أوراق الفريق طاهر الحبّوش...

المحامي سليمان الحكيم

من كتابه المحدود التداول الذي رد فيه على كتاب بول بريمير: عام قضيته في العراق

شبكة البصرة

من هو الفريق طاهر جليل الحبوش!!!!؟؟؟

ولد الفريق طاهر جليل الحبّوش في مدينة تكريت عام 1950، وينتسب لعائلة حسينية تصل بجذورها إلى عشيرة بني النجار وإلى رسول الله محمد. وهو خريج كلية الشرطة وحصل على إجازة القانون من جامعة بغداد. تدرّج في المناصب الحكومية في سلك الأمن والسلك الدبلوماسي ومكاتب قيادة حزب البعث وغيرها من الدوائر، فكان محافظاً لذي قار وواسط، ثم مديراً عاماً للشرطة ومن بعدها مديراً للأمن العام، وكانت رئاسة المخابرات العراقية آخر منصب تولاه عشية الغزو الأميركي، وإذن فنحن أمام رجل يعرف ما يقول وليس له مصلحة في العبث بالحقيقة بدليل أنه تجاهل كلية مأساة إعدام السيد محمد باقر الصدر وشقيقته ولم يفكر حتى بتبريرها. ولقد قيل كلام كثير وحيكت روايات عديدة عن الرجل عقب الإحتلال وتناقلتها صفحات بعض الكتب حتى صار الأمر وكأنه من الحقائق الثابتة، ولكن هذا الكتاب يثبت أن لنظرية المؤامرة وللإشاعات السياسية مراحاً واسعاً في العراق

قدّم لي صديق كريم كتاباً محدود التداول من تأليف الفريق طاهر جليل الحبّوش ردّ فيه على كتاب ممثل سلطة الإحتلال الأميركي بول بريمر "عام قضيته في العراق". وأرجو ألا أكون مسيئاً للفريق طاهر الحبّوش إذا قلت إني لم أكن مهتماً بنقاشه الصبور والمفصّل والمفحم لما ورد في كتاب "بريمر" بمقدار ما كنت متلهفاً على استخراج معلومات أظنها على قدر كبير من الأهمية من سطور الصفحات الخمسمائة لكتابه. وأزعم أن تلك المعلومات التي رتبتها على شكل أوراق قد لا تروي الظمأ إلى ثروة المعلومات والأسرار التي تزخر بها قطعاً حافظة السيد الحبّوش، ولكنها تكشف الكثير عما أريد له أن يحتجب ويضيع تحت ركام من الأكاذيب اليومية التي تتردد بإلحاح عالي الضجيج في أنحاء العراق على طول السنوات السبع الماضية، بعضها يدّعي البطولة بأثر رجعي، وبعضها يختلق أساطير عن إبادة عرقية واضطهاد قومي، وبعضها الآخر يتخيّل لنفسه تاريخاً فيه الجهاد والصدوع بكلمة حق في وجه سلطان جائر! وقد انتبهت إلى أن معلومات المؤلف المتعلّقة بالسياسيين ورجال الدين ممن لم يغادروا العراق كانت غزيرة ومثيرة في آن، في حين أن معلوماته عمّا يُسمى بمعارضة الخارج كانت محدودة ولم تأت بجديد لا يعرفه العراقيون، والسبب فيما أظن هو أن رجال هذه المعارضة بلا تاريخ ذي قيمة ومعظمهم كان قد غادر العراق بصورة طبيعية وما إن حط رحاله في الخارج حتى راح يروّج لحكايات اضطهاده وتعذيبه كمبرر لطلب اللجوء السياسي. فعلى سبيل المثال ليس في سيرة السيد سمير الصميدعي قبل أن يغادر العراق سنة 1976 غير أنه من سكان بغداد وماركسي الفكر، ولكنه ما إن وصل الولايات المتحدة حتى طلب اللجوء السياسي باعتباره من شيوخ الأنبار المضطهدين، وعندما رجع إلى العراق بصحبة قوات الإحتلال عيّنته المخابرات الأميركية عضواً في مجلس الحكم ثم وزيراً للداخلية قبل أن يستقر سفيراً مزمناً في واشنطن. ويرد اسم ابراهيم الأشيقر (الجعفري) في الأوراق على أنه من أصول باكستانية وقد ولد في العراق وتخرّج من كلية الطب في مدينة الموصل، ثم غادر إلى لندن حيث ادعى أنه مضطهد في بلده وقدم طلباً للجوء السياسي وعززه بتقرير يفيد أنه يعاني من مرض عضال. وعلى سبيل المثال أيضاً نكتشف أن موفق الربيعي كان ابناً لشرطي من الأكراد الفيليين في مدينة الشطرة، خدم في إحدى القرى التابعة لمدينة الموصل واستخدم لقب "الربيعي" ليتزوج من سيدة تتحدر من عشائر الجبور. وقد انتمى موفق لحزب البعث وراح يتاجر بمذهب أمه السنّي زاعماً أن معارفه الشيعة يضطهدونه بسببه، ثم حصل على بعثة دراسية إلى بريطانيا لمواصلة تخصصه الطبّي. وتصادف انتهاء دراسته مع بدء الحرب العراقية – الإيرانية وهو ما عنى عودته إلى وطنه وأداء خدمة الاحتياط العسكرية، ولكن زميلا له من أيام الدراسة هو ابراهيم الأشيقر العضو القيادي في حزب الدعوة خوّفه من العودة وتبنّاه باعتباره من الكوادر المتقدمة في الحزب. وبعد دخول الجيش العراقي إلى الكويت في آب 1990 بدأت المعارضة سلسلة زيارات إلى الدول المعترضة على العملية العراقية ومن بينها السعودية التي ترددت قيادة حزب الدعوة في زيارتها، فأبدى الربيعي استعداده للذهاب إليها مع بقية أطراف المعارضة، وهناك جرى تقديم مبالغ مالية لأعضاء الوفد وكانت حصة الربيعي منها مئة وخمسين ألف دولار، وعندما طالبه حزب الدعوة بها ادعى أنها هدية شخصية، فجرى طرده من الحزب. وعندما لاحت مؤشرات الغزو الأميركي للعراق، دخل الربيعي على الخط في منتصف العام 2002 فنشرما سمي بالإعلان الشيعي في الصحف بإشراف رجل المخابرات الأميركية "ريتشارد دوني"، وكانت تلك هي كل مؤهلاته ليتولى مسؤولية سياسية في نظام الإحتلال. ويفاجئنا الفريق الحبّوش بتفاصيل غير معروفة عن ظروف اعتقال الرئيس صدام حسين، 

فيقول أنه كان في مكان آمن بصحبة مرافقين موثوقين، ولكن المخابرات الأميركية تمكنت من تجنيد واحد منهم فقام بدسّ مادة مخدرة في طعام الرئيس الذي شعر عقب تناوله بنعاس شديد، فقال لمرافقيه أنه سينام لمدة ربع ساعة وطلب منهم أن يوقظوه بعدها، لكنه حينما استيقظ وجد نفسه في قاعدة عسكرية أميركية.

