امرأة من ورق

أبو الخير الناصري

[email protected]

أذكر بوضوح مكالمتها الأخيرة إليّ ذاك المساء. كانت تتحدث، عما عهدتها، بهدوء واتزان. تغترف من معجم تتراوح كلماته بين استقامة المتدينين وطهر المناضلين الشرفاء. بعد تحية مختصرة أخذت تحثني على ضرورة الانخراط في صفوف المقاطعين للمباراة التي تعتزم الوزارة تنظيمها بعد أيام قلائل. كانت تتحدث بأكثر من لسان محاولة إقناعي بالمقاطعة.

- قالت بلسان الزاهدة العفيفة: ماذا يُغني القَدْرُ القليل من المال الذي سيضاف إلى أجرتنا في حالة النجاح؟ ألسنا الآن بخير ولله الحمد؟ أليس ما ينقصنا، في الواقع، هو القناعة؟..

- وقالت بلسان المستشعرة لآلام الآخرين: بصراحة حَرَامٌ علينا أن ننسى معاناة إخواننا واعتصامهم منذ شهور ونذهب لاجتياز المباراة. إن هذا السلوك طعنة في ظهورهم..

- وقالت بلسان المناضلة النقابية الذكية: إن أمورا كثيرة غامضة في بيان المباراة، وقد نغامر عند اجتيازنا لها فتكون الخسارة خسارات كثيرة من أقبحها تعيينٌ جديدٌ يُبْعدُنا عن مقرات عملنا الحالية؛ فنفقد استقرارنا الاجتماعي..

استحضرتُ، وهي تتحدث، ما جرى بيننا في مناسبة سابقة: كَلَّمتُها بعدما أُعلنت المباراة أسألها في شأن تعبئة المطبوع الذي وضعته الوزارة رهن إشارة موظفيها، فقالت بغضب وانفعال واضحين: «إنني أعتبر هذا الفعل خيانة للمناضلين المضربين في العاصمة منذ أسابيع». ومع يقيني بأن كلمة (الخيانة) لم تكن مناسبة حينئذ – إذ شتان ما بين ملء مطبوع مباراة وبين اجتيازها – فإنني فضلتُ ألا أرد على تعقيبها الغاضب بكلمة. كما استحضرتُ موقفها المُشَرف عند الاعتداء على المضربين في عاصمة البلد ومشاركتها في وقفات احتجاجية على ذاك الاعتداء.

مشاهد كثيرة انثالت على الذهن جعلتني أُكْبِرُ ذاك السمو والنبل والإحساس بالآخرين، وأتساءل بإعجاب خالص: من أي طهر نضالي ونبل إنساني صيغت هذه المرأة !؟

كنت، وأنا أستمع إليها في آخر مكالمة، أردد في أعماقي: ليت كل النساء في بلدي كهذه السيدة نبلا وطهرا، كما كنت أهنئ، في مخيلتي، زوجها وأولادها بها – دون أن أعرفهم – مرجِّحا أنهم في سعادة وهناء لا مثيل لهما !!

بعد نهاية المكالمة قررت أن أتخذ قرارا نهائيا في الأمر. كنت ما أزال مترددا أنظر للقضية من أكثر من زاوية. دعوتُ نفسي إلى جلسة مكاشفة؛ فكان أن انتصرتُ للموضوع على أحلام الذات وطموحاتها الفردية، وقررتُ الانحياز لشعور الظلم في نفوس إخوان لنا، وكتبتُ بيان مقاطعة ونشرته على صفحتي بالفيسبوك.

لم أفاجأ إذ وجدت صديقتي المناضلة الزاهدة أول المعجبين بالبيان. أفصحتْ عن إعجابها بعبارة مُشيدة بجمال الأسلوب وسداد الموقف، وشاركتني نشر البيان وتعميمه، ثم توالت الإعجابات والمشاركات..لتبقى صديقتي المناضلة الأسبق دوما إلى مناصرة المواقف المبدئية.

مرت أيامٌ نسيت فيها أمر المباراة، وبيان المقاطعة، والمكالمات الكثيرة. وفي الثامن من مارس جلست أمام جهاز الحاسوب لأرى أي جديد كُتب وقيل في هذا اليوم الذي اختِير ليُجعل يوما عالميا للمرأة تقديرا لتضحياتها وعطاءاتها على مر العصور. وبينما أنا أتصفح مواقع وصفحات إلكترونية رأيتُ إعلانا عن نتائج المباراة التي أجرتها الوزارة منذ شهرين. استغربتُ هذه السرعة في الإعلان عن النتائج، وفسرت ذلك بالأبعاد السياسية للموضوع، وعزمت على الاطلاع على هذه النتائج.

شرعت أُقلّب الصفحات وأقرأ الأسماء؛ لأفاجأ باسم صديقتي المناضلة ضمن لائحة الناجحين. لم أصدق الأمر في البداية. لكنني حدقت طويلا في الاسم الكامل، ورقمِ التأجير، ومركز الامتحان، وأعدت التحديق مرات ومرات وأنا أستحضر كل ما مضى من نضال وزهد وعفة وإنسانية بدت لي في مكالماتها، وتحركاتها في الفيسبوك وعلى الأرض. كنتُ أراها – خصوصا في آخر مكالمة – في حالة حِداد. نعم، حِداد على "إخوانها" وهم يعانون في شوارع العاصمة دون أن يهتم بمعاناتهم مسؤول حكومي. لذلك وجدتني أحدق طويلا في اسمها ضمن الناجحين. لم أستغرب نجاح أصدقاء اختاروا اجتياز المباراة منذ البداية وأعلنوا رأيهم بكامل الوضوح. ولكنني اندهشت للقدرة السريعة لامرأة على أن تهجر حدادها على من اعتُقِلوا وحوكِمُوا. اندهشت من قدرتها على أن تهجر حدادها على مَنْ ضُربوا وطُوردوا ومَنْ سقطوا أرضا وهم يفرون من الهراوات. اندهشت من قدرتها على الانسلاخ من حالة الحداد على شعور الغبن في نفوس من سَمّتهم إخوانا لها مقابل ما قالت، في آخر مكالمة بيننا، إنه "قدر قليل من المال لا يُغني شيئا".

حاولت التخلص من حالة دهشتي بأن أهدي هذا النص لتلك المرأة، غير أن ابتسامة خفيفة تسللت إلى شفتي وأنا أتذكر أنها كائن من ورق. عندئذ توجهت لنفسي بالسؤال: "هل سمعت يوما بأحد قدم هدية لكائن من ورق!؟" ووضعت نقطة نهاية لهذا النص، ونهضت أبحث عن امرأة حقيقية أهديها شيئا بمناسبة اليوم العالمي للنساء.