ضحايا الصراصير

د. محمد أبو زيد الفقي

قبل غروب شمس اليوم الثالث من رمضان المبارك بساعتين، خرج الأستاذ سعيد من بيته في إحدي مدن مصر، لشراء طلبات للمنزل لزوم الفطور، وبدون ترتيب سأل ابنه خالد [ست سنوات] وابنته سارة [أربع سنوات] عن ما يريدانه من السوق، وقبَّلهما  وخرج مسروراً بما حدث، وذهب إلي السوق، وبدأ في شراء حاجياته، وأثناء وقوفه أمام أحد الباعة، وقف بجواره [توك توك]، به جهاز تسجيل عالي الصوت بشكل مستفز، وسائقه يتمايل علي أنغام هذه الأصوات المنكرة، فاقترب الأستاذ سعيد من سائق التوك توك وهو فتى يبلغ من العمر [16 سنة] وقال له: من فضلك اخفض صوت هذا الجهاز لأنني لا أستطيع تحمُّله ، أو التحدث مع البائع فيما أريد.

السائق: وهل هذا الشارع ملكك؟

سعيد: إنه ملكنا جميعا وليس ملكا خاصا لأحد.

 السائق: إنه ملك الرجال فقط، وليس ملك العيال أمثالك.

 سعيد: سأطلب لك النجدة الآن.

السائق: اطلب منهم أن يأتوا بعربة تكريم الموتى معهم.

واستدار الأستاذ سعيد إلي البائع متجاهلاً السائق السفيه، ولكن الشقي أخرج سكينا وفي غفلة من الجميع قام بذبح الأستاذ سعيد من الخلف، غير عابيء بأحد، وسرعان ما انتشر الخبر في المدينة، وخيَّم الحزن علي سكانها.

قلّبتُ أوراق الصحف، فوجدت أن مثل هذا الحادث قد حدث في معظم المدن المصرية مع اختلاف في التفاصيل، فنحيت الصحف جانبا، وحاولت مشاهدة قنوات الأخبار في التلفزيون، فوجدت القتل في العراق، وسوريا، واليمن، وليبيا  بالعشرات والمئات يومياً، وهنا تضاربت  وتقاطعت في رأسي أفكار رماديَّة يجَلَّلها السواد، وكنت أردد سؤلاً، ولا يسمعه أحد ممن هم حولي: هل نحن خير أمة أخرجت للناس؟

أم أنها أُخرجت وانتهت فترة طهارتها ورفعتها وقوتها بانتهاء القرون الأولي؟

 بعد معاناة شديدة أنعم الله تعالي عليَّ بالنوم، وما كدتُّ أستريح، حتى فاجأني عيروض  بحضوره إليَّ و سألني عن حالي فقصصت عليه ما أعانيه، وما حدث في رمضان.

عيروض: تحدثنا قبل ذلك عما يحدث في البلاد العربية، وعما ستؤول إليه الأمور في الأعوام القادمة من خلال رؤية تحليلية للمستقبل المنظور للعرب وللمسلمين، ولذلك يجدر بنا أن نتكلم عن المجتمع المصري، وعن تخريبه من الداخل، باعتبار مصر قوة مضافة إلي العرب والمسلمين، وفي انهيارها كسر لظهر العرب والمسلمين في وقت واحد.

أنا: يا عيروض إنَّا لدينا جيش قوي، ومحترم، وأمن داخلي لا بأس به.

عيروض: هذا ظنكم، وأنا لا أشكك في جيشكم وأمنكم، ولكني أشكك في ميدان المعركة ونوعية القوي التي تحاربونها.

أنا: أوضح كلامك فإني لا أفهم منك حديثاً الليلة.

عيروض: هناك حقيقة أنتم لا تحبُّون التحدُّث عنها أو الاعتراف بها.

أنا : و ما هي؟

عيروض: عندما تتخلف الدولة أو الأمة في التعليم، وفضائح التعليم عندكم، وتسريب الأسئلة،  والوزير الذي لا يريد أن يستقيل حتى الآن.. هذه الفضائح تُضحك الجن والإنس والحجر، ويصل التخلف والبلطجة إلي وزارة الصحة، ويختار الوزير مستشارا له لجمع الرشاوى، ووضع بعضها في جورب حذائه، ويُضبط، ولم يستقل هو الآخر، ولا أحد يعرف سر تمسك رئيس الوزراء به وبغيره من رموز الفساد، وعندما تتخلف الزراعة، والصناعة، وكل مرافق الحياة، فإن ذلك يؤدي إلي نتيجة قاطعة، وهي أن هذا التخلف الشامل سببه أو نتيجته التخلف العقلي، وهذه هي الحقيقة المؤكدة التي لا تعترفون بها،  ولا تفكرِّون فيها.

أنا: وما علاقة ذلك بالقتل الممنهج في شوارع مصر ومدنها وأزقتها وحواريها وصحاريها؟

عيروض: أنتم تحاربون طواحين الهواء، فالأعداء الظاهرين مجموعات، يحاربها الجيش والأمن  ويكرههم المجتمع، ولكن أعداءكم الحقيقيُّون هم مَثلكُم الأعلي، وميدان حبكم.

أنا: وضحّ أكثر يا عيروض.