قال بريمر في كتابه أنه اتصل بالسيد عدنان الباججي لينبأه باعتقال صدام حسين، وأن الباججي صمت برهة ثم انفجر مهللا بأن هذا يوم عظيم للعراق والإئتلاف، و أزجى التهنئة لسعادة السفير. ويروي الفريق حبّوش هنا أن مزاحم الباججي والد عدنان كان رئيساً لوزراء العراق لفترة قصيرة من خمسينات القرن الماضي، وقد وافاه الأجل عن تسعين عاماً في مدينة جنيف حيث اعتاد أن يقضي فصل الصيف، وعندما وصل الخبر إلى سفير العراق في سويسرا بعث برسالة عاجلة إلى بغداد طالباً توجيهاتها بخصوص مراسم التشييع والدفن، وقد جاءه الرد من وزارة الخارجية أن الرئيس صدام حسين قد علّق بما يلي : "إنا لله وإنا إليه راجعون، على سفيرنا في سويسرا أن يقوم بترتيبات الجنازة والتشييع بمراسم رئيس وزراء وإقامة مجلس الفاتحة على أن تتحمل الدولة كل التكاليف، ثم إبلاغ ذويه بتعازينا وتخييرهم بموقع الدفن". وقد اتصل السفير بابن الراحل السيد عدنان الذي كان مقيماً في دولة الإمارات وأبلغه تعليمات رئيس الجمهورية بما فيها تخييره بمكان المثوى الأخير لأبيه، فأجاب أنه يفضّل دفنه في جنيف. وقد حضر عدنان الباججي إلى جنيف في اليوم التالي حيث استقبله في مطارها السفير وموظفو السفارة، وقاموا جميعاً إلى جانب عدد من أبناء الجالية العراقية وبعض ممثلي السفارت العربية والأجنبية بالواجب تجاه شخصية عراقية انتقلت إلى جوار ربها. وعقب الدفن توجه السفير بالسؤال لعدنان الباججي عما إذا كان سيحضر مجلس العزاء الذي ستقيمه السفارة مساء عن روح أبيه، ولكنه اعتذر متعللا باضطراره للسفر على الفور. وقبل أن أنتهي من قراءة السطر الأخير لحكاية عدنان الباججي، ترددت في خاطري الآية الكريمة "وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان" ولكني فوجئت بها على الورق تختتم ذلك الفصل من الكتاب! ونحن نقلّب أوراق الفريق الحبوش سوف تطالعنا وقائع عن حوزة النجف الأشرف ومراجعها، وعن السيد محمد صادق الصدر والسيد حسين الصدر والمجلس الإعلى، وعن مسعود البرزاني وجلال الطالباني ومأساة حلبجة، وهي جميعها تبعث على الأسى والغضب معا ً بسبب التزوير الفاضح والكذب الصارخ اللذين طالا تلك الوقائع في نظام الإحتلال وعلى أيدي وألسنة رجاله، وتثير مخاوف جدية على مستقبل العراق الذي أوقعه قدره العاثر في أيدي الضباع.

أوراق الفريق طاهر الحبّوش (1)

مسعود البرزاني

ابدأ بالصفحة الأولى من أوراق الفريق طاهر الحبّوش والتي يتولى هو رواية أحداثها، وسوف تتضح فيها حقيقة العلاقة التي جمعت مسعود البرزاني وأسرته وحزبه بالنظام العراقي السابق وبرئيسه. والقصة تدعو للتأمل بكون الحقيقة لا تُدفن مهما تراكمت فوقها الأكاذيب وطال عليها الزمن، وأن لا شيء كالكذب وإنكار الفضل يحط من قدرالرجال وقيمتهم.

جرى آخر نزاع مسلّح على الموارد المالية بين الحزبين الكرديين في صيف 1996، وقد استعان جلال الطالباني في معركته مع الحزب الديمقراطي الكردستاني علناً بقوات تركية وسراً بقوات إيرانية وبذلك استولى على مدينة أربيل معقل مسعود البارزاني الذي هرب إلى الجبال وتشتت قواته وضاقت عليه الأرض ووجد نفسه بلا حليف فاستغاث بالرئيس صدام حسين الذي بادر يوم 31-8-1996 بإرسال كتيبة من القوات الخاصة مع لواء مدرّع من الجيش العراقي وهزم بيشمركة الطالباني وحلفائها الإيرانيين هزيمة منكرة واستردّ أربيل خلال ساعات وأعادها لسيطرة مسعود. ويومها غلب الحماس عليه فقال ممتدحاً الجيش العراقي أنه على ثقة من أن فوجاً منه قادر بشجاعته على مواجهة فرقة من الجيش التركي، وزاد بأنه مستعد ليوقّع على بياض على كل ما قد يطلبه منه الرئيس صدام! بدأت علاقتي مع مسعود البرزاني سنة 2000 عندما توليت رئاسة جهاز المخابرات، وكان أحد واجباتي التنسيق مع الحزبين الكرديين في منطقة الحكم الذاتي.

 لم تنقطع زياراتنا المتبادلة وكنا نبحث فيها جميع الأمور السياسية والاقتصادية والأمنية، وكانت علاقاتنا متينة وصافية لم يعكرها أي خلاف ولذلك تعددت لقاءاته وابن شقيقه نيجرفان مع رئيس الجمهورية الذي كان حريصاً على تلبية كل طلباتهم، وذلك بعكس العلاقة مع جلال الطالباني الذي لم أزره في السليمانية إلا مرة واحدة، ويومها عتب عليّ نيجرفان البرزاني وقال لي أن مثل هذا الشخص لا يُزار لأنه كذاب وزيارتك له تعطيه حجماً أكبر مما يستحق. وكان مسعود البرزاني يبدي لنا الإمتنان والولاء ويشيد في كل لقاء بالرئيس صدام حسين وبحبّه للأكراد وأيضا بالجيش العراقي الذي وقف معه – على حد قوله – في كل المواقف الصعبة. وفي آخر لقاء بيننا قبل الغزو الأميركي بأيام قال لي مسعود أنه إذا دخل الجيش التركي من الشمال فإن البيشمركة قادرة على صدّه، وطلب مني إبلاغ الرئيس صدام أن يسحب الجيش من المنطقة الشمالية ليسدّ العوز في مناطق أخرى من العراق، وقال لي أيضاً إنه إذا دخل معهم الأميركان فنحن نحتاج للجيش، وفي كل الأحوال أطمئنك إلى أننا سنقاتل الغزاة مهما كانت جنسيتهم لأن العراق عراقنا وسنقف مع الدولة في الأوقات الصعبة. وذكر لي في أحد لقاءاتنا :"إن والدي ومنذ وقت مبكر قال لي أن صدام حسين رجل فلولاه لما حقق الأكراد مطالبهم، ولقد أحببته كثيراً منذ ذلك الوقت، هل ترى رعايته لنا؟ أطال الله عمره". وفي زيارته الأخيرة لبغداد كان على موعد للقاء الرئيس صدام حسين، وقبل توجهه إلى القصر الجمهوري قال لي : "يا سيادة الفريق سأبلغ الرئيس أن موضوع الفدرالية الذي نطرحه هو سقف عال، ولكننا نرضى بتطوير بسيط على قانون الحكم الذاتي الذي تحقق للأكراد بفضل السيد الرئيس، ونحن لا ننسى فضله الكبير على الأكراد". ويومها اصطحبته بجولة مسائية حرة في شوارع بغداد وكنت أقود السيارة وهو إلى جانبي يحدثني عن حبه لبغداد وعن ذكرياته في حيّ الأعظمية الذي تلقى العلم في مدارسه. كرر مسعود البرزاني مرتين عبارة "أشعر بأني عراقي لأول مرة في حياتي"، وكانت المرة الأولى عندما سُلّمت له أربيل بعد أن أخرجه منها جلال الطالباني، والمرة الثانية عندما قمت شخصياً بتسليمه نقطة سيطرة "باعذره" وهي منطقة تابعة لقضاء"شيخان" وكان في جنوبها سيطرة تابعة للجيش العراقي؛ ولأسباب أمنية قررت لجنة شؤون الشمال التي كان يرأسها نائب رئيس الجمهورية طه ياسين رمضان وتضم في عضويتها عدداً من الوزراء ورئيسيّ المجلس التشريعي والتنفيذي لمنطقة الحكم الذاتي ورؤساء الأجهزة الأمنية، أن تنقل تلك السيطرة إلى شمال المدينة لمسافة ألفي متر. وفي اليوم التالي دخل أفراد من البيشمركة إلى منطقة تواجد الجيش كحركة احتجاج سلمية على نقل السيطرة، فتأزم الموضوع لكون الجيش لا يقبل بتواجد عناصر من خارج قطعاته بين صفوفه، وأوشكت لجنة شؤون الشمال ومعها القيادة العامة للقوات المسلحة معالجة الموضوع بالقوة في حال لم يخرج البيشمركة من بين قطعات الجيش معتبرة تصرفهم تمردا. التقيت في اليوم التالي بنيجرفان البرزاني وكان منفعلا من ذلك الإجراء ومتخوفا من حركة الجيش، فقلت له أنه ينبغي القياس على كبار الأمور وليس على صغارها، واستعرضت معه العديد من المكاسب الكبيرة التي حققها الأكراد وذكّرته بعملية التنسيق المثالية بيننا، ثم سألته عن قيمة نقطة عسكرية تجاه كل تلك الإيجابيات، فقال أن قيمتها لاشيء. فاقترحت عليه سحب البيشمركة وانتظاري ريثما ألتقي برئيس الجمهورية وأطلعه على التفاصيل وأزيد عليها بأنه قبل نهاية لقائي بنيجرفان فقد جرى سحب البيشمركة وانتهى الموضوع، وبذلك أثبت لكم موقفاً إيجابياً تحققون من خلاله ما هو أفضل لقابل الأيام، فوافق. وفي اليوم التالي التقيت بالرئيس صدام حسين وشرحت له الموضوع وأكدت له أن موقف الحزب الديمقراطي كان إيجابياً، فقال الرئيس : "انقل شكري لمسعود على هذا الموقف، وسوف يرجع الجيش إلى نقطة السيطرة السابقة تكريماً لهم". وفي اليوم التالي توجهت إلى أربيل والتقيت مسعود ونيجرفان وأبلغتهما بنتيجة لقائي بالرئيس وشكره لهم، فقال مسعود "ارجو أن تبلغ السيد الرئيس حفظه الله أنه لو طلب أن يتواجد الجيش في دهوك فلا مانع لديّ بعد موقفه هذا الذي يضاف لمواقفه السابقة، ولو طلب مني مغادرة العراق فسوف أفعل، هذا أب يستحق منا كل التقدير والإحترام

