك فقط هو الذي يجذبني إلى هذه الفرقة ، لكن هذا الراتب الخقير الذي أُهلك عضلاتي لأجله كي أُطعم أخي الصغير) (ص 110 و1119) .

بعد أربع سنوات غادروا المدرسة التي أغلقت أبوابها ، فكانوا آخر دورة تخرّجت منها على أطراف أصابعها ، والحرب ماتزال تدق طبولها .. وبإغلاق هذه المدرسة تكون الحياة في البلاد قد شهدت واحدة من أبشع هزائمها ، وتكون إرادة المُثكل قد ظفرت بواحدة من أخطر انتصاراتها . لقد دُحر الجمال والرهافة والإنسانية الصاعدة نحو سماوات الملائكة ووجه الله .

ولأن الحرب لا تسمح بأي "مصير" نهائي ، فإن الراوية تخبرنا ببعض المصائر الوقتية وسوف تقفنا على المصائر النهائية السود : فاروق أصبح طبّاخاً لإحدى فصائل المشاة في مدينة الحلّة ، وأحمد استخدم التاكسي في نقل المقاتلين بين الجبهة والأهالي في بغداد ، بعد أن أرجأ موضوع زواجه من صديقته لحين انتهاء الحرب ! أمّا الراوية فقد استطاعت المدام  - التي اعتبرت نفسها مسؤولة عن جانب من خيبة أحلام الراوية – أن تُقنع أباها بأن تلتحق لدراسة اللغة الإنكليزية في إحدى الكليات الأهلية .

وفي ختام هذه الجولة الحياتية التي سطت عليها غيلان الموت وأشباح الخراب ، يقع الحدث الأكثر رهبة وإثارة للجزع في حياة الراوية :

لقد توقف قلب الأب وسكت بصورة مفاجئة دون سابق إنذار (ص 115) ..

وبروح "العزل" التي أشرت إليها ، وبعين المراقب الذي "يصف" الطعنات الغائرة المكتومة و"يراقب" فعلها وهي تمزّق روحه ، وبشيء من تبلّد المشاعر الذي تخلقه الكآبة الشديدة التي لا خلاص منها ، "تصف" الراوية انفعالاتها برحيل أبيها مستذكرة خساراتها الجسيمة ، ومعاتبة إيّاه بأسى شفيف لأن قلبه سكت فجأة دون أن يهيّئها لكارثة رحيله النهائي قبل يوم مثلاً . كانت وهي "تسرد" ملابسات موت أبيها وبؤس حياتها النفسية ، وكأنّها تحاول "الهروب" من مواجهة الواقعة وخوض عبّاب الأسى المنتظر . لم تكن هناك إشارة صارخة لعملية حداد مؤلمة كما نتوقّع . لاذت الراوية باستعراض "النتائج" الحياتية لهذا الرحيل قافزة نحو تحوّلات سنتين لاحقتين ! بعد أن حملوا جثمان أبيها لتغسيله .. تحوّلات دوامها الثقيل في الكلية ، وحال أمّها بلمسة عدوان (تتحوّل إلى سلحفاة !) ، ثم قفزة عن حلّ المشروع التجاري لأبيها بشكل قانوني ونهائي (قضيت فترات متقطّعة ما بين المحامي والمحاسب أوقّع الأوراق بالنيابة عن أمّي) . ثم حرق تركات الأب من عُلب وخلطات مختبرية وغيرها لتعود بخلاف المتوقّع إلى طقوس الدفن !! :

(طقوس الدفن . صلاة الميّت ، ختمة القرآن ، بدأتُ أدخل زمناً ، لشدّة كآبته ، أكاد ألمس هواءً ثقيلاً في قبضة يدي) (ص 116) .

وهو وصف لا يثير التعاطف الحزين في روح المتلقي بقدر ما يثير العمل الذهني في عقله لتفسيره .

وقد برعت الكاتبة في هذا الفصل (الرابع) - وكما قلتُ – في ملاحقة صراع الموت والحياة ، والتدهور الجمعي الذي سبّبته الحرب ، من خلال تناوب البيانات العسكرية العراقية التي تتحدّث عن العمليات الحربية في جبهات القتال ، مع الصور الواقعية التي عشنا مراراتها الدامية فعليّاً والتي رسمتها الكاتبة أمامنا بدقّة وسخونة مؤثرة . وتلك البيانات – بيانات الموت الإحتفائية – ومشاهد خراب الحياة الجمعية كانت ، بدورها ، تتناوب مع ما تصوّره لنا عن حياة مجموعتها الصغيرة ، مجموعة الحياة الحالمة المرعوبة . وقد استمرت الكاتبة على هذا النهج في الفصل الخامس أيضاً ولكن بإفراط أحياناً أفقده فعله النفسي ودوره الفنّي أو صار عكسيّاً في بعض المواضع . وبعد أن تفتتح هذا الفصل بتركيز (هل له علاقة لاشعورية بالعلاقة الحبّية المقبلة للراوية ؟! ) على موضوعة تشجيع حفلات الزواج والإنجاب المبكر ومنع استخدام حبوب منع الحمل لزيادة النسل تعويضا عن الخسائر في الأرواح (ص 117) .. ثم تنقل لنا معلومة عن المصائر "النهائية" لزملائها في المجموعة الحالمة المرعوبة : فاروق جُرح في معركة كيلان غرب ، وأحمد اختفى مع أخباره (لاحظ دقّتها فهي تقصد أخباره التي كان يأتيهم بها) عند اندلاع معركة البسيتين .. وسارة توظّفت في دار الأزياء ، وعندما توقفت عروض الدار بسبب التقشّف التحقت بأختيها للعمل كخياطة (ص 118) .