عيروض: منذ خمس سنوات، وبعد تنحِّي الرئيس مبارك بشكل سلمي، رأي أعداؤكم أنه يصعب عليهم تقسيم أو تفتيت المجتمع المصري، فاتصلوا بأذنابهم في الداخل خاصة في الوسط الفني، واتفقوا علي القيام بأعمال دراميَّة، تهييء المجتمع للعنف والمخدرات، والجنس، وتم نقل أربعة مليارات دولار إلي مصر لإنتاج مسلسلات العام الماضي الخاصة بالمشاهدة في رمضان [ذكر ذلك الفنان حسن يوسف في احدي المجلات]، ويكونون بذلك قد حقَّقوا هدفين، الهدف الأول: حرمان المصريين من اغتراف النور في شهر النور، وتعلم دروس قوة الإرادة، وقوة الامتناع.  والهدف الثاني: تعليم الشباب والمراهقين القيام بإنهاء أي موضوع، أو مناقشة بالذبح مهما كانت تفاهة هذا الموضوع، وأصبح في السينما والتلفزيون أبطال لهذا الموضوع ، وأصبح كل عمل لا يخلو من قتل عدد معين من الناس، والغريب أن العامة والمثقفين والمسئولين يتابعون هذه المسلسلات بشغف العقول التافهة، والشعوب المتخلفة، ولا يعرفون أن هذا يقوض و يقطع عناصر تماسك المجتمع، وأصبح الابن يقتل أباه، والأب يقتل أولاده، والولد يقتل أمه من أجل عشرة جنيهات.

وهذا ليس غريبا علي مجتمع ترك مجموعة من العملاء الذين باعوا ضمائرهم وشرفهم واستقوُوا بالمعاصي، وجروُوا إليها كثيرا من أصحاب النفوذ والسيطرة علي هذا الوطن، وأصبحت الليلة الماجنة سلاحا في يد كل ذبابة قذرة في هذا الوطن، بل أصبح الوطن في خدمة هؤلاء الناس.

المهم أن القتل تحول بفضل فنانينا وفناناتنا من جريمة بشعة إلي هواية وعمل محبب إلى النفوس الفتية.

والسؤال: كيف ينظر رجل الأمن إلي ترسيخ مبدأ القتل في الأعمال الدرامية؟ 

أينظر إليه علي أنه عمل فني؟  إن ذلك لغباء وبلاء وتخلف كبير، لأن الشر إذا استشرى في المجتمع يقع عبؤه أول ما يقع علي عاتق رجال الأمن لعدة أسباب:

أ ــ   أن الجريمة تكلف رجال الأمن بذل مجهود شاق للقبض علي المجرم.

ب ــ إطعام هذا المجرم وإحضاره ذهابا وإيابا إلي النيابة ثم القضاء، يكلف الدولة في المتوسط  نصف مليون جنيه.

 ج ــ ـ أن هذا المراهق الذي رأي في القتل رجولة وفتوَّه من الممكن أن يجمع بعض المراهقين معه ويقومون بقتل رجال الشرطة أنفسهم، و ليس سرا أن بعض رجال الشرطة يخافون من هؤلاء ويعملون لهم ألف حساب.

 قلت: يا عيروض أنت قلت إن المسئولين يعانون من عجز عقلي [غباء]، وعندما يسألون نجوم الفن يقولون لهم إنهم ينقلون الواقع للناس للاعتبار والعظة.

يعروض: مثلك لا يخدع بهذا الكلام، لأن وظيفة الفن جذب الناس إلي الرقي والتسامي، وليس نقل الواقع، وإلا فلماذا لا ينقل مشهد قضاء الحاجة وهو من الواقع؟ ولماذا لا ينقل مشهد حيض المرأة وهو من الواقع؟ ثم ما الفائدة من قيام المخرج  بتصوير القتل والزنا وشرب المخدرات؟  إنها مناطق ضعف محدودة جدا عند بعض الناس وليست سمة عامة للمجتمع المصري، ولقد عاش المصريون آلاف السنين في رغد العيش علي ضفاف النيل، يمتازون بالطيبة  الحنان والتكافل وأحبتهم شعوب العالم لهذه الصفات الجميلة، كيف تحولهم مجموعات من الصراصير       ـ الذي يتخذون من  الصرف الصحي مطعما  وملبسا ومسكنا ـ إلي شعب كل أفراده من المجرمين الذين يقومون بأعمال إجرامية لا يصدقها العقل ولا يقرها النقل.

 قلت: وماذا نفعل يا عيروض؟

يعروض: لا بد أن تقوموا بعمل هيئة رسمية للدفاع الاجتماعي تتكون من أفراد المجتمع المدني    وأفراد الجيش والشرطة ويكون لها سلطة في التنفيذ وسرعة في اتخاذ القرار، وإلا سيتم نسف المجتمع من الداخل في الوقت الذي تبذلون فيه جهودا كبيرة للدفاع عنه في  الخارج.

 قلت: تتصور يا عيروض أن هذه الهيئة  تستطيع فعلا عمل شيء له قيمة؟

يعروض: يمكن ذلك إذا لم يكن من بين أفرادها من يضع الشيكات في الجوارب أو من له صلة بالفنانين والفنانات واللصوص رجالا ونساء. 

وسوم: العدد 672