أوراق الفريق طاهر الحبّوش (2)

جلال الطالباني - حلبجة

يتحدث الفريق طاهر الحبّوش في هذه الورقة عن علاقة الدولة العراقية مع جلال الطالباني.

لم تكن العلاقة مع الطالباني متميزة كشأنها مع مسعود البرزاني، بيد أنها لم تكن مقطوعة معه بل متواصلة من خلال المندوبين المكلفين بمعالجة الأمور المشتركة بيننا. وقد بعث الطالباني قبيل الغزو االأميركي برسالة إلى الرئيس صدام حسين طلب منه فيها إجراء انتخابات عامة لاختيار حكومة عراقية، وقال في رسالته "لا نرى لزوماً لانتخابات رئاسية لأننا نعتقد وعموم الشعب أنه لا يمكن أن نجد رئيساً مناسباً مثل صدام حسين"؛ وقد تجاهل الرئيس رسالة الطالباني ولم يجبه عليها، وحين التقيته في زيارتي اليتيمة للسليمانية عاتبني بسبب ذلك. وفي تلك الزيارة ناقشنا الكثير من الأمور من بينها واحدة كنت منزعجاً منها وتتعلق بوجود مكاتب استخبارية للإطلاعات الإيرانية وللموساد الإسرائيلي في مدينة السليمانية، وقلت له أن هذا لا يجوز، فأجابني : "ولماذا أنت منزعج؟ تعال وافتح مقراً للمخابرات العراقية"! ثم سألته عن سبب السماح لإيران بتشييد حسينية كبيرة في السليمانية وأردفت قائلا : "نحن وأنت نعلم أنه لا وجود لأبناء الطائفة الشيعية في السليمانية إلا ما ندر"، فأجابني : "لا تقلق فحين نتفق سأجعل من الحسينية كازينو ترفيهي، إنها تكتيكاتي"!

خضّب الطالباني وحليفه اللدود البرزاني كتفيّ الرئيس صدام حسين بقبلات لم يجارهما أحد في عددها، وفي حديث له مع صحيفة الثورة العراقية قال الطالباني أن الرئيس هو قائدنا جميعاً، وعندما نختلف مع الحكومة نذهب إليه ليحكم بيننا.

كان الطالباني هو بطل مجزرة قرية "مجلوبة" العربية في ناحية الكوير، وقد أبيدت القرية عن بكرة أبيها بعد أن قام أتباعه برمي أهلها عشوائياً بدون تمييز بين طفل ورجل وامرأة. وسبق له أن احتفى وآوى في تسعينات القرن الماضي حزب العمال الكردي في السليمانية وعندما اختلفت الظروف السياسية وقبض الثمن قامت قواته بمداهمتهم في بيوتهم وتصفيتهم. وهو أيضاً بطل مجزرة "بشت آشان – قرناقا" التي أبيد فيها الشيوعيون، وحدث في العام 1991 وخلال مفاوضاته مع الدولة أن أمر بإعدام أربعمائة وخمسين أسيراً من البعثيين وجرى دفنهم في مقبرة جماعية على الطريق بين شقلاوة وخوشناو.

مأساة حلبجة

سجلت الإستخبارات العسكرية العراقية في أرشيفها أن الغاز السام قد اسُتعمل عشرات المرات في عدد من المعارك بين العراق وإيران خلال حرب الثماني سنوات، وكان الإيرانيون هم من بدأ باستعماله، لكن أسوأ المعارك التي استُعمل بها السلاح الكيماوي كانت تلك التي دارت في مدينة حلبجة يوم 16-3-1988. وقد أكد تقرير صدر عن "آرمي وود كوليدج" عام 1990 أن اتهام العراق بضرب أهل حلبجة بالسلاح الكيماوي لا أساس له من الصحة، وعلّقت جريدة "الواشنطن بوست" على تلك المأساة بقولها : "إننا نعرف جيداً أن العراق لا يستعمل غاز السيانيد". لكن أهم تأكيد لهذا الموضوع صدر عن معهد الدراسات الإستراتيجية التابع لكلية الحرب الأميركية الذي أصدر في بداية عام 1990 تقريراً من تسعين صفحة جاء فيه : "إن فحص التربة ومخلفات الضحايا البشرية يشيران إلى تورط إيران وليس العراق في هذه المأساة". وفضلا عن ذلك صرّح ستيفن بيلتيير كبير المحللين السياسيين في وكالة المخابرات المركزية الأميركية والذي شارك مع فريق عمل ميداني متخصص بالتحقيق في تلك الحادثة،أن الغالبية العظمى من ضحايا حلبجة إنما سقطوا بسلاح فتاك من مكونات غاز هيدروجين السيانيد، والعراق لا يمتلك هذا النوع من الغازات وإنما يمتلك فقط غاز الخردل، وأضاف بيلتيير أن عدد ضحايا حلبجة كانوا بالمئات وليس بالآلاف.

والغريب أن أميركياً متعاطفاً مع القضية الكردية هو جوناثان راندل رفض إدانة الحكومة العراقية بل وجه إصبع الاتهام لجلال الطالباني واصفاً إياه بأنه حصان طروادة الذي قاد الإيرانيين إلى حلبجة لتطويق القوات العراقية الأمر الذي تسبب بمعركة طاحنة قام العراقيون خلالها بالدفاع عن حدودهم وطرد القوات الإيرانية من الأرض العراقية.

وقد انفردت جماعتان فقط باتهام العراق بتلك الجريمة وهما منظمة حقوق الإنسان الأميركية ولفيف من الأطباء التابعين لها وكلتاهما مخترقتان بأعضاء من أصل كردي وتستقيان معلوماتهما عن العراق من حزب جلال الطالباني. ويتبدى الخداع في تلك المسألة من خلال احصائيات ضحايا حلبجة التي أوردتها تلك المنظمة في تقاريرها، ففي عام 1993 زعمت أن عدد الضحايا تراوح ما بين أربعة وخمسة آلاف، وفي عام 2000 رفعت عددهم إلى خمسين ألفاً، ثم وصل الرقم في عام 2003 إلى مئة ألف!

وكشاهد على التاريخ أذكر الحوار الذي دار بيني وبين السيد علي حسن المجيد عندما كان مسؤولا لتنظيم الشمال وكنت مديراً لمكتبه، إذ دخلت عليه حاملا البريد الوارد من جهات عسكرية وحزبية وإدارية، فوجدته يتحدث بالهاتف وقد بدا منزعجاً وعصبياً، وعقب انتهاء المكالمة سألته عن سبب انزعاجه فقال لي : مصيبة والله مصيبة.

