الأديب القصاص عبد السلام العجيلي

ومجموعته "فارس مدينة القنطرة"

م. محمد عادل فارس

[email protected]

الكاتب:

إنه الأديب الكبير الدكتور عبد السلام العجيلي

رجل فذّ، جمع عدداً من المواهب، فهو طبيب وسياسي ورسّام كذلك، وهو أديب من الطراز الأول، فهو شاعر وروائي وكاتب مقالة. بل إنه أحد أعلام القصة والرواية.

ولد عام 1918 في مدينة الرقة، شمال شرق سورية، وانتُخِب نائباً عن مدينته سنة 1947م، وتولى عدداً من المناصب الوزارية في وزارات الثقافة والخارجية والإعلام عام 1962م.

توفي في الخامس من نيسان من عام 2006م.

تراه فيما يكتب مسكوناً بحب الوطن وحب الحرية.

وهو فنّان مبدع، يرسم بالكلمات خلجات النفوس، وخفقات القلوب، وقسمات الوجوه، وملامح الفرح والأسى والرضا والغضب، ويلتقط اللفتة البارعة والغمزة العابرة... هذا، إلى خيال واسع، وحبكة فنية، وثروة لغوية...

تألق ذكره في شبابه، وتقلد المناصب الرسمية أيام ما سُمّي بالانفصال، مطلع الستينيات من القرن العشرين، فلما وئدت الحرية في العهد الذي يتاجر بالحرية، ويجعلها ثالثة الأثافي في ثالوثة القدس... راح العجيلي يحلم بالحرية ويندد بالقمع والاضطهاد، ويشنّع على الذين يتآمرون على بلادهم، ويزعمون أنهم حُماتها، ويبيعونها في سوق النخاسة... لكنه يعبر عن ذلك متوارياً وراء أحداث التاريخ مرةً، وبلسان إنسان مقهور ذاق طعم "النعل" في أقبية المخابرات، ربما في بلاد "الواق واق"! بما يشبه الأدب الرمزي!.

شارك بنفسه في حرب فلسطين 1947 – 1948.

خلّف وراءه ثلاثة وثلاثين مؤلفاً في الرواية والقصة والمقالة.

وفي برنامج "زيارة خاصة" على قناة الجزيرة، تمثل أديبنا العجيلي أبيات الشاعر عمر أبو ريشة:

إن خوطبوا كذَبوا، أو طولبوا غضبوا        أو حوربوا هربوا، أو صوحبوا غدروا

خافوا على العار أن يُمحَى فكان لهم        على الربـاط  لدعـم العـار مؤتمـرُ

على أرائـكهم، سبحـان خالقـهم         عاشوا وما شعروا، ماتـوا وما قُبـروا

المجموعة القصصية:

إنها "فارس مدينة القنطرة" وهي تضم خمس قصص: فارس مدينة القنطرة، مذاق النعل، الحب في قارورة، نبوءات الشيخ سليمان، العرّاف.

ثلاث من هذه القصص تحمل إشارات أو تصريحات حول الحرية المهدورة، والوطن الذبيح، وهي القصة الأولى، والقصة الثانية، والقصة الرابعة، وكانت أشد تلك التصريحات في القصة الثانية "مذاق النعل".

في القصة الأولى "فارس مدينة القنطرة":

هل اختار أديبنا هذه القصة، وأعطاها هذا العنوان، ليشير من طَرْف خفي إلى ما حدث في مدينة القنيطرة، لا سيما وأنه كتبها في كانون أول 1967، أي بعد سقوط القنيطرة ببضعة أشهر؟!

نقرأ في هذه القصة مثل هذه العبارات:

"هل يحولُ بغضك لـ"ابن ساعر" دون أن تحمل سيفك وتركب فرسك، وتذُبَّ عن دينك ودارك... فقال: إن ابن ساعر فاسق لا يصح له جهاد... وأنا على مثل اليقين من أنه.. يريد أن يذبحنا وأولادنا لتَخْلُصَ له البلد.."

"أعرف أن الله لا ينصر قوماً يؤمّرون ابن ساعر عليهم"

"إن المُضَريّة من أهل القنطرة والجزيرة ندبوا أنفسهم للجهاد حين تجاهلهم الأمير فلم يُعْطهم سلاحاً، ولا دعاهم إلى مشورة حرب..."