أمّا هي ، فها هو جرس الهاتف يرنّ حيث صوت المدام (مدرّستها) تدعوها لمرافقتها لزيارة مجموعة من أصدقائها تسمّيهم "جماعة العهد البائد" . هذه الجماعة كانت مكوّنة من راقصة هي المدام ومعمارية ومسرحي .. ونحّات هو : سليم الذي سترتبط به بأول تجربة حب . ولم نسمع من الراوية أن قلبها ارتجف لأي ذكرى عن علاقة حب في طفولتها – كما يحصل لدى الكتّاب خصوصا الرومانسيين منهم – أو في مراهقتها ! وكان وصف "راقصة" للمدام مجرّداً من صفة "باليه" الذي يعني لدى المتلقي الكثير . كما لم تسلم المعمارية من تعليق عابر وضجِر على محاولاتها عرض طقم أسنانها البورسلين الجديد (كلفته عالية لا بدّ تحت الظروف الراهنة) (ص 119) . ووسط انشغال الجميع بموضوعاتهم الخاصة ، انسلّت إلى استوديو النحّات .. وهنا – وبعد أن تمهّد الطريق السردي باستذكار بيان عسكري تفصيلي – وبالأرقام الدقيقة !! – عن معارك ديزفول – الشوش ، تضعنا أمام أعمال الفنّان المخيفة التي تعكس روحاً مشبعة بلعنات الحرب ، ومخاوف مرعبة من ويلاتها ، وعمل منهك وبارع لتجسيدها : فهذه قطعة لوليد بالحجم الطبيعي ، يمتد من بطنه حبل سرّي ، يربطه بمشيمة منحوتة على شكل خوذة حرب .. وثانية لأمّ ترضع طفلها ، بدلاً من تكوّرات نهديها الأملسين ، توجد خوذتان خاكيتان .. وثالثة لخوذة كبيرة على شكل مهد لطفل دون ملامح .. وتمثال اسمه "روتين" فيه إنسان يحاول عبثاً الخلاص من مأزقه "الوجودي" . ويتجلى الإفراط الذي أشرت إليه في أن التحليلات العسكرية – تأتي إلى ذهن الراوية وهي في مثل هذا الموقف – (وتطوف بين القطع الفنّية : موج من الرجال يتدفق على الجبهة إلى ما لا نهاية . تتصدّى قواتنا للهجوم ، وتمنع العدو من تحقيق أحلامه في الوصول إلى الحدود ... ما زالت قطاعاتنا في هذا القاطع الضيّق – مضيق الشيب – والذي يبلغ أحد عشر كيلومترا صامدة) (ص 121) .. في الوقت الذي أثارت فيه المنحوتات المخيفة تداعيات رهيبة في نفس الناقد الذي عاش ثلاث حروب "كونية" . فالأعمال النحتية الثلاثة التي ركّزتُ عليها هي تصوير نادر جدا للعنة الحرب يمكن أن تتخذ لها موقعا في النحت العالمي المرتبط بعنف الإنسان . لكن حين تتأمّل أشكال هذه الأعمال الثلاثة ومعانيها تلاحظ أنّها في الوقت الذي تعكس فيه ما توقعه الحرب من دمار ورعب وانمساخ في حياة الإنسان وروحه ، فإن فيها شيئاً هائلاً "فرديّاً" من انرعاب الفنان نفسه ونكوصه أو استنجاده بالعون الطفولي من الرحم الأمومي الحاني والحامي . وتنسرب لمسات خفيفة من التعاطف السريع والمباشر من الراوية تجاه هذه الأعمال وخالقها حين تبدأ بإحلال تفسيراتها الذاتية المكمّلة - وبصورة استباقية - لمعاني بعض الأعمال خصوصا أنها لم تعرف حتى الآن أنّ النحات جندي يؤدي الخدمة العسكرية في الوقت الحاضر :

(لُعَب مطرّزة على شكل سمكة أو زهرة ، يتفنّن بصناعتها جنود المعسكرات في أثناء الخفارات) (ص 122) .

