يا أهل النشيد: مَذِرت البيضة أو تكاد

يا أهل النشيد: مَذِرت البيضة أو تكاد!

آلاء شحادة

[email protected]

مقالات كثيرة كُتبـت، وكلمات شتى سُطّـرت، وانتقادات عديدة وُجّهـت، كل هذا في حق أهل النشيد من المنشـدين، بل ولم يسلموا من حروب طاحنـة كانت تدور بين الفينة والأخرى. واليوم أوجـه كلامي إلى أهل النشيـد من المستمعيـن، هذه الفئة التي نصبـت نفسها قاضيًا على كل ما يصدر، إلا أنني اليوم سأسمح لنفسي أن أنصبـها قاضـيًا على هذه الفئة، ذلك أن هذه فئة بدأت - في بعض الأحيـان- تقلب موازين الأمـور، فترفع منشدين إلى مكانة قد لا يستحقونها، وتضعف من أعـمال فيها خير كثير، فهم "ضغث على إبّالـة" أجـل، هكذا هم بعض أفراد هذه الفئة، فلا بدّ من أن تكون هناك موازين فنية نضع من خلالها كل منشد في المكانة التي يستحقها، ونعطي كل عمل فني ما يستحقه من المدح والتشجيع.

من الطبيعي جدًّا أن نسمع بعد كل إصدار ردودًا كثيـرةً، ونرى له أصـداء متنوعة، لكن ما هو غير طبيـعي غرابة تلك الردود من حيث مضـمونها وأسلوبهـا!

فإن كان الإصدار بالموسـيقا، نهضـت جماعة (لا للمـوسيقـا) لتحـيي حفلهـا، وتقيم كرنفالـها المحفوظ ، وتطلق مواكب من الفتاوى التي تحرّم المـوسيقـا. ثم تأتي جماعة (نعـم للمـوسيقـا) لتحيي حفلها كذلك، وتقيم كرنفـالها المحفوظ ، لتسرد فتاوى مَن حَلّـل وأجـاز. ومسكين مَن هو مثلي، يقـف بينهما، فقد أتعبه الأمر، وساءه الوضع. أما المنشـد -المسكين الآخر- فإنه يُطرح أرضًا، لتأتيـه ركـلات من هنا وركـلات من هناك، ولكنني أذكـركم بدلاً عنه بأن "من كسـر مؤمنًا فعلـيه جبـره".

هل تصدقون أن أكثر الجمهور قد حفظ الفتاوى التي تُـعنى بالمـوسيقـا أكثر من أي شيء آخر؟ حفظـنا آراء الأئمة الأربعة، الحنبـلي والحنـفي  والشافعي والمالكي، ورأي أبي حزم الظاهـري والقرضـاوي، وابن القـيم وابن تيميـة، والغـزالي وفلان الفلاني، وعقلنـاها أيضا، فماذا تريدون أكثر من هذا؟ ما دام الأمر قد وصل وحُـفظ وعُـقل، فلِمَ لا نتوقف عن الرسـم على الماء؟! فليـأخذ كل منا ما يريحه، وليأخذ كل منا بالفتـوى التي يرى فيها الحق، ما دام النقاش عقيـمًا فلِمَ النقـاش؟

فمثلُ هذه النقاشات تـردي حـال المسلـمين، وتلهيهـم عن الأمـور الحق وحقائقهـا التي تحتاج إلى حل. والنقـاش حول أحقـية كل طرف كنقاش جماعة على بيضـة وضعتها دجاجة على سور يفصلهما، فأيهـما يا ترى أحق بالبيضة؟

ويتجادل القوم ويتناقشون، وقبل أن يدركوا أن لا  فـائدة من الجدال، يدركون أن البيضة قد فسـدت وضـاعت على كليهما! وهكـذا نحـن، نتناقش حول نفس الأمر لتـذهب بهـجة الإصدار أدراج الـرياح، ويزول رونقـه، وتفسـد قيمتـه!

