باب الحارة

باب الحارة

استدعى التاريخ ولم يتطلع لمستقبل

صالح عوض

[email protected]

في واحدة من روائع الدراما السورية جاء مسلسل باب الحارة الذي توالت اجزاؤه مع كل رمضان شاهدا على تطور العمل الفني للاسرة الفنية السورية وقد تمتع المشاهد العربي مشرقا ومغربا بعمل تداخل فيه الفني مع الثقافي والذي جاء مكثفا على ابراز القبم الجمالية الفاعلة في الحياة العربية التقليدية ، وعلى استنهاض معاني النبل وأكرم ما في المشاعر من احاسيس، ومركزا على التصدي لحالات الرذيلة المعنوية والمادية .. فكان بذلك مادة تربوية اجتماعية بامتياز.

جاء مسلسل باب الحارة ليفتح الحياة في مرحلة معينة على الاشخاص والعمران والقيم  وليفتح الاطار واسعا على مزيج من المشاعر وانواع التنازعات بين عناصر الحياة في مجتمع يحاول التشبث بقيمه ويجعل حراسا عليها من قوانين و أوضاع ومرجعيات في حين لاتتوقف المؤامرات عليه من الخارج لتقويضه وبث الفتنة في أوصاله..لقد شد هذا العمل الفني كل الفئات الاجتماعية في المجتمع العربي ليجد كل واحد مبتغاه الفني او القيمي في هذا العمل الكبير الذي شهد حوارا يتداخل مع رغبات جامحة في المجتمع العربي المعاصر الذي يحس بمدى هوانه نتيجة تخليه او ارغامه على التخلي عن تلك القيم.

وفي ادراك عظيم لأهمية المكان جاء ابراز الجانب العمراني ليعطي تلك القيم فضاءها الرحب في التحرك والنجاح.. فباب الحارة واسع وعال والبيوت جميعا مشمولة بالحماية وكلها داخل السور وهي متجاورة بقرب من بعضها وفي داخل كل منها فسحة كبيرة تتسع لكل ذوق وراحة وجمال ودفء انساني كما هي قلوب ابناء العروبة والاسلام.. قلوبهم متجاورة وفي كل منها سعة وراحة وجمال ونبذ للاوساخ والسخائم على الاقل هكذا اراد المخرج ان يظهر تلك المرحلة..فكان العمران تماما انعكاسا للحالة الاجتماعية النفسية لابناء تلك المرحلة.

ومن صميم الشخصية العربية الاجتماعية التاريخية ونماذج تألقها حيث دوما كانت روح التكامل والتوافق هي الحكم المقبول والمثالي في حياة العرب في القبيلة والمدينة سواء فلم يكن فرعون موجودا في هذا العمل الفني..وكان الابطال  هم كل من تحرك في المسلسل ولكل لمعانه واضافته واهميته وهكذا ياتي صعوبة اشتباك هذه الشخصيات المتنوعة..فلم يكن العمل الابداعي على طريقة بعض الدراما العربية التي تأتي بالبطل الفرعون وتفصل له الاشياء وتجعل كل الاحاد والوقائع تخدم بطولته.

لم يكتف المسلسل بان كثف القيم وابرز جماليتها وتاثيرها في حياة الناس بل ذهب لاعطاء القيم سلطانا ماديا بان جعل لها مرجعيات من اشخاص يعرف كل احد منهم دوره ومهمته..وفي اشراقة جديدة تنكشف العناصر الحقيقية في شخصية من سيتولى موقعا قياديا في الحارة أي في المجتمع..انها الشخصية الاكثر عطاء وحرصا على الكل والاكثر حزما وحكمة..وعالم الدين المتدخل دوما بحكمته وبرفقه وبمحبته للجميع وبوقوفه دوما مع كل ما ينفع الناس و لا يزاحم احدا موقعه ولا مكانته ولا يتنطع ويأخذ الامور باللين والرأفة.. وكانت قضية الانتماء للمجموع  مسألة مقدسة وردع المظالم الداخلية عملية متواصلة يتوافق عليها كل رؤوس المجتمع .. كما لم يغب عن العمل الدرامي الكبير الاشارة الى قضايا عربية معاصرة فلقد كان الجزء الاخير الذي عرضت حلقاته في رمضان المنقضي تعالج موضوع الحصار في اشارة لا تخفى دلالتها وكان الشبه كبيرا بما يحصل لغزة المحاصرة.