قلت : هل من شيء مزعج سيدي؟

قال : علمت تواً أن حلبجة قد ضربت بقنابل سامة.

قلت : حلبجة القديمة أم الجديدة؟

قال : القديمة.

قلت : من ضربها؟

قال : الإيرانيون حتما.

كانت معارك حلبجة ضارية جداً وقام الجيش الإيراني خلالها باقتراف جرائم كثيرة منها على سبيل المثال سبي معلمات إحدى المدارس. وكانت لدينا في حلبجة فرقة مشاة كاملة مع لواء من القوات الخاصة بالإضافة إلى أفواج الدفاع الوطني المشكّلة من الإخوة الأكراد الوطنيين وعددهم بالآف، وبالتالي فليس وارداً أن يستخدم الجيش العراقي السلاح الكيماوي فيها. ومن فصول معارك حلبجة التي لن ينساها شعب وتاريخ العراق أن بيشمركة جلال الطالباني تعاونت تعاوناً وثيقاً مع الجيش الإيراني وكانت مكلفة بحصار قطعاتنا من الخلف، لكن القوات العراقية هزمت القوات الإيرانية واضطرتها للهرب لا تلوي على شيء وقد تعلّقت بأذيالها بيشمركة الطالباني

لم يكن الفريق طاهر الحبّوش وحده الذي وجه الإتهام لجلال الطالباني، فقد لحقه السيد نيجرفان مصطفى الذي كان الرجل الثاني في حزب الطالباني قبل أن ينشق عنه ويؤسس حركة التغيير، وأقوال الرجل مثبتة في مقابلة صحفية مع جريدة الشرق الأوسط حيث وجه اتهاماً صريحاً لجلال الطالباني بمسؤوليته المباشرة عن مأساة حلبجة، ونقل عنه قوله وقتها أن تلك المجزرة قد أفادت القضية الكردية لأنها حملتها إلى المحافل الدولية، وتمنّى وقتها لو تتكرر مثل تلك المجازر!

أوراق الفريق طاهر الحبّوش (3)

حسين الصدر

يتكلم الفريق طاهر الحبّوش في هذه الورقة عن علاقة وثيقة ربطته بالسيد حسين اسماعيل الصدر.

السيد حسين الصدر صديق حميم أحبّه وأجلّه كثيرا. تعرّفت عليه منذ عشرة أعوام في العاشر من محرّم بمرقد العباس بن علي في ساعة متأخرة من الليل، وكنت وقتها مديراً عاماً للشرطة وذهبت إلى كربلاء لمتابعة أحوال الزوار الذين قصدوها سيراً على الأقدام، ولمراقبة دوريات الشرطة والحرص على أدائها لواجبها في حفظ النظام. ولم يطل لقائي وقتها بالسيد الصدر سوى دقائق معدودة اتفقنا بعدها على التزاور في وقت آخر، وشكرني يومها على جهود الشرطة في تنظيم المناسبة.

تجددت لقاءاتي بالسيد الصدر ودامت العلاقة بيننا حتى وقوع الغزو الأميركي، وكان الكثير من أهلي وأصدقائي ورفاقي في الحزب يعرفون بهذه العلاقة وشاركوا في بعض الزيارات المتبادلة بيننا، وكنا نتبادل المجاملات والمشاعر الصادقة في حالات المرض والمناسبات الاجتماعية والموقف الواجبة مما لا يسع المجال لذكره.

كان السيد الصدر محترماً من قبل مسؤولي الدولة الحزبيين والإداريين وكانوا يزورونه باستمرار، وكنت وإياه نتبادل أحاديث شتى وأستمع إلى نقده ويسمع رأيي حول مختلف الأمور، وكثيراً ما كنت أستشيره في المسائل الدينية والثقافية والإجتماعية. وفي العام 2000 كنت على وشك إصدار كتابي الموسوم {فضل الرزّاق على أهل العراق} وطلبت من سماحته برسالة خطية أن يفتيني في قضية وردت في متن الكتاب وتتعلق بآل النبي محمد وهي محل اختلاف آراء الباحثين، فأجابني برسالة خطية أيضا لازلت أحتفظ بها. وفي العام 2001 بعث لي سماحته بمخطوطة لكتاب من تأليفه بعنوان {الإسلام واليهود} وطلب مني أن أبدي ملاحظاتي عليه، وبعد أسبوعين بعثت إليه بتعليقاتي على كتابه في رسالة خطية أوردت فيها عبارة تأثر بها سماحته إذ قلت فيها بعد الشكر على التكليف : "كيف يستشير البحر جدولا؟". وفضلا عن ذلك كله فالسيد وأنا عضوين في جمعية أشراف العراق التي تضم المتحدرين من النسب النبوي الشريف.

حين شاهدت في الصحف صور وليمة أقامها السيد حسين الصدر لوزير الخارجية الأميركي كولن باول ولمندوب الإحتلال بول بريمر، فقد انتابني الذعر والأسى والحزن لأن بريمر كان جالساً على نفس المقعد الذي كنت أجلس عليه عندما كنت أزور السيد ونتبادل الحوار. كان الرئيس صدام حسين يعرف بعلاقتي مع السيد الصدر وكان يسألني أحياناً عن أحواله ويبعث له معي بالسلام، وكان السيد يرد السلام ويدعو له بالعمر المديد. وقد نسّب الرئيس في العام 1998 أن يكون السيد حسين الصدر ضمن أعضاء الوفد العراقي الذي زار الفاتيكان والتقى بالبابا ليشرح له الظلم والحصار اللذين يتعرض لهما الشعب العراقي، ولو لم يكن السيد الصدر محل ثقة الدولة وتقديرها لما تم انتدابه لتلك المهمة

أوراق الفريق طاهر الحبّوش (4)

الحوزة الدينية

في هذه الورقة يتناول الفريق طاهر الحبّوش وضع حوزة النجف في زمن النظام السابق ويروي وقائع تتعلق بآية الله السيد علي السيستاني وآية الله السيد أبي القاسم الخوئي.

قبيل الغزو الأميركي للعراق أفتى السيد السيستاني وبقية مراجع الدين والعلماء المسلمين بوجوب التصدي للعدوان. والتأصيل الفقهي لهذه الفتوى يستند لدعاء الثغور المأثور عن الإمام الرابع علي بن الحسين الملقب بزين العابدين، ومؤداه بأن الغزو الأجنبي لأرض إسلامية يستدعي الجهاد الدفاعي والمقاومة وهو فرض عين على كل مسلم، ولم يخالف هذا الإجتهاد أحد من فقهاء الشيعة بما فيهم السيد محسن الحكيم.

كنت زائراً مداوماً للسيد السيستاني سواء بتوجيه من الرئيس صدام حسين أو بمبادرة شخصية مني وذلك لتفقده وتقصّي أحواله عسى أن يكون بحاجة لأمر ما من الدولة، وكان يقابل ذلك دائماً بالدعاء لرئيس الجمهورية. وفي إحدى زياراتي له تفضّل بإهدائي قرآناً وسجادة صلاة من حرير كاشان. وقد تعاملت الدولة معه بهذا التقدير العالي احتراماً للإجماع على مرجعيته برغم أن إنتاجه العلمي والفقهي يُعتبر ضحلا فيما لو قورن بمثيله لدى بعض المجتهدين كالمرجع الشهيد محمد صادق الصدر والسيد محمد حسين فضل الله مما يعطي سبباً للإعتقاد بأن السيستاني قد جرى إعداده للعب دور خطير، ويتضح ذلك من خلال الدعاية التي روّجها لأعلميته من كان أشد المشككين بها كعبد العزيز الحكيم الذي كان يقلد مرجعا آخر وسبق له أن قال أن مرجعية السيستاني قد برزت للوجود بولادة قيصرية. ولقد عبّر الشهيد محمد صادق الصدر مراراً عن شكوكه في أن يكون السيستاني قد بلغ درجة المجتهد وذلك قياساً لأعلميته على أعلمية غيره من المجتهدين.