تطقطق ستارة القصب خلفها ، ويدخل الفنّان فتعرف من الإنطباع الأول مبلغ قلقه وتشاؤمه واكتئابه . فهو كثير الحركة أقرب إلى اضطراب ، شديد التدخين ، لا يستقر في بقعة واحدة ، يعيد النظر في منحوتاته كأنّه يراها للمرة الأولى ، ساقه لا تكف عن الإهتزاز .. وكلّها علامات على القلق الداخلي وفرط نشاط جهازه العصبي اللاإرادي (وهو جهاز الخوف والطوارىء) .. ويظهر تشاؤمه حين يخبر الراوية بأنّ المدام ترجمت لهم قصيدة تصف طيوراً قُصّ أحد أجنحتها فاضطرت للتعاون فيما بينها على الطيران ، ويتساءل : هل تعتقدين أن البشر يمكن أن يتعاونوا فيما بينهم بقدر أكبر لو اقتُطع من كل فرد يد أو ذراع ؟ (ص 123) ناسياً أن الإحتمال الأكبر في من قطع أجنحة الطيور هو البشر أنفسهم الذين ينتظر منهم خيراً ! وفي الكثير من الأحوال يكون التساؤل عن قناعة مطروحة للنقاش غطاءً لقناعة مخالفة ، خصوصاً أنّ الفنّان يلحق تساؤلها هذا بسؤال لـ "صغيرته" – كما صار يسمّي الراوية وهو يكبرها فعليّاً بعشر سنوات – هل تعتقد أن هناك فرقاً بين من يفهم الحياة ، ومن يحسّ بها ؟ (ص 124) .. وهو سؤال تقليدي جعله الفنان مدخلاً لاستعراض ميوله هو وموقفه من الحياة : (أنا ممن يتبعون الحسّ) مشفوعاً بالحفزات المسمومة للغريزة التي تحرّك التفكير من وراء ستار . وهنا تحصل التفاتة خطيرة من الكاتبة تعرض جانباً دفيناً من صراعات بطلتها النفسية وتهديدات هويّتها حين تجعلها تقول – مباشرة بعد حديث الفنان عن خصاله "الحسّية" وقدرته الخارقة على كشف فطر على سطح شعرة ورسمه مجسّماً – أنّها انجذبت ثانية للتمثال الخشبي فاقد هويّة الرجولة والأنوثة ، أو ربّما جامع الإثنين معاً (ص 125) .
كانت المرّة الأولى حين شاهدت هذا التمثال على قاعدة ؛ (تمثال أملس بعضه امرأة وبعضه رجل ، جالس في حيرة من أمره دون هويّة) (ص 122) .. أسقطت سمة "الحيرة" من عنديّاتها ، ثمّ استدعته مع انطلاق الفنان في استعراض قدرته الحسّية الفائقة على التمييز . فهل كانت هذه الحركة الكاشفة حركة دفاعية إذا جاز الوصف ؟! وهل يتأكّد ذلك من ردّها على سؤاله : هل أنت من جماعة الحسّ أم الفهم ، بجواب انتقلت فيه – وبارتباك – من الجانب التأويلي النظري إلى جانب الحياة المهني حين قالت :

(أنا من جماعة مطاردة خيالي تحت تأثير المدام . المشكلة هي أنني بدأت متأخرة ، أقرب إلى الهاوية ، فلم أحترف شيئا من الفن ، ولم اتعلم مهنة أبي قبل فوات الأوان . أجدني نموذجاً لمفترق خيالات ليس إلّا ) (ص 125)    

وفي هذا الموضع – وموضع بعده بقليل حين تسأله عن لماذا اختار النحت بالذات ، يحصل موقف إفراطي مُضاف حين تستدعي بياناً عسكريّاً – وهي في مسار تعارفها بالفنان – تفصيلياً عن معارك الخفاجية والأحواز وغرب الكارون .

المهم أنّ الراوية ، وقبيل أن ينتهي لقاؤهما ويعودان إلى الآخرين ، عرفت من الفنان أن الجيش بدأ يسلب منه مهارته في النحت (كل ما أتذكره في طريقي كل يوم إلى المعسكر ، هو أنني كنتُ يوما ما نحّاتاً) (ص 127) ، وأنّه قد تحوّل الآن – تحت القصف - إلى نحت مناضد الرمل العسكرية . كما تُعلمنا ، بحركة تلقائية منسابة ، بأن فناننا مسيحيّ من خلال الصليب المعلّق برقبته .

بعد هذا اللقاء في تلك الأمسية التي أضافت جديداً إلى حياتها الرتيبة بأيامها الثقيلة ، دخل متغيّر فاجع جديد في مسار هذه الحياة المثيرة للتبلّد والإكتئاب أصلاً . لقد أصيبت أمّها بسرطان الثدي ، وصار لزاماً أن تجري عملية لاستئصال ثديها الأيسر . لم تتح لها الحرب وبطء الإجراءات الذي تفرضه أن تجري العملية في الخارج . ومن المتوقّع أنّ فتاة مرّت بتلك العلاقة المتوترة مع أمّها ، وكانت "منحازة" إلى جبهة أبيها في صراعات علاقتهما المتوترة دائماً ، أن تتضاعف ردودها "الإنفصالية" خصوصاً وهي تواجه "فقداناً" مضافاً شديد الوطأة لأنه يعني الآن فقدان الأنوثة ، وما يثيره من مشاعر بالنقص وبالتهديدات الكامنة بالهجران وفقدان الدور والإعتبار الذاتي . كل ذلك يجري تحت الظلال القاتمة والخانقة لسماء حرب ماحقة تهدر عجلتها الطاحنة ليل نهار بلا هوادة . ومسكينة الراوية – ينطبق عليها وصف "البطل" الروائي بدقّة – تخوض حرباً "داخلية" لا تقل شراسة عن الحرب الخارجية .
ومن الطبيعي أن يبحث الطائر الإنساني الذي تُقطع ذراع من ذراعيه النفسيتين عن كائن آخر يستند إليه خصوصا عندما تكون لدى هذا الكائن حاجة مقابلة مماثلة . والراوية والفنان "سليم" هما طائران قصقصت الضغوط القاهرة أجنحتهما ، الراوية برحيل الأب ، ومحنة الأم الصحّية المدمّرة ، والفنان سليم – الذي لم يكن سليماً – بالحرب حيث مَسْخ الموهبة ومعاشرة الموت . ولكن الأهم هو المشتركات النفسية العميقة التي تحكمها مكبوتات اللاشعور .

