مختارات من روائع الشعر

المقدمة

بين أيدينا (ديوان) ألّفَ بين قصائده ومقطوعاته وأبياته المفردات: عالم، واعظ، أديب، شاعر، حامل مسك، حيث حلّ وحيثما ارتحل، يحمل حكمته في رأسه، وفي قلبه، وعلى لسانه، وفي قلمه وأوراقه، وَسَمْتُه يُنبيك عما في جَوَّانيّه من حبٍ للخير، حبً للإنسان، للضعفاء والمستضعفين.. للمعذَّبين في الأرض..

وقارئ هذا (الديوان) الذي ليس لمؤلفه الحصيف سوى حُسن الاختيار من جنان الشعر العربي الأصيل، من أزمنة مختلفة، ومن أمكنة متباعدة، يجمعها اللسان العربي، والقلب المسكون بقيم العروبة والإسلام، والعقل العربي في تشكلاته الشتى...

صاحب هذه المختارات ذو ثقافة موسوعية، أحبَّها، وسار في دروبها اللواحب، منذ يفاعته، فقد كان يستهويه البيت والبيتان، والقصيدة والمقطوعة، وهو فتى، أو منذ أن كان فتى، فيبادر إلى تدوينها حتى لا تفلت منه، ثم إلى حفظها في خزانته (أرشيفه) لأنه وعى من حِكَم مشايخه، أن العلم صيد، وأن الكتابة فيه قيد، فانطلق يقيّد صيده، حتى امتلأت خزانته أو كادت من الشعر البديع، شعر الحكمة، والجهاد، والإيمان، والشجاعة، والكرم والمروءة، والنجدة، وحب الأوطان، والعطف على الفقراء والمساكين إلى جوانب أخرى سلبية في حياة الفرد والمجتمع، مثل الفقر، والبخل، والجهل، والحمق، والاستبداد، والاغتراب، والظلم. وهذه الأمور والقضايا الدنيوية، تأتي موشّاة ومذكّرة بالآخرة، بالزهد، بالحساب، بالجنة والنار..

وفلسطين – واهاً لها، ثم آهاً ألف آه – والقدس، والأقصى.. هذه التي استدعت إلى الذاكرة الواهنة، مأساة الأندلس، والكوارث والفواجع التي حلّت بها، وبغداد وما ألَمَّ بها، وما إلى ذلك من شعر يأتي في باب التاريخ السياسي، تاريخ الارتداد الحضاري، وما يذكّر بما يجب علينا للوقوف في وجوه الويلات في هذا العصر الذي نعيش فيه أسوأ حالاتها، حيث:

حرب صليبية الأحقاد تستعر                 أقلُّ أخطارها ما فِعلهُ خَطرُ

كل الحروب التي في الدهر قد سبقت        بَرْدٌ لظاها، وهذي بَرْدُها سَقَرُ

وجاءت بعض قصائد هذا (الديوان) ومقطّعاته وأبياته وفي تمجيد البطولة، والصبر على غدرات الزمان، وخيانة بعض الخلَّان، والذياد عن العرض والشرف والكرامة.. إنه بكلمات:

موسوعة تألقت بما احتوت من بديع الشعر الذي يهذب النفوس، فتأبى الضيم ويدعوها إلى معالي الأمور، وينهاها عن سفسافها، فالموت أهون من تَحكُّم اللئام بالأوطان والاستبداد بالرقاب، والعبث بالقيم الإنسانية.

إنه يدلُّك على دروب السعادة، والمسالك الموصلة إليها، فمن يجدُّ ويتعب، ويتحمَّل المشاق، لا بدّ من وصوله إلى أهدافه، ليكون شيئاً مذكوراً في هذه الحياة، وبعد الممات، إذ لا بد دون الشَّهد من إبر النحل، ويكون هذا في الفتوة والشباب، سهراً وتصميماً، ومقارعة وتذليلاً للعقبات الكؤود التي تعترض السبيل إلى المجد.

فيه دعوة حارة إلى تنقية القلوب من كل ما يشينها. وفيه مواعظ للناس، كل الناس، كبيرهم وصغيرهم، إناثهم وذكورهم، حاكمهم ومحكومهم.

فيه ما يشدّ الهمم، ويذكي العزائم، ويذكرك بالآخرة، ولا ينسى أن يذكرك بدنياك، لتعمرها العمران الذي يليق ببني الإنسان..

يقول مرة: أيها العصاة الغواة أقصروا، فالموت في الباب..

ويقول أخرى: أيها الناس هبّوا إلى المكارم التي تحييكم في حياتكم وبعد موتكم فتمتد آجالكم بذكر مآثركم.

