الشعر العربي في عصر الدول المتتابعة الفصل الثالث

الفصل الثالث

الرثاء في شعر الدول المتتابعة

الفصل الثالث

الرثاء في شعر الدول المتتابعة

تاهت عقول الورى من هول مصيبته، وتقطعت نياط قلوبهم، وتقرحت أجفانهم… أحسوا عند وقع الخطب أن الدنيا تدور حولهم، كيف لا، وهم يفقدون أعزة أحبة فقداً لا عودة بعده، وينعون فرداً عزيزاً، أو دولة منكوبة، أو ديناً مهاجماً، أو عرضاً مستباحاً.

الرثاء وإن كان فناً قديماً قدم الحياة البشرية، وقدم الأدب العربي إلا أنه هو هو: بكاء وأحزان، وتعداد لمآثر المتوفى، وقد يذكر سبب الوفاة، وقد يتعظ الشاعر بالأمم المنكوبة، وينهي مرثيته بالدعاء للمتوفى… ومع ذلك فقد دخله في هذا العصر تجديد في مضمونه، وتجديد في منهجه، بل في موسيقاه أيضاً إذ صرنا نرى موشحات رثائية.

ولعل أهم موضوعات الرثاء هي  الرثاء الرسمي ويكون للخلفاء والقواد والمسؤولين، ورثاء النفس، ورثاء الأهل، ورثاء الصحاب والعلماء،و رثاء المدن المنكوبة والممالك الزائلة.

وسأدرس هذه الأنواع، ثم أنتقل إلى ما استجد في هذا العصر في هذا الفن الشعري، ثم أبين سمات هذا اللون الشعري .

أولاً- أنــواع الرثـاء : 

1- الرثاء الرسمي:

وهو أكثر موضوعات الرثاء تقليداً للشعر القديم، وتبيانا لنهج القصيدة الرثائية ، فالشاعر إزاء وقع المصاب يذرف الدمع، ثم يتحدث عن سبب الوفاة، كما يؤبن الميت الراحل ويدعو له، على غرار ما فعل القدامى مع أمواتهم.

فالشاعر أبو السعود أفندي([1]) استهل مرثيته للسلطان سليمان القانوني بتبيان دهشته من نبأ وفاته، إذ أحس كأن صاعقة انقضت عليه، أو كانْ قد نفخ في الصور، ومادت به الأرض، ولهذا وصف الخطب بأنه داهية دهياء، وما ذلك إلا للمكانة التي يتمتع بها السلطان في قلوب رعيته، يقول في ذلك:

فالأرضُ قد قُلِبَتْ من نقرِ ناقورِ

 

أَصَوْتُ صاعقةٍ أمْ نفخةُ الصُّورِ

وذاقَ منها البرايا صعقةَ الصُّوْر

 

أصابَ منها الورى دهياءَ داهيةٍ

فأصبحوا مثل مخمور ومسكور

 

تاهت عقول الورى من هول وحشته

مَضَتْ أوامرُه في كلِّ مأمور

 

أم ذاك نعيُ سليمانَ الزمانِ ومَنْ

والشاعر هنا وإن كان يبالغ إلا أن المصيبة كانت جلى، فالسلطان سليمان القانوني كان مجاهداً في سبيل الله، وقد بلغت دولته أقصى المغرب حتى إن ملكة بريطانيا استنجدت به إبان خلافاتها مع فرنسا، كما استنجد به سلطان المغرب «مراكش» وأعلن كل منهما ولاءه له إبان حروبه، وقد وصفه الشاعر بأنه ملأ الدنيا هيبة، وسخر له الجبابرة، حتى صارت دولته مركز دول العالم، وصار اسمه خليفة للمسلمين يذكر في كل مكان، وكان إلى ذلك يتمتع بالخلق الرفيع فضلاً عن خيراته وجهاده، يقول الشاعر في ذلك متابعاً ما بدأ به:

وسَخَّرَتْ كلَّ جبارٍ وقَيْهور([2])

 

حقاً ومَنْ ملأ الدنيا مهابَتُه

خليفةِ الله في الآفاق مذكورِ

 

مدارِ سلطنةِ الدنيا ومركزها

في العالمين بسعيٍ منه مشكورِ

 

معلي معالمَ دينِ اللهِ مُظْهرها

مُؤيَّدٍ من جنانِ القدس منصور

 

مجاهدٍ في سبيل اللهِ مجتهدٍ

ومشرفي على الكفار مشهورِ([3])

 

بَلَهْذَمِيٍّ إلى الأعداءِ منعطفٍ

والشاعر بعد ذلك يبدي اتعاظه من هذا الخطب الأليم، فكل من على ظهر المعمورة فان، والموت حق، ولن يؤخر إذا جاء، والقدر يتحكم بالمرء، وعلى المرء أن يرضى بقضاء الله سبحانه، وأن يصبر، ولئن فقد الميت فإن الله سيرحمه في جنته الواسعة لخلاله الحميدة، ولجهاده في سبيله، ولاسيما أنه مات شهيداً مرابطاً في الثغور، خائضاً غمرات الحروب ، ولقد أقحم نفسه في هذه المهالك وهو يبتغي وجه الله سبحانه، وأكرم به من ربح عظيم. يقول في ذلك:

فأنتِ منظومةٌ في سِلْكِ مَقدورِ

 

يا نفسُ فاتَّئِدي لا تَهْلكي أسىً

حيٌّ بنصٍّ من القرآن مزبور

 

ولا تظنّيه قد مات بل هو ذا

معاركَ الحتفِ بالرضوانِ مأجورِ

 

مُرابطٍ في سبيل اللهِ مُقتحِمٍ

عقبى فأعظمْ برِبحٍ غيرِ محصور

 

ابتاع سلطنةَ الدنيا بسلطنةِ الـ

و قبيل الختام ينتقل الشاعر إلى تهنئة السلطان الجديد ،ابنه سليم الثاني الذي تسنم ذروة المملكة بعد وفاة المرثي، وهذا أمر متبع معروف حينما تقدم التعزية إلى ملك ابن الملك المتوفى، وقد أحسن فيه التخلص إلى التهنئة ثم دعا في آخر المطاف للملك الجديد عل الله سبحانه يرعاه بعينه التي لا تنام حتى يدوم العدل ، إلى يوم الدين، يقول :

سِرٍّ سَرِيٍّ له في الدهرِ مشهورِ

 

أما ترى ملكَهُ المَحْمِيَّ آلَ إلى

براً وبحراً بعينِ اللطفِ منظور

 

وليِّ سلطنةِ الآفاقِ مالِكها

بين البريةِ حتَى نفخةِ الصورِ([4])

 

لا زال أحكامُه بالعدلِ جاريةً

وقد يدعو الشاعر في بعض المراثي لنفسه، ويروح يتضرع إلى بارئه علّه يعفو عنه في الدار الآخرة، وكأن ذكر الموت جعله رقيق المشاعر، صافي القلب تائباً إلى ربه، وهذا ما عبر عنه الشاعر العشري بقوله:

وموعدِه ما للبرية لاهيةْ

 

كأنا بوعدِ اللهِ لا شكَّ واقعٌ

فكنْ غافراً لي زلّتِي وخَطائِيَةْ

 

فيا رَبِّ باللهِ عفواً ورحمةً

ومن هذه الدنيا إلى الحشرِ زاهِيةْ([5])

 

ألا واجعلِ التقوى إمامي وقائِدي

وقد يؤرخ الشاعر الحدث الجلل في مرثيته كما فعل الشاعر «محمد أفندي الهلالي» حين رثى «عبد القادر الجزائري» فقال في ختام التعزية فيه:

دعاه بجنات البقا رجب الفرد)([6])

 

وسار إلى المأوى بتاريخه (وقد

2- رثـاء النفس:

وهو رثاء ليس بالجديد في أدبنا العربي، فمنذ أن نفث «عبد يغوث الحارثي»([7]) آهاته متحسراً على نفسه راثياً لها، وتبعه في ذلك مالك بن الريب، نرى الشعراء يطلقون لحناجرهم العنان لتعبر عن أشجانهم على فراق الدنيا والأهل وزوال السلطان.

فهذا الشاعر «إبراهيم الرباط» يرثي نفسه ويبين فضائله فالناس طراً حتى الحسدة منهم سيعرفون نبله، وسيبكون شمائله، ولاسيما نصرته للمظلومين ووفاؤه، يقول :

ومَنْ ذا الذي يبقى على الحَدَثانِ

 

نعم إنني عما قريبٍ لميِّتٌ

فتنطقَ من مَدْحي بأيِّ معانِ

 

فلا حَسَدٌ يبقى لديكَ ولا قِلًى

فمَدْمَعُهُمْ لي دائمُ الهَمَلان

 

ويُمسي رجالٌ قد تَهَدَّمَ رُكنُهم

بتشتِيْتِ شَمْلي فالوفاءُ رَثاني

 

فإنْ يَرْثِني مَنْ كُنْتُ أجمعُ شَمْلَه

به هِمَمي عن شائِنٍ وبكاني([8])

 

وإلا نَعاني كلُّ خَلْقٍ ترفَّعَتْ

وللشاعر حسين الوفائي([9]) بيتان يرثي فيهما نفسه، قالهما قبل وفاته بأيام قليلة، وهما:

أحافظُ لذاتي بها وأصونُ

 

إذا عشْتُ عمرَ النَّسْرِ في ظلِّ راحةٍ

وأعلمَ حالَ الموتِ كيف يكونُ

 

فلا بدَّ لي يوماً أسكُنَ الثرى

وفيهما يبين أن الموت حق لابد منه، إذ يذوقه كل امرئ، فيفترش الأرض ويفقد لذاته التي كان يسعى إليها طوال حياته.

