أكلتُ الويكا

حيدر قفه

هل يهرب المرء من الحُبِّ؟ هل يهرب من الكَرَمِ؟ هل يهرب من بشاشة الوجه ورحابة الصدر؟ هل يهرب من كل المعاني الجميلة؟ هل يهرب من الأصالة الممتدة عروقُها في جسد الأمة إلى الرعيل الأول؟!!

أنا حاولت أن أهرب منها ذات يوم – مضى عليه أكثر من ثلاثين سنة – بكامل إرادتي وصحو عقلي، فهل نجحتُ؟!

فرغتُ من إلقاء درس العصر في المسجد الكبير في القرية التي تغسل قدميها في مياه الخليج، وقد كان برنامجي زيارة هذه القرية مرتين في الأسبوع لإلقاء درس العصر في أيام رمضان، ولما كنتُ أسكن في العاصمة، وفي مكان موغلٍ في شرقيها... مكان يبعد عن هذه القرية ساعة كاملة بالسيارة، فضلت أن يكون درسي بعد صلاة العصر مباشرة، لا بعد العشاء أو منتصف صلاة التراويح.

كان رمضان يأتي في تلك الأيام صيفاً، فنتقي حَرَّهُ وعطشَهُ بمكيفات الهواء، أو تيارات المراوح، أو هبَّات المَهَفَّاتِ التي صُنعتْ من سعف النخيل. فإذا جاء الليل طاب الهواء، فيخرج الناس إلى ساحات المساجد المفتوحة لا تظلهم إلا السماء، يصلون... ويتروحون.

انتهى درسُ العصرِ، وكأنه لامس حاجاتٍ حقيقيةٍ في نفوس الناسِ، فلما خرج السَّرْعَانُ منهم، التف حولي عدد من المصلين، يريدون استيضاح بعض المسائل الفقهية، لا سيما وشهر رمضان له أسئلة خاصة، وتنبتُ فيه مشكلات في حياة الناس يحتاجون إلى معرفة الجواب عنها، ومع أني كنتُ أعلم طول المسافة التي تفصل بين هذا المسجد وبين بيتي في المدينة، والتي أُقَدِّرُ أن تستغرق ساعة من الزمن إن لم يكن أكثر في ظل الازدحام الذي يسبق مدفع الإفطار، إلا أن إقبال الناس جعلني أتهاون قليلاً، واستمر في التوضيح والشرح بصدر رحب، مع أن يدي اليسرى التي تحمل الساعة كانت – في حركة لا إرادية – تغافلني وترتفع قليلاً باتجاه عينيَّ تذكرني بموعد الانصراف.

لاحظ الناس المحيطون بي هذه الحركة المتكررة من يدي؛ فسمحوا لي بالانصراف، أو سمحوا لأنفسهم بالكفِّ عن الأسئلة؛ فانصرفتُ شاكراً لهم دعواتهم بالإفطار عندهم...

لكنني بعدما جلست خلف مقود السيارة وقعت في فخ الحيرة... كان عليَّ أن أختار طريقاً طويلاً يلتف حول القرية حتى لا أضطر إلى المرور في شارع هو أقصر الشوارع إلى الطريق العام الموصل إلى المدينة، لكنه الشارع الذي يخيفني، فأنا أريد الوصول إلى بيتي بأسرع وقت ممكن، فزوجتي وأطفالي في انتظاري... وهذا الشارع القصير سيعوقني عن هذا، ولا أملك وسيلة اتصال بزوجتي لأخبرها بتأخري، والطريق العام – بحد ذاته – يثير الرعب في نفسها لكثرة ما فيه من حوادث أودت بحياة عشرات من الناس في الأيام العادية، فما بالها في رمضان، ودقائق ما قبل الإفطار، حيث يسابق الناس مدفع الإفطار للوصول إلى بيوتهم قبل أذان المغرب. أقول لكم: الحق معها، مع أنني كُنتُ أُطَمْئِنُـهَا فأنا لا أسرع، فتقول: لكن غيرك يُسرع، والخطر ما زال قائماً، ومع أنها مطمئنة إلى قدر الله (ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ) إلا أن قلبها يظل قلقاً حتى تراني عدتُ سالماً.

