ليلةُ عُرسي

حيدر قفه

حاول تَقَبُّلَ الأمر كما هو حتى يحتفظ بتوازنه النفسي والعصبي، فالثورة والانفعال لن يجديا شيئاً. كان قد تعبَ من كثرة الاتصالات بالشركة شاكياً عدم وصول (الفواتير) إلى صندوق بريده الذي يستقبلُ عليه كُلَّ مراسلاته، عنوانُهُ لم يتغير منذ ستة عشر عاماً، فما الذي جَدَّ في الأمر حتى تأتي (فاتورة) وتضيع أُخرى؟! راجع موظفي الشركة المعنيين بالأمر واحداً بعد الآخر، وكلما أحالوه إلى موظف؛ اتصل به ولا فائدة، كأنه يخاطب الهواء... لا بل الهواء أجدى وأنفع!! فقد يحمل الهواءُ الصوتَ... قد تسمعُ له صدىً... أما هذه الشركة – وبعدَ (الخَصْخَصَة) التي أوهمونا أنها سمنٌ وعسلٌ – فقد أفرغت جيوبنا بالباطل، وحرقت أعصابنا، وبيتتنا في هَمٍّ وضَيْقٍ، ولا نستطيعُ الاستغناء عنها، فخدماتُها لم تَعدْ من (الكماليات)، بل هي لُحْمَة وسَدى الحياة المعاصرة، بل زهمها وسرعتها على ضيق نفسٍ يمتلك الفؤاد ليل نهار.

كان لِزَاماً عليه – في ظل تَحَكُّمِ القويِّ في الضعيفِ، ومن بيده السلطة فيفعل ما يقول، وقد قرأ التهديد والوعيد في أكثر من جريدة، وسمع به مِنْ أكثر مِنْ شاكٍ – كان عليه أن يذهب بنفسه إلى أحد مَقَار الشركة الموزعة في المدينة، فيدفع ما تنطق به (الفاتورة).

الزحام الشديد الذي يعافه ويكرهه، والاصطفاف في صَفٍّ طويلٍ يدقُّ عظامَ ظهره، ويوتِّر أعصاب ساقيه، دفعاه إلى أن يذهب مبكراً حتى يتلافى كل هذه المُنَغِّصات... قبل الثامنة صباحاً ركب سيارته متجهاً إلى وسط المدينة... هذه ساعة منكرة من الوقت... فالموظفون كلهم يخرجون من بيوتهم ليدركوا أعمالهم قبل أن تدقَّ الثامنة، وتُرفع دفاترُ التوقيع بالحضور وساعته، أو تتهمهم ساعة التوقيع الآلية بخَتْم بطاقاتهم متأخرين، فعانى من ازدحام الطريق لا سيما على (الدَّوَّارات) والإشارات الضوئية، ولولا رحمة الله ثم بعض الأنفاق لساء الوضع فوق ما يتصور الإنسان.

عَبَرَ عُنُقَ الزجاجة بالتي واللُّتَـيَّا، ونجاه الله من حادث على الطريق، أو احتكاك سيارته بسيارات الآخرين في ظل هذا الزحام الخانق...

وصل أحد مكاتب الشركة... وجد أبوابَهُ مفتوحةً... دخل... بعض الموظفين هنا وهناك... كراسي مشغولة... وكراسي شاغرة خلف الحاجز الزجاجي... جلس على أحد المقاعد المخصصة لانتظار المراجعين... بضيقٍ ومللٍ يمضغان الأعصاب أخذ يراقب مَنْ خلفَ الزجاج الحاجز... بعضهم بدأ عمله... والآخرون يتمططون بأذرعتهم وأرجلهم لطرد بقايا الكسل الذي رافقهم من أَسِرَّةِ النوم، وجلباً لنشاط مطلوب ليبدأوا يومهم الجديد... البعض منهم يرحم المراجعين... والبعض يُصرُّ إلا أن يبدأ عمله الساعة الثامنة والنصف تماماً... المهم عنده التوقيت لا أَعْذِبَة المراجعين.. حتى لو بدأ زملاؤهم وزميلاتُهم العمل... هو يُصرُّ على التثاؤب وتشبيك الأصابع خلف الرأس، وزفر الأنفاس، ودفع النُّعاس... ولينتظر الناس... ماذا عليهم؟! العمل لا ينتهي... بل تنتهي الحياة ولا ينتهي العمل... وطالما أنهم جاؤوا بأنفسهم للمراجعة، فمعنى ذلك أنهم ليسوا ناساً مهمين... الناس المهمون يرسل الواحد منهم سكرتيره أو سكرتيرته أو سائقه أو خادمه أو حتى بعضَ أبنائه... أما مَنْ يأتي هنا بنفسه ليصطف في الصف... فيقيناً ليس مهماً في الحياة!! فماذا عليه لو تأخر بعض الوقت؟