احتوى على حِكَم وقضايا إنسانية، نحن في مسيس الحاجة إليها في هذه الأيام البائسة التي كثر فيها الهَرْج، وصار الإنسان العربي أرخص خلق الله، في نظر من كانوا يُرجَّون للعدل وإنصاف المظلومين والمعذبين في الأرض، أعني القضاة. ولنقرأ هذين البيتين:

إذا جار الأميرُ وحاجباه         وقاضي الأرض دَاهنّ في القضاء

فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويل            لقاضي الأرض من قاضي السماء

فهل من مُسْمعٍ قُضاةَ اليوم مثل هذا التحذير وهذا الدعاء عليهم بالويل ثم الويل ثم الويل؟

إنهم هنا، وهناك، وهنالك.. وأبواب الجحيم مشرعة لهم، فليدخلوا من أيّها شاؤوا، فقد سيق إليها الذين ظلموا من قبلهم، وكذلك سيساقون.

ما من شيء ورد في هذا (الديوان) إلا يُذكِّرك بشيء من الواقع المعيش.. طغاة الحكم، قضاة ظلّام وعلماء سلاطين شياطين، وأشباه رجال بل من التافهين الذين أسموهم الإعلاميين وهم الكذّبة الفَجَرة من سفلة السفلة بين الناس..

لقد أبكتني كثير من أبياتها، وأنا في غربتي القسرية منذ ست وثلاثين سنة.. ومنها هذان البيتان:

جسمي معي، غير أن الروح عندكمُ        فالجسم في غربة، والروح في وطني

فليعجب الناس مني أنّ لي بدناً           لا روح فيه، ولي روح بلا بدن

وما أعمق هذين البيتين:

ولست أرضى سوى الإسلام لي وطناً      الشام فيه ووادي النيل سيّانِ

وأينما ذُكر اسمُ الله في بلدٍ                عَدَدتُ أرجاءه من لبّ أوطاني

وهذا البيت الرائع:

إن الشهيد لحيٌ عند خالقه             وإنما الميت حقاً، خائن الوطن

فهنيئاً للشهداء الأبرار حياتهم الأبدية في الفراديس العُلى، وأشقى حياة لخونة الأوطان في الحياتين معاً.

لو أردت الاستشهاد بما ورد في (الديوان) من أبيات حرّكت لواعجَ الشجون والشؤون، وهي تلامس جراحاتي النفسية في اغترابي عن الوطن، حيث المساجد التي عمرتها وإخواني الأطهار، والمدارس والمعاهد التي تعلمتُ فيها وعلمّتُ، ومشايخي، وتلاميذي، وأهلي وأحبائي وجيراني لاستشهدتُ وأكثرتُ، ولكنني تذكرت أمر الرسول القائد صلى الله عليه وسلم:

(دع القلوب تقرّ) فأمسكت.

هذا أُنموذج من اهتمامات شيخنا المؤلف الجليل: الأستاذ الشيخ العليم: إبراهيم النعمة، وأيّ نعمة ساقها الله المنعم على الأمة العربية الإسلامية عامة، وعلى أهل العراق والموصل خاصة، بهذا الرجل الرجل، الحكيم الموهوب ذي المواهب المتعددة، ولعلكم تعرفون أهمية هذه النعمة حين تَطَّلعون على مؤلفاته القيّمة، التي ذرّفت على الستين كتاباً، وما يزال الشيخ الجليل يقدّم الجديد المفيد مما تحتاجه الأمة في هذا العصر الذي تعيشونه.

قدّم شيخنا ما قدّم وما سوف يقدّم – بعون الله وفضله – أدباً ملتزماً، وفكراً ملتزماً بشرع الله، وأخلاق الإسلام ومبادئه التي لا يمكن أن تُعْلَى، وهنا يتلاشى عَجَبُ مَنْ عَجِبَ من اختيار بيت أو أكثر من القصيدة، ولا يأتي بالقصيدة كاملة، لأنه يعلم ما يريد تقديمه، من أفكار ومعان يريدها لذاتها، ويعجبه منها صورها التي جاءت بأسلوب عربي فصيح.

شيخي الجليل العلامة إبراهيم! بوركتَ من داعية بصير، ومن واعظ أثير، ومن شخصية عامة محنكة، ومن مجاهد بلسانك وقلمك ويدك وعقلك وقلبك العامر بالإيمان والإحسان.

شيخي الجليل:

السلام عليك في الخالدين

عمان: 24/10/2015م.

وسوم: العدد 672