لقد كان الإرتباط العاطفي – من الجانبين – سريعاً ، بل لحظيّاً ، بلا زمن تمهيدي أو تجارب تكشف نقاط الللقاء والخلاف عادة . ها هو سليم في لقائهما يأخذها بين ذراعيه :

(أطبق بذراعيه القويتين حولي ، ابتلعتني بنيته الدافئة ، لا يتوقف عن استنشاق عطري ، يلتهم نظراتي ، تُفصح عن خيط من فضول ومفاجأة لطريقة استقباله لي في الممر) (ص 131) .

كل حساب شعوري ممنطِق لعوامل الجذب بينهما سوف يُفسد تلك اللحظات الدافئة والبكر بالنسبة للراوية – "صغيرته" كما كان يسمّيها ومن المؤكّد أنها تفضّل هذا النداء هي الباحثة عن الأنموذج الأبوي الضائع - . لقد قرّر اللاشعور .. وكفى .. وقرارات اللاشعور قاهرة ومستبدة لها "منطقها" الخاص الذي يتعالى على أي منطق مهما كانت عقلانيته . لقد سعت إلى لقائه في شقّته مشفوعة بتبرير : (كان سيلتحق بالجبهة قريباً . قرّر أن يخصّني بالوداع) ، هي التي اعتادت على رحيل الأحبّة من دون أي تهيئة أو وداع . ثم التحمت به في الشقة بتبرير لا يفهمه إلّا "عقل" اللاشعور :

(قرأتُ ذعر الخطوط الأمامية في عينيه . شعر برعشة قلقي من حالة اللقاء السريع قبل التحاق مجهول . استوعب دهشتي ، فشدّني إليه أكثر قائلاً بابتسامة ، كأنّه يبرّر احتوائي :

- لا وقت لدينا للتعارف البطيء ) (ص 131).

(7)

إنّهما كائنان هشّان يكابران جراهما المخفية وأجنحتهما المقطّعة ، ويتعاليان على هذه الجراح بالتصدّي للعب دورين هائلين لا يمتلكان مقوّماتهما العميقة : هو بدور الأب تجاه "صغيرته" ، وهي بدور المُعالج الأمومي لذعر الخطوط الأماميّة في فرصة نادرة . وهذا ليس غريباً ، بالرغم من صراعاتها الدفينة التي عرضناها ، لأن الأنموذج الأول لأي علاقة حب في التاريخ هو الأنموذج الأمومي بين الأم وطفلها . وتحت ضغوط مطارق الحرب وأهوالها "ينكص" الإنسان لتتفجّر خفية تلك الحاجة الحبّية للأمومة (الممزوجة بالجنس طبعاً ، ولهذا ينتعش دور المومس الفاضلة في الحروب) خصوصاً أنه – كما يقول للراوية – نتاج محاولات والديه في الإنجاب لمدة خمس عشرة سنة ، والولد الوحيد يحمل كل سمات صاحب الجلالة بالنسبة للأم ، مثلما يكون محطّ كل مخاوف الفقدان في حياتها ، مخاوف سوف تنعكس عليه بصورة مؤكّدة . ووسط خلوتهما الناعمة يفزّان لأصوات إطلاقات في الخارج . ثم يفاجئهما هابطاً من شباك الشقة العليا بيان عسكري عن معارك شرق البصرة . يقتنعان أنّ الحرب ستمزّق أرواح الناس بحيث (سنكون قد نسينا كل شيء عن أنفسنا عند انتهائها) (ص 134) كما يقول لها ..
ثم ماذا ؟
سيأتي زمن يكون لزاماً عليهم خلق كينونة جديدة في بقاء مختلف .
وما فائدة هذا النوع من البقاء ؟
لا شيء غير الخدع التي نكتشفها في دواخلنا ..
وانتَ ؟ ..

أبحث الآن عن خدعتي .. هل أستطيع أن أفلت بنحتي ؟ (ص 134) ..
وهنا تنفتح كوّة نطلّ منها على عوامل الخراب الكامنة في ذات الفنان . فهو لا يعلم لماذا ينحت ! ولو كان يعلم لتوفّر له إحساس عزوم بأنه إنّما يوفّر امتداداً خلوديّاً بوجه غولة الحرب وعجلة الفناء :

(لا أعلم لماذا أنحت .. ألكي أخلق بيدي نماذج حياتية ، حتى لو كانت جامدة ، لكنها من صنعي أنا ؟ ألأنها أشياء تشعرني بأنني أملكها ... أهي لعبة خلق ، أم تملّك ، أم هروب ؟ أم لعبة أنانية مع الذات ليس إلّا ؟ كل هذه الأسئلة تزيد الدوّامة القادمة تعقيداً ) (ص 135) .

