من بدع القراء في المساجد، في رمضان وغيره

عبدالسلام البسيوني

 

توطئة

بجانب المشكلات التي أوضحتها أول كتابي عن (المساجد)، ومع زيادة عدد بيوت الله تعالى -بأحجامها وأغراضها - بشكل مطّرد، تعاني بعض المساجد من كثير من الممارسات الجاهلة، والسلوكيات الخطأ، كما يجلس فيها – خصوصاً في أيامنا – أعداد من الذين يمكن أن نسميهم:

الدعاة بالصدفة! أو الدعاة بالحاجة! أو الدعاة الموظفين! أو الدعاة المتكسبين!

وجل أولئكم من الذين لم يتثقفوا بالعلم الشرعي، أو لم يتحلوا بحلى طلاب العلم، ولم تتعلم أفئدتهم احترام الثالوث الكبير: الحاكم والحكم والصواب/ العالم والعلم والمنهج/ المسؤولية والصدق والخشية/ تعظيم المكان والشعيرة وحق السائل!

ومن البلايا أن العامة يعتقدون أن كل من يعمل بمسجد – فراشاً أم مؤذناً/ إماماً أم خطيباً/ واعظاً أم مفتشاً.. هو بالضرورة عالم ومفتٍ وحلالّ للمشاكل كلها، كما باتوا يعتقدون أن كل ملتحٍ عليم بالدين، فهيم للقرآن، خبير في السنة، لا يخفى عليه شيء من أمور الدين، رغم كونه ( شيخاً أو مطوعاً أو فقيراً درويشاً)!

والفتنة الكبرى هنا اعتقادهم أن كل من يظهر في الفضائيات، متحدثاً باسم الإسلام، هو عالم كبير، ومحدث خبير، ومفتٍ خطير، ومفكر مستنير..

ومنع الجهل والحياء وقلة تعظيم شعائر الله تعالى وخشيته كثيراً من دعاة الصدفة، وهواة الشهرة أولئكم، أن يقولوا: لا، وباتوا لا يترددون في الإجابة عن أية مسألة يسألون عنها، حتى ولو كانت مما يتردد في الإجابة عنه أئمة الأمة الأربعة وأشباههم من العلماء الوعاة الثقات..

ومن العجيب أنك يمكن أن تجد من يتكلمون في الإسلام (سَلَطة) من البشر: فكثير منهم لا يحمل غير شهادة (لا إله إلا الله)، وبعضهم بإعدادية، أو دبلوم صنائع، وبعضهم بدكتوراة في الزراعة أو الهندسة، وبعضهم علماني جاحد، وبعضهم يساري ظاهر، وبعضهم لا يحسن قراءة آية صحيحة، ولا نطق جملة فصيحة، ولا تجلية جملة صريحة، ولا كيف يوصل بالحكمة نصيحة!

وبتنا نرى – على حس المساجد – من يجلسون للفتوى في الفروج والأموال والدماء، وفي الاقتصاد والتربية، والأحكام الشرعية والمعضلات الطبية، وفي الجينوم وعلوم الفضاء لا يقول أحدهم: لا، أو لا أعلم، بل هو أجرأ على الفتوى من أحمق مسلوب العقل!

كما انتقلت المساجد – واقعاً - للشاشات؛ ليشتهر عبر الإعلام اللئيم أناس مساكين، جرآء على الفتوى، وعلى الدين، وعلى الله تبارك وتعالى، ممن يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ويعتقدون أنهم أهل للجلوس للناس، والإفتاء، وإبداء الرأي في الأمور الخاصة والعامة، والكلام فيما يستحيا منه، وما تخشى عواقبه، وما يحتاج لإعمال فكر، واجتهاد طويل؛ يجيبون عنه عفو الخاطر، دون تفكير ولا كد ذهن، بعد أن سقطوا في فخاخ الأضواء، وأسر الميكروفونات، وضلالات الإبهار والانبهار، وأحياناً المكافآت المدهشة، والبروز الخادع، والاشتهار الغاش!

ومع عجز الكليات الشرعية عن إخراج عناصر على مستوى العصر، وتقدر ثقل هم الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، برز دارسون للتجارة، والتربية، والعلوم التجريبية، ممن لم يؤسَّسوا في الدراسات الشرعية، بل يعتمدون على الوسائل العصرية التي لا يعرفها العلماء التقليديون، ليتحولوا إلى نجوم في الشريعة والدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ووصلت شهرتهم حداً صار معه بعضهم نجماً يسير حوله الناس، ويتقربون منه كالنجوم، وصار من  الصعب عليك إن لم تكن من المقربين أن تعرف عنوانه، فضلاً عن أن تتصل به، فضلاً عن أن تقابله أو تجلس معه، وصار بعضهم يحجز الموعد معه قبل وقته بشهور طويلة، وصار يشترط أن يُدفع له بشكل عجيب مدهش، لم يعرفه أولئك المحتسبون (السذج) من العلماء الربانيين الذين قطعوا أعمارهم محتسبين، مترفعين على كل شيء، يرون ما بأيديهم هو العز الحق، والثروة الحقة، والقوة الحقة..

وأذكر أنني قابلت عالماً فاضلاً كان عميداً لكلية الشريعة في بلده، فسألته لم اختفى وحجب نفسه؟ فقال بلهجة الأسوان: كيف يظهر مثلي ويكون له وجود وأثر، أمام شباب الفضائيات؛ والدعاة الجدد، المسألة الآن ليست علماً فقط يا أخي!؟ وصدق الشيخ!

وبدأت تصنيفات للدعاة التلفزيونيين بحسب المدرسة، وبحسب الجغرافيا، وبدأت أنواع من أخونة أو سلفنة أو أزهرة الشاشة، فثم قنوات سلفية، وأخرى إخوانية، وثالثة أزهرية، يرى أصحابها أنهم الأعلى والأكمل والأوثق..

كما بدأ نوع من سعَودة الدعوة أو مغربتها أو تمصيرها، وقبول كل ما يأتي من دعاة بأعيانهم؛ ولو كان بدعة، وجلُّ نجوم هذا التيار أقل من هذه المهمة الجُلىَّ في جوانب كثيرة غير السن؛ حتى برزت فيهم أمراض دعوية ومساجدية جديدة، تحتاج بعد تقوى الله تبارك وتعالى إلى مواجهة وضبط!

وما أردت قوله في هذا المقام – وأستغفر الله تعالى إن كنت مجترئاً أو متسرعاً – أنه كما أن لبعض الدراويش بدعاً فائحة، فقد صار لكثير من مشائخ السنة بدع فائحة، باتت مستقرة وسائرة، لا تحتمل النقد فضلاً عن النقض، لعموم البلوى بها، وانتشارها، واستقرارها، وموافقتها أهواء العامة، ورغبتهم، واستحسانهم.

توطئة: مشكلات متكررة خصوصاً في رمضان!

لم أعرف الترنم والغناء باسم الدين في حياتي إلا من طوائف ثلاث:

* في الكنيسة التي تؤدي ترانيمها، في طقوسها، بكتابها، على طريقتها..

* وعند المتصوفة، الذين جعلوا الغناء، والرقص، والتواجد جزءاً من سلوكهم التعبدي..

* والرافضة المتفننين في النوح والغناء، واللطائم وصب اللعنات!

أما بين أهل السنة، والمتحرين للاتباع الصحيح، والبعداء عن الابتداع والاختراع، فلا يمكن أن يطرأ هذا لهم ببال، أثناء خطبهم أو دروسهم أو محاضراتهم!

وقد عشت قريباً من ستين سنة بين المساجد والدعاة – والحمد والمنة والثناء الحسن الجميل لربي الكريم المتعال – فلم أجد من علماء السنة من يفتعل، أو يتصنع، أو يتظاهر، بل كانوا إذا هم خطبوا في الناس خطبوا من قلوبهم، وعلى سجيتهم، ولو قنتوا بالناس قنتوا على طبيعتهم، بحرارة الانفعال، وصدق الدعاء، وحرقة الرغبة..

