البطولة في الوعي العربي

البطولة في الوعي العربي

حول مسلسل (باب الحارة)

الناقد د.ثائر العذاري

 [email protected]

ليس هذا مقال في نقد دراما تلفزيونية، فعلى الرغم من إعجابي الكبير بحرفية هذا المسلسل، فإني لست من المتخصصين ولا العارفين بتقنيات هذا النوع من الفنون، بيد أن الشعبية الكبيرة التي حاز عليها العمل حفزتني للتفكير والبحث عن أسباب هذا الانتشار، فأنت ستذهل إذا جربت أن تكتب ((باب الحارة)) في أي محرك بحث على الإنترنت لكثرة ما ستجد من مواقع اختصت بهذا العمل، بل لقد غزت الأسواق بضائع متنوعة تحمل اسم المسلسل أو تعرض صور أبطاله وسيلة من وسائل الترويج.

إن الموضوع الأساسي الذي يطرحه المسلسل هو المنظومة الأخلاقية العربية أو الشرقية، وهو إن كان يسرد أحداثا تقع في (الشام) فإن هذه المدينة كانت فيه نموذجا لكل مدينة عربية قبل ما يقرب من مائة عام، وقد أعجب المشاهدون بهذه المنظومة أيما إعجاب، بدليل الشعبية الكبيرة والانتشار الذي اكتسبه العمل.

والصفة الحميدة البارزة في منظومة (باب الحارة) الأخلاقية هي تلك الحميمية الإنسانية التي كان يتصف بها الناس، إذ يبدو أن كل أبناء الحارة كأنهم ينتمون إلى أسرة واحدة، يتكافلون في السراء والضراء، ويقضون نهاراتهم معا في سوق الحارة الضيق. هذه الصفة التي بدأت المدن العربية بفقدانها نتيجة لتقليد أساليب الحياة الغربية، وفي العراق مثلا لما تزل مدننا تعيش هذا النمط من الحميمية المفرطة.

غير أن المسلسل يكشف عن عيوب خطيرة في المنظومة الأخلاقية العربية التقليدية، والأخطر من ذلك أن الناس أحبوا تلك العيوب ونظروا إليها بوصفها فضائل.

شخصيات المسلسل شخصيات نمطية، يعرض كل منها نموذجا لنمط شائع من الشخصيات العربية التقليدية، وسنحاول تحليل أبرز هذه الأنماط.

1-(أبو عصام) رب الأسرة المثالي، :

هذه واحدة من الشخصيات الرئيسة في العمل التي حازت إعجاب المشاهدين وتعاطفهم، كل همه في الحياة الحفاظ على أسرته وتوفير العيش الكريم لها، وهو في سبيل هذه الغاية النبيلة يفعل أي شيء، لكن المشكلة أنه يرى أنه هو فقط من يملك الرؤية الصائبة، وليس لأحد من أفراد العائلة أن يعارضه أو يعصي أوامره، أو حتى يناقشه في أمر يخص العائلة، فمثل هذا الحوار ينتهي دائما بأن يستخدم أبو عصام سلطته الأبوية لحسه، من غير أن يبين فحوى رؤيته وأسبابها.

(أبو عصام) رب الأسرة، المتفاني في سبيل أسرته، فجأة يتخلى عن كل ذلك التفاني، ويتنكر لكل قيم الأسرة، بمجرد أن يشعر أن كبرياءه وذكوريته، قد تعرضت للإساءة، فحين تكون (أم عصام) في حالة من التوتر العصبي الشديد يدفعها إلى أن تطلق كلمة (فشر) التي تعني (كذب) في وجهه، يأخذ قرارا سريعا بهدم نظام أسرته ويطلِّق زوجته ورفيقة عمره،

2-(أبو شهاب) الرجل القوي:

تمثل القوة العضلية والجسارة معيارا مهما من معايير الرجولة والبطولة الشرقية، و(أبو شهاب) هو الرجل القوي الذي يفرض حمايته على الحارة ويجبر الجميع على إطاعة أوامره ورؤاه، حتى إن كانت تتناقض مع قيم المروءة (مثل أمره بمقاطعة (فريال) وفرض الحصار الغذائي عليها عندما تسببت في حبس ابن أخته.

(أبو شهاب) بقوته العضلية يأخذ بيده كل السلطات تشريعية وتنفيذية، والمشكلة أن كل أهل الحارة مقتنعون بشرعية سلطته ومقرون بها. ولهذا يستطيع (أبو شهاب) حل أية مشكلة بأمر حازم ومن غير تقديم أية مسوغات (مثل حل مشكلة صعود (أبو بدر) على سطح منزله)،

3-(أبو النار) الرجل القوي المنافس:

يمثل أبو النار الشخصية المضادة لأبو شهاب فهو الرجل القوي في حارة مجاورة لكن كل منهما يحاول بسط نفوذه ، ولذلك تنشب المنازعات بينهما، في صراع يشبه ذلك الذي ينشب بين الحيوانات المفترسة لتحديد مناطق النفوذ، ولهذا ظهر أبو النار بصفات تختلف قليلا عن أبو شهاب، فالأول أكثر طموحا في بسط النفوذ، فهو يحاول افتعال الخلافات لمواجهة الثاني، ولذلك بدا :انه يمثل عامل الشر في المسلسل. ولكن سرعان ما يكتسب إعجاب الجمهور وتعاطفهم حين يكشف عن غيرته في مساهمته في إنقاذ أبو شهاب من أيدي الجيش المحتل.

في الحقيقة لم يكن سلوك البطلين نابعا إل من المبدأ البدوي المعروف (أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب).

 

كل من هذه الشخصيات اكتسبت فضائلها مما تتمتع به من قوة عضلية, ولكن من المهم أن نلاحظ الربط في هذه المنظومة بين الضعف العضلي والرذيلة، فبالإمكان النظر إلى شخصيات مثل (أبو بدر) و(أبو غالب) وملاحظة الرذائل التي تتصف بها وملاحظة العلاقة بينها وبين ضعفهما العضلي، وهذا ينطبق على كل شخصية ضعيفة عضليا في العمل، فكأن الضعيف لا يجد طريقة للعيش في بيئة تخضع للقوي سوى الخداع والمكر والغدر.

وإذا نظرنا إلى مكانة المرأة في مجتمع (باب الحارة) فسنرى النموذج الصارخ للاستبداد الذكوري الشرقي، فقد ظهرت النساء بشخصيات باهتة، مسحوقة مسلوبة الإرادة، كل همها في الدنيا الزواج والإنجاب والعيش في كنف رجل ينفق عليها.

تقضي نساء (باب الحارة) معظم أوقاتهن في الخدمة المنزلية من إعداد الطعام وتنظيف المنزل ورعاية الرجال وتوفير الجو المريح لهم، فالمرأة المثالية هي تلك التي لا يكون على لسانها إلا كلمة مثل (أمرك ابن عمي) و(حاضر لبن عمي).

وفي أوقات الفراغ حين تتزاور النسوة بينهن خلال مدة وجود الرجال في العمل فإنهن لا يجدن ما يفعلن سوى النميمة والتسلي بالخلافات التي يكون سببها دائما غيرتهن من بعضهن بسبب يسر الحال (مثل الخلاف بين سعاد وفوزية) و(سعاد وفريال).

إن تدقيقا أخلاقيا في الأنظمة الاجتماعية للمسلسل سيوصلنا ببساطة إلى إننا ما زلنا مرتبطين بقيم البداوة وما زلنا نرى فيها المثل الأعلى للعقد الاجتماعي.