3- رثـاء الأهل:

الفجيعة في الأهل مريرة أليمة، وأقساها حينما يكون المتوفى أماً حنوناً أو بنتاً عطوفاً، وحينذاك يحس الشاعر أن الفاجعة أقوى من أن يحتملها جسده كيف لا، والأم أشفق مخلوق في حياة الإنسان فهي تسهر الليالي إن أصاب ابنها مكروه أو بعد عنها في غربة، وهو لا يستطيع أن يؤديها حقها مهما فعل.

وقد عبر الشاعر العشري عن هذا المعنى وبين فضل أمه كذلك، فهي عابدة زاهدة، منعمة على الأرامل اليتامى والضعفاء ، ولهذا فهو يدعو لها أن يرحمها الله فيسقي قبرها وابلاً غزيراً، كما يرجو مولاه أن يلهم أخويه الصبر والسلوان ويغدق عليه من مغفرته ورضوانه، ويختم بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم ، يقول في ذلك:

وليس لفقدِ الأمِّ صبرٌ ولا جلْدُ

 

تنوبُ خطوبُ الدهرِ وهي فجيعةٌ

عليّ الرزايا الهمُّ والحزنُ والفقدُ

 

عشيةَ واراها الترابَ تكاثفَتْ

علي، ولا خِدْنٌ نَصيْحٌ ولا وُدُّ

 

فلا بعدها في العالمين مُشافِقٌ

علي لها من بعدِ مولى الورى الحمدُ

 

فلسْتُ أؤدّيْ عِشْرَ مِعْشار حقِّها

بها شيمةٌ من زهدِها الجدُّ والجَهْدُ

 

من الراكعاتِ الساجداتِ لربِّها

زمانٌ، وللأيتامِ والضُّعَفا وِرْد

 

وكانت غياثاً للأراملِ إن عَدا

هَتوفاً جرى من كل ساريةٍ تغدو

 

سقى قبرَها الوسميُّ صُبْحاً ومَوْهِناً

فللحُرِّ عزمٌ ما يقاومُه الصَّلْدُ([10])

 

فيا جاعدٌ صبراً، ويا ناصرٌ عزا

ووالدتي إنا على بابِك الوفد

 

فغفرانك اللهم بي ثم والدي

لِبانِ الحِمى مولاكُمُ الواحدُ الفردُ([11])

 

وصلِّ على المختارِ ما رَنَّح الصَّبا

ومن الشعراء من رثى ابنته، فإسماعيل المقرئ يبكي فلذة كبده لما تتمتع به من حياء ويشيد بحجابها وبإرضائها لزوجها فيقول:

أُمَنّي به الباكينَ يومَ انتوائِها

 

تولَّتْ فما مِنْ مَطْمَعٍ في لقائِها

من العارِ صانَتْ حوزتَيْ أوليائِها([12])

 

فمَنْ صانَ أنثى خوفَ عارٍ فهذه

4- رثاء الأصحاب والعلماء:

   ورثاء الصحاب أليم، وكذلك العلماء، وكم من عالم فقده يقض المضاجع، ويفقد الأمة علمه، ومن هؤلاء أحمد بن حسن التميمي([13]) الذي توفي في طاعون مصر، فرثاه شعبان الدنوشري([14]) في قصيدة بدأها بالحديث عن الفاجعة الأليمة التي أحس بها فكأن الدنيا قد أظلمت في وجهه فصار صباحه ومساؤه سواء، بعدما استشهد هذا العالم الفاضل  بالطاعون ، وقد عزّ على والده والناس فقده، وأن يوسد الثرى بعد الغنى ، ولو كان يفدى لافتداه الشاعر بالمال أو بما هو أغلى، يقول :

وعزَّ لعُظْم الخطبِ فيك عَزائي

 

بكيْتُك حتى لاتَ حينَ بُكائي

ضياءُ صباحي في ظلامِ مسائي

 

وأظلَمَتِ الأيامُ بعدَك واختفى

إلى الجنةِ الفَيْحا مع الشهداء

 

هنيّاً شهيدَ الطعنِ أحمدَ من مضى

حليفَ الأسى والوجدِ والبرحاءِ

 

سلبْتَ أباكَ الصبرَ عنك فقد غَدا

أديمَ الثرى بالقَفْرِ بعد ثراء

 

يعزُّ عليه أن يراك مُوَسَّداً

بأكرمِ مالٍ أو أعز فداء([15])

 

فلو كان يُفدي الحيُّ مَيْتاً فديتُهُ

ويروح الشاعر بعد ذلك يذكر جنازته، وكيف أن الملائك كانت تحيطها لفضله، ثم يعود ثانية إلى البكاء على عالم افتقدته كتبه وكان راجح العقل، واسع الصدر، يقول :

سُروراً له أبوابُ كل سماءِ

 

ولما علا فوقَ الرقابِ وفُتِّحَتْ

لقاهُ اشتياقاً أنفسُ الشهداء

 

وصار مع الأبرارِ وابتدرَتْ إلى

عيونُهم من دمعِها بدماء

 

ولكن بكاهُ الناسُ حتى تكحَّلَتْ

على فقدِه مكفوفَةٌ بعَماء

 

وناحَتْ عليه كُتْبُهُ فعُيونُها

بعيدٌ عن الأصحابِ والقُرَباءِ

 

فيا غائباً لا تُرْتجى منه أَوْبَةٌ

عقودَ عزاءٍ لا عقودَ هناءِ

 

نظمْتُ المراثي فيك من حرِّ أدمعي

ثم يدعو أهله إلى الصبر وينعى على الدنيا تفريقها للبشرية، ويسلم أمره أخيراً إلى قضاء الله وقدره، ويدعو العلماء والصلحاء أن يدعوا الله سبحانه علّه يكشف البلاء :

تصبَّرْ فهذا راحةُ العُقلاءِ

 

فيا حَسَن الأفعالِ والذاتِ والثَّنا

تجمَّعَ من أهلٍ ومن قُرَباء

 

ومن شِيَم الأيامِ تفريقُ كلِّ ما

ولا بؤسُها إلا بطولِ عَناء

 

فتباً لدنيا لا يدومُ نعيمُها

لضاقَ بنا واستَدَّ كلُّ فضاء

 

ولولا قضاءُ الله فيما نرى له

وأنجابَه جودوا بكَشْف بلاءِ

 

ويا علماءَ العصرِ يا صلحاءَ ه

تجودُ بها يا أرحمَ الرحماءِ

 

عسى عطفةٌ من ربِنا وعطيةٌ

   وقد تمتزج مراثي العلماء بالحكمة والموعظة الحسنة، فتكون القصيدة ذكرى وعبرة. ومن هذا القبيل قول الشاعر"محمد الأمين المحبي"([16]) في رثاء أحد علماء دمشق:

غيرُ وجهِ المُهَيْمنِ الرحمنِ

 

كل حيٍّ على البسيطةِ فانٍ

سريانَ الأرواحِ في الأبدانِ

 

وشرابُ المَنونِ في الناس يَسْري

لم تُعِقُهُ عَلائقُ الجثمان

 

إنّ في الموتِ عبرةً لِلَبِيْبٍ

وجزاءُ الإحسانِ بالإحسانِ([17])

 

كلُّ نفسٍ تجزى بما قَدَّمَتْه

فالشاعر هنا لا يبكي ولا يشتكي في مرثيته، وإنما يقدم لنا فيها حكمه في الحياة، فكل حي إلى فناء إلا المولى تعالى، والموت عبرة للعاقل يذكره بربه، أما من يفضل اللذة على الآخرة فإنه يدفع أمواله وجهده ليحصل على جهنم، وما أسوأها من خسارة ، ولذلك فما على المرء إلا أن يتوب، وكلٌّ سيحاسب، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

  وفي هذا العصر بات النساء يعزين العلماء الذين فقدوا أحبتهم، فالشاعرة «فاطمة الحنفي» عزّت شمس الدين السخاوي في أخويه، وأثنت عليه خلال ذلك فقالت:

فأوصافُ مَعْناهم عن الحُسْنِ جلَّتِ

 

قِفا واسمَعا مني حديثَ أحبّتي

وأبصرتِ الأشياءَ من غيرِ نَبْأةِ

 

أناسٌ أطاعوا اللهَ نارَتْ قلوبُهم

من اللهِ مولاهُمْ بأعظمِ مِنَّةِ

 

تجمَّعَتِ الخيراتُ فيهم وقد حُبُوا

بفضلٍ وجودٍ شهرةٌ أيُّ شهرةِ([18])

 

هو العالمُ الحَبْرُ الإمامُ الذي له

فالشاعرة تستوقف صاحبين على غرار استيقاف الشعراء على الأطلال، ثم تنتقل من تأبين أخوي السخاوي إلى تقريظه، ولعله كان أستاذها ومربيها .

