مقاتلون في سبيل الله، لجيمس ريستون (الابن)

تعد الحملات الصليبية ضمن طليعة المشروعات الاستعمارية الأوروبية ، حيث تلتها مرحلة الاستعمار الحديث ، وولدت من رحمها التجربة الصهيونية ذات الأهداف الاستيطانية .

وكانت هذه الحملات صداماً عسكرياً ومواجهة حضارية بين المشرق العربي الإسلامي والغربي الأوروبي الكاثوليكي ، بدأت أحداثها عام 1095م واستمرت على مدى أكثر من قرنين ، في وقت كانت الحضارة العربية الإسلامية قد بلغت أقصى مراحل نضجها وتطورها ، مما أوجب على العالم العربي حشد كل طاقاته وإمكاناته البشرية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية ، والثقافية لخوض هذه الحرب التي كانت بمثابة حياة أو موت . وعلى الرغم من هذا كله فإن العالم العربي لم يكن قد تدهورت أحواله ، إذ كان المستقبل لا يزال يحتفظ للحضارة العربية الإسلامية ببعض من أهم إنجازاتها .

وحينما يصدر كتاب جديد يتناول الحروب الصليبية ، فإنه على الفور نجد العديد من التساؤلات التي تفرض نفسها دون سابق إنذار ، ويأتي في مقدمتها : ما هي إلإضافة التي يمكن أن يقدمها هذا الكتاب ؟ وما هي الأحداث أو المواقف التي أدت إلى قراءة أحداث مضت عليها قرون ؟.. وهل يعد من قبيل المصادفة أن تتطابق أحداث الماضي البعيد مع الحاضر الذي نعيش أحداثه الآن ؟ كذلك يُعد أغلب ما كُتب عن الحروب الصليبية لا تتوافر له الشروط العلمية الدقيقة للتأليف العلمي ، حيث صدرت أغلبها في مناخ غلبت فيه الأهواء ، إذن لابد من إصدارات جديدة لتصويب القديم ، ولإضاءة بعض الجوانب المظلمة في تاريخ هذه الفترة .

وهذا الكتاب (مقاتلون في سبيل الله : صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد والحملة الصليبية الثالثة) تأليف : جيمس ريستون (الابن) ترجمه إلى العربية رضوان السيد أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية ، صدر عن دار العبيكان السعودية في (527) صفحة من القطع الكبير ، قد يكون صدوره تعبيراً عن رغبة في (الحوار بين الثقافات) بدلاً من دعوة (الصراع بين الحضارات) ، أو يقتصر الأمر في النهاية على إضافة مؤلفه لنخبة المثقفين الغربيين ذوي العقلية الموضوعية في نظرتهم إلى الآخرين ، خاصة وأن صدور هذا الكتاب جاء قبل شهور قليلة من حادث الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك وما أدت إليه لغة الإعلام الأمريكي بشكل خاص وزلات اللسان وهفوات عدد من السياسيين والمثقفين الغربيين عقب الأحداث مباشرة ، من إعادة الحديث عن العداء التاريخي في الغرب للعالم الإسلامي ، بالإضافة إلى استمرار الوعي البائس في الأحكام والصور المشوهة التي تعود إلى العصور الوسطى عن العرب المسلمين ورمز الإسلام الأول النبي صلى الله عليه وسلم .

ويُعد مؤلفه من المؤلعين بقراءة تاريخ العصور الوسطى والنهضة الأوروبية ، واشتهر من قبل بكتابه (جاليلو ـ سيرة حياة) ، (الملحمة الأخيرة) ، بالإضافة إلى نشر العديد من المقالات في الصحف والدوريات الغربية والأمريكية ، وكتابه (مقاتلون في سبيل الله) دعوة إلى رسم تصادم الحروب الصليبية والجهاد الإسلامي في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي ، من خلال عرض السيرة الذاتية لشخصية ريتشارد قلب الأسد (1157 ـ 1199م) ، وصلاح الدين الأيوبي (1137 ـ 1193م) البطل النموذجي لدى عالمنا الإسلامي ، حيث يُعيد المؤلف رواية حياة كل من الرجلين ، ويكشف عن روح تلك الأزمنة والتي نصبتها وجهاً لوجه في الحروب الصليبية الثالثة ، التي امتدت بين الأعوام (1187 ـ 1192م) وكانت أكبر تجمع عسكري عرفته العصور الوسطى ، وقد أوصلت هذه الحملة نيران الصراع الديني المسيحي والإسلامي إلى ذروته ، ويظهر (المؤلف) ريتشارد قلب الأسد بوصفه نموذجاً رزمانسياً للفروسية بكامل شخصيته المعقدة والحافلة بالتناقضات ، والتي يكشف عن جانبها المظلم باعتباره قائد الحروب الصليبية الدموية والمبتلى في الوقت نفسه بالجنسية المثلية .