كما أراد الله تعالى أن أصلي خلف كبار علماء الأمة ومشاهيرها: صليت سنين بالحرم النبوي الشريف، وصليت خلف الكبار: ابن باز وأبي بكر الجزائري وابن عثيمين والقرضاوي وأبو إسماعيل، وقبلهم وبعدهم علماء كثيرون، وصليت في المساجد الكبرى: الحرمين الشريفين، والأزهر، ومساجد المدن المصرية الكبرى، ومساجد دولة قطر، وفي الشرق والغرب.. فلم أجد – فيما مضى من أيام الخير - من إذا قنت تمادى في التغنى، وَمْوسق دعاءه، وجعله على النغمات، استجلاباً للاستحسان والإعجاب، كما بات يحصل في أدعية ليالي رمضان؛ خصوصاً ليلة السابع والعشرين..

ولم أعلم فيما قرأت أن القنوت يمكن أن يطول حتى يمتد ساعة كاملة، أو ثلاثة أرباع الساعة، أو حتى نصف ساعة، ولم يؤثر ذلك عن سيدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولا عن السلف الصالح!

ولم أعلم أن أحداً من العلماء الأفذاذ كان إذا خطب، وانفعل - كأنه منذر جيش يقول صب حكم ومساكم - ثم إذا عرضت آية، غيرّ سخونة لهجته وحماسته، وكفكف اندفاعته، ثم أخذ يموسق الآية، وينغمها، ويطَرِّب فيها، كما يفعل بعض المتفيهقة والمتصنعة!

ولم أعلم أحداً يقرأ غير القرآن كما يقرأ القرآن، بالإخفاء والإظهار، والمد والغن، والاستعلاء والاستفال، والتجويد والتحقيق؛ بل أعلم أن التجويد علم خاص بالقرآن الكريم وحده، لا يستعمل في غيره؛ حتى في حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، كما يذهب كثير من المحققين!

فما الذي دها الناس، ووضع بيننا سلوكيات جديدة، صارت مستسحنة فقط لأنها أتت من أناس ذوي انتساب معين، مع أن انتسابهم هو الأحرص على الاتباع، والتحري، والاستدلال؛ باعتبار أنهم من علماء السنة فيما يذهبون!؟

لقد تكلمت في ذلك، ونبهت بعض المسؤولين، وبعض الدعاة، ولكن بلا جدوى؛ فإما أن الأمر تمهد حتى صار أقوى من أن يغيروه.. أو إنهم يرونه مقبولاً مرتضىً، وهذا يحتاج أدلة شرعية.. أو إنهم يوافقونه ويقبلونه لأنه من (قبيلهم) وتلك والله قاصمة!

* فما حكم السجع والاختراع والتفصيل في دعاء التراويح؟

* وما حكم الدعاء الطويل والقنوت المفرط، والتغني فيه؟

* وما حكم حكم التغني المصطنع في قراءة الآيات أثناء الخطبة أو المحاضرة؟

* وما حكم تلاوة الكتب والنصوص على قواعد التجويد؟

لن أتكلم ولن أفتعل الأدلة، ولكن سأحشد ما أستطيع من كلام القدامى والمعاصرين لعل ذلك يكون أكثر حجية وإقناعاً.. وبالله تعالى التوفيق والاستعانة..

التلحين والتغني في دعاء التراويح

يتفنن كثير من أئمة التراويح كما مر في التنغيم وتحسين الصوت، وسرد الأدعية ترتيلاً كما يرتلون القرآن الكريم، وأكثر أدعيتهم الطويلة كلام مصطنع؛ ليس عليه مهابة النبوة، ولا فصاحة العربية الجزلة، ولا صدق الخشوع، بل تحس في كلامهم التصنع، والافتعال، فماذا يقول السادة العلماء في ذلك!؟

جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء حول تلحين الدعاء في القنوت: السؤال الأول من الفتوى رقم 21263:

لدينا إمام أكرمه الله تعالى بحفظ كتابه الكريم، وجمال الصوت، ولذلك يحرص كثير من الناس على الصلاة خلفه، ولكن لوحظ عليه في صلاة الوتر في قيام رمضان أمور أحببنا عرضها عليكم لمعرفة الحكم الشرعي فيها وهي:

* أنه يلحن الدعاء ويدعو بصوت يشبه صوته عند قراءة القرآن..

* وكذلك معظم دعائه مسجوع..

* ويطيل في الدعاء إطالة ملحوظة حيث يصل وقت الدعاء إلى نصف ساعة أو أكثر أو أقل بقليل!

ولما خوطب في ذلك اعتذر بأنها ليال فضيلة ليالي العشر الأواخر من رمضان، وبأن بعض المرضى ومن أصابتهم مصائب يطلبون منه الدعاء رجاء القبول عند الله تعالى؟

وكان جواب اللجنة بعد حمد الله تعالى: المشروع للداعي اجتناب السجع في الدعاء، وعدم التكلف فيه، وأن يكون حالَ دعائه خاشعاً متذللاً ، مظهراً الحاجة، والافتقار إلى الله سبحانه؛ فهذا أدعى للإجابة، وأقرب لسماع الدعاء..

وعلى الداعي ألا يشبه الدعاء بالقرآن؛ فيلتزم قواعد التجويد والتغني بالقرآن، فإن ذلك لا يعُرف من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من هدي أصحابه رضي الله عنهم..

وعلى الداعي أيضاً ألا يطيل على المأمومين إطالة تشق؛ بل عليه أن يخفف، وأن يحرص على جوامع الدعاء، ويترك ما عدا ذلك كما دلت عليه السنة وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو: بكر أبو زيد/ عضو: صالح الفوزان/ الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ.

وقال رئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي وعضو هيئة كبار العلماء السعودية الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله تعالى في رسالته عن (دعاء القنوت):

إنّ التلحين، والتطريب، والتغني، والتقعر، والتمطيط في أداء الدعاء، منكر عظيم، ينافي الضراعة، والابتهال، والعبودية، وداعية للرياء، والإعجاب، وتكثير جمع المعجبين به! وقد أنكر أهل العلم على من يفعل ذلك في القديم والحديث، فعلى من وفقه الله تعالى، وصار إماماً للناس في الصلوات، وقنت في الوتر، أن يجتهد في تصحيح النية، وأن يلقي الدعاء بصوته المعتاد، بضراعة وابتهال؛ متخلصاً مما ذكر، مجتنباً هذه التكلفات الصارفة لقلبه عن التعلق بربه سبحانه!

وجاء في مباحث الدرر السنية، في مبحث مآخذ على ما يفعله بعض الأئمة في دعاء القنوت للشيخ علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف حفظه الله تعالى محرر الموقع وصاحبه:

المبالغة في التلحين والتطريب والتغني في الدعاء:

إن مما يبعث على الأسى والحزن: لجوء كثيرٍ ممن يظُن أنهم من مقتفي الأثر إلى المبالغة في الترنيم والتلحين والتطريب؛ بل والتجويد أحياناً؛ حتى كأن أحدهم يقرأ السورة من القرآن، فتجده يطبق أحكام التجويد كالإدغام والإخفاء والمدّ حتى يظن الظان أنه يتلوا آيات من الكتاب العزيز، وما هو من الكتاب، ويزداد الطين بله إذا ضمن دعاءه آياتٍ من كلام الله بحيث يعسر على العوام التفريق بينهما، ونتيجة لذلك فإن بعض الناس يتأثر بتلحين الإمام أكثر من تأثره بالدعاء نفسه، ولا يفهم من هذا أن لا يحسِّن الداعي صوته، فهذا لا بأس به، لكن الذي نراه اليوم من كثير من الأئمة مبالغة في التلحين والتطريب، بصورة إذا جمعت معها رفع الصوت وخفضه، واعتداء مذموم، ثم أخطاء قد تكون عقدية، ذكرك ذلك بدعاء بعض أهل البدع في مناسباتهم!