فإلى متى سنبقى على هذا الحـال؟ إلى متى نضـع الأمور في غير موازينها، ونقلبـها على غير حالـها؟ متى ندرك أن سوء أفعـالنا لا يعود على المنشـدين إلا بشرّ؟ ألا توافقونني بأنكم أنتم من تصنـعون هذا الفـن ، وأن المنشـد بلا جمهور لا شيء؟

لنعـط كـل ذي حـق حـقه؛ فنخرج بنتيجـة تسهم في تطوير هذا الفـن لا تدميره.

لكل منشد أيًّا كان جمهـوره، وإن كنت لا تؤيد فعلـه، فإن هذا لا يعني إشـهار سيفك في وجهه، والقضاء على فنـه، فكلهم ذوو دعـوة سامية وأهداف نبيلة.

لماذا لا نقوّم المعـوج ونتوقف عن تهشيم الزجاج، يقول المثل اليـاباني: "مشاهـدو لعبة الشطـرنج يرونها أفضـل من لاعبيـها"، وكذلك أنتم يا جمهور هذا الفـن، إنكم قد تملكون فكـرًا، أو تشاهدون أمـرًا، أو تصنعون سحـرًا غاب عن صنّـاع الأمـر، وما تجودون به قد يعلن ميلاد حقبـة إنشادية، يتربع فيهـا الإنشاد على رأس كافة الفنـون، فقد مضى ذلك الزمن الذي كانت فيه جماعة من الناس يرون النشيد شيئًا ثانويًا، ومضى ذلك الزمن الذي كانت ترى فيه جماعة من الناس أيضًا الإنشاد حرامًا أو ما هو قريب من ذلك بحجج كثيرة، بل بات النشيـد اليـوم من أهم وسائل الدعـوة إلى الله، إن عرفتم أن هناك أقوامًا قد دخلوا الإسلام بسبب روعة ما رأوه من الخـط العربي، فكم تحسـبون أن منهم قد يدخل الإسـلام إن وصلت إليه هذه الكـلمة وهذا اللحن وهذا الصـوت؟ وكم عاصٍ قد يتـوب إن وصل إليه هذا أيضًا ؟ أليس النشيـد يجمع بين جنباته كل الجمال الروحي وكل السحر النفسي؟ أليس النشيـد يأخذك من عالم محسوس ملموس إلى عالم خيالي تصوريّ يحلّق بك في سماء الإبداع ؟ أليس النشيـد يملأ النفوس بسعـادة ومحبـة وعشـق؟ أليس النشيد يعمّق المعاني الإنسانية مع كل ما هو جميل؟

وأتساءل كثيرًا، متى يصبح النشيد فنـًّا من تلك الفنون التي أُلّـف فيها، ودُرّس عليـها، وبُحث عنها؟ متى نرى للنشيد تاريخـًا مدونـًا، يحكي عن أعلامه من المنشدين، ويطرح الرؤى المختلفة التي تساهم في تطويـره؟ متى نشاهد النشيد يسـير وفق فلسفـة خـلاقة، ووفق منهجيـة مبدعـة؟ ألا تلاحظون معي أن فننا هذا يفتقر إلى الكتّاب والنقـاد؟ إنني مذ عرفت النشيـد ما عرفت إلا ناقدًا واحدًا لا يفتأ يكتب للنشيد، وإذا وجدنا نقادًا آخرين فلا نجد لهم إلا مقالاً أو مقالين أو ثلاثة .. فهل يكفي النشيد وأهله ناقد واحد؟ 

لم تكن الأمـة يومًا فقيرة بأهل الإبداع ولـن تكون، فلنبدأ من اليوم، لننتظر الغد بما سنحصـد من زروع، وإن غدًا لناظـره قريب.

       يا أهل النشيـد، إن القـوس الضعيـفة لا تطـلق إلا سـهمًا ضعـيفًا.