هذه الفوضى الذهنية مؤسسة على فوضى نفسيّة غذّتها فوضى الحرب بدماء الضحايا وصرخاتهم ، ومقابلها تعيش الراوية فوضى مقابلة مؤلمة يغذّيها أنين أمّها القريب ، ونداءات استغاثة إحباطاتها البعيدة ، وصيحات الزمن الهارب الراهن ، وتشوّشها سحب دخان حرائق الواقع المحيط بها :

(كيف سأحتفل باجواء علاقتي بأول رجل يكبرني بعشر سنوات ولا يوجد وقت لللأسئلة ؟ هل يوجد وقت لعلاقة تحت الدويّ ؟ كيف نبني وسط أشياء تخرب ؟ إنسان بعد آخر يسقط . الأبنية وبيوت الأهالي تسقط . هل سيأخذ يدي بين يديه المتورّمتين ثانية ؟! ) (ص 136) .

وهي تساؤلات "تأكيد" للإندفاعة الجامحة ، فقد اندفعت لرؤيته في شقٌته في إجازته الأولى لتجده نائماً وسط فوضى الملابس العسكريّة ومنحوتاته ولوحاته . وفي مرّات قليلة في الأدب النسوي – وعبر جمل قصيرة لاهثة بخلاف جملها المتوسطة الطول والطويلة - تعبّر كاتبة عن الإلتحام الجسدي بحبيبها ، وفقدان عذريتها بهذا الشكل الرائع الحيي والشعري الموحي بما لا يُقال ، فقد حوّلت الكثير من الروائيات ساحة السرد إلى ساحة للسلوك "الإستعرائي" الذي يقرب من الحالة العُصابيّة أحياناً .
ترك سليم باب الشقة مفتوحاً ، فدخلت الراوية بحذر "خشية أن تُفصح عنها دقّأت قلبها" .. ووقفت تتأمله وهو نائم .. وبعد ثوان :

(مدّ يده فاتحاً راحته في اتجاهي ، دون أن يفتح عينيه . ظلّ مغمض العينين . يده تنتظرني . لم أجد نفسي إلّا تحت المرايا .

رأسي يدور . أول رجل . عشر سنوات . خائفة أنا وحذرة . لا ! المقولة تؤكّد أن الحذر والفضول لا يأكلان من صحن واحد . يجب أن أقرّر ، هل أنا حذرة أم فضولية ! الحرب في الخارج ، ونحن في الداخل . لا وقت للتعارف البطيء . لماذا أكرّر كلماته ؟ أين كلماتي ؟ هل أغلقتُ باب الشقة خلفي ؟ لدينا ساعة واحدة فقط . يرغب في زيارة والدته هذا المساء . عيناه جذبتاني بيديها المتورمتين . بدأت المرايا تساعدنا على التعارف . دعاني للإستلقاء . كان يبتسم طوال الوقت . طوال الوقت القصير . ابتسامته تقترب . المرايا تعكس ظهره . ذراعي بدأت تطبق على جوانبه . كنبات طازج راحت أطرافي تنبت حوله . المرايا تجسّمنا معاً ، تدبّ فيها الحياة . طبع الجبهة على شفاهي .

في ومضة حلم بلون السماء ، بنيتُ لنفسي قصراً من سكّر . جسده الأشقر الأملس يقطر عرقاً أذاب جدران قصري . سبحتُ في محلول حليبي دار بي . لن أنجو . استسلمتُ . وقبل أن أغرق ، ابتلعت موجة صغيرة من حلاوة أخيرة .

انقضت الساعة . وضعتُ أصابعي هناك . قلتُ لنفسي : "حمرة المغيب" . لم أبكِ مثلما يحدث في الأفلام المصرية يوم الجمعة . لم أعد صغيرته) (ص 137 و138) .  

وليس عبثاً أن تستدعي الراوية الخدرة ، حيث تراخت سطوة الوعي ، واحداً من مصطلحات أبيها التي استخدمها وهما يمارسان لعبة التسميات الشاعرية أمام أنظار الأنثى "المنافسة" الدهشة (ص 75) ، استدعت مصطلح أبيها : "حمرة المغيب" ، وهي تعاين نتائج التحامها بحبيبها سليم في الوقت السريع اللاهث الذي لا يُعوّض .

ومن جديد .. وفي أجواء هذه اللحظات البهيّة .. المتوتّرة الناعمة .. والنفس منسحقة بالنشوة وقلق الإنفصال القريب .. تحضر غولة الحرب لتفسد كل شيء :

(الفاو . مثلث الملح .. الحرب تدور رحاها في أشرس المعارك ... أبشع منظر لآلاف القتلى الممزّقين . اللجنة الدائمة لضحايا الحرب دعت منظمة الصليب الأحمر الدولية للمساعدة بإخلاء الجثث ، خشية من تفشّي الأوبئة نتيجة التفسّخ السريع في حرّ الجنوب) (ص 138) .