5- رثاء المدن المنكوبة والممالك الزائلة:

جرت في عصر الدول المتتابعة حوادث جسام، إذ سقطت بغداد في أيدي التتر المغول، ثم كانت هجمة تيمورلنك على العالم الإسلامي، وكانت هاتان النكبتان من أقسى ما مرّ على الأمة الإسلامية، ثم كانت الحروب الصليبية، والثورات الداخلية، وكان من أكبرها الثورة الوهابية التي أقضت مضجع الدولة، وكان لسقوط «الدرعية» أثره الكبير في نفوس الوهابيين، ثم سقطت دول البلقان واحدة تلو الأخرى. فضلاً عن النكبات غير السياسية كتصدع البيت الحرام بسيل حراء والزلازل التي أصابت شمالي سوريا

وقد تركت هذه الآثار بصماتها في أدبنا، وسطرها الشعراء بأحرف سوداوية فالشاعر «تقي الدين بن أبي اليسر» تحدث عن نكبة بغداد على أيدي المغول فبكى تلك الديار وندب الخلافة التي انهارت، وحكى جرائم العدو التي تمثلت في تعاون التتر مع الصليبيين وسبي النساء ونهب الأموال وتقتيل الرجال، وتضرع إلى خالقه في نهاية مرثيته، فإنه يعلم ما جرى في العالم الإسلامي على أيدي الظلمة الفجرة، يقول في ذلك:

فما وقوفُك والأحبابُ قد ساروا

 

لسائلِ الدمعِ عن بغدادَ إِخبارُ

فما بذاك الحِمى والدارِ ديَّار

 

يا زائرين إلى الزَوْراءِ لا تَفِدُوا

بهِ المَعالمُ قد عَفّاهُ إِقْفارُ

 

تاجُ الخلافةِ والرَّبْعُ الذي شَرُفَتْ

وللدموعِ على الآثارِ آثار

 

أضحى لعَصْفِ البِلا في رَبْعِهِ أَثَرٌ

وقامَ بالأمرِ مَنْ يحويه زُنّار([19])

 

علا الصليبُ على أعلى منابِرها

من النِّهابِ وقد حازَتْهُ كُفَّار

 

وكم ذخائرُ أضحَتْ وهي شائعةٌ

إلى السِّفاحِ من الأعداءِ دَعّار

 

نادَيْتُ والسّبْيُ مَهْتُوكٌ يَجُرُّهُمُ

ما حلَّ بالدينِ، والباغُونَ فُجّار([20])

 

إليكَ يا رَبَّنا الشكوى فأنت ترى

ولما وصلت جيوش هولاكو حلب فتكوا بها فتكاً ذريعاً، وخربوا فيها تخريباً شديداً، ففرّ كثير من أهلها ومنهم ابن العديم([21]) إلى مصر بعد أن رأى ما فعله المغول بمدينته الشهباء، و كتب قصيدة تحدث فيها عن جرائر التتر، بدأها بالحديث عن مصائب الدهر الذي نكب الأمم السالفة، كالفرس والأيوبيين والعباسيين وغيرهم، يقول في ذلك:

وإنْ رُمْتَ إنصافاً لديه فتُظْلَم

 

هو الدهرُ ما تَبْنِيْهِ كفاك يهدمُ

وأصْمَتْ لدى فرسانِها منه أسهُمُ

 

أبادَ ملوكَ الفرسِ جمعاً وقيصراً

وما منهمُ إلا مليكٌ مُعَظَّمُ

 

وأفنى بني أيوبَ مع كُثْرِ جَمْعِهمْ

لهم أثراً من بعدِهم، وهُمُ هُمُ([22])

 

ومُلْكُ بني العباسِ زالَ ولم يَدَعْ

ثم راح يتحدث عن الجرائم التي ارتكبها العدو، فقد أحاطوا بالمدينة على خيولهم القوية، وهجموا عليها في الظلام كموج عات، وهم يحملون سيوفهم ورماحهم، فذعر الناس حتى ذهلت المرضعة عما أرضعت، كما ذعرت الحيوانات، وكأن يوم القيامة قد جاء، وهدمت المساجد والمدارس، ورميت مصاحفها فوق التراب حتى تكدست أكواماً، كما أهينت النساء وديست كرامتهن، وكن يستنجدن ولا مجيب، يقول في ذلك:

أحلَّ بها يا صاحِ إن كنْتَ تعلمُ

 

وعن حلبٍ ما شئْتَ قُلْ من عجائبٍ

من المُغْل جيشٌ كالسحابِ عَرَمْرمِ

 

غداةَ أتاها للمنيةِ بغتةً

على سُبّقٍ جُرْدٍ من الخيلِ طُهَّم([23])

 

أحاطوا كأسرابِ القَطا برُبوعها

ببيضٍ وسُمْرٍ والقَتامُ مُخَيِّمُ

 

أتَوْها كأمواجِ البحارِ زَواخراً

مراضعُ عما أرضَعَتْ وهي هُيَّم

 

وقد عُطِّلَتْ تلك العشارُ وأُذْهِلَتْ

وقد أصبحَتْ فيه المساجدُ تهدم

 

فيا لك من يومٍ شديدٍ لغامُه

مصاحفُها فوق الثرى وهي ضخّم

 

وقد درسَتْ تلك المدارسُ وارتمَتْ

وقد طالما كانت تُعَزّ وتكرمُ

 

وكلّ مهاةٍ قد أُهينَتْ سبيةٌ

وتشكو إلى مَنْ لا يرِقُّ ويَرْحَمُ

 

تنادي إلى مَنْ لا يجيبُ نداءَ ها

وأخيراً ينهي الشاعر قصيدته بالبكاء كما بدأها بالدموع، ثم يسلم أمره إلى المولى تعالى الذي إذا قدر شيئاً كان:

وأعيَتْ جواباً فهي لا تتكلم

 

فيا حلباً أنى ربوعُك أقفرَتْ

وأبكي الدجى شوقاً وأسأل عنهم

 

أنوحُ على أهلِيك في كلِّ منزلٍ

فيفعلُ فينا ما يشاءُ ويحكُمُ

 

ولكنما للهِ في ذا مشيئةٌ

ولما هجم تيمورلنك على حلب(803هـ)([24])، بعد استيلائه على بغداد وديار بكر والرها وسيواس ودفن أهلها أحياء في قسوة ووحشية، وعلى عينتاب([25])، بطش بأهالي حلب بطشاً شديداً، ثم حرقها وخربها، وداست حوافر خيله أجساد العامة رجالا ونساء،واحتمى الناس بالقبور فأسروا، وانتهكت الحرمات في المساجد، ونهبت الأموال، وجزت الرؤوس حتى إن تيمورلنك بنى من رؤوس القتلى عشرة مآذن، ونهشت الكلاب والوحوش الأجساد، وقتل من حلب حوالي عشرين ألف إنسان سوى من هلك تحت سنابك الخيل أو من الجوع والعطش فطلبوا الأمان، فأعطوهم إياه([26]) .

وقد ندب أحد الشعراء([27]) حلب وذكر هذه الجرائم فقال:

كَسَوْتِني ثوبَ حُزْنٍ غيرَ مُنْسَلِبِ

 

ويلاه ويلاه يا شَهْبا عليك وقد

بالذُّلِّ فيك يدُ الأغيارِ والنُّوَبِ

 

من بعدِ ذاك العلا بالعزِّ قد حَكَمَتْ

يَرْعَوْا لجارِك ذي القربى ولا الجُنُبِ

 

وأصبحَ المُغْلُ حكاماً عليك ولم

وخرّبوا ما بها من أشرفِ الكُتُبِ

 

وخرَّبوا من بيوتِ اللهِ مُعْظَمَها

سبيُ الحريمِ ذواتِ السترِ والحُجُبِ

 

لكن مصيبَتُك الكبرى التي عَظُمَتْ

أحكامُه في الورى حقاً بلا كذب

 

ولا نقول سوى سبحان من نَفَذَتْ

محمدٍ ذي التقى والطهرِ والحَسَب

 

فنسألُ اللهَ بالمختارِ سيدنا

ولا يعاملُنا بالمَقْتِ والغَضَب

 

