قراءة في مذكرات د. نبيل شعث: حياتي من النكبة الى الثورة (1-5)

لا شك أن حركة تاريخية رائدة كحركة فتح قد صنعت وجودها من عمق مآسي النكبة الأولى 1948م، وجمعَّت شتات الهوية وضياعها، وقفزت عن كل الشعارات النظرية، لتصنع للوطن عنوانه العربي والإقليمي والدولي، عبر مسيرة قادها الأوائل العظماء، وحوَّلت الشعارات إلى انطلاقة مسلحة أجبرت العالم أن يتعامل معها، وبذلك تولى الفلسطينيون زمام المبادرة، وطمسوا الوصاية والتبعية، وتولوا شؤونهم بأنفسهم، وأصبحت حركة فتح العمود الفقري للقوى والفصائل الفلسطينية، وسعت دائما إلى الوحدة الوطنية تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية ومتسلحة بالقرار الفلسطيني المستقل، حتى انتزعت التمثيل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وطرقت أبواب العالم، لتسطع شمس فلسطين في الكون، وما كان هذا لولا ثلة آمنت بأن الوطن ينتصر حين يخلص أبناءه في العمل والنضال، ويصنعون الإرادة والأداء الذي أبهر العالم، ومن هنا ولكي تستمر سيرة الرجال الرجال وتاريخ مشرق يتناقل من جيل إلى جيل، لتبقى وتستمر وتنتصر الثورة، فلابد من تسجيل ذلك التاريخ بكل الوسائل الممكنة، لأن كتابة، وقراءة التاريخ هو الدافع القوي والحافز الأكيد لنصل الى القادمين ليحملوا الراية ويستمروا في الطريق حتى زوال الاحتلال عن فلسطين وإلى القدس عاصمة دولة فلسطين وليتسلحوا بكل المبادئ والحقوق التي لن تسقط بالتقادم.

من هنا فإن ما سجله الأخ الكبير والصديق العزيز الدكتور نبيل شعث في مذكراته "حياتي من النكبة الى الثورة" يعتبر سلاحا حقيقيا، وزادا وطنيا، ونهجا يحتذى به،وصفحاته العامرة بالخبرات، وحافزا لكل القيادات لتكتب مذكراتها وتنقل لنا تجاربها وسيرة حياتها ومحطات الوصول الى الوطن وبناءه، فهذا هو العرس الذي لا ينتهي، والعطاء الذي لا ينضب، والمرجع الذي يوصلنا الى من سبقونا وغادروا دون أن يتمكنوا من أن يوثقوا تجاربهم في صفحات مشرقة لحماية الذاكرة والحفاظ عليها.

 يقدم السياسي الفلسطيني المخضرم، الدكتور نبيل شعث، في سيرته الذاتية مرحلة من أكثر مراحل التاريخ الفلسطيني تعقيداً، عبر قراءة موسعة لما عاش وخبر في مخزون الذاكرة الملتصقة بحياته، وهنا أسجل قراءاتي عن كتابه في جزئه الأول الذي يتناول فيه الفترة بين بداية الغزو الصهيوني لفلسطين وملحمة بيروت، وتناول كافة التفاصيل التي احتواها الكتاب في فصول وعناوين ومحطات وتواريخ وأسماء ومواقع ومواقف، وبالرغم أنه من الضروري تناولها تفصيلاً، إلا أنني سأترك للقارئ أن يتعمق فيها لتكون له خير معين للدخول في مراحل تاريخية أثرت في حياته وحياتنا، وأثر فيها، مما حوَّل مذكراته من سيرة ذاتية الى سيرة شعب يعتز بتاريخه ونضاله الوطني والسياسي لنيل حقوقه، كما قال الشهيد القائد الأب ياسر عرفات "أبو عمار":"إننا لا ندافع عن موقع هنا او هناك، لكننا ندافع عن إرادة شعبنا في الحياة، وإصراره على الاستقلال والحرية".

الدكتور نبيل شعث كما قرأته في مذكراته وفي سنوات معرفتي به، وطنيا فلسطينيا قوميا عربيا ملتزماً، يؤمن بالله وبالإسلام دينا، يرفض العنصرية والظلم والطغيان، ويتسلح بالمعرفة والتسامح بين البشر، لأن هدفه تحرير بلاده أولاً، وكما أنه يؤمن بأن أسلوب المواجهة الناجح يلزمه التسلح بالشفافية والصراحة المتناهية والمعرفة والثقافة وتعلم اللغات الأجنبية، ولا تخلو مذكراته من ترجمة لقناعاته أن المرأة شريكته في كل عمله وإنجازه المجتمعي والوطني، كما هو الحال للمرأة الفلسطينية في كل محطات المعاناة والصبر والانتصار والانكسار.

ولد في مدينة صفد الفلسطينية في 9 أغسطس 1938م، لأب فلسطيني من غزة وأمه سميحه التنير لبنانية من بيروت، وكانت صفد مقرا لقيادة الثورة الكبرى، حيث عمل والده علي رشيد شعث، مديرا لمدرسة صفد الثانوية التي تخرج منها الكثير من القادة المؤسسين لحركة فتح، وجيل العظماء ورواد العلم والتنوير، مما شكَّل له كنزاً من المعرفة، ساعده في كثير من مراحل حياته.

يافا الحضن الدافيء في حياته، والمدرسة العامرية أهم المدارس في فلسطين،كما كانت الاسكندرية المدينة الجميلة التي أحبها وعشق تضاريسها وجغرافيتها وأهلها، وفيها البنك العربي الذي عمل والده مديرا له، وحين كان عمره خمسة عشر عاما،يتذكر مجموعة الشباب الذين زاروا والده، وهم ياسر عرفات، وصلاح خلف، وفاروق القدومي وقدم لهم والده الدعم المالي والمعنوي، وقائلا له عن ياسر عرفات "هذا الفتي سيصبح قائدا ورئيسا لفلسطين"، كما يتذكر أن والده أول من فكر في انشاء نادي فلسطين بالاسكندرية وقد كان رئيسا له وعميدا للجالية الفلسطينية هناك وتحول النادي لاحقا مقرا لمنظمة التحرير الفلسطينية.

يتبع في الحلقة الثانية ..

وسوم: العدد 692