وفي أيام انتظار مجيء سليم في إجازته المقبلة التي لا يُعرف موعدها ، كانت الراوية تواجه مخاوف أمّها المشروعة ؛ مخاوف الأمومة على البنت الوحيدة ، ومخاوف مُسقطة من تجربة زواجها الفاشلة ، والتي ترى أنّ هناك مصاعب جمّة تحيط بعلاقة ابنتها بسليم ، منها اختلاف ديانتيهما الذي قد يسبّب لها مشاكل مع مجتمعها ، ومسألة تفكيرهما في الزواج ، وخصوصاً من جانبه لأنها - أي الأم - ترى أنّ شجاعة الحياة المدنية قد تكون أصعب من الحياة العسكرية . وفي الوقت الذي ترى الأم فيه أن ابنتها تضيّع وقتها في هذه العلاقة تعلّق البنت :

(تقصدين أضيّع المزيد من الوقت الضائع) (ص 139)

معبّرة عن التشوّهات النفسية التي ألحقتها الحرب بطرق تفكير ابنتها كجزء من جيل كامل مخرّب هو "جيل الحرب" . ولكن البنت تحسّ - وبفعل معايشتها لتجربة أمّها الزوجيّة المريرة - أنّ حديث أمّها يحمل في طيّاته الكثير من المواقف المُسقطة من عِبَر تجربتها الشخصية المخّيبة ، إنّه حديث عنها أكثر مما هو حديث عن ابنتها . ففي الوقت الذي تسائل الأم ابنتها هل علاقتها بسليم هي حالة حب حقيقية ، أم أزمة عاطفة مضغوطة بحالة حرب ، في صورة حبّ ، تقلب البنت هذا التساؤل المشروع لترميه كرةَ تساؤلٍ مقابل في مرمى الأم عن علاقتها بديفيد ، وهل هي عاطفة مضغوطة في صورة حبّ . ويأتي البيان العسكري المنبعث من راديو المطبخ ، وكأنه – ومن حيث لا تدري الراوية أننا نتحرك في كثير من الأحيان وفق "حتم" سردي لاشعوري – يؤكّد تشخيصات الأم . لكن تشخيصات البنت صحيحة أيضاً من منظور آخر . هنا تضع الروائية – والروائيون سبقوا المحلّلين النفسيين في الكشف عن قوانين النفس البشرية – إصبعها على دور "العامل الذاتي" في تشكيل تجاربنا وصياغة أحكامنا على تجربتين تختلفان في الشكل وتلتقي فسيلتيهما في تربة لاشعور واحدة . لكن الأم تريد ايضاً تجنيبها آلاماً لا جدوى منها كما تقول ـ فقد اكتوت بعلاقة بين طرفين ، وتقلّبت على جمر علاقتين ، كانت نتيجتهما أنها تعيش الآن وهي بنصف أنوثتها في عالم من "الضمائر الغائبة" . إنّها مقصوصة الجناح تبحث عبثاً عمّن يمدّ لها جناحاً أو نصف جناح يعينها على التحليق في هذه الحياة الجائرة .

تختم الراوية حديثها الساخن مع أمّها بوعد منها أن تسافر معها إلى إنكلترا ، ليأتي البيان العسكري عن الغارات المدمّرة على المدن الآمنة من قبل الطرفين المتحاربين ، وكأنّه يبرّر جانباً كبيراً من هذا الوعد . وهناك سمة اخرى هي أنّ الكثير من البيانات التي تدخلها الراوية بين حوادث روايتها ، ووقائع الخراب الذي ترصده في الحياة العامة ، مصمّمة لتكون حلقات وصل وانتقال كجزء من المسار السردي . فنهاية هذا البيان – ناهيك عن بدايته التي أشرنا إليها – والتي تتحدّث عن فقدان طيارين كبت طائرتيهما في أرض العدو ، تبدو وكأنّها تسلمنا إلى قلق الراوية المرتبط بعدم مجىء حبيبها في إجازته الدورية ، حيث سلّمها زميل له مفتاح الشقّة مع رسالة يخبرها فيها بأنّه قد نُقل إلى وحدة عسكرية اخرى ، وأنّ إشاعة أهل القلم – قلم الوحدة – تقول أنّهم سيوكلون إليه مهمة نقل جثث الشهداء إلى المدينة .

ثم يأتي صوت المحلل السياسي ليلاحق الناس كالكابوس ، ليشكل - بتخطيط الكاتبة طبعاً - أيضاً حلقة وصل انتقالية حيث يؤكد على أن بين الأسرى الإيرانيين أطفال سيعيدهم الصليب الأحمر إلى ذويهم ، فيخلق معبراً إلى الحلم الليلي الذي التقت فيه الراوية بـ "حسّون" الملعون .. حسّون الذي كانت تراقب – كما راينا – هي وخدّوجة كيف يضع حلقة القنينة الزجاجية في قضيبه الصغير . شاهدته في الحلم يرقص أمامها و"شيئه" الصغير ينبع من تحت دشداشته ، يوجّهه في جميع الإتجاهات ، مفتخراً أنّه ألبسه حلفة القنينة الزجاجية . لم تجد أي أثر لبقية الأطفال أو معمل البيرة . نادته لتسأله عن خدّوجة فلم يبالي وشرع بالركض .