"ابن ساعر ما هو إلا عدو لدود لهذه الأمة، وقد جانَبَ أولياءها، وقرّب أعداءها"

"ورأيتُ الخلائق الواردة ظُعوناً متلاحقة، قادمة من ديارنا التي ذهبت من بين أيدينا، هاربة من القتل، ومن ذُلّ أشدّ من القتل"

"أفلا خبَّرتني كيف جرى ما جرى، وأضَعْنا فرساننا، وسُلبت منا ديارنا؟"

"كيف خرجنا من القنطرة، وعلْمي بها أنها أمنع من عُقاب الجوّ، قلعةٌ بين مضائق لا تُسلَك، وحُماتها فرسان مُضَر"

"... إلا أن يكون أميركم أخلى لهم المضايق طواعية ليسلّم بلادكم إلى عدوكم. والله ما أظن أحداً منهم [الأعداء] حصل القنطرة بَعْدُ، ولكنهم يريدونكم على أن تُخْلوا السهل لتتدفَّق فيه عساكر الأشبان، فتؤخذ مدينتكم ومِنْ ورائها أرض الجزيرة لقمة سائغة".

"وتقدّم الفقيه ابن حفص وقال: يا ابن عمرون، أما لك دين؟ أما لك مروءة؟ كيف تأتمر على قومك مع عدوّهم؟ فردّ ابن عمرون بكلام ضعيف قال فيه: ... وأنا تَبَعٌ للأمير ابن ساعر حين رأى أن لا قبل لنا بحرب توذر [الإسبان] فصالحهم على أن يبقى أميراً"

وفي القصة الرابعة: "نبوءات الشيخ سلمان":

في هذه القصة يروي أحداثاً من حرب فلسطين عام 1948، يرويها على لسان رجل سكران!

"نحن الذين جئنا من أقاصي البلاد، نحمل أرواحنا على أكُفّنا لننقذ فلسطين... مَن منا كان يفكر في غير الوطن حين هجرنا دُورنا الرائعة، وفرشنا الناعمة، وذهبنا نواجه رياح الزمهرير على قمم جبال الجليل المُثلِجة؟ كان بيننا ضباط وفلاحون، ونواب ومدرّسون، وأطباء ومحامون وتجار، كلهم متطوعون...

قال لي شيخ القرية: يجب أن تعتني بصحتك ما دمت جئت لتحارب، فلابد لمن يريد أن يذبح خروفاً أن يسمّنه أولاً.. قلتُ: من الذي سيُذبح في هذه الحرب يا شيخ؟ قال: كثيرون... ألم تأتوا لتموتوا هنا؟... ولكنكم لن تموتوا جميعكم. الطيبون منكم وحدهم سيموتون!... هل تظنون سهلاً أن تطهر هذه الأرض بمئة أو مئتين من المتطوعين؟ في قديم الزمان كان يموت الأنبياء، وتسبى الشعوب، وتسيل الدماء أنهاراً حين يتدنّس حَجَرٌ من هذه الأرض... يجيء الطيبون في البدء ويذهبون، ثم الأقل طيبة، ثم يأتي الخبثاء. نعم أولئك الذين يبيعون أرضهم وملّتهم، ويتظاهرون أنهم يضحّون في سبيل الأرض والملّة. ويأتي بعد ذلك الخونة الكاذبون، ثم خونة صادقون لا يبيعون الأرض بل يتنصلون منها... ومن يبيع آلامها وأطفالها بفلس، أو بضحكة امرأة...

"نعم سيأتي الحاكم الذي يبيع فلسطين، ثم يدفع مالاً ليتخلص من فلسطين، بل لعل هؤلاء أتوا، وهم يقودوننا ونحن لا ندري!"

أما القصة الثانية، قصة "مذاق النعل" فقد أخّرتها لأنقل منها نصوصاً طويلة، فهي أهم هذه القصص، إنها ترسم مأساة الوطن والمواطن، حين تُخْنَق الحرية، أو حين تدوسها الأحذية الثقيلة!.

