المصور، مونودراما المخيم الموجوع

clip_image002_6b04a.jpg

رغم دعوتي للجلوس في مقدمة المسرح إلا أنني قررت كالعادة التربع في الصفوف الخلفية، ذلك لأنني على يقين من أن جرعات الوجع الذي ستحمله مسرحية (المصور) تفوق ما يمكن أن يحتمله القلب. ففي تلك المونودراما التي يؤديها الفنان الفلسطيني الكبير علي أبو ياسين تأريخ للانكسار الفلسطيني منذ النكبة وصولاً إلى النكسة ثم أوسلو وما تلاها من انفجارات الانقسام والحروب وتهويد المقدسات.

ولعل أكثر ما لفت انتباهي خلال تلك المسرحية أمرين هامين، الأول يتمثل في كون تلك المونودراما عمل يندر حدوثه في الأراضي الفلسطينية بسبب إغفال دور الثقافة، وتحديداً مجال المسرح وخصوصاً المونودراما التي تعتمد على ممثل واحد وهو ما يصعب تحقيقه أصلاً، إلا أن أبو ياسين تألق كالفنان العربي الفلسطيني محمد بكري في مونودراما المتشائل التي ما تزال راسخة في عقلي ووجداني حتى اللحظة. الأمر الآخر هو أن معظم أحداث تلك المونودراما الفنية أخذتني إلى فيلم صياد اليمام التي تألق في أداء دور المصور فيها الفنان المصري رؤوف مصطفى، ذلك لأن الفيلم لم يكن كالرواية التي كتبها إبراهيم عبد المجيد تماماً، فقد تم استحداث شخصية جورج المصوراتي التي كانت متطابقة بشكل كبير مع درويش (علي أبو ياسين) في مونودراما المصور.

المسرحية عبارة عن خليط من الأحداث التي تدفعك للبكاء، تبدأ من خلال الفلاش باك أو التداعي حين يبدأ هذيان المصور درويش بالبحث عن صورة سومة مع ابنها عطالله، والانتقال من آلامها إلى حكاية درويش نفسه. حيث يتحدث عن سومة التي حضرت تطلب صورة ابنها (عطالله) والتي حظيت بها بعد أن كبر ذلك الشاب الذي جاءها على عطش، لتتواتر الأحداث إلى حكاية درويش مع ابنه ياسر وحاتم ووسيم وسعاد وسلوى؛ فسومة تزوجت ثم حظيت بطفل بعد ستة عشر عاماً من العقم، لكن المحتل الذي لا يرحم، قتل عطالله وهو يسبح في بحر مخيم الشاطئ بطلقة من سفينة حربية (طرّاد) جعلت درويش المصور يفصح عن وجعه. حيث ظل درويش يبحث في الاستوديو عن صورة سومة مع ابنها طوال اليوم دون أن يفلح في إيجاد الصورة، ذلك لأن الصور كثيرة (الصور كتار يا سومة) وكذلك فالشهداء كثر في المخيم بما فيهم حاتم ابن درويش نفسه.

الصور المتناثرة في الاستوديو لفتت انتباهي، فمعظم الشهداء كانوا من المخيم نفسه، وصورة الشهيد رأفت الفسيس معلقة في صدر الجدار وفي الجدار لا وجه للأحياء، حتى عطالله كالسمكة التي لفظها الموج شهيداً لم يمنع رجال المخيم من أخذه إلى مشفى الشفاء وفي المشفى شهداء كالصور الكثيرة في الاستوديو.

ينتقل درويش من الحديث عن سومة إلى حكايته مع أبيه الذي رفض النزول لبحر المخيم لأنه لا يريد أن يفقد لذة بحر يافا. ولأن أبيه يقدّس يافا يمنع ولده من العمل في البحر فيقرر درويش أن يصبح مصوراً.

(الولد راح والصورة مش حترجعه) وفي الاستوديو كاميرات متعددة تنتظر أبطالاً جدد ليحظوا بفرصة الوقوف أمام الكاميرا دون أن يكون مصيرهم معلوماً، كما حدث مع ياسر الذي جاءه الجنود في ليلة ماطرة، انقضوا عليه وسحبوه والضابط يخبر أمه بغضب: ولا عمرك حتشوفيه. ويواصل درويش حكايته من خلال الفلاش باك ليخبرنا كيف تعرف على سلوى ابنة المخيم ولم ير غيرها، وكيف اقترن بها لينجب أطفالاً يحملون صورة الواقع المرير، فبعد ياسر والاعتقال الذي لم تفلح أوسلو بإخراجه، يموت حاتم أيضاً بطلقة غادرة في تلك الانتفاضة ضد الاحتلال، ثم يغادر ابنه وسيم مهاجراً إلى السويد كحال كثيرين من غزة. وسعاد ترفض الزواج لأن سلوى ماتت منتحبة على أبنائها وهي تتنشق عبيرهم من خلال ملابس لم تغسلها منذ أعوام طويلة.

صورة عطالله تدفع البطل للحديث عن المخابرات الإسرائيلية واغلاق الاستوديو لأنه يقوم بتصوير المقاتلين الفلسطينيين رافضاً الانصياع لضابط المخابرات، ثم الاصرار على ممارسة المهنة حتى داخل المنزل، وفي المنزل يرفض درويش أن يُظهر دمعته أمام سلوى قبل أن تموت وهو يعرف من أنها بكاءه  كبير بسبب معاناة الأسرى والاضطهاد داخل الزنازين.

درويش الذي يعرف المخيم ردهة ردهة ويعرف كل زقاق فيه، ويعرف البحر حصوة حصوة، يندم من أنه سمح لوسيم بالسفر من المخيم، فمن الذي سيدفنه حين يموت، ومن الذي سيستقبل أخيه حين يخرج من السجن، وكأني بهذا الحوار أعود إلى جورج المصوراتي في صياد اليمام الذي يسرد واقع المعاناة بذات الطريقة الفنية والاستعراضية التي جاءت على مسرح رشاد الشوا في غزة هذه الليلة، لدرجة أن كلا الفنانين لم يحظ بصورة طوال حياته حتى يقرر درويش كما فعل جورج المصوراتي بالحصول على صورة له، فينتقل من خلف الكاميرا إلى الأمام.

صرخة درويش موجعة حين يقول: الصور مطبوعة بالقلب يا سومة، لأن حاتم في قلب درويش، كما أن عطالله مطبوع بقلب سومة، وكلاهما ابن المخيم والمخيم يضج بالشهداء، والدموع كثيرة كدموع درويش الذي تمنيت أن ينهي مسرحيته تلك عند نثر الصور على أرضية المسرح وهو يصرخ والتصفيق يضج بالمكان مع بكائنا، وأحسب أن المسرحية رغم استمراها انتهت عند تلك الخاتمة. 

مونودراما المصور وجع لا تمنحه الكلمات أي وصف، لأنها صوت غزة المقهورة، فهل ستنجح في الوصول إلى أصقاع العالم لتوقف سيل المعاناة فيها. 

وسوم: العدد 652