يُشعل الموظف (سيجارته) – مخالفاً بذلك التعليمات التي لا تُحترم في الأماكن العامة طالما لم يعاقب أو يخصم من راتبه – ينفث دخانه في الهواء... يأتي موزع المشروبات... يعطيه كوباً من الشاي... وللأخرى فنجاناً من القهوة... يشربُ... يَتَمَطَّقُ بلسانه يتذوق درجة الإتقان... يصرخ: هات قليلاً من السكر هنا... يقذفُ النادلَ بنظرة شذراء... تَعَكَّرَ مِزَاجُهُ... لا يجرؤون على مراجعته... صحيح أنه موظف شركة، لكنه من مخلفات الوظائف الحكومية.. وموظف الحكومة (بُعْبُع) لا بد أن تراعي مِزَاجَهُ قبل أن تقترب من مجاله المغناطيسي ومياهه الإقليمية... وإلا... فالويل لك ولـ (مُعاملتك)... كان يتمنى في قرارة نفسه أن يدخُلَ الموظف الجديد – أي موظف جديد – في دورة تدريبية لا تقل عن ستة أشهر يُعَلَّمُ فيها فن التعامل مع الناس، وكيف يُقَدّرُ الجمهورَ، ويُفَهَّمُ فيها أنه ما عُيِّنَ في هذه الوظيفة أو هذا المكان إلا ليخدم الناس، لا ليخدمه الناس... ما زالَ يذكر ذلك الموظف الذي شتم المراجعين بألفاظ نابية لتزاحمهم على نافذته، مع أنه جاء متأخراً مما عَطّل مصالح الناس، فلما وصل بطلعته البهية!! تكأكؤوا عليه... فسبهم... فلم يجرؤ أحد على مراجعته... فلما جمعه وإياه لحظةُ جلوس في مكتب رئيسه، وأفهمه خطأه... وتصرفه الشاذ... رغم تأخره عن موعد الحضور كزملائه... وأن بإمكانه أن يكتب في الصحف... أو يرسل إلى رؤسائه الكبار رسالة مفتوحة... ارتعدت فرائصه... واضطربت رجلاه... وارتجف شاربه... وأخذ يتمسح فيه بكلامه المعسول... خافضاً صوتاً يرتعش تمسح قطة بسيدها... متى يفهم الموظفون المتكبرون أنهم لولا الجمهور وخدمته ما حظوا بتلك الوظيفة، وما نالوا هذا الراتب الذي ينعمون في ظله، ومن أراد الاحتفاظ بكبره وعجرفته فليبق في بيت السيد الوالد ولينظر... هل يضايقه أحد؟! أو تعكر مِزاجَه معاملة؟ أو يلومه لائم؟!

انتشلته من دوامة التفكير هذه تحية الصباح ألقتها موظفة دخلت لتوها خلف الزجاج الحاجز:

ص ب ا ح... ا ل خ ي ر...

ومطت حروفها القابلة للمط بكل ما يقدر عليه نَفَسُها... كانت سعيدة فرحة... تحيتها مميزة في طولها وتقطيع حروفها ومطها وجوّها... التفت إليها بعض زملائها وزميلاتها... ردوا على تحيتها بتحايا مشفوعةٍ بابتسامات شتى... قال مجاوره:

-  ما هذه (الميوعة)... هل هذه تحية... أم مغازلة؟!