أنْ لا يُرينا عدواً ليس يرحمُنا

    كما ذكرت فإن ثورات داخلية كثيرة اشتعلت في عهد الدول المتتابعة ، وكان أشدها الثورة الوهابية([28]) ،وقد حاولت الدولة العثمانية أن تقضي عليها ،فأرسلت إبراهيم بن محمد علي باشا فبطش بالدرعية ، مركزها، بطشا ذريعا ،ولذلك راح الشعراء يرثونها ويتحدثون عن جرائره فيها ومن هؤلاء أحمد بن المشرف إذ صور الدنيا قد اسودت أمام عينيه ، بعدما قضى العدو على مجالس العلم وهدم الدرعية عاصمة الهدى حتى هرب أهلها ، وتفرقوا في الأقطار ، وقتل كثير منهم بأيدي الظالمين، وهذا قضاء الله الذي لايرد ، ولكن المرء مع ذلك يتألم قلبه حتى ليحس بأن كبده يتفطر حزنا ، وتفيض عيناه ، كيف لا ، وقد هجي إمام الهدى والرشاد الذي يدعو الناس إلى التوحيد ويبصرهم بدينهم ، وقد عمرت بالهداية في عهده المساجد، وقضي على مظاهر الشرك والفساد التي قام بها أناس كالذئاب المتوحشة ، ولكن الله سبحانه الصادق في وعده لأنصاره سيعيد الأمور إلى نصابها، يقول :

أم الفتنة الظلماءُ قد أقبلَتْ تعدو

 

أليلٌ غشى الدنيا أم الأفْقُ مُسْوَدُّ

وضُعْضعَ ركنٌ للهدى فهو منهَدُّ

 

نعم كوِّرَتْ شمسُ الهدى وبدا الردى

سيوفٌ على هاماتِ أنصارِه تشدو

 

تفرَّقُ أهلُوها وسُل على الهدى

وجاسُوا خلالَ الدارِ وانتثر العقدُ

 

بأيدي غُواةٍ مفسدين لقد عَثَوْا

ولله من قبلُ الأمورُ ومن بعدُ

 

قضاءٌ من الرحمنِ جارٍ بحكمه

وكادت لعظم الخطبِ تنصدعُ الكبد([29])

 

وفاضتْ دموعٌ كالعقيق لما جَرى

ثم يروح الشاعر يتحدث عن الجرائم، ثم يثني على إمام الوهابيين فيقول:

وأنصاره، تُباً لما قاله الوَغْدُ

 

وقد أقذعَ البصريُّ في ذمِّ شيخِنا

إلى مَنهجِ التوحيد فاتّضَحَ الرُّشْدُ

 

أيهجو إماماً هادياً أرشدَ الورى

وكم مشهدٍ للشركِ بنيانَه هدّوا

 

فكم مسجدٍ قد أسَّسُوه على التُّقى

فصاروا بها مثلَ الذئاب التي تعدو

 

وكم قطّع السبلَ البوادي وأفسدوا

به جاء في القرآنِ والسنةِ الوعدُ

 

وقلنا لهم نصرُ الإلهِ لحزبِهِ

له النصرُ والإقبالُ والحلُّ والعَقْدُ

 

فهذا إمامُ المسلمينَ مُؤَيَّداً

ومع نهايات هذا العهد وفي عهد السلطان محمد رشاد([30]) تسقط أدرنة بأيدي النصارى، وكانت هذه تعد من أمهات مدن الدولة العثمانية في الجزء الأوربي منها، وبها مقابر كثير من الفاتحين، ومساجد لا تحصى، وقد جرّ سقوطها مصائب كبرى على الدولة، ولهذا فقد بكاها كثيرون منهم "معروف الرصافي" الذي تحدث عن جريمة القضاء على الإسلام في هاتيك الربوع فلا صلاة ولا أذان وهذا مايحزن المسلمين والرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم بين أن هذا الصقع لايعيده إلا السيف :

سترعى لك العهدَ والمَوْثقِا

 

أَدِرْنَةَ مهلاً فإن الظُّبى

وداعاً ولكنْ إلى المُلْتَقى

 

وداعاً لمغناك زاهي الرُّبا

أَفارَقَ محرابُه المنبرا؟

 

عزاءً لمسجدِك الجامعِ

يجيبُ المؤذِّنَ إنْ كبَّرا؟

 

وهل في مُصَلاهُ من راكعٍ

به فَجَعَ الدهرُ أمَّ القرى

 

فيالَسُقُوطكِ من فاجعٍ

ومثوى ضَجِيْعَيْهِ مَثوى التُّقى

 

وقبرَ النبوةِ في يثربٍ

وإن قدْ أَمَضَّكِ هذا الأذى

 

رُويداً أَدِرْنَةَ لا تجزعي

فلا حَبَّذا العيشُ لا حبّذا([31])

 

إذا أنتِ بالسيفِ لم ترجِعي

ثم انتقل الشاعر بعد هذه المقدمة الأليمة إلى تبيان سبب سقوط ، فهي لم يستول عليها العدو لقلة عدد جيوش المحاربين أو من خوفهم من خوض غمرات الحرب، ولكن من خيانة قائدهم الذي منع عنهم المؤنة ولمجونه فيقول:

من أجلِ قِلَّتِه أو من جبانتِه

 

تاللهِ لم ينكسِرْ في الحرب عسكرنا

ولا يبالي بأمر من مكانته

 

لكن قائدَه ما كان يمأنُه

بحيث لم يبقَ سهمٌ في كنانتِه

 

حتى لقد نفدَتْ في الحرب عينتُه

وقائدُ الجيش لاهٍ في مَجانته

 

فالجيشُ تلتهمُ النيرانُ أنفسَه

قضى ولم يَقْضِ شيئاً من لُبانته

 

لهفي على الجيشِ جيشِ المسلمين فقد

وقد تتعرض المدن لنكبات طبيعية من جراء زلازل أو حريق أو تهديم بسيل، فالبيت الحرام تصدع ثم هدم في سنة (1039هـ) بسيل حراء، وقد آلم هذا الحدث المسلمين كثيرا، وذكروا الساعة واقتراب أجلها، والدنيا وتكدير عيشها، ورجَوْا من المولى تعالى العفو عن الذنوب، وما جرته على النفس من ويلات، يقول الشاعر المهتار في هذا:

واهتزتِ الأرضُ من أقطارِها وربَتْ

 

ماجَتْ قواعدُ بيتِ الله واضطربَتْ

فما أشكُّ بأن الساعةَ اقتربَتْ

 

وأمسَتِ الكعبةُ الغَراءُ واقعةً

وأيّ هولٍ به ألبابُنا سُلِبَتْ

 

وأيُّ خطبٍ به أحشاؤنا انصدعَتْ

أيامها مُسْتِردّاتٌ لما وَهبَتْ

 

إنا إلى الله من دنيا مُنغِّصَةٍ

تُلْفى حشاشةُ حُرٍّ في البقا رغبَتْ

 

ما بعدَ منظرِ بيتِ اللهِ منهدماً

أحجارُها بعدما في حبِّها اصطحَبَتْ

 

لهفي على كعبةِ الله التي افترقَتْ

لمن تذكَّرَ لكنَّ النُّهى غَرَبَتْ

 

وكم بذلك من ذكرى ومُعْتَبَرٍ

فخوفُ أنفسِنا مما قد ارتكبَتْ([32])

 

يا خالقَ الخلقِ عفواً عن جرائرِنا

وفي سنة (1237) حدث زلزال شديد في حلب دمر كثيراً من المناطق واستمر أربعين يوماً في كل يوم هزة، حتى اضطر الناس للخروج إلى ظاهر المدينة، واستعملوا بيوت الخشب والشعر، وانشقت منارة الجامع الكبير قدر ما يسع إنساناً، ووقع من وسطها أحجار، واتصل الزلزال من جنوبي تركيا إلى مدن كثيرة في الشام كإدلب وأريحا وحماة وحمص، وقدر عدد القتلى بعشرين ألفاً، حتى الجبال تساوت مع روابيها، وقد وصف الشاعر «محمد تقي الدين المطلبي»([33]) هذا الحدث الجَلَل في مخمسة له ضمت خمسة وخمسين مقطوعة، ابتدأها بالحديث عن الدنيا ومصائبها وكدورة عيشها، ثم ذرف الدمع غزيراً حزناً على ما حل بحلب وأهليها، فقال:

والدهرُ كدَّرَ لذاتي وصافيها

 

ما لليالي تمادى في مساويها

والعينُ بالدمعِ ما جفَّتْ مآقيها

 

والحادثاتُ رمتْني في دواهيها

 

والبيضُ والسمرُ ما كلَّتْ مواضيها([34])

ثم انتقل إلى الحديث عن قوة الزلزال الذي حدث في الأشهر الحرم، فقد شابه زلازل الأمم الخالية، كإرم التي هدمها الله، وقد أحس الناس كأنهم على متن سفينة تموج بهم على وجه البسيطة، وكانت السماء ترمي بشررها كالمشاعل تترى، وعاش الناس بين رجيف الأرض، ووجيف القلب، ومشقة النهار، ولولا أن الله رحمهم لهلكوا، حتى إن الناس طراً أسيادهم وعبيدهم  بكوا حلب إذ ذاق أبناؤها كؤوس الردى مترعة، يقول :