أما صلاح الدين الأيوبي فإن (المؤلف) يكشف عن حياة رجل حكيم مازال حتى اليوم نموذجاً للبطولة في جميع أنحاء العالم الإسلامي ، فهو الذي وحد العرب وقهر الصليبيين ، وأعاد القدس وقذف بالغزاة الأوروبيين خارج الأراضي العربية .. وفي كفاح العرب المعاصرين من أجل عروبة فلسطين ، يظل صلاح الدين رمزاً للأمل والتفاؤل ، ومثالاً يتجاوز حدود الأسطورة ، وكأنه مازال على قيد الحياة ، حيث يتحدث عنه المسلمون في القاهرة ، دمشق ، مكة ، عمان ، ....ألخ بضمير الحاضر ، وعلى منابر المساجد يكرر خطباء الجمعة دعاءهم إلى الله أن يجيء رجل مثله يحرر القدس مرة أخرى .

توزعت مادة الكتاب على قسمين : الأول يحمل عنوان " الإهانة " ويتكون من سبعة عشر فصلاً ، عناوينها جاءت على النحو التالي : ولادة سلطان ، مملكة السماء ، الزناد والشرارة ، الأمير ريتشارد ، الجهاد ، كانت أسودهم مناجذ ، المياه الساكنة ، عُشاق وملوك ، العروس والجمل ، الرحمن الرحيم ، بيت داود ، وثنيون في ميراثك ، موعد في فيزيلي ، الأشرعة الحمراء ، رسائل من الأرض الموعودة ، زيارات في صقلية ، فاكهة افروديت .

وجاء عنوان القسم الثاني من الكتاب بـ (المبارزة) وينقسم إلى ستة عشر فصلاً هي : الاختبار المقدس ، لا تضيعوا الأجر ، الوطن ، النار تحت الرماد ، سهل شارون ، اليوم الرابع عشر من شعبان المعظم ، ذعر واهتياج وسط أشجار الرمان ، لهب مقدس وشيطاني ، الخنجر على الوسادة ، حكاية الأعشاب الضارة ، بلاد شمشون ، شجرة الخليل الجافة ، الكبش يتأخر لينطح ، لنتصافح ، الخيط الرفيع ، النصر الأخير ، ليس بالأوراق والبراعم بل بالثمار .

(ما أشبه الليلة بالبارحة) عبارة تمثل لسان حال القارئ حين الانتهاء من قراءة الكتاب بفصوله الثلاثة والثلاثين ، حيث يجد نفسه يعقد المقارنة بين أهداف الصليبيين وادعاءاتهم ومناوراتهم في القرن الثاني عشر الميلادي ، وأهداف الصهاينة وادعاءاتهم ومناوراتهم في القرنين التاسع عشر والعشرين ، وهلم جراً إلى القرن الحادي والعشرين ، فالصليبيون جاؤوا ترويجاً لمقولة تطهير أرض المسيح واسترداد قدسيتها ، بحيث كان لقادتها إيمانهم الراسخ بأنهم يحاربون من أجل مجد الله وإعلاء لكلمته في وجه المسلمين من وجهة نظرهم ، اليهود يقتلون الفلسطينيين لتثبيت أركان دولتهم في أرض الميعاد ، وبغض النظر عن تلك الادعاءات سواء من الصليبيين أو من الصهاينة ، إلا أنها في النهاية تعكس اقتناعهم صدقاً أو كذباً بأنهم يحاربون في سبيل الله .

أيضاً يمكننا القول إن جيمس ريستون استطاع أن يكشف أعماق العلاقة المتأصلة بين المشروع الصهيوني المعاصر في فلسطين ، وبين المشروع الصليبي الفاشل القديم ، والذي بدأ ينهزم في نهاية المواجهة الدامية بين ريتشارد بكل وحشيته وقسوته البالغة ودمويته وفسوقه (يمثله شارون والطغمة الصهيونية الآن) ، وبين حكمة صلاح الدين الأيوبي وورعه وتقواه الحقيقيين (وما أحوجنا إلى قدوة مثله) وترفعه عن ارتكاب ما تغري به الحرب من بشاعات وتعففه عن الولوغ في الدم وميله إلى إقامة السلام على أسس العدل وشرف الشجعان .

ما سبق يمثل رسالة يريد أن ينقلها (ريستون) إلى عصرنا الحالي بأحداثه ، وهو لم يتبع في كتابه السرد التاريخي المتسلسل ليوميات الحملة الصليبية وقادتها ، بل اصطحب القارئ في رحلة موزعة على ثلاثة اتجاهات متوازية للأحداث : الاتجاه الأول للملك ريتشارد ، الثاني لصلاح الدين الأيوبي ، والثالث يقدم صورة للتطورات السياسية والمؤامرات التي كانت تدبر في أوروبا ، خاصة في الدول التي قدمت كافة المساهمة في إنجاح الحملة الصليبية الثالثة .

وعلى حد قول المؤلف إن نزاع العمالقة (صلاح الدين الأيوبي وريتشارد) ما تزال أصداؤه تتردد في جنبات التاريخ الحديث ، والسياسات المعاصرة في منطقة الشرق الأوسط ، بل إن معناه يبدو أوسع وأعمق ، حيث تبدو في كل مكان الصراعات بين المسلمين والمسيحيين حيثما كان ذلك على مدى العالم ، من البوسنة إلى كوسوفو والشيشان ولبنان وماليزيا وإندونيسيا .