الا ان العمل مع قدرته الفائقة في الاقتراب من هم واهتمام المواطن العربي كان منصبا على مرحلة هي في ذيل حضاري  أي في اواخر العهد العثماني، فمع عظيم ما في المجتمع من قيم يتشبث بها الناس الا ان هناك عناصر خلل حقيقية هي التي جعلت من هذه القيم مجرد فلكلور ليس له في حياة الناس اليوم اكثر من الحنين والحسرة ولانها كانت ليست اكثر من فلكلور كان انهيارها مدويا ليسقط المجتمع فيما بعد وكانه لا يحمل من تلك المرحلة سوى الذكريات.

ففي المسلسل غابت قيمة الثقافة والعلم والوعي فلقد اصبحت الفتوة والنخوة والبنية الجسدية والشوارب والتلويح بالخنجر والانبراء بنبرة صوت متميز بديلا عن الوعي والثقافة والتخطيط والبناء التركيبي .. فلم تظهر في المسلسل مؤسسات التعليم والقضاء والبناء والصناعة .. لم تظهر قيم الوقت والعمل والانجاز، حتى لكأن كثيرا من شخصيات النخبة لم يكن لها الا التمظهر بادوارها فلقد كانت القيم استعراضية اكثر من كونها مبنية على وعي بما لها من مردود حضاري.

ثم ان النموذج الذي عرضت فيه علاقة الرجل بزوجته المهددة دوما بكلمة (طالق) والقائها في زاوية الحريم يعني بوضوح مدى تأثر المجتمع العربي بالثقافة التركية المتمثلة بزمن الحريم وعلاقة الرجل بالمرأة .

لقد غاب دور المراة الاجتماعي السياسي الا في حالة نادرة كما فعلت ام جوزيف  مع اهمية الاشارة الى عملية الوحدة الوطنية وهنا حدث خلل في سياق البناء انه غياب النموذج العربي عن التمثل ، والخلل هنا ليس بالضرورة فنيا ، بمعنى لم يصب به العمل الفني من نقص او قصورانما هو على الارجح في توصيفه بنية المجتمع العربي المعاصر حيث تردى دور المراة العربية كثيرا لاسيما في الحياة التقليدية فلقد اصبحت المرأة رهينة بالحماة وحكاوى النساء مستلبة الى زوجها وكأن لا شخصية لها  وكل ما عليها ان تلبي للزوج بدون ادنى حق في ابداء رأي أما هو فلا يتكلم الا حازما ممتقع الوجه وله إصدار الأوامر التي ينبغي ان تنفذ فورا .. لقد  تجلى في عهود عربية سابقة في الجاهلية و الاسلام سواء حضور المراة على قدم المساواة قيادة ورأيا في المجتمع في شتى المكونات الحياتية..

لقد كان العمل الفني (باب الحارة) رائعا لكنه ايضا خطير لانه لم يقدم نقدا علميا مهما لتلك المرحلة بل قدمها على انها نموذج رائع حببها لجماهير العرب لقد كان عليه ان يبرز جانبا اخر ولو محدود يمثل المطلوب حضاريا ويدخله في جدل مع الوضع القائم وذلك  نقدا للمرحلة التي عاينها.. كان عليه ان يبرز جدلا بين الموروث من القيم والمراد فعله لمواجهة تحديات العصر ، فليس من المعقول أن يجعل النخوة والغيرة هي الاسلحة الناجعة في مواجهة اساليب الاعداء في الحصار والحرب والمؤامرة ..كان لابد ان يكشف عن وهن المقاومة عندما تفقد العلم والتكنلوجيا والادارة العلمية الناجعة ..ولانه لم يفعل ذلك اصبح و كأنه يروج لوجهة نظر متخلفة وهو بلاشك ليس كذلك.