وفي بحث مطول للشيخ أبي عبد الله ماهر بن ظافر القحطاني كتبه بعنوان: (التحذير والنكير عن بدعة التغني والترتيل في قنوت رمضان والنوازل):

يبطل الشيخ بدعة التغني في الدعاء من سبعة عشر وجهاً قال جزاه الله خيراً: (بتصرف يسير جداً مني).

انتشرت بدعة منكرة بين أئمة المساجد في مختلف بقاع العالم المسلم، ربي عليها الصغير، وهرم عليها الكبير، واتخذها الناس سنة سرقها بعضهم عن بعض بلا دليل، وإذا غيرت ربما قالوا: غيرت السنة! وهي أن أحدهم إذا دعا في قنوت وتر رمضان، أو في قنوت النوازل، رتل دعاءه كما يرتل القرآن، وتغنى به، وطّرب؛ حتى لو سمعه أعجمي ظنأنه يقرأ قرآناً، وما هو من القرآن!

وهذا العمل بدعة عقلية محدثة منكرة لا دليل عليه، برهان ذلك من عدة أوجه:

 الوجه الأول:

أن الأصل في العبادات المنع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم، من حديث أُمنا عائشة رضي الله عنها:(عنه من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وفي رواية:( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وليس ذلك المنع في أصل العبادة فقط؛ بل حتى في صفاتها، وأسبابها، وأوقاتها، وأعدادها، وأزمنتها، وهيئاتها - ولو ثبت أصلها - فدعاء القنوت في رمضان، والنوازل عبادة مسنونة، والأصل في صفاتها وأسبابها وهيئاتها المنع، فتغيير صفة الترتيل في قنوت رمضان والنوازل ممنوع شرعاً حتى يأتي دليل ولا دليل.

 ولو كان خيراً لسبقونا إليه، ولو سبقونا لكان مما تتوفر الدواعي لنقله! فلما لم ينقل ترتيله في ذينك الموقفين علم أنه من محدثات الدين! وقد قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:( شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)!

الوجه الثاني:

أن صفة التغني والترتيل خاصة بالقرآن؛ لما رواه البخاري في صحيحه بسنده، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( ليس منا من لم يتغن بالقرآن) وزاد غيره: (يجهر به) ولم يقل بالدعاء، حتى التغني بالاستعاذة عند بدء القراءة؛ فلم يرد عليها دليل، فهي بدعة!

ولو كان التغني بالدعاء وتطريبه مأ ماوً بره أمَر وجوب أو استحباب لنقل، ولكن لم يؤمر إلا بترتيل القرآن.. وكل خير في إتباع من سلف......وكل شر في إبتداع من خلف!

الوجه الثالث:

أنه قد جاء الذم في القرآن لفريق يلوون ألسنتهم بالكتاب، ليظُن أنه من الكتاب وما هو من الكتاب، كما أفادني من سمع ذلك الاستدلال من العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى، يذكر ذلك في دروس رمضان في الحرم المكي، عندما سئل عن ذلك!

وأقول إن طريقة الاستدلال عند الشيخ بهذه الآية لنهي هؤلاء عن ترتيل الدعاء ربما هي أن يقال: إن هذا عندما يرتل الدعاء قد يظن ظان أنه من الكتاب، وما هو كذلك، وإن كان لا يقصد من ذلك الفعل التلبيس! ولكن نهي عن التشبه في صورة العمل للكفار ولو لم يكن بقصد؛ كما منع الشارع من الصلاة عند غروب الشمس - ولو كانت نافلة مطلقة، لأنها صلاة الكفار - ولكن يحرم علينا فعلها ولو بغير قصد عبادة الشمس؛ لأن التشبه في الظاهر يؤدي إلى التشبه في الباطن!

الوجه الرابع:

أنه قد جاء في مد الدعاء ما رواه النسائي في سننه بسنده عن سيدي أبي بن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث ركعات، كان يقرأ في الأولى بـ (سبح اسم ربك الأعلى) وفي الثانية بـ (قل يأيها الكافرون) وفي الثالثة بـ (قل هو الله أحد) ويقنت قبل الركوع. فإذا فرغ قال عند فراغه: (سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس) يطيل في آخرهن!

فقوله: يطيل في آخرهن يدل على مده لها، ولو كان يفعله في غيرها من دعائه لنقل، فنبقى على ما مد، ونترك ما لم يمد..

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "فالترك الراتب من النبي صلى الله عليه وسلم سنة، كما أن الفعل الراتب منه سنة" قلت: وقد ترك التغني في الدعاء تركاً راتباً؛ فكان ذلك الترتيل والتغني فيه سنة تركية، والعمل بها بدعة!

الوجه الخامس:

ما ذكره شيخ الإسلام من أن التلحين أثناء الدعاء في الصلاة - أو قال مطلقاً - طريقة النصارى، ومن تشبه بقوم فهو منهم!

الوجه السادس:

أن ترتيل الدعاء والتطريب فيه طريقة الشيعة، وصدق: فانظر إليهم في الحج وهم مجتمعون يرتلونه، ويتغنون به، ويطربون، وكذلك بجوار البقيع عند قبور آل البيت -زعموا - ومن تشبه بقوم فهو منهم!

الوجه السابع:

أنك لو سألت الذي يتغنى بالدعاء في القنوتين جماعة: لو أنك دعوت في خطبة الجمعة، أو عند قنوتك منفرداً، أو عند نزول كرب ألم بك: هل ترتل، أم يكون خطاباً مؤدباً غير متكلف فيه؟

فإن قال لك: لا أفعل، فقل له: ما الفرق؟ فالشريعة - كما قال شيخ الإسلام – جاءت بالمتماثلات، فلم تفرق بين متماثلين! ألا يقال: إن ذلك الذي على المنبر يسمى دعاء، وهذا الذي في قنوت رمضان والنوازل كذلك؟ فلماذا رتلت هنا، وتغنيت وأعرضت هناك؟ وقد ذكرت هذه الحجة لبعضهم، وحججاً أخرى، فرجع - والحمد لله - عن ذلك التكلف الشائن!

الوجه الثامن:

قولهم: إن العرب كانوا يرتلون، والدعاء يقرأ بلغة العرب!

فنقول: أثبتوا ذلك عن العرب أولاً!

ثم إن هذه الصفة لو كانت تفعل في الدعاء خصوصاً لنقلت، كما نقل ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم عند الفراغ من وتره، كما تقدم!

الوجه التاسع:

أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أقواماً سيعتدون في الدعاء، كما روى أبو داود في سننه بسنده عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض، عن يمين الجنة إذا دخلتها!

فقال رضي الله تعالى عنه: أي بني: سل الله الجنة، وتعوذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيكون قوم يعتدون في الطهور والدعاء)!

ولم يخبرنا كيف يكون التعدي؛ فكل دعاء خرج على غير الصفة المشروعة المعروفة في السنة، وما وسع السلف، فهو تعدٍ؛ لأن التعدي في الدعاء مجاوزة الحد المشروع فيه، وهذه صفة محدثة؛ فصاحبها متعدٍ في الدعاء، وخاصة ما نسمعه من التفنن المحدث، والتطريب المتكلف، المسجوع، والصعود بالصوت تارة، والنزول تارة أخرى! فكيف لا يسمى مثل هذا النمط في الدعاء تعدياً، فإن النص إذا احتمل دخلت فيه جميع المعاني المحتملة؛ إلا بقرينة!

فإذا سألت عن التعدي: هل هو دعاء الله بالمستحيل، أم بما هو تفصيل لما يمكن إجماله؟ كما جاء في السنن عن رجل، أنه قال: اللهم إني أعوذ بك من النار، وزقومها، وسلاسلها! والآخر يقول: اللهم ارزقني البيت، أو القصر الذي على يمين باب الجنة! فأنكر عليهم من قبل الصحابة، وذكر أحدهم حديث النهي عن التعدي في الدعاء؛ أم هو الابتداع في صفته وأدائه؟ لكان الجواب أنها أوجه محتملة، لا تخصيص فيها لوجه دون وجه، إلا بدليل، وليس عندنا دليل يخصص الصفة..