"كانت ناراً صغيرة أطفئت بسرعة حيث شبّت، ولكنها ذكّرت بنا الحكام. لم تكن لي أية علاقة بشبوب تلك النار، يعلم ذلك الله، وعلمه بعد ذلك من ظنّوا بي الظن السيء. قيل لي في إحدى الأمسيات أنهم جاؤوا إلى الدار يسألون عنّي سؤالاً مريباً، فذهبت إلى مقرهم أستفسر لمَ يسألون. ودخلت المقر كما أدخل منزلي، فقد كان لي في ذات يوم منزلاً. هناك رحّبوا وخاطبوني بيا سيدي، ثم اعتذروا عن إزعاجي قبل أن يرسلوني إلى محقق أدنى ممن استقبلوني في الأول رتبة وأقل لطفاً. وأحالني المحقق إلى مَن دونه في الرتبة وفوقه في الجفاء، وهذا الثالث أحالني إلى الرابع الذي قادني، بكل بساطة إلى السجن... السجن الذي تُحبَس فيه عن الناس حريتهم وتُنزَع عنهم فيه، فيما عرفت بعدئذ، إنسانيتهم!.

فيما عدا الحبس الذي وصفته لي اليوم، قل لي يا أستاذ، هل دخلت سجناً في حياتك؟ ربما كنت قد دخلته زائراً، كما فعلت أنا مرات قبل هذه المرة. السجن قد يعني عندك البناء المعتم الذي ترشح جدرانه بالرطوبة وتملؤه رائحة مزيج من العفن والدسم وعرق المحمومين. قد تذكّرك كلمة السجن بأبواب من الحديد المشبك تلمع وراءها أعين السجناء وتبدو من خلال شباكها وجوههم المنتفخة بالخمول، الشاحبة شحوب الشمع لحرمانها من نور الشمس. ولكن السجن الذي قادوني إليه، كان شيئاً آخر.

تصور ساحة مستطيلة يملؤها ضوء النهار، مفروشة بالرمل الأحمر كأنها أعدت لترويض الخيل، يقوم في أقصاها بناء مكعب تشُقُّ واجهتَه الخرساء كوى صغيرة كأنها عيون فقدت الأبصار في وجهٍ فَقَدَ التعبير. هذا أول ما طالعني من السجن الذي اقتُدت إليه. أكثر ما أثار انتباهي حين دخلنا الساحة المستطيلة لم تكن لفائف الأسلاك الشائكة على طول قاعدة السور المحيط بها، ولا حاملو الأسلحة الرشاشة الذين كانوا يُطِلّون من أعلى البناء، وفوهات رشاشاتهم لاحقة بنا كأنهم حريصون، ونحن نخترق الساحة، على أن يبقونا دوماً في مرمى رصاصهم. كان أكثر ما أثار انتباهي لغط غريب صادر من كل جوانب بناء السجن كأنما كانت تنفثه تلك الكوى العمياء، وكان يزداد علوّاً كلما اقتربنا من باب البناء، حتى استحال إلى ضجة عاصفة حين ووقفنا أمام عتبته. كان لغطاً مزيجاً من خطب حماسية وأناشيد ثورية وقهقهات ماجنة وأغانٍ عاطفية، تنقله مكبرات للصوت مضخماً حتى ليغطي على كلام مرافقك الذي يجاورك وحتى لتتأذى به أُذُنُ من يكون في آخر الساحة المستطيلة.

نعم لقد أثارت هذه الضجة الغريبة انتباهي، وشعرت برغبة في الاستفسار عنها، لولا أن مرافقي كان من الاستعجال بما لا يترك مجالاً لسؤاله، ومن الجفاء بما لا يضمن لي منه جواباً لو أني استطعت أن أسأله. ودخلنا البناء بعد شكليات سريعة قام بها مرافقي، واتجهنا في أحد الممرات الطويلة تملأ أسماعنا وتدق على أعصابنا تلك الضجة التي ازدادت صخباً بتردد أصدائها بين جدران البناء، حتى بلغنا غرفة تنحدر عن مستوى الممر بضع درجات، كان باب الغرفة مغلقاً فوقفنا عنده لحظة، وهناك فارق مرافقي جفاؤه لحظة، إذ تحول ذلك الجفاء إلى غلظة وقحة قطعت علي أنفاسي: لقد وضع يديه على ظهري ودفعني إلى داخل الغرفة بقوة جعلتني لا أمتلك نفسي إلا بعد أن أصبحت في وسطها وقد صعد الدم إلى رأسي في مزيج  ملتهب من الدهشة والغضب...