لم تتعرض الحوزة العلمية في النجف الأشرف في عهد صدام حسين إلى مضايقة من أي نوع، ولم تتدخل الدولة في شؤونها بدليل الشواهد التالية :

- كانت الحوزة مستقلة في وضع مناهجها الدراسية بدون تدخّل من وزارتي الأوقاف والتربية.

- كانت حرة في قبول طلابها سواء كانوا عراقيين أو أجانب، وكانت الدولة تمنح الإقامة للطالب الأجنبي بمجرد أن يبرز تأييداً من مرجع ديني.

- لم تتدخل الدولة في مسألة تحصيل أموال الخمس ولا في أوجه صرفها برغم أن تلك الأوجه كانت محلا للتساؤلات.

- كانت الحوزة حرة في اختيار مراجعها، وحرة في اختيار مباني مدارسها بدون معقب عليها من الدولة، وكان المراجع الكرام بغض النظر عن جنسيتهم موضع احترام وتقدير من الدولة.

كنت في عام 1986 ضابطاً في مديرية الأمن العامة، وذات يوم استدعاني المدير العام اللواء عبد الرحمن الدوري وأطلعني على كتاب رسمي من الرئيس صدام حسين مرفق به رسالة من آية الله أبي القاسم الخوئي مضمونها كما يلي :

"بعد التحية والسلام فقد دعاني شاه إيران ودعوتموني أنتم فلبيت دعوتكم وقدمت إلى النجف منذ ذلك الزمن وأشكركم، لكن الآن أشعر بضيق من سلوك بعض المسؤولين في النجف بسبب تدخلهم في بعض أعمالنا. أرجو أن تأمر بكف التدخل والمضايقة وبغيرها أرجو أن تمهلني أربعين يوماً لمغادرة العراق وجزاكم الله خيرا".

وكان مضمون كتاب رئيس الجمهورية : "السيد مدير الأمن العام، مرفق مع كتابي هذا رسالة آية الله أبي القاسم الخوئي، اطلعوا عليها وتابعوا الموضوع بكل دقة وإعلامي عاجلا سبب انزعاج السيد".

وعلى ضوء كتاب الرئيس تم عقد اجتماع في بغداد بين وفد يمثل السيد الخوئي برئاسه نجله السيد عبد المجيد، ولجنة برئاسة مدير الأمن العام وعضوية العميد خيري جلميران والعقيد سعدون صبري والعقيد نوري مدير أمن النجف والمقدم طاهر الحبّوش، وبدأ مدير الأمن العام الحديث بالسؤال عن سبب انزعاج السيد الخوئي، ودار الحوار كما يلي :

- السيد عبد المجيد : أزعجت السيد أمور عديدة منها أن الدولة فرضت مبلغ عشرة آلاف دينار كرسوم كمركية على خمسة وعشرين جهاز تبريد مهداة إلى الحوزة من خارج العراق.

- مدير الأمن العام : أنت تعلم بأن الدولة لم تخصم شيئاً من مبلغ مليون وأربعمائة ألف دولار ومعها ستمائة ألف دينار كويتي كانت مرسلة من السيد الكاظمي في الكويت عبر مركز سفوان الحدودي كحقوق شرعية للسيد الخوئي، ولكن أجهزة التبريد هذه دخلت باسم مواطن عراقي فلا بد أن تخضع للقانون، فلماذا تنزعجون من مبلغ لا يستحق الذكر بينما الدولة لم تنزعج من ملايين الدولارات الواردة؟

- السيد عبد المجيد : نحن نعتذر ولم نكن مقدرين للأمر. هناك مسألة أخرى وهي أن وزراة الأوقاف أشعرت وكلاءنا بضرورة تغيير شعار الشمس المرفوع فوق الحسينيات وتبديله بالهلال إسوة بالجوامع، ويقول السيد أن شعار الشمس بابلي وشعار الهلال يمثل عصر الإستعمار التركي، فلماذا هذا الإجراء غير المدروس؟

- مديرالأمن العام : هل تؤيدون أن نرفع مقترح باسمكم لوزارة الأوقاف لتغيير الهلال من فوق منائر الجوامع والشمس من فوق الحسينيات ووضع لفظ الجلالة (الله) مكانهما؟

- السيد عبد المجيد : أفضّل ترك الموضوع لوقت آخر. هناك قضية ثالثة تتعلق بإعفاء طلاب الحوزة من الخدمة العسكرية أسوة بطلاب المعاهد الدينية التابعة لوزارة الأوقاف.

- مدير الأمن العام : إن طلاب وزارة الأوقاف خاضعون لوزارة في الدولة، فهل تقبلون أن يخضع طلاب الحوزة لتعليمات الدولة من حيث المناهج الدراسية وانتظام دوامهم؟

- السيد عبد المجيد : كلا من الصعب قبول ذلك. ويتساءل السيد عن سبب إلحاح المسؤولين في الدولة والحزب على توحيد يوم عيد الفطر بين السنّة والشيعة؟

- مدير الأمن العام : هذه مسائل شرعية لا دخل لنا فيها، وربما رغب بعضهم في أن يكون العيد شاملا للجميع، ونرجو أن تذكّر السيد أن المرجعية في النجف الشرف ومفتي بغداد لم يختلفا في موضوع العيد حتى ثورة تموز 1958، فلماذا كنا موحدين في العهد الملكي وأصبحنا مختلفين في العهد الجمهوري؟ ومع ذلك أنتم أحرار وسنبلغ ذلك للجهات المختصة.

وبعد أسبوعين من ذلك اللقاء ترأس مدير الأمن العام وفداً حكومياً لزيارة السيد الخوئي الذي أقام له وليمة غداء، وكان ارتياح السيد واضحاً و حمّل الوفد تحياته وشكره للرئيس صدام حسين على اهتمامه.

زرت في العام 2000 المراجع الكبار في النجف ومن بينهم آية الله بشير النجفي، وسألته مداعباً عن استبدال لقبه النجفي بالباكستاني، فرد عليّ أنه يعشق النجف ويُلقّب بالباكستاني لأنه لم يحصل على الجنسية العراقية. ولدى عودتي إلى بغداد حررت رسالة إلى الرئيس صدام حسين بينت له فيها رغبة آية الله الباكستاني بالحصول على الجنسية العراقية، وقد جاء الجواب بعد أيام على شكل مرسوم جمهوري يلبي للشيخ رغبته. وعندما كنت مديراً للأمن العام علمت أن جهة في حوزة النجف قد وضع يدها على مكتبة آل الحكيم الذين طلبوا تدخلي في هذا الأمر، وهو ما جرى فعلا وتمت إعادة المكتبة لهم.

إن معلوماتنا القاطعة تؤكد أن جهات عديدة تقف وراء اغتيال الرموز الدينية لأسباب مختلفة، منها ما يتعلق بالصراع بين قيادات الحوزة، ومنها تم بتدبير إيراني، ومنها ما قامت به أدوات صهيونية بهدف إثارة الكراهية بين أبناء الشعب الواحد وزعزعة ثقة العراقيين بقيادتهم الوطنية. كان نظام صدام حسين يمنح العطل الرسمية لكل العراقيين في أول شهر محرّم وفي العاشر منه، وكان الإعلام الرسمي للدولة يوجه برامجه الدينية إحياءً لذكرى استشهاد الإمام الحسين، وكانت مراسم الزيارة متواصلة دون انقطاع مع رعاية أمنية مكثفة من الدولة.

لقد سمع العالم أجمع وتناقل فتاوى السيد السيستاني وبقية المراجع الكبار ممهورة بأختامهم والتي نصّت على وجوب مقاومة الغزو والعدوان وذلك قبل أسابيع قليلة من وقوعه، ولم يصدر نفي أو تشكيك من أي منهم بتلك الفتاوى التي كان مؤداها أن من لايقاوم الإحتلال فسيموت ميتة جاهلية، وأما القتلى فهم شهداء عند ربهم يُرزقون.