فكل تعدٍ منهي عنه؛ لأنه عام يشمل الصفة والأداء وغير ذلك والله أعلم!

الوجه العاشر:

أنهم لو قالوا: نفعل مثل ذلك لترقيق القلوب، وقد سمعت الشيخ عبد الرحمن السديس إذا جاء موضع ذكر فلسطين، أثناء قنوته في رمضان يغير اللحن، فيجعله تطريباً ولحناً حزيناً يبكي الناس، ويحزن القلوب! لقيل لهم: إن أولى الناس بهذا الخير الذي تريدونه النبي وأصحابه، فقد قال: ما من خير يقربكم من الله ويباعدكم من النار إلا دللتكم عليه، أو كما قال - كما في مسند الشافعي - فأين تطريبه وترسله في الدعاء عموما، والقنوت خصوصاً؟ وكذلك الخلفاء الراشدين من بعده؟ فلو كان يفعله لما كتم ذلك الأمناء على وحيه من صحابته، الصادقون رضي الله عنهم!

الوجه الحادي عشر:

سألت قبل حوالي خمسة عشر عاماً الشيخ السبيل، والشيخ السديس يسمع قبل الصلاة، وهم في الصف الأول، وبجانبهم وقتئذٍ الشيخ عبد الباري الثبيتي: هل كان من هدي النبي هذا الترتيل في الدعاء، أو التغني فيه، فأجابني – والشيخ السديس يسمع -: ما ودنا يفعلون هذا؛ يطلعون وينزلون! أي: (نحن لا نريدهم أن يصنع مثل هذا التكلف) وكان وقتئذٍ رئيساً للحرمين، فجزاه الله خيراً على الصدع بكلمة الحق!

الوجه الثاني عشر:

أنه ليس كل من فعل بدعة مبتدعاً - كما قرر شيخ الإسلام في رسالته المعارج - لاحتمال التأول، والاعتماد على حديث يظن صحته وهو ضعيف، وغير ذلك من أوجه العذر؛ إذا عرف العالم بالسنة والدفاع عنها، فراجع رسالته!

الوجه الثالث عشر:

أن الحكم على عمل علم أن لا أصل له بأنه بدعة لا يحتاج إلى سبق إمام؛ لأن البدع - كما قال العلامة المحدث الفقيه الألباني – تتجدد.

وقد قال الإمام النووي رحمه الله عن المسح على الرقبة إنه بدعة، ولم يذكر أحداً سبقه؛ بالرغم من تصحيح الروياني لحديث رواه في مسنده، وهو: (المسح على الرقبة أمان من الغل يوم القيامة) وقد نقل لي الأخ علي الهوساوي إمام مسجد الخلفاء الراشدين بالطائف أنه سمع الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله تعالى ينكر هذا العمل في المذياع في (نور على الدرب) وقد كان يقول: الحق في صدور أهل العلم أعظم من آراء الناس واجتهاداتهم، فرحمه الله من إمام سنة!

الوجه الرابع عشر:

إذا علم أن الدعاء خطاب طلب من الله تبارك وتعالى: فهل يليق أن يطرب ويتغنى بذلك الطلب؛ أم هو سوء أدب مع الله عز وجل!؟

هل يقبل هؤلاء أن يتغنوا ويطربوا إذا طلبوا من ملك من ملوك الدنيا حاجة من الحاجات؟ فكيف تقبل فطرهم تطريبهم وتغنيهم أثناء الطلب من ملك الملوك؟

الوجه الخامس عشر:

لا يشترط عند الحكم على عمل لم يعمله الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده أن يجمع العلماء على أنه بدعة، فيستدل باختلافهم على التساهل في فعلها؛ بل إذا اختلفوا في إنكار بدعة فالحق مع النافي، حتى يأتي المثبت بدليل يسوغ له العمل بها؛ لأن الأصل في العبادات المنع:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إذا اختلف العلماء فلا يجعل قول عالم حجة على عالم إلا بالأدلة الشرعية!

وقال ابن عبد البر رحمه الله: لا يحتج بالخلاف إلا جاهل! وأحسن من هذا قول ربنا تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول – إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر - ذلك خير وأحسن تأويلاً) النساء: 59!

وقد قال الشافعي رحمه الله: وأجمعت الأمة من لدن رسول الله أن من تبينت له سنة فليس له أن يدعها لقول أحد كائناً؛ من كان..

وليس في الإجماع الذي نقله رحمه الله فرق بين السنة التركية والعملية، فالسنة التركية تقدم على من خالفها من العلماء، فأفتى متأولاً بجوازها؛ فكلام العلماء يحتج له، ولا يحتج به!

الوجه السادس عشر:

أن انتشار البدعة بين الناس لا يعني أن لها أصلاً في الشرع! قال الله تبارك وتعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) ولأن الناس ليسوا مشرعين؛ إنما المشرع هو الله عز وجل، والزمن الذي يكون الإقرار فيه حجة هو زمن رسول الله وأصحابه رضوان الله عليهم: قال مسلم في صحيحه بسنده عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء).

الوجه السابع عشر:

أن ترتيل دعاء القنوتين: رمضان، والنوازل، تكلف. وقد جاء النهي عن التكلف عاماً، كما روى البخاري في صحيحه عن سيدنا أنس رضي الله تعالى عنه قال: كنا عند عمر فقال: نهينا عن التكلف!

وفي سنن الدارمي بسنده عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال:

 "يأيها الناس من علم منكم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل لما لا يعلم: الله أعلم؛ فإن من العلم أن يقول العبد لما لا يعلم: الله أعلم، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل ما أسألكم عليه من أجر، وما أنا من المتكلفين) ص: 86. قال: نهينا عن التكلف!

وجاء أيضاً في فتوى في (الإسلام سؤال وجواب):

سادساً: أما ما سألت عنه من حكم ترتيل دعاء القنوت، وتحسين الصوت به، فإن بالغ في ذلك، واشتغل به، وجعله أكبر همه، واتخذه وسيلة لصرف وجوه الناس إليه، أو خرج به عن حد الدعاء إلى الموعظة أو كلام الناس، كما هو الحال المشار إليه في سؤالك، وكما يفعله كثير من الأئمة الذين يتلاعبون بعبادة الناس وعواطفهم، إذا كان الحال ما ذكر؛ فهو منكر، يستهجنه كل من علم هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ويأباه كل ذي طبع سليم.

قال الكمال بن الهمام الحنفي رحمه الله في كلامه عن المؤذنين الذين يبلغون خلف الإمام في زمانه:

أما خصوص هذا الذي تعارفوه في هذه البلاد فلا يبعد أنه مفسد؛ فإنه -غالباً -يشتمل على مدِّ همزة، الله أكبر، أو بائه، وذلك مفسد. وإن لم يشتمل؛ فلأنهم يبالغون في الصياح زيادة على حاجة الإبلاغ، والاشتغال بتحرير النغمات؛ إظهاراً للصناعة النغمية، لا إقامة للعبادة، والصياح ملحق بالكلام الذي بساطه ذلك الصياح!

وأما مراعاة حسن الصوت، من غير غلو، أو إخراج للكلام عن جهته في النطق العربي الفصيح، فالظاهر أنه ليس من هذا التغني المذموم الذي أشرنا إليه.

وقد سئل عنه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، فأجاب جواباً مفصلا؛ً سئل رحمه الله كما في "فتاوى البلد الحرام" (153) ما يلي: بعض أئمة المساجد يحاول ترقيق قلوب الناس، والتأثير فيهم، بتغيير نبرة صوته أحياناً، في أثناء صلاة التراويح، وفي دعاء القنوت، وقد سمعت بعض الناس ينُكر ذلك، فما قولكم حفظكم الله في هذا؟ فكان جوابه:

الذي أرى أنَّه إذا كان هذا العمل في الحدود الشرعية، بدون غلو، فإنه لا بأس به، ولا حرج فيه، ولهذا قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت أعلم أنك تستمع إلى قراءتي لحبرته لك تحبيراً) أي: حسنتهُا وزينتها.