وقد قلتُ سابقاً – وهذا من قواعد عمل الحلم في التحليل النفسي – أن الحلم يتأسس على بقايا نهارية يستثمرها كنواة لإشادة بنيانه الصوري عليها . ويمثل خبر الأطفال الأسرى الذي سمعته في نهار يوم الحلم نفسه تلك المادة النهارية ، كما يمثل صراع الهويّة النفسي العميق الرغبة اللاشعورية المكبوتة التي ينبغي حلّها . لم يجبها حسّون عن خدّوجة "مُسقطةً" عدم معرفتها عليه ، فهي مقصّرة إذ لم تفكّر مرّة واحدة بزيارة عائلة خدّوجة التي قامت برعايتها وتقاسمت معها رغيف الخبز ، وساندتها عند مرض أبيها ، وأمضت بين ربوعهم أروع أيام طفولتها . وهذا موقف غريب يعود إلى "البرودة" الناجمة عن أواليّة العَزْل التي أشرت إليها في ما سبق . وهذا التساؤل عن خدّوجة مداورة يخفّف بها الحلم من شعورها بالذنب ، وليخفي مجريات الصراع الأعمق ، فحسّون هو الطفل الملعون الذي كان يجترىء على ما لم يستطع أي طفل من عصبته على القيام به ، وهو أن يزهو لاعباً بقضيبه . وقد اجتافته الطفلة الراوية في عمرها الهش – تعويضاً عن مشاعر الأنوثة بالإنخصاء عبر المقارنة الحتمية – كرمز لدوافع ذكورية تنافسية عبر تماهي الطفلة القوي مع أبيها ، وصلاتها المتأزمة والمحتقنة مع أمّها التي تحمّلها لاشعوريا مسؤولية "نواقص" الجسد الأنثوي . لكن الصراع الدفين بين جوانب الهويتين – والذي كانت من علاماته انجذاب الراوية إلى التمثال الخشبي "الخنثي" الحائر في مشغل النحّات – ظلّ متأجّجاً حتى في كبرها . وكان لابدّ أن يُحسم لصالح علاقتها الحبّية الجديدة التي تتوّجت بافتراعها من قبل سليم . وتمثل هروب حسّون / القضيب محاولة لمقاومة خطوة جوهريّة وحاسمة على طريق تصفية هذه "البقايا" الذكورية في لاوعي الشخصية ، والتي أخرجها الحلم بصورة درامية حين سقط حسّون على وجهه :

(هبط على وجهه مرتطماً بالصخرة . لحقت به لاهثة . جثوتُ على ركبتي إلى جانبه ؛ أناديه لكنه لا يجيب . قلبته على ظهره . أُغمي عليه . شيئه الصغير يسبح على التراب في بركة من دماء قرب بطنه) (ص 143) .

بعد أسبوعين تأتيها رسالة من سليم تخبرها بتأجيل إجازته الدورية للمرة الثانية لأجل غير مسمى ، ورسالة تشرح لها عذاباته وهو ينقل شهيداً مقطّع الجسد إلى عائلته . ووسط قراءة رسالة الموت ، يرن الهاتف برسالة حياة عبر صوت المدام وهي تخبرها بعرض راقص اسمه "نور" ستقدّمه مع فرقتها قريبا (ص 144) ، وانقطاع تال ببيان عسكري عن تحطيم القوات المعادية . وكل بيان يحمل في طيّأته احتمال موت الحبيب واجتثاث الآمال النديّة . وفي ختام الرسالة يحذّرها سليم من التحوّلات التي جرت في روحه الممزقة :

(إعذريني إن وجدتني إنساناً آخر) (ص 145)

وكأنّ الكاتبة تبغي تهيئة المتلقي لاستقبال السلوكيات المضطربة والهذيانية لسليم ، وكان الأفضل أن تترك سلوك الشخص هو الذي يتكفل بالإخبار . وفعلاً يأتي سليم في إجازته محطّماً . شعرت الراوية بالتغيير منذ اللحظات الأولى للقائهما .. كان يتكلم كلاماً كثيرا هو أقرب إلى الهذيان .. رافقته عشرة أيام كاملة .. كان ممزق النفس بصورة كاملة . ويأتي مشهد الأسير العراقي الذي رُبطت أطرافه بسيارتين عسكريتين تسيران بصورة متعاكسة لتمزقاه (وابتلعنا نحن أشلاء ما كان جندياً) (ص 146) ، لتضاعف حالة التمزّق في النفس . وفي تلك الليلة سمعَتْ طرقاً منتظماً في الإستديو . كان سليم يحطّم تماثيله بمطرقته ويبكي .. 