يقال أن من حمل في صدره حرفاً من القرآن حصّنه من النفاق والكذب ويؤثر على نفسه ولو كانت به خصاصة، وهانت عليه الدنيا ووزن أعماله بميزان المشفق من حساب يخشاه عسيراً في الآخرة. ولكننا نشهد اليوم رجالا يمنّون على الناس بأنهم يحملون القرآن كله في صدورهم، وقد صمتوا حين وجب الكلام وسكنوا عندما وجبت الحركة، فتحوا بيوت الطهارة لأهل الدعارة، يحبّون المال حبّا جمّا وباسم الله والحق الشرعي لآل نبيه جمعوا منه مالا يُحصى فاستأثروا به وأولادهم وصعّروا خدودهم وصمّوا آذانهم دون صرخات الرعية المعذبة فطاشت في الفضاء عبارة قيلت في زمن صار مشكوكاً في كينونته "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته".

أوراق الفريق طاهر الحبّوش (5)

محمد صادق الصدر

يحكي الفريق طاهر الحبّوش في هذه الورقة عن علاقته بالسيد محمد صادق الصدر وموقف الدولة منه، وأود التأكيد على أن النص منقول حرفياً عن هذه الورقة وما ورد فيها من عبارات المدح والقدح إنما تعبّر عن رأي صاحبها.

تمتّع السيد محمد صادق الصدر بدعم ومباركة النظام و الرئيس صدام حسين شخصياً، فقد أمر بطبع كتبه وأوصى شيوخ العشائر بتقليده وذلك رغبة منه في اصطفاء الحوزة الدينية للمراجع العرب بعد أن هيمن عليها المراجع الفرس لمئات السنين، فمن بين سبعة وستين مرجعاً تناوبوا على تولّي الحوزة عبر تاريخها لم يكن من بينهم إلا خمسة مراجع من أصل عربي. وكان وقوف الدولة خلف السيد محمد صادق الصدر سبباً لمقت الشعوبيين له فتآمروا عليه ودبّروا له أمراً بليل فنالوا من هذه الشخصية التي دعت وعملت من أجل وحدة المسلمين. وكان الشعار المركزي للشهيد الصدر قبل الغزو الأميركي بأعوام "كلا كلا أمريكا"، وهذا الشعار وحده ينفي شبهة العداء بين السيد الصدر والنظام، ولو أن هذا الرجل بقي على قيد الحياة لما وصلت الأمور إلى هذا المستوى من السوء الذي نشهده اليوم.

حضرت اجتماعاً لمجلس الوزراء بصفتي مديراً للأمن العام، وقد سنحت لي فرصة أخبرت فيها السيد عزة ابراهيم نائب رئيس مجلس قيادة الثورة بأن المرجع السيد محمد صادق الصدر قد أمّ جموع المسلمين سنّة وشيعة في صلاة الجمعة، فأجابني قائلا : "الحمد لله حق حمده إنها خطوة هامة جداً في خدمة المسلمين، وفقّه الله في هذا المسعى". وبعد مدة من الزمن استدعاني السيد عزة ابراهيم وطلب مني زيارة السيد الصدر وإبلاغه تحيات السيد الرئيس والقيادة السياسية، وإخباره بأن القيادة لديها معلومات تفيد بوجود مؤامرة للإعتداء عليه، واستئذانه مع الرجاء بأن يسمح لأجهزة الأمن بحمايته وبالطريقة التي يرتئيها. وفي ذات اليوم توجهت إلى النجف واصطحبت محافظها السيد قائد العوادي لزيارة السيد الصدر ونقلت إليه تحذير القيادة ورجاءها، فرد عليّ بأنه يثمّن مشاعر السيد الرئيس والقيادة ولكنه يرفض الحماية من أية جهة لأنه يؤمن بأن الله هو الحامي. وقد واصلت إلحاحي عليه واقترحت تأمين حمايته بصورة غير مباشرة وبالطريقة التي يرغب فيها، ولكنه أصرّ على موقفه وكرر عبارته بأن الله يفعل ما يريد، ثم أنذرني بأنه سيكون منزعجاً فيما لو أحس بأن الدولة لجأت لترتيب الحماية له بدون علمه.

وحين وقع حادث الإغتيال المشؤوم يوم التاسع عشر من شباط 1999 لسماحته ونجليه فقد كنت أول مسؤول حكومي يصل إلى النجف وتوجهت على الفور إلى مكتب المحافظ فوجدت عنده مدير أمن النجف العميد سامي الدجيلي، وكنت حزيناً وغاضباً فبادرت إلى إعفاء العميد الدجيلي من منصبه مع أنه لم يكن مسؤولا مباشرة عما حدث، وأمرت بأن يحلّ اللواء سعدون صبري محله. وأخبرني المحافظ عندما سألته عن تفاصيل الحادثة أن السيد ونجليه غادروا البرّاني بعد صلاة المغرب متوجهين إلى منزلهم فاعترضتهم سيارة من طراز "اولدزموبيل" وفتحت النار عليهم ثم فرّت إلى جهة مجهولة، وأن السيد محمد الصدر لازال حياً ويبذل الأطباء جهداً استثنائياً لإنقاذه كون إصابته بالغة الخطورة، ولكن نجليه مصطفى ومؤمل قد انتقلا على الفور إلى رحمة الله. وسألت عن إمكانية نقل السيد إلى إحدى مستشفيات بغداد حيث تتوفر إمكانيات طبية أفضل، فقيل لي أن الأطباء لا يحبذون نقله لأنه مصاب بنزف شديد وربما يسمحون بذلك في حال اجتيازه لمرحلة الخطر، فبقيت أتابع الأمر حتى الواحدة والنصف صباحاً عندما أخبرنا الأطباء بانتقاله إلى رحمة الله.

تشاورت مع المحافظ حول مراسم أداء الواجب الأخير تجاه السيد ونجليه، واستقر الرأي بعد أن جرى التذاكر مع السيد كلنتر وهو شخصية محترمة وتربطه علاقة مصاهرة مع عائلة السيد الصدر، أن يكون التشييع وقت الضحى بحضور نخبة من كبار العلماء وطلاب الحوزة وأسرة السيد وبعض المقرّبين. وقد حضر مجلس الفاتحة في اليوم التالي عضو القيادة محمد حمزة الزبيدي ممثلا لرئيس الجمهورية وحشد غفير من المسؤولين الحكوميين والمواطنين. ولدى مغادرتي شكرني السيد مقتدى الصدر على ما قمت به من جهد و قد أكدت له أننا لن ندّخر وسعاً للقبض على المجرمين، وبالفعل فقد تمكنا خلال أيام معدودة من كشف هوية القتلة وتم القبض عليهم وأذيعت اعترافاتهم على التلفزيون متضمنة كل تفاصيل الجريمة. وقد بعث السيد مقتدى ببرقية شكر للرئيس صدام على مواساته ونشرتها في حينه كل وسائل الإعلام.

كانت مرجعية السيد محمد صادق الصدر غصّة في حلق الحوزة الإيرانية لأنها هددتها بالقضاء على هيمنتها، فقد بلغت أعداد المقلدين له من الشيعة العرب رقماً هائلا، وترافق ذلك مع بروز مرجعية عربية أخرى تمثلت بالسيد محمد حسين فضل الله في لبنان. وقد أنفقت الحوزة الإيرانية الأموال الطائلة لمواجهة خطر مرجعية السيد الصدر على احتكارها للزعامة الدينية فطبعت ووزعت بالمجان الكتب والنشرات التي تشكك بقيمته العلمية وبمرجعيته، وكان المجلس الأعلى مخلب القط الإيراني في هذا الشأن فطبع كراساً بعنوان"مرجعية محمد صادق الصدر" لم يترك نقيصة أو صفة مستهجنة إلا وألصقها بالسيد الشهيد، وقد ساندته في ذلك مؤسسة الخوئي في لندن التي دأبت على شنّ حملات متواصلة على السيد الصدر في مجلتها الشهرية "النور" كما عقدت سلسلة من الندوات كرّستها لتشويه سمعة الصدر وتجميل صورة السيستاني وترجيح كفّته. وجرى إغداق الأموال على السيستاني لشراء وكلاء الحوزة في كل مناطق العراق و كسبهم لمرجعيته.