فإذا حسن بعض الناس صوته، أو أتى به على صفة ترققِّ القلوب، فلا أرى في ذلك بأساً، لكنَّ الغلو في هذا، لكونه لا يتعدى كلمة في القرآن إلا فعل مثل هذا الفعل الذي ذكر في السؤال، أرى أنَّ هذا من باب الغلو، ولا ينبغي فعله، والعلم عند الله" انتهى.

وانظر رسالة: دعاء القنوت، للعلامة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، ورسالة عودوا إلى خير الهدى، للشيخ محمد إسماعيل المقدم.

الإطالة في دعاء القنوت في التراويح

يستمر الدعاء في ليالي رمضان العادية ثلث ساعة، في المساجد التي تتنافس في التراويح، فإذا دخلت العشر الأواخر طالت الأدعية نحو نصف الساعة وربما أكثر، فإذا كانت ليلة السابع والعشرين أصر إخوتنا الأئمة على أن يصدحوا بأوصاف وألفاظ وتعابير تفصيلية، هي أبعد ما تكون عن جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وعن شمولها، ودقتها، وكثيراً ما تكون ملحونة غير فصيحة، لأن الشيخ الذي يدعو لحنة غير فصيح! فما نصيب هذا الأمر من المشروعية والاتباع!؟

سئل الشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى: بعض أئمة المساجد في رمضان يطيلون الدعاء، وبعضهم يقصر، فما هو الصحيح؟ فأجاب رحمه الله تعالى:

الصحيح ألا يكون غلو ولا تقصير، فالإطالة التي تشق على الناس منهي عنها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن معاذ بن جبل أطال الصلاة في قومه، غضب عليه غضباً لم يغضب في موعظة مثله قط، وقال لمعاذ بن جبل: (يا معاذ! أفتان أنت!؟) رواه الشيخان؛ فالذي ينبغي أن يقتصر على الكلمات الواردة، أو يزيد.

ولا شك في أن الإطالة شاقة على الناس وترهقهم، ولا سيما الضعفاء منهم، وِمن الناس من يكون وراءه أعمال، ولا يحب أن ينصرف قبل الإمام، ويشق عليه أن يبقى مع الإمام، فنصيحتي لإخواني الأئمة أن يكونوا بيَن بيَن، كذلك ينبغي أن يترك الدعاء أحياناً، حتى لا يظن العامة أن الدعاء واجب!

وجاء في مباحث الدرر السنية، في مبحث مآخذ على ما يفعله بعض الأئمة في دعاء القنوت للشيخ علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف حفظه الله تعالى محرر الموقع وصاحبه:

ومن هذه الأخطاء: الإطالة المفرطة في الدعاء:

بعض الأئمة ربما جعل دعاء قنوته أطول من صلاته، وهذا خلاف هديه صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان يدعو بجوامع الكلم، بخلاف ما عليه كثير من الأئمة في هذه الأيام.. فمنهم من يجعل الدعاء موعظة يذكر فيها الجنة وصفاتها، والنار وما فيها من أهوال، وعذاب القبر وما فيه من وحشة وظلمة، في سجع متكَلفٍ ، يستثير به عواطف الناس، ويستدعي بكاءهم، لا تجد معشاره أثناء قراءة القرآن!

كل هذا مع أنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت إلا حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما: (اللهم أهدنا فيمن هديت...) على خلاف في صحة ثبوت ذكر الوتر فيه!

وقد ورد الدعاء على الكفرة بعد النصف من رمضان من فعل أبّي بن كعب في عهد عمر رضي الله عنهما، ولست بمحرّج على من دعا بغير ذلك، لكنّ الكلام هنا في الإطالة المفرطة في الدعاء، بصورة تشق على كثير من المصلين؛ مع أن الغالب أن فيهم المريض والكبير والمرأة.

وأختم هنا ببحث ضافٍ من موقع الإسلام سؤال وجواب، يحوي مقولات السلف رضوان الله عليهم، وما قالوه إجابة عن تساؤلاتي السابقة، لعل فيها حسًما للتردد:

السؤال: ما حكم ترتيل دعاء القنوت وتطويله لأكثر من 20 دقيقة، مع ما يتخلله من دعاء أشبه ما يكون بالكلام؟

الجواب بعد حمد الله تعالى والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه:

أولاً: القنوت في صلاة الوتر سنة مستحبة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت بعض الأحاديث في بيان صيغة دعاء القنوت؛ فعن أبي الحوراء عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت؛ فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت) رواه أبو داود (1425) والترمذي (464) وحسنه، وصححه ابن عبد البر في "الاستذكار" (2/ 285) والنووي في "الأذكار"(86)

وفي صحيح ابن خزيمة ( 1100 ) أن الناس - على عهد عمر عمر رضي الله تعالى عنه كانوا يلعنون الكفرة في النصف - يعني: من رمضان -: اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك، وخالف بين كلمتهم، وألق في قلوبهم الرعب، وألق عليهم رجزك وعذابك إله الحق. ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو للمسلمين بما استطاع من خير، ثم يستغفر للمؤمنين.

قال: وكان يقول - إذا فرغ من لعنة الكفرة، وصلاته على النبي، واستغفاره للمؤمنين والمؤمنات، ومسألته: (اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، ونرجو رحمتك ربنا، ونخاف عذابك الجد؛ إن عذابك لمن عاديت ملحق) ثم يكبر ويهوى ساجداً. قال الألباني: إسناده صحيح.

ثانياً: مراعاة الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم - ثم أصحابه من بعده – أولى، وأفضل، وأعظم بركة من اختراع الأدعية المسجوعة، والأوراد المتكلفة، التي لا يؤمن أن يكون فيها خطأ في المعنى، أو مخالفة لمقتضى الأدب مع الله تعالى في دعائه، وأسلم لصاحبها من الرياء والسمعة.

قال القاضي عياض رحمه الله: أذن الله تعالى في دعائه، وعلم الدعاء في كتابه لخليقته، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لأمته، واجتمعت فيه ثلاثة أشياء: العلم بالتوحيد، والعلم باللغة، والنصيحة للأمة؛ فلا ينبغي لأحد أن يعدل عن دعائه صلى الله عليه وسلم!

وقال الماوردي رحمه الله في الحاوي الكبير [2/200[: والمروي عن النبي صلى الله  عليه وسلم أحب إلينا من غيره، وأي شيء قنت من الدعاء المأثور وغيره أجزأه عن قنوته ]نقل النصين الشيخ محمد إسماعيل المقدم وفقه الله في رسالته: عودوا إلى خير الهدى، ص (45-46).

وقد أشار ابن عقيل الحنبلي رحمه الله أن الدعاء المأثور ينبغي أن يكون هو الهدي والورد الراتب، وأن الزيادة عليه هي من باب الرخصة، قال: والمستحب عندنا: ما رواه الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اهدني... الحديث مشهور، قال: فإن ضم إليه ما روي عن عمر رضي الله عنه: اللهم إنا نستعينك، إلخ، فلا بأس. اهـ، نقله ابن مفلح في نكته على المحرر (1/89).

بل إن بعض أهل العلم شدد في أمر الزيادة على الدعاء المأثور، حتى قال العز ابن عبد السلام رحمه الله؛ كما في فتاواه (87): ولا ينبغي أن يزاد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في القنوت شيء ولا ينقص [نقلاً عن: عودوا إلى خير الهدى، ص: 45  ه 2[.

ثالثاً: لا بأس بالزيادة على اللفظ المأثور في القنوت بما يناسب الحال، فإن المقام مقام دعاء، والدعاء أمره واسع، والزيادة فيه مشروعة، يقول النووي رحمه الله "المجموع" :(478-477/3)

قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: قول من قال يتعين (أي الدعاء الوارد) شاذ مردود، مخالف لجمهور الأصحاب، بل مخالف لجماهير العلماء، فقد حكى القاضي عياض اتفاقهم على أنه لا يتعين في القنوت دعاء! وقال صاحب الحاوي: يحصل بالدعاء المأثور وغير المأثور. انتهى.