مما ألمَّ بنا في الأشهرِ الحُرُمِ

 

حلّت علينا مصائبٌ أوجبَتْ هرمي

كأنها السيلُ سيلُ العارضِ العَرِم([35])

 

زلازلٌ لم ترى أمثالَها إرمُ

 

          أو بحريمٍ طغى من عندِ مُنْشِيْها

والأرضُ تهتزُّ جلَّ اللهُ خالقُنا

 

في كل يومٍ رجيفٌ لا يفارقُنا

واللهُ حافظُنا واللهُ رازقُنا

 

في كلّ آنٍ نظنُّ الدهرَ خانِقَنا

 

           كأننا سفنٌ زالَتْ مراسيها

مثل المشاعيلِ يقفو إثرَها أثراً

 

والشهبُ في الأفقِ ترمي بيننا شرراً

وفي الليالي رجيجٌ يقلقُ البصرا

 

وفي الأراضي رجيفٌ حَيَّرَ البشَرا

 

             وفي النهارِ مشقاتٌ نقضّيها

ثم اعتبر من هذا المصاب الأليم وبين أن الأمم فسدت ولهذا عاقبها الله سبحانه، ولهذا فهو يستعيذ به من الشر ويرجو أن يهدي المسلمين إلى جادة الإسلام، يقول:

لولا المعاصي فشَتْ ما كان عذَّبها

 

وأمةُ الخيرِ بالقرآنِ هذَّبَها

وبالزلازلِ والهزّاتِ أدَّبها

 

لعلها جَحَدَتْ حُكماً فكذَّبها

 

         حتى تفيءَ لأمرِ اللهِ مُهْدِيها

إن كنْتُ أخطأْتُ في قولي وفي عملي

 

أستغفرُ الله من جُرْمي ومن زَلَلي

نَظَمْتُها دُرَّةً فاقَتْ على الحمل

 

فإن رحمةَ ربي مُنْتَهى أملي

 

          تحلو لسامِعِها الصاغي وتالِيها

وأخيراً  يصلي على الرسول  صلى الله عليه وسلم خير البشرية قاطبة، ويرجو دوام فضل الله ونعمه على عباده:

هذه أهم ألوان هذا الفن الشعري، وهناك أنواع أخر ستظهر إبان الحديث عن تجديد فن الرثاء في هذا العصر.

ثانياً- التجديـد في الرثـاء:

على الرغم من أن الرثاء موضوع قديم قدم الأحزان والتأبين إلا أنه جدّ فيه جديد كثير تبدى في :

1- الوقوف على الأطلال :

فمن المعروف أن الوقفة الطللية تكون في المطالع الغزلية، وأن الشاعر الراثي ينأى عن مثل هذه المعاني، إلا أن الشاعر البهاء العاملي لما توفي والده في قرية المصلى البحرانية، وجاء البهاء داره فلم يجده – ولعله كان مسافراً إذ كان البهاء كثير الترحال- تخيل الدار أطلالاً دارسة، وتخيل والده الحبيب الراحل المفقود، وراح يجرد من نفسه شخصاً يبثه أشجانه وأحزانه ويقول له وهو يذرف الدمع غزيراً:

ورَوِّ من جُرَعِ الأَجْفانِ جَرْعاها

 

قِفْ بالطُّلولِ وسَلْها أين سلماها

وأرِّجِ الوَصْل من أرواحِ أَرْجاها

 

ورَدِّدِ الطَّرْفَ في أطرافِ ساحتِها

فلا يفوتَنَّكَ مَرآها ورَيَّاها

 

فإن يفتْك من الأطلالِ مُخْبِرُها

ودارُ أُنْسٍ يحاكي الدُّرَّ حَصْباها([36])

 

ربوعُ تِبْرٍ تباهي التِّبْرَ تُرْبَتُها

فالشاعر هنا يعبر عن حبه الشديد لوالده في مرثية والهة، ويذكر دياره كما يذكر المحب ديار حبيبته، ويرمز لوالده بسلمى، المحبوبة التقليدية عند العربي ، وهذا ممالم يعهد في فن الرثاء .

2 - المطارحات الرثائية :

  وهي تشبه حوارية أو كالحوارية تجري بين شاعرين، أو بين إنسان ونبات، من ذلك ما جرى بين الشاعرين أحمد بن النقيب الحلبي([37])، وصلاح الدين الكوراني، وكان والد الثاني قد توفي فدفن إلى جوار شجرة عُناب، فاخضرت أوراقها، وزهت بثمارها الحمراء، فلما رآها الأول جاشت نفسه أسىً، وراح يعبر عن أشجانه في حوار جرى بينه وبين امرأة:

بفيضٍ كهطّالٍ من السحبِ قد همى

 

وقائلةٍ والدمعُ في صحنِ خدِّها

بها جدثٌ ضَمَّ الشريفَ المعظّما

 

أرى شجرَ العُنّاب في البقعةِ التي

على فقدِه ما إنْ أحسّ تألمُّا

 

له خُضْرَةُ المرتاحِ حتى كأنه

بحُمرتِها تُبدي السرورَ تَلَوُّما

 

وأغصانُه فيها ثمارٌ كأنها

ذَوَتْ واكفَهَرَّتْ حَيْرةً وتَنَدُّما

 

ولو أنصَفَتْ كانتْ لعِظْمِ مُصابِهِ

بما نالنا من رُزْئِهِ وتَهَضُّما

 

فقلْتُ لها ما كانَ ذاك تَهاوُناً

غديراً بأنواعِ الفضائلِ مُفْعَما

 

ولكنّها لما وضَعْنا بأصلِه

كمينٌ فلا تستَفْظِعِيْهِ تَوَهُّما

 

بدَتْ خُضْرَةٌ منه تروقُ وحُزْنُهُ

سقيناهُ دَمعاً كان أكثرُه دما([38])

 

وما احمرَّتِ الأثمارُ إلا لأننا

فلما علم الكوراني بذلك راح يسأل شجر العُنّاب وكأنه أراد أن يعرف منه سبب نضرته وازدهاره أهو من السرور أم من الحزن الذي أبكاه دماً؟ وذلك في قوله:

سروراً ولم تجزعْ على سيدِ الحِمى؟

 

فيما شجرَ العُنّابِ مالك مثمرٌ

وتُدْلي إليه كلَّ غُصْنٍ تَنَمْنَما

 

على رَمْسِهِ أَوْرَقْتَ تهتَزُّ فرحةً

أم الحزنُ قد أبكاك من دونِه دما؟([39])

 

أهذي أماراتُ المَسَرَّةِ قد بَدَتْ

فأجاب شجر العناب مبيناً أن المتوفى الذي جاوره كان كريم الحسب والنسب ولهذا كان قبره روضة من رياض الجنة، ذلك لأنه كان شغوفاً بالعلم ولهذا فإنه أحب جواره وملازمته، والجار قبل الدار كما يقال في الأمثال، قال الكوراني على لسان العناب:

نما حَسَباً في عصرِه وتكرَّما

 

نعم فرحتي أني مجاورُ سيّدٍ

زهَتْ بضجيعٍ كان للعلمِ مُغْرَما

 

وحَضْرَتُهُ روضٌ من الجنةِ التي

وحقيَ فيها أن أقيمَ وألزما

 

أتعجب بي إذ كنْتُ في جنْبِ روضةٍ

خذِ الجارَ قبلَ الدارِ إنْ كنت مسلما

 

وقد قيلَ في الأسماعِ إن كنتَ سامعاً

فأجاب الكوراني مهنئاً له بهذا الجوار الكريم، ودعا للشجرة بالسقيا لتكثر ثمارها فتسقط على قبر والده، فيأخذها الناس ويترحمون عليه، ثم عجب من عظمة أبيه التي جعلت حتى النباتات تبتهج به، ولهذا وجب عليه أن يبين فضائله، وأن يدعو له بالسقيا ما ترنمت الطيور في هذا الدهر، يقول مخاطباً الشجر:

وحيّاكَ وَسْمِيُّ الغَمام إذا همى

 

فقلْتُ له يُهْنيكَ طيبُ جوارِه

ليلقُطَها مَنْ زارَهُ وتَرَحَّما

 

لتُسْقِط أثماراً على جنبِ قبرِه

فحُقَّ لنا عن فضلِه أن نُتَرْجِما

 

فواعجبا حتى النباتُ زها به

ثرى قبرِه ما ناحَ طيرٌ وزَمْزَما

 

فلا زالتِ الأنواءُ مُغْدِقةً على

ومن المطارحات الرثائية ما كانت نجوى داخلية تجري في مخيلة الشاعر لتعبر عن أحزانه لفقد حيوانٍ ما، كان ربّاه الشاعر فتألم لموته، فالشاعر «ابن النقيب الحسيني الدمشقي»([40]) مات له طائر فراح يخاطب نفسه قائلاً :

شجوي فلا يُلْفى بذاك مُطارِحي

 

مالي أُطارحُ نحو أسودَ صادحٍ

تَرْنامُه هزِجاً بصوتٍ جارح

 

لَهفي لشحرورٍ ألِفْتُ بسُحْرةٍ

وتُثير نارَ الوَجْدِ بين جوانحي

 

يُشْجي القلوبَ برَنَّةٍ تُذكي الجَوى

أشكو فيسمعُ لي مقالةَ طافِح

 

يشكو فأسمعُ ما يقول وينثني

عني وغادرني بدمعٍ سافح([41])

 

فلوى بعهدي واستقلّ به النوى

فالشاعر هنا يحاول أن يناجي صاحبه الشحرور فلا يرد هذا عليه فيروح يتذكر نغماته الطربة في السحر، لقد كان صوته شجياً يثير كامن الأسى في النفوس وكانا يتشاكيان فيسمع كل منهما إلى صاحبه ويجيبه، ولكنه الآن رحل إلى غير ما رجعة وغادر شاعرنا رهن البكاء والأحزان.