لقد استنكر السيد محمد صادق الصدر استحواذ أبناء المراجع السابقين على أموال المرجعية والمؤسسات التابعة لها وطالب بوضعها تحت تصرف المرجع التالي، وقد رفض آل الحكيم هذا التوجه وأيّدهم مجيد الخوئي الذي تصرّف بالمؤسسة التي تقدّر ميزانيتها بمئة وعشرين مليون جنيه استرليني على أنها ملكية خاصة به. وحدث مرة أن السيد سعيد الحكيم اشتكى على السيد الصدر لدى الرئيس صدام حسين مطالباً بمنعه من إدارة المدرسة الباكستانية.

كان لباقر الحكيم مبرره في محاربة السيد الصدر لأنه استحوذ على عقول الغالبية العظمى من الشيعة العرب، وجسّد زعامته بقوة شخصيته وجرأة أطروحاته مما هدد تطلعات الحكيم لاحتكار زعامة شيعة العراق خاصة بعد أن تلوثت سمعته بسبب موقفه إبان ما عُرف بالإنتفاضة الشعبانية التي خذلها ولم يقدّم لها أي عون مكتفياً بإمدادها بالملايين من صوره! ولم يمرّ موقف الحكيم من الصدر بدون ثمن فقد استقبله الصدريون من أعضاء فيلق بدر بالأحذية عندما حضر مجلس العزاء بالسيد الصدر في مسجد أعظم. وفي عام 2007 وانتقاماً من تصدي التيار الصدري للمحتل ولحكومته في البصرة، طالب موفق الربيعي عائلة الخوئي بمتابعة ملف اتهام مقتدى الصدر بمقتل عبد المجيد الخوئي.

أوراق الفريق طاهر الحبّوش (6)

 وثيقة المجلس الإعلى عن السيد الصدر

ختم الفريق طاهر الحبّوش أوراقه بوثيقة مصوّرة صادرة عن المجلس الإسلامي الأعلى بتاريخ 12-12- 1998 أي قبل اغتيال السيد محمد صادق الصدر بشهرين وأسبوع واحد، والوثيقة مؤشر عليها بأنها محدودة التداول وهي دراسة من إعداد لجنة دعم عمل الداخل التابعة للمجلس وموجهة للكوادر في العراق وإيران ومخصصة لما أسمته بتحليل ظاهرة الصدر والموقف المطلوب تجاهه. وهي وثيقة تحمل اتهامات خطيرة للسيد الصدر من بينها التسبب في تصدع حزب الدعوة بعد إدلائه بمعلومات كاملة عنه عندما كان معتقلا، وأن مرجعيته كانت نتيجة صفقة عقدها معه النظام العراقي إبان ذلك الإعتقال الذي يدعي المجلس الأعلى أن السيد لم يتعرض فيه سوى للضغط النفسي. ولقد عمدت إلى اختصار نص الوثيقة دون الإخلال بجوهرها، ونقلت الفقرات الهامة حرفياً راجياً ألا أتحمل وزر الأسلوب الركيك الذي صيغت به.

بدأت مرجعية السيد محمد الصدر بعد إشارة واضحة من النظام بالموافقة على هذا النشاط وتزعّم الحوزة رسمياً بإسناد واضح لمواضيع طرحتها هذه المرجعية مثل إقامة صلاة الجمعة في كل أنحاء العراق والتي صاحبها حديث مفاده أن هناك توافقاً بين حكومة الطاغوت والمرجع على إطلاق الحريات الدينية لدين بلا سياسة وتقوية نشاط الحوزة العلمية في النجف الأشرف، كل ذلك لصرف أذهان الناس بعيداً عن الصراعات السياسية بين النظام والشعب العراقي. ويبدو التناقض الواضح في سلوكية النظام الظالم حينما يفرض الإقامة الجبرية على المرجع الجليل سماحة السيستاني واغتيال آية الله البروجردي وآية الله الغروي بينما يطلق يد المرجعية المدعومة من قبله، مع أن السيد محمد الصدر بدأ ومنذ مدة ليست بالقصيرة بطرح نفسه رسمياً كولي أمر المسلمين.

يروج أنصار السيد محمد الصدر إشاعة بين عموم الشعب وقسم كبير من المجاهدين تقول بأنه الأصلح وهو يخطط لأمر مستقبلي يقوي به التيار الديني، وهو يريد تغيير النفوس قبل تغيير النظام، وأنه ثوري يخطط للحظة المناسبة ويريد أن يستغل ضعف النظام. وهناك من يتكلم بقناعة بأن السيد الصدر هو فعلا أعلم الأحياء بل وأعلم الأموات أيضا!

وتفيد الأوساط الموثوقة بأن الحوزة العلمية التابعة للسيد الصدر والمجازة رسميا من قبل الطاغوت، قد امتلأت بأعداد لا يُستهان بها من متدربي قوى الأمن الداخلي والمخابرات والأمن الخاص الذين أرسلوا للدراسة في هذه الحوزة وهم يجتازون المراحل بنجاح وكما تقتضي مأموريتهم. وأغلب مراجع النجف الأشرف لا يشجعون الطلبة المؤمنين على الإنتماء إلى حوزة السيد الصدر التي أعلنت تصديها وأعلميتها المطلقة بطريقة الفرض والإلزام، ويتجنبون في الوقت ذاته الصدام معها خوفاً من عواقب وخيمة محتملة قد تكون الحكومة الظالمة طرفاً مؤثراً فيها. ويبدو أن إصرار السيد محمد الصدر على تولية أمر المسلمين وادعاءاته العلمية واستقطابه لوكلاء تدور حولهم الشبهات، كل ذلك يصب في صالح النظام الدكتاتوري الذي وجد طريقة مثلى لإرساء قواعد دين بلا سياسة أولاً، والطريقة المثلى لمحاربة الدين بالدين نفسه ثانياً دون أن يجهد نفسه أو يظهر للعيان. ومن خلال استفتاءات الصدر بخصوص الأعلمية والمرجعية وولاية الأمر نلاحظ ما يلي :

أ – ادعاؤه بأنه الأعلم وهو يحاول ومريديه إثبات أعلميته بشتى الطرق.

ب – يفتي بأن تقليده واجب على الجميع وتقليد غيره ليس مجزياً وغير مبريء للذمة.

ج - إنه يشير إلى اتجاهات غير منصفة في المرجعية ويقصد المراجع العظام الذين لا يعترفون بأعلميته.

أما استفتاءات السيد محمد الصدر وفيما يخص صلاة الجمعة فنلاحظ فيها ما يلي :

أ – أن السيد محمد الصدر قد أوجب على المسلمين جميعاً الحضور لصلاة الجمعة بحكم كونه ولي أمر المسلمين.

ب – إن هذا الحكم وهذه الولاية غير معترف بهما من قبل فقهاء النجف الأشرف.

ج – إن هناك معلومات تؤكد بأن أغلب أئمة صلاة الجمعة المعينين من قبل السيد هم أشخاص غير موثوق بهم.

د – إن السيد الصدر يوحي للناس بأن له أعداء يشككون بوكلائه ويستخدم في هذا الشأن عبارات لا تليق بمرجع تقليد.

ه – حكم على كل إمام مسجد لا يحضر إلى صلاة الجمعة بالفسق وعدم جواز الصلاة خلفه.

و- إن صلاة من لا يحضر لصلاة الجمعة باطلة لأنها أمر من الولاية.