وجاء في "الموسوعة الفقهية" (34/ 63): وله أن يزيد ما شاء مما يجوز به الدعاء في الصلاة!

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله "الشرح الممتع" (4/52) ولو زاد على ذلك فلا بأس؛ لأن المقام مقام دعاء.

رابعاً: ينبغي الانتباه إلى أن الزيادة على الدعاء المأثور - وإن كانت سائغة عند جمهور العلماء - فلا يجوز أن تتخذ هدياً لازماً، وورداً ثابتاً، تهجر لأجله السنة المأثورة، وتفوت لأجله بركة اتباع الهدي، بل ولا ينبغي أن يجمع بينهما دائماً، ويجعلا بمنزلة واحدة؛ بل يفعل المصلي ذلك أحياناً ويتركه أحياناً، بحسب مقتضى الحال. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

لا ريب أن الأذكار والدعوات من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع؛ لا على الهوى والابتداع؛ فالأدعية والأذكار النبوية هي أفضل ما يتحراه المتحري من الذكر والدعاء، وسالكها على سبيل أمان وسلامة، والفوائد والنتائج التي تحصل لا يعبر عنه لسان، ولا يحيط به إنسان! وما سواها من الأذكار قد يكون محرماً، وقد يكون مكروهاً، وقد يكون فيه شرك مما لا يهتدي إليه أكثر الناس؛ وهي جملة يطول تفصيلها!

وليس لأحد أن يسن للناس نوعاً من الأذكار والأدعية غير المسنونة، ويجعلها عبادة راتبة، يواظب الناس عليها كما يواظبون على الصلوات الخمس؛ بل هذا ابتداع دين لم يأذن الله به، بخلاف ما يدعو به المرء أحياناً من غير أن يجعله للناس سنة؛ فهذا إذا لم يعلم أنه يتضمن معنى محرماً لم يجز الجزم بتحريمه؛ لكن قد يكون فيه ذلك، والإنسان لا يشعر به.

وهذا كما أن الإنسان عند الضرورة يدعو بأدعية تفتح عليه ذلك الوقت، فهذا وأمثاله قريب.

وأما اتخاذ ورد غير شرعي، واستنان ذكر غير شرعي: فهذا مما ينهى عنه، ومع هذا ففي الأدعية الشرعية والأذكار الشرعية غاية المطالب الصحيحة، ونهاية المقاصد العلية، ولا يعدِل عنها إلى غيرها من الأذكار المحدثة المبتدعة إلا جاهل أو مفرط أو متعد. مجموع الفتاوى (22/ 511).

خامساً: ما هو مقدار القنوت؟ وهل يشرع التطويل فيه أم لا؟

إذا تأملنا في حديث الحسن بن علي السابق، نجد أن الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم له دعاء مختصر موجز، لا يكاد يستغرق الدقائق المعدودات، ما يدل على أن الأولى في دعاء القنوت هو الاختصار، والاقتصار على جوامع الدعاء.

جاء في مغني المحتاج (1/ 369): قال في المجموع عن البغوي: وتكره إطالة القنوت كالتشهد الأول.. وقال القاضي حسين: ولو طوَّل القنوت زائداً على العادة كُره!

بل أشار النووي رحمه الله تعالى إلى أن الجمع بين دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاء عمر رضي الله عنه، في القنوت، هو من التطويل الذي ينبغي مراعاة أحوال الناس فيه، والعلم برضاهم به.

قال: قال أصحابنا: يستحب الجمع بين قنوت عمر رضي الله عنه وبين ما سبق؛ فإن جمع بينهما فالأصح تأخير قنوت عمر، وفي وجه يستحب تقديمه.

وإن اقتصر فليقتصر على الأول. وإنما يستحب الجمع بينهما إذا كان منفرداً، أو إمام محصورين يرضون بالتطويل. والله أعلم. المجموع ( 3/874).

وإذا كان الجمع بين الدعاءين المذكورين - على قصرهما - نوعاً من التطويل، فكيف بما يبلغ ما ذكرت في سؤالك (20) دقيقة، أو نحوها؟ فكيف بمن يدعو ضعف ذلك أو يزيد، مما ابتلي به كثير من الأئمة الذين لا هم لهم إلا التغني بالناس؟ والعياذ بالله، وقد رأى الناس من ذلك في زماننا عجبا!

والأحسن في هذا كله والله أعلم هو الاعتدال، فإن خير الأمور الوسط، وقد نهت الشريعة أن نشق على الناس، خاصة إذا اعتاد ذلك في كل ليلة.

تجويد القراءة بالحديث الشريف وغيره كتجويد القرآن

من (الموضات) السائرة في السنين الأخيرة، قراءة بعد القصائد والكتب والأدعية بمراعاة أحكام التجويد، كما يقرأ القرآن تماماً؛ ما يمكن أن يلبِّس على العامية – وهم القاعدة العريضة – فيحسبوا من الكتاب ما ليس من الكتاب، ويظنون من عند الله تعالى ما ليس من عند الله!؟ فما حكم ذلك؟

*هل هو سائغ؟

*هل فيه تشبه بالنصارى والروافض؟

*هل فيه تشبه بالمتصوفة الذين يعبدون بالمكاء والتصدية، والغناء والرقص؟

*هل فيه جانب وجانب؟ فلنر ما قال العلماء:

قال الشيخ المنجد في موقعه بعد أن سئل: ما حكم تطبيق أحكام التجويد على غير القرآن (الإدغام، والإخفاء.....وهكذا) فمثلاً على الأحاديث أو الأذكار أو حتى الكلام العادي؟

اختلف أهل العلم في حكم تجويد القراءة بالحديث الشريف وغيره من الكلام، على نحو ما يفعل في قراءة القرآن، على قولين:

القول الأول: أنه عمل غير مشروع.

ذهب إليه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، والشيخ بكر أبو زيد رحمه الله، وبعض العلماء المعاصرين. واستدلوا على ذلك بأدلة، منها:

قالوا: هذا العمل محدث، والأصل في المحدثات المتعلقة بالعبادات أنها من البدع حتى يثبت الدليل على مشروعيتها؛ ففي ترتيل قراءة الحديث النبوي الشريف والأذكار النبوية إيهام أنها من القرآن الكريم، والأصل صيانة كتاب الله عن الاختلاط بغيره من الكلام.

وترتيل غير كلام الله من عادات أحبار اليهود والنصارى، وقد نهينا عن التشبه بهم. وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: هل يجوز استخدام التجويد في غير القرآن، كقراءة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها؟ فأجاب:

ذكر بعض المتأخرين في تفسير قوله تعالى: (وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب؛ لتحسبوه من الكتاب، وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) آل عمران/ 78.

وذكر بعض المتأخرين: أن من ذلك أن يتلو الإنسان غير القرآن على صفة تلاوة القرآن، مثل أن يقرأ الأحاديث - أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم - كقراءة القرآن، أو يقرأ كلام أهل العلم كقراءة القرآن.

وعلى هذا: فلا يجوز للإنسان أن يترنم بكلامٍ غير القرآن على صفة ما يقرأ به القرآن، لا سيما عند العامة الذين لا يفُرِّقون بين القرآن وغيره إلا بالنغمات والتلاوة. "فتاوى نور على الدرب (شريط/212).

ويقول الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله:

" بدعة التلحين والتطريب في الأذان، وفي الذكر، وفي الدعاء، وفي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والترنم في خطبة الجمعة، والجهر بالذكر والدعاء والصياح به مع الجنائز في عدة أحوال، والذكر بالجوقة – وهي الذكر الجماعي بين كل ترويحتين –والجهر بالذكر عند سفر الحجاج وعند قدومهم، ورفع الصوت بالتعريف في الأمصار، والزعاق بالتأمين في الصلاة، ورفع الصوت جماعة بعد الصلاة بقراءة آية الكرسي، وقول المؤذن بصوت مرتفع بعد الصلاة: اللهم أنت السلام.. ورفع الصوت بعد الصلاة بالسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرها مما يكون توصيفه بدعة، والتصويت به بدعة مضافة إليها، أو أن التصويت والجهر به مبتدع.

