المهاجر الصغير

لم يمض إلا شهر واحد على تعلمه الطيران، حتى أعلن والده نبأ الرحيل.. لم يكن متوقعاً.. وكان بالنسبة إليه أمراً مخيفاً وحزيناً.. أيترك دوحته الخضرة العطرة، التي نشأ فيها وترعرع؟ وأصدقاؤه الصغار، كيف يودعهم، وينسى زقزقاتهم المرحة عند شروق كل شمس؟!

اتخذ القرار الحاسم، وها هو اليوم الموعود؛ كان يفز هنا وهناك بين الأغصان في حركات بريئة، ليودع أترابه.. وأمه ووالده يرمقانه من فوق شجرة سامقة، انتظاراً لموعد الرحيل.

اجتمع عليهم جمع غفير من العصافير.. صحيح أن الحياة باتت صعبة في الغابة بالنسبة لهم، بسبب الجفاف والقحط الذي أصابها، لكن كل هذا لا يدعو إلى الرحيل.. وإلى أين؟!.. إلى المدينة.

- إلى المدينة؟!

صاح الصغير في اندهاش:

- أتهاجر الطيور – أيضاً – إلى المدينة يا أبتاه؟!

فطالما حدثه والده عن الطيور المهاجرة من الشمال إلى الجنوب، ومن الجنوب إلى الشمال مع بداية كل خريف وربيع، وهي ترى أسراباً وجماعات.

لكن هذه المرة الأمر يختلف.. زوج واحد وفرخ صغير!!

انطلقوا مع مطلع يوم جديد، وجهتهم محددة.. الأب في المقدمة والأم خلفه.. والصغير يختبئ من ورائهما، من نسمات برد يدغدغ جناحيه الفتيين.

كان والده يحفزه على الصبر والتجلد، ويعده بالرحلة الممتعة وبالعيش الرغيد.. لكن قلب الصغير كان يدق ويدق.. وهو ينظر من علو شاهق لم يعهده من قبل.. الجبال والهضاب، والسهول والأودية.. لا ترى إلا كشرائط ملقاة في فلاة، أو كرقع وأكوام صخور.

ظل والده يحدثه عن هجرات الطيور، وكيف تجدد موعداً مضبوطاً لذلك. بل وتتفقد بعضها البعض، ولما تنطلق الرحلة ينتخبون من يقودهم في المقدمة، وهم يطيرون على شكل حربة أو على هيأة سهم، حتى يتنسى لهم اختراق التيارات الهوائية، وليحتمي بعضهم ببعض من لسعات البرد القارس.. بل وتراهم وهم يتناوبون على المكان الأول، لما فيه من المشقة والتعب.

ومن الطيور من تهاجر بالليل، وفي النهار تستريح للتزود بالطعام، مثل الطيور المائية، لأن هواء الليل أنسب لرطوبة الماء، وأرحم من حر شمس النهار.. ومنها من يهاجر بالنهار ويستريح بالليل، كالطيور البرية التي لا تستطيع أن تحدد اتجاهها في الظلام.

وتستطيع هذه الطيور أن تتعرف طريقها انطلاقاً من مواقع النجوم بالليل.. وتهتدي بعلامات أخرى، كالجبال والبحار والأنهار.. في النهار.. فسبحان الذي ألهم هذه المخلوقات الصغيرة، كيف تهتدي في رحلاتها الطويلة – والتي قد تبلغ في بعض الأحيان آلاف الكيلومترات – دون أن تتيه أو تضل!!!

وسوم: العدد 780