الاغتراب في زمن الصمت

الاغتراب في زمن الصمت

سليمان عبد الله حمد

[email protected]

الاغتراب ومفرداته الثقافية  قد يعنى انه خروج من دائرة الاوطان  ولو أختلفت الاهداف والرؤى لكل منا !!! قد يرتبط الوجدان الانسانى بمعدل الحنين إلى ذاك المكان والزمان من خلال الشكلـــيات او الدوافع المادية أو الاجتماعية ... أين ما تمضى يلازمك ذلك الاحساس الجارف نحو الوطن ، ولو تناسيته احيانا قد تحلم بتحقيق طموح ما اصبح عسير، ان تقترب منه، وأنت فى كنف الاوطان لا تجنى غير ثمرات الصبر وسراب التمنى والخيبة ، ويسمى هذا الضياع داخليا اى انك لا تجد ذاتك داخل الوطن، حين تستشعر فداحة الظلم والاستهوان ... او لا تجد قيمتك ، حين تسحــق بنى ادميتك وانت فى احضان أهلك وعشيرتك ، وفى هذه الظروف قد يصبح الخروج من الوطـــن نعــــمة تحرر... وانعتاق ....ليس من اجل نفسك ولكن من اجل الاخرين.....

فكلنا خلقنا لنتغرب خلف السراب فنحن لم نترك  اوطاننا ، و لا نملك إلا خيار الهــجرة والهروب من مرارة الفقر، وضيق الحال، فربما نجد في طريق الإغتراب ما نحلم به وننشده ...

مضت الايام والشهور وتوالت سنوات الاغتراب ، تاركا خلفه زوجتــه و قريتـــه التى تنتظر عودته بفارغ صبر وطول انتظار ، وربما تطفئ الاتصالات الهاتفية كثيرا من لهيب الاشتياق ونار الانتظار ، هكذا كانت أسرته تنظر الى الزمن الذى لا يكاد يمضى حتى تتآكل الايام ... وتقرب المسافة لعودة إلى حوض الوطن والنيل العشوق   ...

فهذه زوجته  تعيــد ترتيب البيت وهى تنظر اليه بعين الحبيب المنتظر ،وقد ينفرط عقد الدمــوع معظم الليالى، لتنسكب شوقا ولهفة ويأخذها الخيال... بعيدا بين الايام الدافئة، وهى تعــــانق نشوة اللقاء الحمـــــيم حين يصبح للحنين طعم ونكهة... عند اقتراب عودة المهاجر عرفت القــرية عن بكرة ابيها الخبر...  وكان المغترب يحسب الايام كأنها دهور لا تمر ولا تدور... متى يتنسم عبير الحيشان ، ولمة الخلان .. متى تملاء خياشيمه ريحة النيل والجـــروف ، ويمتع العيون من شروق الشمس ...وهى تغازل الحقول وتتخلل النخيل ... متى يتكئ مع الاصحاب ويتذوق طعم شاى من يد الحاجة... متى تتكسر حواجز المسافة فى لحظات اللقاء بين احضان الاهل وبشاشة الاخوان ، متى يتناسى ما تكدس فى الاعـــماق من اغتـــــــراب متى يتبادل اطراف الحديث الحلو بين الناس البسطاء.... الذين تكفيه ان محبتهم تفيـــض منهم على من حولهم بدون تكلف، قد لاينسى كل منا  ذكريات حية فى اعماقه راسخة بين احلامه و ذاك الصوت القادم من جروف النيل  وهو يدندن طمبوره الذي يكاد يتكلم غناءا وطربا ... ويسترجع مع نفسه نغمات تلك الايام الصافية، التى لم يدخل عليها الكدر، ولم تشرخ رقتها رياح الشتات والرحيل....

وصل المغترب وقد فاض به الحنين وابكاه الشجن ، الى قريته التى امتد حنينها فيه كامتداد الاخضرار فيها..... تلك الراقدة على ضفاف النيل كعروس عذراء فى يوم زفافها ... يزهو بها النخيل ، كأنه يلوح من بعيد بالترحاب، ويمد سعفه وثمـــاره اليانعـــــــة كرما لاستقبال ضيوفه... ذلك الجود الذى تعلمه النخيل من اهل الاصالة والكــرم الحــاتمى الذى يجرى فى عروقهم ...كجريان النيل من غــــــابر الازمان....
 فتلك زوجته تسابق خطواتها ويغالبها الحياء والخجل... فتمد يدها فى خفر الحبيبة الولهانة ، وفى نفسها قد تمردت المشاعر المكبوته،  والاحاسيس الجيــاشة كأنها جمرة منسية توهجت فى اعماقها ....حتى كادت ان تنطـــــق بين صمتها والكلام ... وهى وسـط الجـــمع الغفير من الاهل والأصحاب والجيران... ويضحـــك المغترب و كأنه مولود جديد فى دنيا قد ادهشته الذكريات ، وهى تحيا امام ناظريه كأنه حلم جميل ،  او كأنه قــــد نسى الابتســامة الحقيقية، بين زحمة البعد... ومشوار التغرب الطويل....

ابتهج المغترب بالاجازة كما ابتهجت به زوجته  والقرية.... الاجازة التى عاش لها وهـو فى ارض الاغتراب كان كل يوم حلو يمضيه فى قريته، بين اهله وأصحابه... يتـــمنى ان يتكرر... ولايودعه ابدا... كان مجرد الاحساس باقتراب نهاية الاجازة يملاء قلبه العــــاشق ، ويحـــرك الاحزان الحبيسة... ويحى الاغتراب فى وجدانه ...باشجانه التى لا يعرفها ..... الامن تذوق طعمها.

تلك هي حراجات الغربة التي تأكل إيامنا كما تأكل النار الحطب والعمر يمضي مر السحاب فالكل يمضي إلى غايته ... فالغربة لها سلبيات قبل الايجابيات .. ولكن ليس منا من يفكر في هذا النزيف المتواصل عبر الزمان ..!!! فالحياة تمضي رغم مرارة  الاغتراب ..