وقد سَرت بعض هذه المحدثات إلى بعض قُفاة الأثر، فتسمع في دعاء القنوت عند بعض الأئمة في رمضان الجهر الشديد، وخفض الصوت ورفعه في الأداء حسب مواضع الدعاء، والمبالغة في الترنم، والتطريب، والتجويد، والت رتيل، حتى لكأنه يقرأ سورة من كتاب الله تعالى، ويستدعي بذلك عواطف المأمومين ليجهشوا بالبكاء.

والتعبد بهذه المحدثات في الإسلام، وهذه البدع الإضافية في الصوت والأداء للذكر والدعاء هي في أصلها من شعائر الجاهلية التي كانوا يظهرونها في المسجد الحرام، كما، قال الله تعالى منكرا عليهم: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) الأنفال/ 35.

المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق بضرب اليد على اليد بحيث يسمع له صوت.

قال الآلوسي رحمه الله تعالى: والمقصود أن مثل هذه الأفعال لا تكون عبادة، بل من شعائر الجاهلية، فما يفعله اليوم بعض جهلة المسلمين في المساجد من المكاء والتصدية، يزعمون أنهم يذكرون الله، فهو من قبيل فعل الجاهلية، وما أحسن ما يقول قائلهم: أقال الله صفق لي وغنِ ! *** وقل كفراً وسم الكفر ذكرا؟!

وما يتبعها من الألحان، والتلحين، والترنم، والتطريب، هو مشابهة لما أدخله النصارى من الألحان في الصلوات، ولم يأمرهم بها المسيح عليه السلام، ولا الحواريون، وإنما ابتدعه النصارى كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

ولهذا نرى ونسمع في عصرنا الترنم والتلحين في الدعاء من سيما الرافضة، والطرقية، فعلى أهل السنة التنبه للتوقي من مشابهتهم " انتهى. "تصحيح الدعاء" (82-84).

القول الثاني: لا بأس في التغني في قراءة الأحاديث النبوية والمتون العلمية، وكذلك الأذكار والأدعية الشرعية وتجويدها، بشرط عدم المبالغة، وهو قول بعض الفقهاء المتأخرين، واختاره غير واحد من علمائنا المعاصرين، كالشيخ ابن باز رحمه الله، والشيخ صالح الفوزان حفظه الله وغيرهم.

يقول الإمام محمد بن محمد البديري الدمياطي رحمه الله: وأما قراءة الحديث مجودة كتجويد القرآن، من أحكام النون الساكنة، والتنوين، والمد، والقصر، وغير ذلك، فهي مندوبة، كما صرح به بعضهم.

لكن سألت شيخي خاتمة المحققين الشيخ علي الشبراملسي تغمده الله تعالى بالرحمة حالة قراءتي عليه صحيح الإمام البخاري عن ذلك، فأجابني بالوجوب، وذكر لي أنه رأى ذلك منقولاً في كتاب يقال له: "الأقوال الشارحة في تفسير الفاتحة"، وعلل الشيخ حينئذٍ ذلك بأن التجويد من محاسن الكلام، ومن لغة العرب، ومن فصاحة المتكلم، وهذه المعاني مجموعة فيه صلى الله عليه وسلم، فمن تكلم بحديثه صلى الله عليه وسلم فعليه مراعاة ما نطق به صلى الله عليه وسلم " انتهى، نقلاً عن " حاشية الأجهوري على شرح الزرقاني على المنظومة البيقونية" (ص/ 227).

بل يبدو أنها عادة قديمة لدى العلماء، فقد جاء في "وفيات الأعيان" (4/ 282) في ترجمة الحميدي الأندلسي قال: "وكان موصوفاً بالنباهة والمعرفة والإتقان والدين والورع، وكانت له نغمة حسنة في قراءة الحديث" انتهى.

واستدلوا على ذلك بأدلة عدة، منها:

-1  ورد النص الصريح في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ربه على سبيل الرجز، وذلك في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال:

رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ينقل التراب حتى وارى التراب شعر صدره، وكان رجلاً كثير الشعر، وهو يرتجز برجز عبد الله:

يرفع بها صوته! رواه البخاري (3034) ومسلم (1803)

-2  أن أحكام التجويد إنما هي أحكام تجري على عادة العرب في القراءة واللفظ بالكلمات، وليست فقط متعلقة بالقرآن الكريم، فمن جوَّد قراءته للحديث الشريف وكلام أهل العلم إنما سار على مقتضى اللغة العربية.

3- ثم إنَّ التغني بالقرآن الكريم معقول المعنى، وليس أمراً تعبدياً محضاً، والمعنى الملاحظ في ذلك هو تزيين القرآن الكريم بالأصوات الجميلة، والقراءة السليمة، والإقبال على التلاوة وتحبيب الناس بها، وهذه المعاني متحققة أيضاً في التغني بالدعاء والحديث الشريف وقراءة كتب أهل العلم في الدروس المتخصصة.

يقول الشيخ صالح الفوزان رحمه الله: تحسين الصوت ليس بتلحين، التلحين غناء لا يجوز، لكن تحسين الصوت بالقرآن، وتحسين الصوت بالأذكار: هذا طيب! والله أعلم.

قلت – وأستغفر الله تعالى -: الحقيقة أن الرأي الثاني غير مسلم، وأننا لم نر ذلك في مشايخنا إلا في العقدين الأخيرين، وقد جالسنا العلماء والمشايخ فلم نر ذلك مطلقاً، ولا نعرفه – كما مر – إلا من فعل الروافض وغلاة الصوفية وفي قداديس النصارى!

ارتفاع الأصوات بالبكاء في التراويح

سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز عن ظاهرة ارتفاع الأصوات بالبكاء، فقال رحمه الله تعالى:

لقد نصحت كثيراً ممن اتصل بي بالحذر من هذا الشيء، وأنه لا ينبغي، لأن هذا يؤذي الناس، ويشق عليهم، ويشوش على المصلين وعلى القارئ، فالذي ينبغي للمؤمن أن يحرص على ألا يسمع صوته بالبكاء، وليحذر من الرياء؛ فإن الشيطان يجره إلى الرياء، فينبغي له ألا يؤذي أحداً بصوته، ولا يشوش عليهم، ومعلوم أن بعض الناس لا يحصل له ذلك باختياره؛ بل يغلب عليه من غير قصد، وهذا معفو عنه إذا كان بغير اختياره!

وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه إذا قرأ يكون لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء! وجاء في قصة أبي بكر رضي اللّه عنه أنه كان إذا قرأ لا ي سُمِع الناس من البكاء، وجاء عن عمر رضي اللّه عنه أنه كان يسمع نشيجه من وراء الصفوف، ولكن هذا ليس معناه أنه يتعمد رفع صوته بالبكاء، وإنما شيء يغلب عليه من خشية اللّه عز وجل؛ فإذا غلبه البكاء من غير قصد فلا حرج عليه في ذلك.

وفي مبحث مآخذ على ما يفعله بعض الأئمة في دعاء القنوت للشيخ علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف حفظه الله تعالى محرر الموقع وصاحبه:

ومن الأخطاء: المبالغة في رفع الصوت بالبكاء:

ينبغي للإمام إذا تأثر بالقرآن أو بالدعاء أن يدافع البكاء، فلم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يبكي في الصلاة بصوت عالٍ ليبكي من خلفه، كما يفعله بعض الأئمة اليوم - هداهم الله - فيستدعون ببكائهم بكاء غيرهم، ناهيك أنهم يبكون بنحيب وعويل وشهيق، بل كان صلى الله عليه وسلم يكتم بكاءه في صدره حتى يصبح له أزيز كأزيز المرجل - أي كغلي القدر - قال ابن القيم رحمه الله عن هديه صلى الله عليه وسلم في البكاء: (وأما بكاؤه صلى الله عليه وسلم فكان من جنس ضحكه: لم يكن بشهيق، ورفع صوت)، ولم يشعر ابن مسعود رضي الله عنه ببكاء النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ عليه طرفاً من سورة النساء، إلا بعد أن نظر إليه فوجد عينيه تذرفان، والقصة في صحيح البخاري؛ فمدافعة البكاء اتباع للسنة ومدعاة للإخلاص.