أول ما فعلتُ إذ ثبتّ على قدميّ بعد اندفاعي، أنِ التفتّ إلى ورائي أبحث عن مرافقي وقد استحالت كل الطاقة التي في عضلاتي، وكل الثورة التي في أعصابي، إلى قبضتيّ وأصابع كفيّ، ولكن التفاتتي كانت عبثاً، كان الباب قد أُغلق ورائي ولم يكن لمرافقي أثر في الغرفة. وأغلقت أجفاني وفتحتها بسرعة مرات متتالية، فقد كان الضوء في الغرفة ساطعاً، تبعثه مصابيح قوية في السقف، يبهر البصر بعد ظلام الممر الطويل الذي جئت منه، وأدرتُ رأسي حولي أتأمل الناس الذين كانوا معي في الغرفة، كانوا ستة، سبعة، بل ثمانية رجال يرتدون كلهم ملابس الجنود، فيما عدا واحد كان عاري الرأس، يلبس قميصاً داخلياً بحمالات فوق بنطلون من الخاكي، كان رئيسهم ولا شك، ما دام يجلس وراء المنضدة الخشبية في زاوية الغرفة وما دام يسمح لنفسه أن يظهر بهذا الزي المبتذل أمام الجنود النظاميي الملابس.

وكنت لا أزال أشعر بالحنق، كرباط يشدّ على عنقي ويعقل لساني عن الكلام، بينما كان الدم الذي ينبض بقوة في شرايين صدغي يلهب دماغي ويحول بيني وبين أن أجمع أفكاري. وقبل أن أستطيع أن أتلفظ بكلمة، أو أطلب تفسيراً، امتدت يد الجنود إلى عنقي فجرّت الربطة التي تحيط به بعنفٍ أمالَ رقبتي على كتفي قبل أن تنحلّ من قبتها. ثم جاست تلك اليد في جيوبي فأخرجت منها كل ما تحويه من مفاتيح ونقود وأوراق، وانتهت إلى قدميّ فجذبت رباط حذائي وألقت به بعيداً. "ماذا يريد هؤلاء الناس مني، ومن يظنونني؟" هكذا قلت لنفسي، وفتحتُ فمي أريد أن أخاطب رئيس هؤلاء الجنود، ولكن حركة بدرت منه جعلتني أحجم عن الكلام وأنتظر ماذا يفعل هذا الرئيس. رأيته يقوم من مجلسه وراء المنضدة وقد وضع يديه على خاصرتيه، ويتجه نحوي مثبتاً بصره فيّ، واقترب مني حتى لمحت على قميصه البقع القذرة التي خلفها العرق المتبخر وحتى شممت من فمه رائحة التبغ الرخيص ينطلق ممزوجاً  بلهاثه. وفجأة، حين كاد رأس أنفه يمس وجهي، انحرف عني وتابع سيره إلى الباب، وقبل أن أسمع صوت انغلاق الباب وراءه سمعته يقول: "دبّروه".

سبعة رجال كانوا في الغرفة، سبعة شباب عِراضُ الأكتاف مفتولو العضل حديديو القبضات، سبعة وحوش بشرية... وكنت بينهم وحيداً، كرة إنسانية تتقاذفها أيديهم وأرجلهم. نعم، لقد ارتفعت عليّ أيديهم بالضرب، وانطلقت إليّ أرجلُهم ركلاً ورفساً بتواتر غريب. وكانت الضربات على أنحاء جسدي من التلاحق والشدة بصورة ما كنت أعرف معها أين أضع يديّ لأتّقي بهما اللكمات وضربات الأقدام. يا الله! ماذا فعلت لهؤلاء الفتيان السبعة حتى تمتلكهم كل هذه الحّدة في ضربي؟! وشعرتُ، بينما كانت إحدى ذراعيّ تحمي وجهي من لكمة أصابت شفتي فمزقتها، شعرت بالدم ينفر حاراً من عينيّ، فعضضت على شفتيّ الممزقة بشدة حابساً في حلقي صرخة الألم التي كانت ستنطلق.