3- المداعبات الرثائية:

  الرثاء فن الأسى والحزن لا الضحك والمداعبة، ولكنه قد يغدو كذلك إن كان المرثي حيواناً كالحمار، وكانت روح الشاعر المرحة تتخذ من موته وسيلة لإدخال السرور إلى القلوب بمداعبة لطيفة ، كتلك التي بدرت من محمد بن الصاحب([42]) في تعزيته لصديقه في حمار له سقط في بئر صغير فلقي حتفه ، فقال:

وبتالدٍ يفدي الأديبَ وطارِفِ

 

يَفديك جَحْشُك إذ مضى مُتَرَدِّياً

تِبْناً وراح من الظَّما كالتالفِ

 

عدِمَ الشعيرَ فلا أراه ولا يَرى

فرأى حُشاشَةَ نفسِه لمخاوفِ

 

ورأى البُوَيْرةَ غيرَ خافٍ ماؤُها

أزرَوْا بحاتمٍ في الزمانِ السالفِ

 

قومٌ يموتُ حمارُهم عطشاً لقد

4- ذكر سيئات المتوفى:

وقد تذكر السيئات لا للتشهير بصاحبها إذ قد أفضى إلى ربه، وهو أولى به، ولكن للعبرة والموعظة علّ السامع ينأى عن السيئات، ويثوب إلى بارئه، من ذلك قول مصطفى البابي الحلبي حينما توفي نجل صديقه إذ بين أنه أسرف على نفسه، واقترف السيئات، وكان شاعرنا ينصحه دون أن يلقي منه استجابة ما، وها هو الآن تحت أطباق الثرى قد صار عبرة للمعتبرين، وهذا حكم الله ولا مرد لقضائه، والله أرحم بعباده، وقد مات شاباً في مقتبل عمره فكان كمن أرهق راحلته ثم انقطع به طريقه. يقول في ذلك:

بي إن نصحْتَ وخيرُ النُّصح ما نفعا

 

بلِّغْ بني الحِرْصِ والآمالِ مبْتَدِياً

مَلْساءَ لن تقبلَ الأعذارَ والخِدَعا

 

أبقى ابنُ طه لكم في موتِهِ عظةً

على الحُطامِ بأمرِ الفخرِ مُضطلِعا

 

قد كانَ طلاّعَ أنجادٍ أخا كَلَبٍ

سارٍ أغذَّ فجَبَّ الظهرَ فانقطعا

 

كان بعدَ ارتكابِ المُوبقاتِ سوى

وكنْتُ أخشى عليه الأَزْلَم الجزَعا

 

تالله لم آلُ نصحَ الرفيق به

بعد التي واللُّتَيّا ما الذي صنعا

 

فسلْ مغانيَهُ عنهُ إن مررتَ بها

وإنّ في جنبِ عفوِ اللهِ ما وقعا([43])

 

لكنّ للهِ حكماً لا مردَّ له

ولكن في المجالات السياسية كثيراً ما يذكر الشعراء مساوئ الولاة الذين قضوا نحبهم، وقد يكون الشاعر على حق، أو ذا رأي باطل، ولكنه على أي حال عبر عن تجربته الشعورية تجاه حاكم سابق له، فالشاعر حمد بن إياس الحنفي([44]) يقول عندما قتل سلطان المماليك قنصوة الغوري في معركة مرج دابق:

مذ تناهى ظُلْمُه في القاهرة

 

اعجبوا للأشرفِ الغوري الذي

خسرَ الدنيا إذاً والآخرة

 

زالَ عنه ملكُه في ساعةٍ

وأرى أن هذا النوع يدخل أيضا في الشعر السياسي أو الهجاء السياسي .

5- رثاء ذوي الملل الأخرى:

وقد يكون هذا ناجماً عن العلاقة المشتركة بين أبناء البلد الواحد، فالشاعر"حسين بن الجزري"([45]) يهجو صديقاً له يدعى عبد المسيح، ويبالغ في الأسى إلى درجة التطرف الممقوت، وذلك حين يفديه بالحديث الصحيح!!…. يقول :

بعد فقدِي جمالَ عبدِ المسيح([46])

 

لَهَفُ القلبِ واللْهف غيرُ مُريحِ

دَعَ أحشائي لاعَج التبريْحِ

 

أَوْدَعوه الثرى فغابَ وقد أوْ

هُ ولو كنت ذا فؤادٍ جريحِ

 

ليت لو كان في فؤادي مَثوا

ـعُمْر مني وبالحديثِ الصحيحِِ([47])

 

ولَو أني فَدَيْتُهُ بقديم الـ

6- رثاء الأعداء:

ويعد هذا خيانة للدولة التي ينتمي إليها الشاعر، وإن كان قد صدر ممن يوالي العدو لاشتراكه معه في ملته، وكان الأولى بالشاعر أن ينضوي تحت لواء الدولة، وأن يجعل عدوها عدوه، ولكن الواقع كان غير ذلك، فالشاعر نقولا الترك([48]) رثى نابليون بونابرت، وذكر حروبه للدولة، وبكى شجاعته وبطولته، وعبد الله فريج([49]) رثى بطرس قيصر روسيا وجعله ملك الملوك الذي وطد السلام ثم انهارت جهوده بموته!!.. وفخر به على الملوك قاطبة وهؤلاء أتوه خاضعين لأن الله – بزعمه- نصره. كما أبدى في مرثيته أحزانه لوفاته، ثم اعتبر بالدنيا التي لا تبقي ولاتذر، وقد أهلكت ملوكاً وسلاطين قبله كالرشيد وأبي جعفر المنصور، يقول في ذلك:

إلا كطيفٍ في منامٍ يظهرُ

 

تاللهِ ما الدنيا لمن يتبصَّرُ

بل أينَ ذيّاك الرشيدُ وجعفرُ

 

أين السلاطينُ الأُلى سادوا الورى

بنظيرِهِ هيهاتَ تأتي الأعصُرُ

 

ملكُ الملوكِ القيصرُ الشهمُ الذي

فيه يسودُ على الأنامِ ويفخَرُ

 

ملكٌ به كان السلامُ مُوَطَّداً

هاماً له بمزلةٍ تتطهَّرُ

 

خضعَتْ لسدتِهِ الملوكُ وطَأْطَأَتْ

إذ أنه بسواه لا يَسْتنصرُ

 

كان الإلهُ لهُ نصيراً مُسْعِفاً

فيه وذاك من الإلهِ مُقَدَّمُ

 

أواه من يومٍ أتانا نعيُهُ

والكلُّ فيه آسِفٌ متحيِّر

 

يوم به رُزِئَ السلامُ وأهلُه

   وهكذا نرى كثرة تجديد شعراء الدول المتتابعة في هذا اللون الأدبي

ثالثاً- سمـات الرثـاء:

يتميز الرثاء في عصر الدول المتتابعة بميزات متعددة، كان بعضها مألوفاً منذ العهود الأدبية السابقة، وجدّت أمور أخر:

1- فأنواع الرثاء كانت متعددة، فهناك الرثاء الرسمي، ورثاء النفس، ورثاء الأهل والأصحاب، ورثاء المدن  المنكوبة والممالك الزائلة.

2- ومنهج قصيدة الرثاء كما هو، استهلال بالحزن والبكاء، ثم تبيان لسبب الوفاة أو النكبة، وقد لا تذكر، وذلك حسب الظروف، وتأبين للمرثي والإشادة بجهوده في حفظ الدولة وصد أعدائها، ثم دعاء له .

