أم محمود

مصطفى العلي

[email protected]

أخيرا رحلت أم محمود, بعد أن أكلت عمرها ,كما يقولون, رشفته رشفا , التهمته التهاما , ثم نهسته وقضمته قضما عندما لم يبق من أسنانها التي رافقتها في رحلة الحياة شيئا لقد مضت قبلها  جميعا واستبدلتها  بطقم صناعي (بدلة) إلى أن بدأ  عمرها هو الذي يقضمها  وينهشها حتى لم يبق منها غير كومة .ضعفت ذاكرتها خارت قواها أصبحت كالعرجون القديم .

 لن تحرجني إمرأة خالي أم محمود بأسئلتها الكثيرة بعد اليوم (مين  ...وين... لوين ..إيمتى......ليش ... لماذا...ماذا... ما الذي؟؟؟؟؟؟) أسئلة كثيرة كانت تمطرني بها كلّما زرتها , منها ما أجيب عليه ومنها ما لا أجد له جوابا , منها ما كان عن محبة و حب اطمئنان على أموري (أكلان هم) ومنها ما هو عن مجرد فضول وقصد تسلية من امرأة عجوز لا تجد من يأبه لها  ويبادلها الحديث باحترام غيري لتعاطف شديد لدي مع الضعفاء وكبار السن لمعرفتي أنها حالي وحالنا جميعا يوما ما ولحديث لرسول الله ص يؤثر في نفسي كثيرا ( ما عبد الله بشيء أحب إليه من جبر الخواطر). لم تعد في حاجة للتنقل بين كناتها "شهر" عند كل واحدة منهن فلقد وجدت لها مكانا ثابتا تأوي إليه أبد الدهر .. "إلى أن يأتي يوم الحشر"

آخر مرة رأيتها فيها كانت في سراقب منذ شهور .. جاءت "الميغ" وما أدراك ما الميغ!!! جعلت توزع هداياها الجهنمية وجعل الناس يهرعون من شدة الهلع في كل اتجاه بحثا عن ملجأ يعصمهم من الفراغي أو  يقيهم من البراميل . وهي إذ يجرّها حفيدها مسرّعا تتساءل في ذهول  :

 - شــو فـــي!!!؟

 - ميغ

- شـوو !!؟

- ميغ.. ميغ... ميــــــغ

لم تكن تحس بما يدور لقد منّ الله عليها بنعمة فقدان السمع لأن النعم تتحول إذا اختلت موازين الحياة إلى نقم. يسرع بها حفيدها حتى لتكاد تهوي على وجهها.

 مَن لديه الوقت ليشرح لها ما يجري!؟ .

 أَتَذَكَّرُ قوله تعالى ( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه...) أتساءل هل أراد سبحانه وتعالى أن يجعل لنا ما نمرّ فيه دورات أو بروفات عن يوم الحشر أو أراد جل شأنه أن يجري لنا بيانا تقريبيا عن يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت !؟

رحلت أم محمود طويت صفحتها ألقت بها الحياة كما يلقى بعلبة السجائر  التي أفرغت منها آخر سيجارة ..ومتى!؟ في وقت كثر فيه الراحلون. لو كان في غير هذا الوقت لأعزّها الله في ميتتها أكثر ربما اتصل طابور السيارات التي تسير في جنازتها من القرية إلى المقبرة التي تبعد مسافة ليست بالقليلة. أهل القرية كل واحد منهم تحت غيمة.. قليل منهم  الآن هنا , ثم إن الناس ملّت من كثرة مواقف الوداع لقد كاد  الموتى العاديون لا يؤبه لهم أمام قتلى الرصاص.

في الزمن الذي لا يساوي فيه الإنسان العادي ,مفتول العضلات, طلقة بندقية فأي مكان سيجده فيه الضعفاء من أمثال أم محمود!؟

أم محمود كانت طفلة مثل أطفالنا كبرت فصارت صبية مثل صبايانا ثم عبرت الشباب والكهولة مثلنا كانت كما نحن وكما كل حي صندوقا من الأحلام أفرغت الكثيرمنه في أولادها ولا زال لديها فيه الكثير حتى قبل أن تضع قدمها في المركبة التي ستنقلها من هذه الدنيا دون عودة.

مضت اليوم ربما لم تجد كلّ من كدحت لأجلهم حولها إذ كل واحد منهم في فج من فجاج الله.

 أم محمود اليوم ! هل هي علبة أحلام فارغة أم حلم تكسر أم ماذا ؟

رحمها الله وأدخلها فسيح جنانه هل هي صورة لأي واحد منّا يبلغ هذا السن!؟

هل علينا أن نعمل جهدنا ليؤمن لنا ميتة في سن أبكر من السن الذي ماتت فيه أم محمود مادامت أبواب الموت عندنا مشرعة على مصراعيها  لمن يشتهي في كل مكان!؟

هل نجد من يأبه لنا حين نموت ؟ أم لا نجد ممن شقينا لأجلهم أحدا حولنا !؟

 هل يعدل أسف محبينا لوداعنا يوم نموت فرحة من استقبلونا يوم قدمنا إلى الحياة لأول مرة!؟

قد يكون بعض أجزاء الإجابة يكمن في مدى جدارتنا بأن نأتي بزمان  جديد تقل فيه التوابيت ويعلو فيه  لواء القيم  وتزيد قيمة الإنسان عن مجرد ثمن رصاصة........فيجد قيمة لما حولنا بالقدر الذي يجد فيه القيمة لأنفسنا.