في الإجازة التالية حضرا العرض الرائع "نور" الذي صممته المدام ونفّذته مع فرقتها . كان صراعا بين النور والظلام .. بين الخير والشر .. بين الموت والحياة ، ليتكلل بانتصار إرادة الحياة . وفي ختام العرض عرفت أن المدام سوف تتزوّج عازفا يكبرها بخمس عشرة سنة . وليذكّرها سليم بمرور سنة على لقائهما الأول ، فتخبره - وبكل قسوة ومن دون أن تسعى لتكسير الخبر السيّء كما نعتاد - بأنها سوف ترحل قريباً مع أمّها إلى إنكلترا ، فتسهم بذلك في الإجهاز على علاقتها به . وبعد أن تنقل لنا مقترحات لجنة النوايا الحسنة بصورة لا داعي لها ، تعلمنا بانتهاء الحرب ووصول رسالة وداع من سليم وتمثال نَحَتَه لها بيد جندي . كانت الرسالة ،  بالنسبة لي غير مقنعة ، وهي تختلط بموقف هروبي من الوداع ، وتتحدّث بفذلكات تمهيدية عن التمثال ، وتُختم بدعوة للراوية بأن تتحرّر وتحلّق ، وأنّه لن يحتجز حصّتها من العمر عنده !! . تُنهي الراوية هذا الشوط المُهلك بعبارة أكثر فداحة :

(صعدتُ سلالم الطائرة أحمل حقيبة واحدة تتبعني أمّي بثدي واحد) (ص 151) .

الآن الراوية مع أمّها في لندن .. تقدّم لنا وصفاً لايقاعات الحياة هناك .. وصخبها . إيقاعات ضاع في ضجيجها صوتها الفردي ، وصخب أفقدها امتياز من كان يسمعها في موطنها القديم ؛ كتلة لحمية تهرول بين المهرولين ولا تختلف عن رتل الهياكل الحديدية المتحرّكة من أمامها عبر شباك غرفتها المطل على الشارع . ملامح ضائعة ليس لها حسب بل لجميع من يسيرون في "حيّ السحالي" القادمين من كل أرجاء المعمورة .. وحدة موحشة وغربة وعزلة وسط الضجيج . الجميع يركضون غير مدركين أنّهم – جميعاً - يتحرّكون بأجنحة مقصوصة ، أو أنّهم يدركون ذلك بلاوعيهم ويخشون وضع الحقيقة الصادمة هذه أمام أعين وعيهم فينشرخ بدرجة أوسع وأشد ، ولذا يسيرون مغيّبين لاهثين خلف شيء "ما" هو بالتأكيد البقاء .
ووسط كل ذلك تواجه الراوية أيضاً ضغوط العناية بأمها بعد أن بدأت نذر انتشار سرطان الثدي إلى مناطق أخرى من جسمها .. وضغوط العيش .. مع نُذر حرب جديدة مرعبة سوف تُشنّ على وطنها . قرأتْ أول أخبار هذه الحرب وهي وحيدة في الباص ، وحين احتاجت إلى أن يسمعها أحد وجدت الجميع يضعون على آذانهم سمّاعات الراديو ! :

(فاتني أن أشتري الجريدة ساعتها . فجأة أقرأ : "الأمم المتحدة تدين دخول العراق إلى الكويت" .. احتسيتُ الشاي جرعة واحدة ، شعرتُ أنها تنزل إلى معدتي مباشرة . رفعتُ رأسي أبحثُ عن وجه مألوف ينقذني ، فإذا في المقهى مجموعة من شباب يضعون على آذانهم سمّأعات مسجّل راديو صغير متنقل ، ويتفاهمون بالإشارات . تركتُ المكان على الفور) (ص 155) .

نعود مع الراوية إلى دوّامة مرعبة جديدة تُفسد فيها بيانات الأمم المتحدة إيقاع حياتها المشوّش والثقيل أصلاً ؛ قرارات بمنع التعامل التجاري ثم تحريك الجيوش والأساطيل . لكن هنا يحصل فارق جوهري جسيم وشديد الأذى . فعلى الأقل كانت بيانات الموت والحرب في سنوات الحرب العراقية الإيرانية تتناوب مع لحظات هناءة وجيزة مع أبيها ، أو مع ساعات إصرار على الحياة بتشفيف الجسد والتحليق بالروح مع المدام ، أو مع أوقات الإلتحام العذبة الملتهبة برغم أنّها مُهدّدة مع سليم . الآن تتناوب بيانات وأخبار التجويع والتهديد والفناء مع تدهوّر حالة أمّها الصحّية وتصاعد كآبتها وتوقّعها للموت وفزعها من مضاعفات العلاج بالمواد الكيمياوية كتساقط الشعر وعجز الكبد والتهاب الجلد وتقيّح الثدي .. وغيرها .. أو مع ساعات وحدة متطاولة وإحساس مرير بالغربة . كانت للأمل حلقات بيض أو رماديّة  تراوح بين حلقات سلسلة الموت السوداء ، أمّا الآن فقد صار الحزن والعذاب سلسلة طويلة مظفورة بخيوط اليأس ؛ أنشوطة تخنق أنفاس الأمل المحتضر أصلاً . إنّه عالم جائر منافق تتردّى فيه إنسانية الإنسان إلى الحضيض ، ففي الوقت الذي تعلن فيه البنت لأمّها ، وهي تسمع شكواها من تأثيرات العلاج الكيمياوي السلبية ، أنّ الحرب المقبلة على وطنها ستكون مرعبة لأن تطوّر آلاتها قد بلغ الأوج في القرن العشرين ، تردّ الأم متهكمة وهي تدير ظهرها :

(-إذن ، فلنطلب من الله أن يكون علم الطب قد بلغ الأوج أيضاً) (ص 156) .