تساؤلات الناس سيما أوساط المجاهدين :

1- أليس من واجبات ولي أمر المسلمين عدم الركون للظلم والظالمين ونصرة المظلومين؟

2- ما موقفه الشرعي وهو يتعايش مع السلطة التي لطخت أيديها بدماء الأبرياء؟

3- هل هناك مبرر شرعي إلى دعوة الناس لعدم التدخل بالسياسة وتعطيل الجهاد ضد الحكم الظالم في العراق؟

تشخيص الظاهرة وتحليلها :

تخرج السيد محمد الصدر من كلية الفقه في منتدى النشر، ثم درس على يد الشهيد الصدر فكان من الطبقة الثالثة من طلابه وقد طلب منه الشهيد محمد باقر الصدر أن يحضر درس الإمام الخميني في النجف الأشرف فكان ضعيفاً نسبياً على مستوى التلقي. وهو إنسان ساذج وبسيط إلى حد كبير ويمكن التأثير عليه بتصوير الأشياء له بصورة مغايرة للواقع ومقلوبة أحيانا وهو انفعالي تسهل إثارته ويتسم بردود الفعل الحادة كما أنه سريع الإعتقاد بنفسه إلى درجة أنه يظن في نفسه العلم والقدرة والخبرة والدراية، وقد يتغير حاله فيتملكه الرعب والإضطراب. وهو مصاب بإحباط وخوف ملازمين له كونه سبق وأن اعتقله النظام بسبب علاقته بحزب الدعوة في أوائل السبعينات وفي حينها اعترف بكل شيء دون أن يتعرض للضرب بل مجرد الضغط النفسي الأمر الذي أصاب الشهيد محمد باقر الصدر في حينه بالإنهيار لعدم اطلاعه على انتمائه من ناحية والأضرار التي ألحقتها اعترافاته بطلاب الشهيد الصدر من ناحية أخرى، وكذلك اندفاعه في تأييد الإنتفاضة عند حدوثها وانقلابه عليها عند تراجعها مع خوفه الشديد من النظام. لقد قاطعت الحوزة العلمية محمد الصدر بكل رجالها من المراجع الفضلاء والطلاب النزيهين، ولذلك حدثت له مع رجال الحوزة مشادات ومشاكل لأنه حاول أن يفرض وجوده عليهم بالقوة وبتهديد العلماء والطلبة غير العراقيين بحرمانهم من الإقامة، واقتصر مؤيدوه على بعض المجهولين أو الصغار الذين لا علم لهم ولا فضل أو على العناصر التي دخلت الحوزة ضمن خطة النظام. ويتكون الجهاز الذي يحيط به من أولاده الذين يفتقدون للخبرة في الحياة بسبب العزلة التي أحاط بها نفسه طيلة حياته، وبعض أصهاره الشباب ومن بعض الطلبة المشبوهين. كما أثيرت الشبهات حول ارتباط أولاده بأجهزة الدولة سيما ولده مصطفى الذي له علاقة خاصة بروكان عبد الغفور التكريتي المكلف بمتابعة الحوزة العلمية من قبل صدام نفسه. لقد حاول النظام إقناع آية الله حسين بحر العلوم وآية الله محمد علي الحمامي وآية الله محمد سعيد الحكيم وآية الله محمد باقر الصدر وغيرهم بالتصدي للمرجعية بدل الإيرانيين ولكن هؤلاء العلماء رفضوا جميعاً هذا العرض باستثناء السيد محمد الصدر الذي وافق عليه إبان وجوده في المعتقل.

لقد قام النظام باتخاذ عدة خطوات لتثبيت مرجعية السيد محمد الصدر بعد وفاة الإمام الخوئي:

1- تسليمه السيد الصدر إدارة المدارس الدينية.

2- إعطاؤه حق منح إجازة دخول الحوزة العلمية للطلبة.

3- إعطاؤه حق منح إجازة الإقامة في العراق والحوزة للطلبة غير العراقيين.

4- تخصيص ميزانية شهرية له قال أنها مليوني دينار وذلك في حديث لمجلة الوسط بتاريخ 4-2- 1994.

5- حصر طبع الرسالة العلمية والتصدي للمرجعية العامة به دون سائر المراجع والعلماء.

6- نشر النظام إهداءه لرسالته العملية إلى صدام حسين في الصحافة الرسمية وردّ المكتب الصحفي لصدام على هذا الإهداء

8- تعيين المرافق الأقدم لصدام وهو روكان عبد الغفور التكريتي للتنسيق المركزي بين هذه المرجعية والقصر الجمهوري.

9- منع العلماء من طبع ونشر كتبهم وبياناتهم وتداولها والتوسع بطبع ونشر كتب وبيانات الصدر واستفتاءاته وكان آخرها فتواه بتحريم أكل "الصبور" وهو نوع من السمك!

10- السماح له باستخدام القوة للإستيلاء على المدارس بحجة الولاية، وفرض مراجعته في منزله لاستلام إجازة الإقامة والقبول بمرجعيته وولايته، وقد عطل السيد محمد الصدر تمديد الإقامات للمراجع والعلماء والطلبة عدة شهور، وقد هددهم النظام بالطرد حتى أذعنوا للأمر الواقع وسلموا للسيد الصدر بالقيادة والمراجعة لمنزله وإدارته.

11- سمح له النظام بأن يطرح علناً عنوان ولايته العامة على المسلمين، وسمح له بإقامة صلاة الجمعة وقام بتثبيتها وطمأنة الناس على رضاه عنها من خلال نشر أخبارها في الصحافة الرسمية سيما صحافة عديّ صدام حسين.

ولم يكن بين المصلين خلف السيد يوم الجمعة أحد من العلماء والنجفيين وإنما غلب عليهم الزوار من المحافظات المجاورة ولذلك تحامل الصدر في حديثه المسجل على شكل سؤال وجواب بعد الصلاة على العلماء وأهل النجف. وكان موقفه من قتل العالمين البروجردي والغروي متسما باللامبالاة وقال أنه يحتمل أن تكون الحكومة العراقية التي اغتالتهما ويحتمل أن تكون إيران ويحتمل أن يكون القاتل هو السيد محمد الصدر! ثم راح يلمح إلى احتمال أن يكون السيد السيستاني هو قاتل الشيخ الغروي وذلك بعد أن أعلنت الحكومة اعتقالها لعناصر متهمة بالجريمة وكانت مرتبطة سابقا بالسيد الصدر وقد ورد اسمه وولده والسيد جعفر نجل الشهيد محمد باقر الصدر في هذا الإتهام. وقد حاول السيد أن يفتح له مكتباً في مدينة قم ولكنه لم يوفق في إيجاد شخص واحد يتصدى لذلك، وبعد أن أرسل شخصا اسمه ستار الوائلي (أبو سيف) لهذا الغرض وفشل فقد أرسل السيد جعفر نجل الشهيد الصدر لهذه المهمة، وقد استقبل بحفاوة من قبل رئيس الجمهورية ومن السيد الخامنئي في مشهد ونصحه سماحته بالتحصيل العلمي، ولكنه أعلن فجأة عزمه على فتح مكتب للسيد محمد الصدر على خلاف رأي جميع المقربين له، وراح يقول أن والدي كان مخطئاً في الدخول في مواجهة مع النظام.

الموقف المطلوب :

ينفذ النظام مخططا رهيباً ويتعاون معه بوعي أو بدون وعي السيد محمد الصدر، ولا يجوز الإرتباط بمرجعية الصدر بالتقليد لأنه من الناحية العلمية فضلا عن غيرها غير مؤهل، ولأنه على أفضل الأحوال مجتهد متجزيء وليس مجتهداً مطلقاً حتى يصح تقليده، كما لايصح قبول ولايته إذ لا تتوفر فيه شروط الإجتهاد المطلوبة ولا حسن الدراية لسذاجته ولا التجربة لعزلته الإجتماعية الطويلة كما أنه يفتقد للشجاعة المطلوبة. ويجب توضيح الحقائق المذكورة في هذه الدراسة للكادر المثقف والجهادي، والحذر من العلماء والمبلغين وخطباء الجمعة ممن يرسلهم السيد الصدر وعدم الثقة بهم، والعمل على عدم إعطاء فرصة الإعتراف بهذه المرجعية المفتعلة لا سيما من قبل الجمهورية الإسلامية أو الحوزة العلمية.

في ظني أن هذه الوثيقة تكشف حقيقة العلاقة التي تحكم المجلس الأعلى بالصدريين ونظرة المجلس إليهم والتي تتسم بالإحتقار والإستعلاء والتشكيك بافتقاد محمد صادق الصدر لكل ما يجب أن تنطوي عليه سريرة رجل الدين من خلق وسماحة وعلم. وأمام مثل هذه العلاقة المشحونة بسوء الظن لا يمكن فلسفة التحالف القائم اليوم بين التيار الصدري والمجلس الأعلى بغير تورطهما في خطيئة وضع المبدأ والعقيدة في خدمة السياسة، وليس وضع السياسة في خدمة المبدأ كما يتشدق منظرو الإسلام السياسي.

وسوم: العدد 630