أيضاً يضيف المؤلف أن رمزيات الحرب الصليبية الثالثة ما تزال تؤدي دوراً في السياسات الحديثة ، يأتي ذلك حين دخل الجنرال أدموند اللنبى المدينة المقدسة في 11 ديسمبر عام 1917م من باب يافا ليتقبل استسلام الأتراك الذين تركوا وراءهم 400 سنة من الحكم ، وقد تحدثت الصحف كثيراً عن ذاك الدخول باعتباره الحرب الصليبية الأخيرة .

ومن خلال فصول الكتاب قام (ريستون) بصياغة رائعة لمعالم المواجهة الهائلة التي أوصلت الجيشين المسلم والصليبي إلى الضواحي الخارجية للقدس وأسوارها ، حيث أدت تكتيكات صلاح الدين الماهرة التي قابلها فشل من جانب ريتشارد في الحفاظ على أعصابه إلى تغييرات في مصائر المعركة وإن تباينت غايتها ، وكذلك لم تتماثل في نيلها ، ويبدو ذلك لنا من سرد المؤلف لشخصية " دوبويون " أشهر شخصية صليبية استخدمت الدين لتحقيق مكاسب سياسية ، فقد كان يزعم أن ضربة واحدة من سيفه كفيلة بقتل مئات المسلمين واليهود ، فسيفه صنع من نيزك سقط من السماء ، ولكن هذا (السفاح المحترم) قام الصليبيون طوال يومين كاملين بعد سقوط القدس بتعليمات منه بذبح كل من تقع عيونهم عليه وليس منهم ، وكانت جثث القتلى من المسلمين مشقوقة ، لما شاع أن المسلمين كانوا يخفون ذهباً في أجسادهم ، وبلغت أعداد المذبوحين في المدينة نحو 40 ألفاً من الرجال والنساء والأطفال ، كما تحولت كنيسة القيامة إلى بركة من الدم ، وبعد القتل نهبوا مسجد عمر بن الخطاب ودمروا قبر إبراهيم عليه السلام وحولوا المسجد الأقصى إلى مقر إداري وإسطبل لخيل فرسانهم ، وتحول محراب الجامع إلى استراحة ومكان للبول والغائط .

كما يضيف المؤلف في سرده لبعض الأحداث التاريخية التي صنعتها الحروب الصليبية ، قيام ريتشارد قلب الأسد بقتل 2700 من أسرى صلاح الدين الأيوبي قبل وصول المفاوضات بينهما إلى حل نهائي ، حيث سيق هؤلاء إلى خارج المدينة على طريق الناصرة ، حيث نظموا في صف منبسط بين موقع الجيش المسيحي الأمامي عل تل العياضية وموقع الجيش المسلم الأمامي على تل كيسان ، ثم قتلهم واحداً تلو الآخر ، ولكن يعود المؤلف ويعترف بمدى نبل صلاح الدين الأيوبي والمتمثل في ردود أفعاله تجاه ما سبق سرده من أعمال نهب وذبح للمسلمين في المدينة المقدسة ، حيث أراد بعض مستشاري صلاح الدين الأيوبي تخريب كنيسة القيامة وهدم قبتها ونبش قبورهم حتى لا يعود الصليبيون مرة أخرى لاحتلال القدس من جديد ، حيث تضيع حجتهم ، ولكن صلاح الدين يرفض ذلك تبعاً لرأيه أن المسلم الصالح هو الذي يحترم الديانات الأخرى وأماكنها المقدسة .

ويمضي المؤلف في عرض مواقف صلاح الدين النبيلة ، ذلك أنه عندما سقط ريتشارد قلب الأسد عن صهوة جواده خلال المعركة كان من السهل على أي فارس على ظهر جواده أن يقتله ، إلا أن صلاح الدين الذي كان على مقربة ، متابعاً ، للمشهد لم يستسغ ذلك وطلب من أخيه العادل أن يذهب إليه ويقدم له حصانين عربيين ، مبلغاً إياه أنه (أي صلاح الدين) لا يليق برجل في مستواه العظيم (ريتشارد) أن يقف مترجلاً ظروف كهذه ، ولم يكن رد فعل (ريتشارد) سوى الاستمرار في قتل من حوله من الجنود المسلمين .

وتجدر الإشارة إلى أن جيمس ريستون مؤلف الكتاب قد أجاد في طريقه عرضه للصراع الصليبي / الإسلامي ، إلا أنه توجد تناقضات في التشبيه المرتبط بالقتال في سبيل الله بين المسيحيين (الصليبيين) والمسلمين ، إلا أن ذلك ينقض تماماً بشهادته بقوله : فإن من سخرية التاريخ أن تبعث كلمة " الجهاد " الرعب في قلوب بعض الغربيين وحكوماتهم ، لأنهم يربطون الجهاد بالإرهاب والتعصب الإسلامي ، والحق أنه لا شيء في التاريخ الإسلامي يضاهي إرهاب الصليبيين أو التعصب المسيحي في القرن الثاني عشر الميلادي .

وسوم: العدد 652