من المؤكد أن ألمي لم يكن من وجع الضرب، لكنه من هذه الإهانة وهذا الإذلال. أأُضرَب هكذا وأنا حيّ؟ وكان صوت في ضميري يقول: إنهم يضربونك ليسمعوا منك صرخة الالم، فلا تصرخ! غرست أسنان فكي الأعلى في شفتي السفلى حتى أحسست بطعم الدم مالحاً في فمي، ولم أصرخ. كانت بعض الضربات تنزل برأسي فأُحِسّ بأنه غاص بين كتفيّ، وبعضها يُطير الشرر من عينيّ، وبعضها ينزل بضلوعي فأُحِسّ أنها تحطمت، أو على ظهري فأحس أنه انقصم، وما كان يلهيني عن ألم ضربة إلا ألمُ التي تليها، وإلا الألم المحرق، الغريب في لذعه، الذي ينزل بأعماق وجداني، ألمُ الكلمات التي كانت ترافق تلك الضربات، ماذا أستطيع أن أعيد من تلك الكلمات؟ إن بعضها سباب أزقّة يترفع الإنسان عن رواية لفظه البذيء، وبعضها تجديف على الخالق ونواميسه، وبعضها، إذا ما تدبرت أن من يقولونها كانوا ببغاوات، تهتف بهتافات من لقّنوها، تُجرّد من الأخلاق ومن حب الناس ومن حس الإنسانية...

لحظات قصيرة أم دقائق طويلة... لا أدري كم استغرق من الوقت تعرضي لأيدي الجنود السبعة وأرجلهم. قطع وابل السباب والعذاب المنهمر على جسمي ضربة حادة من قدم أحد الجنود في أعلى بطني، أحسست بعدها بأن ألماً مبرحاً تشعع من معدتي وانطلق شرره إلى كل عضو من أعضائي، وأن جسدي قد انقصم إلى نصفين التوى أحدهما على الآخر. تلك هي المرة الأولى التي فقدت فيها سيطرتي على نفسي ففتحت فيها فمي لأصرخ... أصرخ بماذا؟ كنت أريد أن أصرخ قائلاً: يا أمي!، ولكني لم أفعل، لا لأني أحجمت بطوعي عن الصراخ بل لأن الألم كان من الشدة بدرجة انحبس معها شعوري وشُلّت حنجرتي عن أن تتلفظ بهمسة، وعاد إليّ شعوري بذاتي بعد لحظات، ففطنت إلى أن الضرب قد كفّ عني، وإلى أني ملقى على الأرض منطوياً كزناد البندقية، ويداي تضغطان من بطني على موضع ضربة الحذاء التي تحولت من ألم متشعع إلى حس تمزق، كأنما كانت هناك سكين حادة تنقلب في أمعائي، وبذلت جهداً كبيراً لأرفع رأسي وأتطلع إلى ما حولي.

لا أدري كيف كان منظري حينذاك... فلابد من أن رأسي ووجهي كانا كتلة من التورم والكدمات يغطيها الدم والدمع، فقد كنت أحس بثقل رأسي، وأشعر بملوحة الدمع اللاذعة على بشرة وجنتي الممزقة، ولابد من أن عينيّ كانتا محتقنتين منتفختي الأجفان، فقد صعب عليّ في البدء أن أثبت ما حولي برؤية واضحة برغم الضياء الساطع الذي كان يملأ الغرفة، ولكن أشباح غرمائي السبعة لم تلبث حتى تبينت لي بوضوح. كان بعضهم قد استند إلى الجدار وقد بدا عليه التعب مما جاهد بضربي، وبعضهم كان يقف متهيئاً للعودة إلى التنكيل بي من جديد، كأنما كان انطراحي كالخرقة الخلقة في أصل جدار الغرفة، فترة راحة يستعيد بها قوته، وأدرتُ رأسي ببطء أبحث فيها عن عيون زبانيتي واحداً واحداً. غريبةٌ نفسُ الإنسان، وغريبٌ جبروتها!.

من بين كل آلامي المعنوية والبدنية، من بين كل جراح نفسي وجسدي، أحسست بومضة اعتزاز تملأ كياني: ليس في عيني واحد من هؤلاء الجلادين نظرة مطمئنة، أو راحمة، تدل على أنه اشتفى أو اكتفى... إن نار الحقد لا تزال تحرق قلوبهم لأنهم يدركون إدراك الجبناء أن أيديهم الجارحة لا تزال ضعيفة عن أن تصل إلى موطن قوتي، إلى نفسي الأصيلة! وكان هذا الإحساس عزاء غريباً لي في محرق الأوجاع الذي كنت أنقلب فيه، وأغمضت عينيّ اللتين أحرق أجفانهما النور الساطع في انتظار وابل جديد من الكلمات والركلات...