3- وقد تمتزج المرثية بالتهنئة، وهذامعهود في أدبنا العربي

 4- كشفت مراثي المدن المنكوبة عن النكبات التي حلت بها بفعل عوامل طبيعية كالسيول والزلازل . كما أوضحت الأوضاع السياسية في الدولة كأخطار الاستعمار وجرائمه، وأساليب المسؤولين في حكمهم، والثورات التي تقام في عهدهم بتحريض من الاستعمار أو ضجرا من أساليب الحكم، من ذلك قول أبي بكر العمري([50]) في حاكم دمشق ويدعى كيوان ، وكان قد قام بثورة على الدولة انتهت بمقتله :

         ولما طغى كيوانُ في الشام واعتدى       وأرجفَ أهليها وللظلمِ فصَّلا

         فقلـتُ لهم قـرُّوا عيونا وأرخوا         ففي بعلبكَّ قتلُ كيوانَ أُصِّلا([51])

5-   كما كشفت عن الأوضاع والقيم الاجتماعية فمراثي العلماء يذكر فيها تقواهم ونشاطهم الثقافي،وللأبوين نصائحهم  كما تذكر للبلغاء فصاحتهم من ذلك قول الصفدي في رثاء أبي الثناء الحلبي:

فيما نؤمِّلُه من غيرِ تَفْنيدِ

 

مات الإمامُ الذي كنّا نؤُمُّ له

معالمُ العلمِ منه بعد تشييد

 

وأقفَرتْ ساحةُ الآدابِ واندرسَتْ

تلك التواقيعِ أو تلك التقاليدِ([52])

 

وكم حبا المُلْكَ تيجانَ البلاغةِ من

6- في بعض المراثي ذكر للأمم السالفة التي خلت ديارها من ساكنيها كالفرس والقياصرة وبني أمية والعباس وأيوب وسواهم.

7- وقد ترد فيها حكم كثيرة تحث على ضرورة الصبر على المصيبة، وتذكر بالحياة وزوالها، وبضرورة التزود لما بعدها.

8- وفي بعض المراثي مبالغات كثيرة، فالشاعر يتخيل الغمام والحمام والرعد والبرق تشاركه في مأساته، على نحو ماقال الصفدي في رثائه لنجم الدين الخطيب([53]):

حمائمُ البانِ من شجوي مناحاتِ

 

بكى الغمامُ بدمعِ الودقِ مُذْ عَقَدَتْ

ذوائبُ البَرْقِ حُمْراً في الدُّجُنّات

 

ولطَّم الرَّعْدُ خَدَّ السُّحْبِ وانتشَرَتْ

9- تنتهي المراثي غالباً بالدعاء للمتوفى، وقد تختم بالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم  .

10- وجد في هذا العصر رثاء العالمات، فالشاعر العشري يرثي الشيخة العالمة السيدة بنت راشد البهلوي فيشيد بعلمها الذي رفعت به أركان الدين، وبتقواها وزهدها فضلاً عن فصاحتِها ورجاحة عقلها، وكانت مجالسها مجالس القرآن الكريم، وكانت تقول الحق ولا تخشى في الله لومة لائم، ولهذا كانت فقدها أليماً على الشعب العماني كله، وحق له أن يبكيها، وإنه ليرجو من المولى تعالى أن يسقي قبرها أمطاراً غزيرة لتبقى الرحمة عليها دائمة، يقول في ذلك:

وأضحى لواءُ الدين مُلْقى الدعائمِ

 

لقد غِيْضَ بحرُ العلمِ وانهدَّ طَوْدُهُ

ومَنْطقِ سَحْبانٍ وحِلْمِ ابنِ عاصمِ

 

هوَتْ علمُ بحرِ العلمِ مع زهدِ مريم

كذا يبتغي من جمعِه كلُّ عالم

 

وما جمعُها إلا كتابٌ ومصحفٌ

ولم تُثْنِها في اللهِ لومةُ لائم

 

ولا تختشي في الحقِّ صولةَ صائلٍ

عليها بدمعٍ من عيونٍ سواجم

 

جديرٌ بأن تبكي عمانُ وأهلُها

بوَدْقٍ هتونٍ من عيونِ الغمائمِ([54])

 

سقى قبرَها الوسميُّ في كلِّ غَدْوةٍ

11- طالت بعض المراثي حتى تجاوزت الخامسة والسبعين بيتاً، ولاسيما المراثي الرسمية، على حين جاء بعضها في مقطعات، وحوى تأريخاً شعرياً ليوم وفاة المرثي، من ذلك قول الشاعر عبد المجيد الخاني([55]) الذي أرخ وفاة العالم محمد الهلالي([56]) بقوله:

وكوكبُ الأدبِ العالي الذي اشتهرا

 

لقد توفي الهلالي سيِّد الشُّعَرا

هم في حَماةَ حُماةُ الفضلِ والكُبَرا

 

محمدٌ فرعُ أقمارِ العلومِ ومَنْ

(ألا توفي الهلالي سيِّدُ الشُّعرا)

 

فلا غريبَ إذا نادى مؤرخُه

12- وبدا فيها وحدة موضوعية وعضوية في القصائد لأنها تتحدث عن موضوع واحد وتتماسك غالبا منذ مطلعها حتى خاتمتها  

15- تبدو العاطفة الفياضة في أسلوب المراثي، وقد جاء بعضها بأسلوب وادع هادئ، وفي أوزان قصيرة كالمجزوءات ووزن المتقارب والمتدارك كقول الشاعر محمد عياد([57]) على البحر المتدارك :

أنجومُ الفضلِ قدِ انكدرتْ      فخبا منها نورُ الدينِ

لا بل قلبي جزعٌ من فقـ    ـد محمــــــدٍ الترمـــــــــــــانيني

قلبـــي فيــــــــــــه ترحٌ لما       داعِيْه أتــــــــاه على حين

فصحائفُه بيضٌ خضرٌ       مُلِئَتْ بالتقوى وبالدين

16- كما جاء بعضها في موشحات، من ذلك قول الشاعر حميد الضريرّ([58]) في رثاء أحمد الحموي([59]) في موشح منسجم النظم، يقول فيه:

وسارا

  على ابنِ أبي الرضا مُرُّ اصطباري

بحارا

 

وعيني قد جرَتْ من عِظمِ ناري

 

مدارسُ دَرْسِهِ اشتاقَتْ إليه

 

وحَسُنَ العلمُ والعُلَما لديه

 

وأشياخُ الحديث بكَتْ عليه

مرارا

 

فكم سألوه عن نصِ البخاري

كبارا

 

مخبرٌ في الجواب بلا اعتذارِ

17- وبعض المراثي جمع بين الشعر والنثر على نحو ما فعل شهاب الدين محمود في تعزية لأولاد شرف الدين القلانسي([60]) إذ استهل مرثيته بقوله:

ثنى عن الشرفِ العالي سُطا يدهِ

 

لو سالمَ الدهرُ ذا مجدٍ لسُؤْددِه

وفيها يقول:

قد آمنَ الناسَ من فِيْه ومن يده

 

حرٌّ تقيّ نقيٌّ طاهرٌ وَرِعٌ

ثم يختمها بالدعاء له بقوله:

سَحَّ العِهادُ عليه في تَغَمُّدِه

 

فجادَه صوبُ رُضوانٍ يَسُحّ إذا

تثنيْ مفاخرُه أبصارَ حُسَّدِه

 

ولا خلا أفْقُ هذا البيت من شَرَفٍ

ينتقل إلى النثر فيقبل أيادي المعزّى، ويذكر قضاء الله وقدره، ويؤبن المرثي وينهي الرسالة بالدعاء للميت، وذلك بمثل قوله: «وينهي أنه اتصل به ما قدره الله من وفاة المولى السيد الوالد تغمده الله برضوانه، وبوّأه فسيح جنانه، فأجرى دموعه، ونفى هجوعه، وصدع قلبه، وأطار لبه، وأطال ألمه، وأطاب عدمه…. فاجتثت بوفاته أصل الوفا، وتكدّر بذهابه ورد الصفا، وذهب الود إلا باللسان… فلله تلك النفس ما كان أتقاها، وتلك الشيم ما كان أطهرها وأنقاها، وذلك اللسان ما كان أقدره على ملكة نطقه…. فالله يجمعنا في مستقر رحمته، ويجعلنا ممن جعل الثبات عند الممات من فواتح فضله عليه ونعمته»([61]).

18- وبرز جديد في هذا اللون الأدبي ممثلاً في الوقوف على أطلال المرثي كالوقوف على أطلال الحبيب الراحل، والمطارحات الرثائية التي أنطقت الجماد ليعبر عن أساه، كما وجدت مداعبات رثائية لأمور تافهة مضحكة، وذكرت سيئات المتوفى للاعتبار والاتعاظ، أو للتنديد بحاكم سابق، كما رثي الأصدقاء من ذوي الملل الأخرى، والأعداء أيضاً، وكان هذا من النصارى الذين كان بعضهم يوالي المستعمرين، وهذا الأمر خيانة لم يكن يجرؤ عليها أحد من قبل في ظل الدولة الإسلامية لولا التسامح الديني الشديد عند المسلمين.

([1]) أبو السعود أفندي شاعر عالم زمانه ومفتٍ منذ عهد سليمان القانوني: سمط النجوم العوالي 4/91 والشعر/92

([2]) قيهور: من قهر بمعنى غلب وهي على وزن فيعول لسان العرب .

([3]) بلهذمي : شجاع، لسان العرب ، و كلمة لهذم: القاطع، وسيف لهذم: حاد. ولهذمَ الشيء قطعه:لسان العرب.