لم يتجاوب معه... لم يُجِبْ على سؤاله... وجَّهَ كلامه إليه مباشرة...

-  بالله عليك (شايف) هذه المَسْخَرَةَ؟!

الآن لا بد أن يجيبه، وإلا وقع في خانة قلة الأدب، أو الصَّلَفِ، أو سوء الظّن...

-  ماذا في هذا يا حاج؟!

-  لم يعجبه أن يجيبه بسؤال على سؤاله.

-  أليست هذه (ميوعة)؟!

-  البنت شابة... مُقبلةٌ على الحياة... دعها تمارس هذه اللحظة بسعادتها... الأيام القادمة ستمتص هذه السعادة... فدعها تقتنصها قبلما تَفِرُّ منها...

سكتَ... وسكتَ... لكن عقله جذبه إلى الداخل... وبدأ يفتش في تاريخه منذ طفولته إلى هذا اليوم... منذ أن حبا طفلاً إلى أن حبا شيخاً... كم عمره الآن؟ أو بعبارة أدق كم مضى من عمره؟! ستون سنة؟ كم عدد الساعات التي شعر فيها بالسعادة؟ وبدلاً من أن يجيب عقلُهُ، تركه وانصرف إلى زاوية أخرى... كان قد سأل رجلاً عجوزاً في السبعين من عمره، وذلك منذ أكثر من ربع قرن تقريباً، وقد كان هو في ميعة الصبا وشرخ الشباب، وأراد أن يتعرف على الحياة من مجرب، وسأله السؤال:

-  ها أنت فوق قمة هرم السبعين، وتنظر خلفك أو أسفل منك من علو شاهق... كم يوماً كنت سعيداً فيها؟!

فكّرَ... قَدّرَ... قَلّبَ يديه... سرح بفكره قليلاً ثم قال:

-  لا تتجاوز العشرين...

حاول أن يعدها على أصابعه:

-  ليلة عُرسي... يوم أن جاءني أول مولود... يوم أن نجح الولد في مدرسته...

واستمر يُعَدِّدُ على أصابع يديه فلم تبلغ أربع عشرة مناسبة، ثم التفت إليه حزيناً ثم قال:

-  بَسْ... لكن اسألني كم يوماً شقيت في حياتي؟

قال له:

-  كم؟

عاد إلى الوراء... أَظلم وجهه... واكفهرتْ قسماته... وغارت أنفاسه... وتلجلج لسانه، ثم لفظها أخيراً:

-  تستعصي على الحصر...

أخرجه من هذا الجُبِّ العميق في الذكرى صوتُ الموظف من خلف الحاجز الزجاجي:

-  تفضلوا...

كانت مقاعد المراجعين قد امتلأت، فقاموا على عجل، كُلٌّ يريد أن يسجل لنفسه مكاناً... فالمهم ليس ساعة الحضور إلى مِقر الشركة، لكن المهم موقفك في الصف... والشباب أجلدُ وأقدرُ على المزاحمة... أما الكبار فلم تترك ظهورهم لأرجلهم قوة ومقدرة على الوقوف فضلاً عن الركض والازدحام، هذا إذا تجاوزوا عن وقار السن وهيئة الاحترام...

جاء دوره... دفع مُكرهاً... فقد فوجئ بالرقم فوق ما يتصور... وقد كان جربهم سابقاً فاعترض، لكن اعتراضه وعدم اعتراضه سيان لأن النتيجة واحدة... هم مصدقون دائماً... وحاسوبهم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!! وقد بُحَّ صوته من كثرة الاتصال بهم... وكَلَّتْ رجلاه من الدوران بين مكاتبهم... فخرج بنتيجة واحدة: لا فائدة ترجى... والانصياع يوفر الطاقة والجَهْدَ... ولم يعد يجد أمامه إلا زفرة حارة من قلب يملؤه الغيظ... زفرة معجونة بحسبه الله ونعم الوكيل.