في تلك الأثناء فُتح الباب، فلمحت بين أجفاني المثقلة رئيس الجلادين، الرجل ذا القميص الداخلي المبقع ورائحة التبغ الرخيص، يدخل. سمعته يتساءل: هل أخذ نصيبه؟ فكان جوابَ رجاله قهقهاتٌ لئيمة، وألفاظُ سُباب تعنيني، وأقوالٌ لم تثبتها أذناي اللتان كانتا تَطُنّان طنيناً غريباً فوق أرضية من ضجة مكبرات الصوت التي كانت تتسلسل إلى الغرفة عبر الباب المغلق. ورأيته يضحك وهو يشير بيده إلى شيء كان معلقاً على الجدار، فاندفع أحد الجنود ولحقه آخر، فأمسكا بيديّ تحت كتفيّ ولَوَيَا مرفقيّ بحركتين متماثلتين، كأنما كانا يتبعان طريقة بعينها، طالما تدرّبا عليها، من طرق العذاب، ثم جرّاني حتى توسّطا بي الغرفة وتركاني هناك مضطجعاً على ظهري. مرت لحظة سعيدة شعرت في أثنائها وأنا مستلق بانبساط أعضائي وامّحاء التوتر في أعصابي المشدودة، وأغمضت عينيّ مستمتعاً بتلك الراحة الجزئية، وقد تسرب إلى نفسي أن حضور الرئيس نعمة، وأنه لن ينالني شر ما دام موجوداً. إلا أن تلك اللحظة لم تَطُلْ، قطعها شعوري بأن قدميّ أخذتا ترتفعان في الهواء، وتُنتزعان من حذائيهما، وتُسندان مجموعتين إلى عصا خشنة الملمس، ففتحت عيني دهشاً... إذن فهذه طريقة أخرى من طرقهم في التعذيب والإذلال، إنها الفلق! واستغربت أن الارتياع لم يدخل إليّ برؤية زبانيتي وهم يتهيؤون لمهمتهم الجديدة، بل رحتُ أراقب حركاتهم فيما يشبه الهدوء كأن كل ذلك كان يُهيّأ لإنسان آخر غيري، رأيت أحدهم يتناول من الجدار حبلين، عجبت من أن عينيّ لم ترهما  قبل الآن... ولكن هل ترك هؤلاء الكلاب لي وقتاً أتطلع فيه إلى ما كان يحيط بي؟ في هذه اللحظة، وأنا مستلق على الأرض الصلبة، ويداي ممدودتان إلى جانبيّ في استرخاء، ورأسي بعيد عن قبضات معذبي الخشنة، فقد كان لدي كل الوقت لأتأمل في الغرفة ومن فيها وما فيها. تبيّنت مثلاً أن الحبلين كانا سوطين مُعَدَّين لينهالا على قدمي ضرباً... وأن كلاً منهما مكون من ثلاث شرائح من المطاط، مجدولة كضفيرة، ليس من المطاط المرن الأملس بل من مطاط إطارات السيارات الخارجية الخشن، الحاد الحواشي. وتبيّنت كذلك أنه لم يكن عبثاً أن كان جلاديّ سبعة في العدد، فقد حمل اثنان منهما خشبة الفلق المربوط بها حبل غليظ، وأدخلا قدميّ في الربقة بين الخشبة والحبل، وأدارا الخشبة حتى انحبست قدماي فلم يَعُدْ لي أن أبعد أحداهما عن أختها، ألصقَ اثنان آخران ذراعي المنبسطتين كذراعي المصلوب، بالأرض حتى أثبتاها عن الحركة، ووقف الخامس عند الرأس مطبقاً بأصابعه الخشنة على كتفيّ حابساً بين ركبتيه جمجمتي، أما بقية السبعة فقد أمسك كل منهما بسوطه المجدول، ووقف يشمر ذراعه عند قدمي. وفي لحظة واحدة لابد من أن الرئيس قد أعطى إشارتها، أُلصقت ذراعاي ومنكباي بالأرض، وارتفع ساقاي بخشبة الفلق، وانحدرت على قدميّ ضربات السوطين متلاحقة، عنيفة، مؤلمة، جارحة، ممزقة...