([4]) جمع كثير من المدائح الرسمية بين التعزية والتهنئة، ينظر لذلك: تاريخ اليمن في عصر الاستقلال /111، وينظر للرثاء الرسمي أيضاً في النور السافر /242 و 292 و…

([5]) ديوان العشري /410 .

([6]) الشاعر محمد أفندي الهلالي شاعر من القرن الثالث عشر : حلية البشر 2/913 .

([7]) عبد يغوث الحارثي شاعر جاهلي قتله بنو التَّيْم ثأراً، وكانوا قد شدوا لسانه بِنسْعة مخافة أن يهجوهم، ومع ذلك قال قصيدته التي رثى بها نفسه ومطلعها :

فما لكما في اللوم خير ولا ليا

ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا

    وقد تأثر بها مالك بن الريب فرثى نفسه في قصيدة على الروي نفسه ومطلعها :

بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا

ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة

ومالك بن الريب شاعر أموي من قبيلة مازن تميم، كان فاتكاً ثم أرسله سعيد بن عثمان بن عفان، وكان والي خراسان إلى الجهاد، وتوفي مغترباً في مرو سنة 60هـ . ينظر: رثاء النفس بين عبد يغوث بن وقاص الحارثي ومالك بن الريب، والكتاب يشرح قصيدتيهما؛ ومختارات من الأدب العربي/60 .

([8]) الضوء اللامع 1/107-108، وينظر لمثلها في الخلاصة، 2/50 وأعيان العصر 1/146 .

([9]) حسين بن علي الوفائي (112-1156هـ) شاعر حلبي متصوف ،له ديوان في المدائح النبوية ومدائح الصالحين: سلك الدرر 2/58 . والشعر في الصفحة نفسها .

([10]) جاعد وناصر أخوا الشاعر كما ذكر في ديوان العشري/110 .

([11]) ديوان العشري/108-110، وينظر لمثلها في رثاء والده في المرجع نفسه ص135 .

([12] ) عنوان الشرف العالي/ع، وينظر لمثلها في رثاء الخفاجي لخاله في خلاصة الأثر 1/79 .

([13]) أحمد بن حسن التميمي عالم مصري وكذلك والده شيخ الإسلام وعلامة العصر: المنح الرحمانية في الدولة العثمانية /360 .

([14]) شاعر مصري من القرن 11هـ : المنح الرحمانية في الدولة العثمانية /364 .

([15]) القصيدة كلها في المنح الرحمانية ص364-367 .

([16]) محمد الأمين المحبي بن فضل الله (ت1111هـ) ، شاعر دمشقي ،وهو مؤلف خلاصة الأثر ، ونفحة الريحانة ، وذيل النفحة ، ينظر لترجمته : سلك الدرر4/86

([17]) خلاصة الأثر 2/282 .

([18]) الضوء اللامع 12/107-108 .

([19]) زُنّار: ما على وسط المجوسي والنصراني: لسان العرب مادة زنر، ويقصد به النصراني ، وهذا ي}كد تعاون النصارى والمغول في نكبة بغداد .

([20]) سمط النجوم 3/521  .

([21]) عمر بن عبد العزيز المعروف بابن العديم (588-660هـ) شاعر ومؤرخ حلبي له (تاريخ حلب) وكان قاضي حلب : تاريخ أبي الفداء 2/326 وإعلام النبلاء 2/254 و 4/444 .

([22]) القصيدة في تاريخ أبي الفداء 2/327 وإعلام النبلاء 2/254 .

([23]) طُهَّم : من الناس والخيل: حسن تام، وبارع الجمال، وفرس مُطَهَّم: قليل لحم الوجه: لسان العرب مادة طهم.

([24]) ينظر لهجمته في إعلام النبلاء 2/387-388 .

([25]) وهي مدن في جنوبي تركيا.

([26]) إعلام النبلاء 2/402-403 .

([27]) لم يذكر اسمه، ولعله أخفاه من الخوف ونشرت القصيدة. والشعر في إعلام النبلاء 5 / 138 - 139

([28])   تنظر الثورة بالتفصيل في كتابي شعر الثورات الداخلية في العهد العثماني 1/207

(   [29]القصيدة في ديوان الإمام أحمد بن علي بن مشرف /44-46، وينظر لمثلها في تخريب الدرعية أيضا في : عنوان المجد في تاريخ نجد / 41

([30]) تسلم السلطان محمد رشاد الحكم بعد عزل أخيه السلطان عبد الحميد الثاني في 1328هـ/1909م: التاريخ الإسلامي 8/209 .

([31]) القصيدة كلها في ديوان الرصافي /485-486 .

([32]) الشعر الحجازي 1/276-278 .

([33]) محمد تقي الدين بن الشيخ محمد المطلبي شاعر حلبي من القرن الثالث عشر الهجري: إعلام النبلاء 3/322 .

([34]) المخمسة كلها في إعلام النبلاء 3/322-328 .

([35]) لم ترى: حقها الجزم بحذف حرف العلة، والألف هذه للضرورة الشعرية، وكذلك مصائب وزلازل نونتا للضرورة الشعرية.

([36]) الكشكول 2/268، خلاصة الأثر 3/451 أعيان الشيعة 9/246 .

([37]) أحمد بن النقيب شاعر حلبي كان نقيب الأشراف في حلب (ت1056هـ)، معادن الذهب /202 الأعلام 1/238 .

([38]) خلاصة الأثر 2/254-255 .

([39]) خلاصة الأثر 2/255، نفحة الريحانة 2/544، إعلام النبلاء 6/256 .

([40]) كمال الدين عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن النقيب الدمشقي الحسيني، شاعر من دمشق ذو خيال واسع وتشابيه عجيبة، وشعره حسن التركيب: خلاصة الأثر 2/390. وفي أدبنا العربي أن السليك بن السلكة رثى فرسه المسمى النحّام وهو رثاء أقرب إلى الوصف منه إلى النجوى : الكامل للمبرد 3/53 .

([41]) العصر العثماني نقلاً عن ديوانه/69-70 .

([42]) تاج الدين محمد بن محمد بن الصاحب من شعراء العصر المملوكي كان ذا رياسة وسيادة، ينظر له في: أعيان العصر 5/112، وللشعر في 122-123، وينظر مثلها في رثاء قماري في: ج 4/134 ، وفي رثاء نعل فقد في الخلاصة 2/190.

([43]) العقود الدرية /53-54 .

([44]) الشاعر محمد بن أحمد بن إياس الحنفي شاعر مصري له كتاب بدائع الزهور في وقائع الدهور ينظر لترجمته في مقدمته. والشعر في المرجع نفسه / 71 وفي إعلام النبلاء 3/ 127 .

([45]) حسين بن الجزري (ت1032هـ) شاعر حلبي مدح آل جانبولاذ وآل سيفا ، وكانا متعاديين طمعا بالنوال: خلاصة الأثر 2/81 ومقدمة العقود الدرية والشعر فيه / 48

([46]) الشطر الأول من البيت لم يستقم وزنه.

([47]) العقود الدرية /48 .

([48]) نقولا الترك شاعر لبناني من القرن الثالث عشر الهجري، ينظر له ولشعره في لبنان في عهد الأمراء/342 .

([49]) عبد الله فريج شاعر مصري من القرن الثالث عشر : الشعر والشعراء المجهولون /170 والشعر 170-171

([50] ) أبو بكر العمري شاعر من القرن الحادي عشر الهجري : خلاصة الأثر 1/ 99

([51] ) علماء دمشق وأعيانها في القرن الحادي عشر الهجري 1/ 387

([52]) أعيان العصر 5/375 .

([53]) نجم الدين أبو محمد حسن بن محمد الخطيب (ت658هـ) كاتب إنشاء بليغ، رثاه الصفدي ،وجمع ما رثاه به في كتاب (ساجعات الغصن الرطيب في مراثي نجم الدين الخطيب): أعيان العصر 2/232 .

([54]) ديوان العشري/344 .

([55]) عبد المجيد بن محمد الخاني1263-1318هـ شاعر من دمشق : تاريخ علماء دمشق 1/181

([56]) محمد الهلالي (1253-1311هـ) عالم من حماة ، وكان كثير المديح النبوي: تاريخ علماء دمشق 3/46.

([57] ) الشاعر محمد عياد من حلب من القرن الثالث عشر الهجري:إعلام النبلاء7/ 241والشعر في الصفحة نفسها

([58]) حميد الضرير هو أحمد بن محمد بن عماد، شاعر من القرن الثامن الهجري: إعلام 5/102 .

([59]) أحمد بن عمر الحموي أبو الرضا: فقيه من القرن الثامن الهجري أعدمه الظاهر برقوق لأنه ثار عليه وأنكر سلطته: إعلام النبلاء 5/102 .والشعر في 103

([60]) شرف الدين أبو عبد الله بن العدل الرضي المعروف بابن القلانسي عالم من دمشق (ت715هـ): أعيان العصر 5/188.

([61]) أعيان 5/189-190، والنثر في ص190-191 .

وسوم: العدد 668