قررتُ أن أدور حول القرية لأبحث عن شارع فرعي أو حتى طريق ترابي يُخرجني إلى (الإسفلت) العام، أما الشارع القصير المستقيم من المسجد إلى الطريق العام – فلا محالة – سيعوقني إلى ما بعد المغرب، وربما يُؤَذِّنُ العشاء دون أن يُطْلَقَ سراحي... وكيف سأترك أسرتي نهب القلق طوال ساعتين كاملتين؟!

درتُ بسيارتي في أكثر من شارع، ودخلتُ أكثر من طريق ترابي، لكنني في كل مرة أتراجع، لأنها تنتهي بوَعْرٍ لا أستطيع تجاوزه، وبقيت أدور حتى رجعت إلى مكاني الأول أمام المسجد!! الوقت ينفد... ولا مفر من العبور من الطريق الذي أخافه... أتحاشاه... أحيد عنه منذ أكثر من نصف ساعة... لكن ما حيلة المضطر إلا ركوب الخطر كما يقولون.

استجمعتُ إرادتي، واعتذرتُ لحيلتي، وبدأت في ركوب أول (الإسفلت) الذي سيقودني في هذا الطريق إلى الطريق العام... وكان ما توقعت!! الإخوة السودانيون – وكما هي عادتهم – خرجوا من بيوتهم... بعدوا عن الجدران كثيراً... وفي ظل ممتد أخفى الشمس عنهم... اقتعدوا جانباً من الفضاء الواسع أمام بيوتهم... تَجَمَّعُوا... رجالُ أكثر من عائلة... هكذا عادتهم... لا يفطرون داخل البيوت... ولكنهم يجتمعون في مكان واحد... يفرشون البُسط، ويُحْضِرُونَ طعامهم... كُلٌّ يأتي من بيته بما تيسر، ثم لا يَدَعُون أحداً يَمرُّ في الشارع إلا عَزَمُوا عليه... وحاصروه بأغلظ الأيمان إلا أن يَعْرُجَ للإفطار عندهم، وممالحتهم الزاد... وعدم حرمانهم من الأجر والفضل... فلا يملك إلا أن يقبل كرامتهم... ويستجيب لكرمهم...

عندما رأوا سيارتي من بعيد – وليس المهم أن تكون سيارتي أو سيارة غيري... أنا المقصود أو غيري... المهم ضيف يأملون في كسبه – قام أكثر من واحد منهم، ووقفوا في عرض الشارع... يشيرون إليَّ بالتوقف... وكان لا بد أن أقف وإلا دَعَسْتُ أحدهم!!

كان (سِرُّ الختم) بطوله الفارع، وجسدِ الخيرزان السَّمْهَري، وسُمرتِه المحببةِ، وابتسامتِهِ الأَخَّاذة... قد توسط هؤلاء الإخوة... توقفت سيارتي... وأنزلت زجاج النافذةِ، فهجمت عليَّ رائحة أصيل الصيف الرَّخية لتطرد الهواء المُصَنّع الذي كنتُ أحبسُ نفسي فيه. وتقدم (سر الختم) نحوي، ووضع يده على حافة النافذة... وأطل برأسه إليّ... وتَصَنَّعَ الجد... وقال بلهجته السودانية التي أحبها:

-        شِنْـهُو قصدك... تَمر من هنا ما تفطر عندنا؟!

-        لكني ياسر ما أخبرت أهلي بتأخري، وسيقلقون عليّ...

-        لَكِنْ... (ونطقها بلهجته الأصيلة... مَدَّ اللام... وكَسر الكاف... وسَكَّنَ النون) ما مكن تمر من هنا ما تفطر ويانا... شِنهو المسألة؟!!

تحلُّقهم حول السيارة، والذين وقفوا أمامها جعلني أنصاع لهذه الرغبة اللحوح، لا سيما ولم يبق للأذان إلا دقائق... عرجتُ بسيارتي إلى الأرض الخلاء، ونزلت... فهش الحضور لحضوري، وقاموا للسلام عليّ على طريقتهم بوضع اليد على الكتف... كم هم بسطاء... كم هم كرماء هؤلاء السودانيون... عاداتهم تنتقل معهم إلى أي مكان في العالم... لا تملك أمامها إلا حبهم واحترامهم... ها هم بثيابهم البيضاء الهفَّافةِ، ذات الطِّرَازِ المميز في فتحة العنق والكُمَّين حتى في الجَيْبَين الخلفي والأمامي، فكيفما لُبستْ صَحَّتْ، لم تَغْزُهم الجلابيب المستوردة من تايوان والصين برخص ثمنها، ولم تستميلهم دشاديش الخليج بأنماطها... بقوا محافظين على زيهم وزي نسائهم...