ترى ما عدد الألوان التي يعرفها الإنسان للذة؟ لا أظنّ هذا العدد كبيراً، وأحسبه لا يتجاوز عدد أصابع اليدين. أما الألم فإن ألوانه، على ما أعتقد، تفوق الحصر. لقد ذقتُ شخصياً من صنوف الألم، في ذلك اليوم ما لا أستطيع أن أحصي لك فروقها في الشدة والطابع والتوتر، وألمُ تلك السياط في وقعها على قدميّ كان شيئاً غريباً، شيئاً لا يطاق. لم يترك لي الألم المذهل فرصة يسيطر فيها تفكيري على أعصابي، وكنت بشراً، فصرختُ، صرختُ بقوة. مَن سمعني حين صرخت؟ لا أحد، غير جلاديّ، بدون شك... فلمثل صرختي هذه كانت مكبرات الصوت تذيع ذلك الخليط من الأصوات العالية المزعجة التي تختنق بين ثناياها أنات التوجع وصيحات الاستغاثة، وحتى حشرجة المحتضرين. ماذا قلت في صرختي؟ هل استغثت واسترحمت؟ لا أدري في الواقع، ولكني لا أظن أني فعلت ذلك. هل ثُرْتُ وهددت؟... في الحقيقة إني لا أدري ماذا قلت. ولكن يبدو أن صرختي كانت من القوة بحيث أزعجت أولئك الزبانية، فقد مدّ ذلك الجاثم على ذراعي اليمنى يده إلى إحدى فردتي الحذاء الذي كان ملقى بجانبي على الأرض، ولِيُسْكِتَني حشا  بها  في فمي...

تصوّر... ذلك الحذاء في فمي! لعلي قادر على أن أنسى كل ما مرّ بي من عذاب ومهانة في ذلك اليوم، وفي أيامٍ غيره، وكل شعور سعيد أو شقيّ مرّ في سني عمري كلها، ولست قادراً على نسيان مذاق النعل في فمي. من يستطيع أن يتصور ما مذاق النعل غير الذي ذاقه، فأنا الذي يمسك بي ويجثم على بدني المرضوض المحطم، وعلى نفسي المهيضة، خمسة رجال عراض الأكتاف، مفتولو العضل، مملوءون حقداً ووحشية، لم أقْوَ على احتمال مذاق النعل في فمي، فانفجرتْ كل خلايا جسدي من قوى في انتفاضة حررتني من أيدي جلاديّ. وكان أول ما فعلته، بل الشيء الوحيد الذي فعلته، أن انتزعت الحذاء من فمي، وقذفته بقوة حتى سمعت صوت ارتطامه بالجدار...

لم أمتلك نفسي بعد تلك الانتفاضة إلا قليلاً، فقد نزل بي اللكم والركل من جديد، ومن جديد طُرِحْت على الأرض، وأطبقت الأيدي الخانقة على صدري وعنقي وعلى ذراعيّ ورأسي، ورَفَعت رجليّ إلى أعلى مما كانتا عليه، وتلاحقت ضربات السوطين المجدولين بسرعة وبحنق مغيظ، إلا أن ذلك لم يدم طويلاً لحسن حظي، فقد غِبْتُ عن الوعي، وأصبحتِ الشاةُ مذبوحة، أو كالمذبوحة، بمنجاة من أن تتألم من السلخ..."

*****

"كان سهيل أفضل مني، وأفضل بدون شك، من بعض زملائنا الذين كانوا يزعمون أنهم معنا إيماناً بالقيم الخيّرة، فلما هبّت الريح إلى اتجاه آخر مالوا معها. هؤلاء الذين يزحفون في ركاب الموكب السائر، الآن ليس لهم في نفسي أي احترام، ما دمت أرى أفواههم محشوة بالنعال، وقد استمرؤوا مذاقها، فهم لا يفكرون حتى في التخلص منها. كانوا مثلي يقولون: إن سهيلاً خانته أعصابه وضَعُفَ فانتحر، بينما هم في الحقيقة لا يصِلُون في القدر إلى كعب قدم سهيل. ولكني هنا، على هذا الشاطئ البعيد، أتساءل عن زملاء آخرين غير هؤلاء، زملاء في عصبتنا التي ملكت أعنّة الأمور في تلك الأيام، إنهم لم ينقذوا كرامتهم بالموت كما فعل سهيل، ولا تجردوا عن أنفسهم بالإمحاء كما فعلت أنا، بل عادوا إلى الميدان ينتظرون في تيقّظ أو يعملون في الخفاء، يجدلون أسواطاً أخشن من تلك التي جُلدتُ بها، وينحتون أخشاباً أقسى من تلك التي صُلبت رجلاي عليها في السجن، ويجمعون النعال ليحشوا بها فم الظالمين في يوم مقبل. أترى هؤلاء أفضل من سهيل، أو مني أنا على الأقل؟".