أخطاء أخرى:

وجاء في مباحث الدرر السنية، في مبحث مآخذ على ما يفعله بعض الأئمة في التراويح للشيخ علوي بن عبد القادر السَّقَّاف حفظه الله تعالى محرر الموقع وصاحبه:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين. أما بعد:

فإن مما يفرح قلوب المؤمنين، ويثلج صدورهم، ويغيظ قلوب أعدائهم: ما نراه اليوم من كثرة المساجد التي تقام فيها صلاة التراويح، مع أئمة نحسبهم - والله حسيبهم – من خيرة شباب الأمة حرصاً ونصحاً لها، وتزداد هذه الفرحة حينما يرون أن كثيراً من هؤلاء الأئمة من حملة المنهج السلفي الصحيح علماً وعملاً !

لكن مما يؤسف له أن البعض منهم لا يسلم من أخطاء يرتكبها أثناء صلاته، ومن هذه الأخطاء ما هو متعلق بقنوت الوتر في صلاة التراويح، الأمر الذي يوجب التنبيه عليها لكثرة الوقوع فيها، وقلة المنبهين عليها، حتى أصبحت تلك الأخطاء سنة متبعة، مع أنها مما لا أعلم فيه خلافاً بين السلف في النهي عنه وكراهته..

أما ما فيه خلاف قديم مثل: كون دعاء القنوت في رمضان كله أم في النصف الأخير منه، وهل يكون قبل الركوع أم بعده؟ ونحو هذا فلن أتعرض إليه هنا.

فمن هذه الأخطاء:

المبالغة في رفع الإمام صوته في الدعاء، حتى يصل – أحياناً - إلى حد الصياح والصراخ. هذا يحدث مع أن الله عزَّ وجل يقول: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية؛ إنه لا يحب المعتدين} الأعراف: 55 ، فسمَّى الله سبحانه وتعالى رفع الصوت في الدعاء اعتداء، ويقول سبحانه: {ولا تجهر بصلاتك، ولا تخافت بها، وابتغ بين ذلك سبيلاً} الإسراء:110..

وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: (اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصّم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً بصيراً)، ورفع الصوت بالدعاء بالإضافة إلى مخالفته للسنة، فهو مذهبٌ للخشوع مجلبٌ للرياء والعياذ بالله.

الاعتداء في الدعاء وتكلف السجع فيه:

من الآثار السيئة لترك السنة والاكتفاء بالدعاء بالمأثور والعدول عن ذلك باستعمال غرائب الأدعية المسجوعة والمتكلفة، ما يقع فيه بعض الأئمة من عبارات تعد اعتداء في الدعاء، فمن ذلك قول بعضهم: (يا من لا تراه العيون، ولا يصفه الواصفون) وإن كان هذا اللفظ قد ورد عند الطبراني في الأوسط، إلا أن إسناده ضعيف، وهو مخالف لما أجمعت عليه الأمة من وصف الله جل وعلا بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم!

ومن ذلك أيضاً قول بعضهم: اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكن أسألك اللطف فيه، فهذا معارض لما في الحديث الحسن: (لا يرد القضاء إلا الدعاء) فكيف لا ندعو الله برد القضاء؟! وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: (فانظر السجع من الدعاء، فاجتنبه فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب.

وقد يدخل التشقيق والتفصيل في الدعاء، والذي يفعله كثير من الأئمة في هذه الأيام، في هذا الاعتداء: ففي سنن أبي داود أن ابناً لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان يدعو، فسمعه سعد وهو يقول: (اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها.. وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها..

فقال: يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون قوم يعتدون في الدعاء فإياك أن تكون منهم، وإنك إن دخلت الجنة نلت ما فيها من الخير، وإن أعذت من النار نجوت مما فيها من الشر) حسنه الحافظ ابن حجر والألباني، فسمى التفصيل في الدعاء اعتداء !

مواظبة بعض الأئمة على دعاء معين في كل قنوت:

ومن ذلك تجد أن كثيراً منهم يلحق دعاء (اللهم اهدنا فيمن هديت...) بدعاء (اللهم اقسم لنا من خشيتك..) لا يكاد يترك ذلك ليلة واحدة، ولا يختم دعاءه إلا بقوله: (اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك....) حتى ظنَّ كثيرٌ من العامة – بل من الأخيار - أن هذا من السنة، وهذا البدء والختم بهذه الطريقة، والمواظبة عليها أول من ابتدأه أحد أئمة المسجد الحرام الفضلاء رحمه الله، فتتابع الناس عليه، فالدعاء الأول سبق الكلام عليه، والثاني لم يصح مطلقاً أنه من أدعية القنوت، والثالث ثبت من حديث عائشة عند مسلم أنه كان يقوله في سجوده، فقالت: (فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان) - عند النسائي وأبي داود والترمذي: (وهو ساجد - وهو يقول اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) وورد عند أحمد وغيره من أصحاب السنن أنه كان يقوله في آخر وتره.

ومعلوم أن القنوت في أول الوتر وليس في آخره، وعند النسائي وغيره: إذا فرغ من صلاته وتبوأ مضجعه، لذلك قال بعض العلماء في آخر وتره أي بعد السلام منه واستبعد ابن تيمية أنه كان يقوله في الوتر فقال في الفتاوى (17/ 91): وروى الترمذي أنه كان يقول ذلك في وتره لكن هذا فيه نظر)!

فإذا كانت المواظبة على القنوت كل ليلة فيها إيهام للعامة أنها السنة المستقرة، مع أن تركه أحياناً أفضل، فكيف بالمواظبة على دعاء معين في أوله وآخره؟!

تخصيص بعضهم ليلة السابع أو التاسع والعشرين بدعاء مخصوص ربما سماه البعض دعاء ختم القرآن.

وهذا مما أحدثه الناس، وليس عليه - في داخل الصلاة سواء في القنوت أو غيره -دليل صحيح؛ لا من فعله صلى الله عليه وسلم، ولا من فعل أصحابه رضي الله عنهم أجمعين، ولعل ذهاب بعض كبار العلماء إلى جوازه - دون دليل صحيح - فيه اختبار وامتحان لمقتفي الأثر ومتبعي السنة؛ أيتبعون صاحبها أم يقلدون علماءهم؟

أما العوام فحدِّث ولا حرج عن حرصهم على هذا الدعاء؛ فهو يفوق حرصهم على فريضة العشاء نفسها والله المستعان!

وختاماً أدعو الأئمة الذين وفقهم الله فهيأ لهم إمامة صلاة التراويح، أن يقتفوا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، حتى نرى المساجد وقد اكتظت بالمصلين، والإمام يدعو لهم بدعاء مأثور، لا يطيل فيه ولا يعتدي؛ يدعوه بقراءته المعتادة، دون تلحين، ولا تطريب، ولا تجويد كتجويد القرآن، وإن تأثر فبكى وذرفت عيناه كتم بكاءه، أو أخفاه فغلبه حتى خرج منه كأزيز المرجل، بلا نحيب، ولا شهيق، لا يكاد يشعر به إلا القريبون منه، كما أدعوهم ألا يغفلوا عن الدعاء على الكفرة من أهل الكتاب، وأن ينصر الله المسلمين عليهم، وخاصة في النصف الأخير من رمضان، كما ثبت عن الصحابة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين.

والحمد لله رب العالمين..