امتدت السُّفْرة أمامنا... والْتَفَّ الرجال حولها... وعيونهم كالصقور تترصد كل عابر... يعرفونه أو لا يعرفونه... فيعزمون عليه بأغلظ الأيمان إلا أن يشاركهم إفطارهم... دقائق وأَذَّنَ المغرب... فقدموا التمر... ثم قليلاً من شراب لم أستسغه في البداية... ثم تظاهرت بقبوله... وبعد رشفات منه بدأت استطعمه وأَلَذُّ به، وكعادتي في اكتشاف المجهول والتعرف بدافع الفضول... استفسرت... ما هذا الشراب؟ قال أحدهم:

-        هذا الشراب نسميه "الحلو المر"...

-        إنه طيب "هل يباع في الأسواق؟"...

-        لا... بل نصنعه في بيوتنا في السودان، ونجلب منه معنا لرمضان...

وعلمتُ – فيما بعد – أن تحضيره يتم بتجهيز نوع معين من الذُّرة، تزرع في جواليق من الخيش، حتى إذا ما تجذرت وأورقت؛ أُخذت وجففت في الشمس، وتكون مليئة بالسكريات (والبروتينات) فَتُخلط مع مُنكهات وتُخَمّر ليزداد سكرها، وتعرض على النار، ثم تُحول إلى رقائق، تُخزن لحين الاستخدام، فَـتُنْـقَع في الماء مع قليل من السكر وبعض (البهارات)... وهذا شرابهم الوطني الذي يفضلونه على (البيبسي) و (الكوكا كولا) و (الفيمتو) وكل عصائر مستوردة، الله أعلم بحالها!!

صلينا المغرب جماعة في هذا الهواء الطلق، والخلاء الممتد، ثم عدنا إلى الطعام، فقدموا لي صحناً من طعام يُسمى (الشرموط) وهو مكون من قطع صغيرة من اللحم المُقدد المجفف مع بصل كذلك أُعِدَّ لهذه الغاية قبل رمضان بزمن، وكان بجوارها طبق (العصيدة) مع (الكِسرة) وهي رقائق خبز شهيرة في السودان، أما طبق (البليلة) فكان سيدُ السُّفْرةِ بحمصه وقمحه وبقوله الأخرى التي نضجت في وسطها (الويكا) البامية...

أكلت أولاً بشهية حتى شبعت... تراجعت إلى الوراء علامة الشبع والاكتفاء... لكنهم لم يقبلوا...و اعتبروني متعففاً خَجِلاً... فانهالت عليّ الأيمان، وتضافرت الإلحاحات، والأيدي التي تتسابق بلقيمات مختارة نحوي... وأي حرج هذا الذي سأقع فيه إن قبلت من يد أحدهم ولم أقبل من الآخر... امتلأت معدتي... شعرتُ أن أي إضافة جديدة ستُلحق بي تُخْمةً الله أعلم بعقابيلها... وقديماً قالوا:"رُبّ أكلة مَنَعتْ أكلات"... فانتفضت محتجاً والسرّ يلاحقني بلقيمة بين أصابعه، وأنا أتأبى عليه...

أكلنا... شبعنا... بل أُتْخِمْنَا... طلبتُ شاياً، فجيء به وشربنا وحمدنا الله... استأذنت بالانصراف فأذنوا...

عندما عدتُ إلى بيتي وجدتُ القلق قد أخذ منهم كُلَّ مأخذٍ، والطعام قد بَـرَدَ، فلم يكن لهم شهية للطعام وقد بددها القلق، كُلُّ اعتذاراتي لأولادي لم تجدِ، هكذا كانت عيونهم تقول لي، زوجتي قَدَّرَتْ موقفي، فهي معتادة على مثل هذه المفاجآت التي يمليها عليَّ المجتمع...

ولما عدتُ بعد صلاة العشاء والتراويح، وجدتهم قد أكلوا... وعادت الابتسامة إلى جوههم، فحدثتهم عن طيبة أهل السودان، وطيب طعامهم، فلم ينفض تحلقهم حولي إلا وقد رضوا عن فعلي، أو غفروا لي، أو هكذا تَصَوَّرْتُ!!.