رِجْلٌ الكترونية

محمد الخليلي

[email protected]

مالكم قد تكأكأتم عليَّ كتكأكئكم على ذي جنة ؟! أنقذوني أنقذوني أنقذوني ..............

آخ يارجلي .. آه يامُو انكسرت رجلي مشان الله شيلوني ... ياجماعة اللي عندو لله يساعدني ترى رايح أموت ياأهل الخير ليش واقفين تتفرجوا عليَّ واحد يمد إيديه ويسحبني من الشارع .

كانت السيارات تمر عن يمين الرجل المرمي على الأرض وعن يساره ويطل كل سائق من نافذة السيارة وكذلك من معه وهم يصرخون يالطيف يا لطيف ثم يمضون سراعا لايلوون على أحد . ظل أبو علي على هذه الحال دقائق إلى أن احتمله شابان طويلان مفتولا النزود أحدهما أبيض والآخر أسمر وأدخلاه إلى أقرب محل تجاري وهو يصرخ خذوني عند أبي محمد قالا ومن أبو محمد ؟ قال صالحب محل بيع العطور .جلس على الأرض يولول كالثكلى التي تنوح حيناً وتصيح طورا . خرج صاحب المحل من مكتبه مستفسرا عن صاحب الولاويل فإذا به صاحبه أبو علي فاعتنقه قائلاً ماالذي حلَّ بك ياأبا علي ؟ ومابال رجلك وقد كسرت ؟ وعلام تولول وتنوح كالمطلقة ؟

أجهش الرجل بالبكاء ثم علا عويله حتى سمعه الجوار فالتفوا من كل حدب وصوب ثانية وهم يرمقون هذا الرجل السيتني وهو ينتحب !

قال أحدهم : انظروا فقد تكون رجله كسرت ؟ !؟

فصرخ أبو علي والدموع تنسكب على وجنتيه : لالالا

قال آخر : لعله أصيب برأسه يوم وقع من السيارة التي ارتمى منها ساعة ارتطامه بالأرض ؟

صرخ أبو علي بصوت أعلى : لالالا

قال ثالث : فلربما شعر بدوار  أو  ..؟

ابتدرههم أبو علي بصرخة جنونية لالاوالله .

قاطع صراخه رابع إذا مالذي دهاك يارجل ؟ قل لنا بحق الله عليك ؟ عشرة رجال يريدون مساعدتك وأنت لفظت كلمة لا عشر مرات ، قل لنا ماذا جرى حتى نستطيع مساعدتك .

قاطعه أبو علي بصرخة مباغتة : لالالا

قال خامس : لا اللي انشالله تقطعك ، هل أنت أخرس ولا تجيد إلا كلمة لا ، أم أنك تمثل ؟!؟

قال أبو علي هذه المرة : لا

ضحك الجميع قائلين : الحمد لله فقد خفض لاءاته من ثلاث كل مرة إلى واحدة هذه المرة .

سأله صاحب المحل : أبا علي أظنك قد التقطت أنفاسك ، هدِّأ من روعك قليلاً وسآتي لك بكأس من الليمون كي تستريح أعصابك ثم على رِسْلك خبِّرني ماالخطب الذي ألمَّ بك .

انفرجت أسارير أبي علي وانبسط حاجباه  الغليظان الملتفان كجذع سنديانة عتيقة بعد أن كانا مقطبين ، وانبسط وجهه بعد أن كان مفلطحا ، واسترسل شارباه بعد أن استُنفرا كحارسي حدود ساعة معركة ونطق بأول كلمة مفهومة فقال : لالالا  يعني مش انكسرت رجلي يعني رجلي ...... بل انكسرت رجلي اللي مش هي رجلي اللي أصلا رجلي .

ضج المحل بضحكات الجميع وقد تيقنوا أن أبا علي رجل بسيط جداً لايجيد الكذب ولكنه لايجيد أيضا حسن التعبير ، ومن لهجته الغريبة فهموا كنه كلامه أنه مهاجر من سوريا وكان يقصد محل صاحب الورد  لطلب مساعدة طبية ، ولكن القدر عاجل رجله الاصطناعية فكسرت ساعة نزوله من سيارة الأجرة التي أوصلته إلى المكان .

سأله  أحدهم : وهل قطعت رجلك الأخرى  بسبب الأحداث ؟

أجاب أبو علي : بل بسبب السُّكرين .

ضحك الجميع ولكن بصوت أخفض من ذي قبل لأنهم تيقنوا أن أبا علي رجل أميٌّ وبسيط جدا ، ومن الأدب ألا يستهزأ به الحاضرون . فبادره أحدهم : أأنتم تقولون عن مرض السكري في بلدكم سكرين ؟؟

فضحك أبو علي ضحكة هستيرية وقال : اسمع ياابن أخوي ، أنا رجل عامي وأنتم تقولون عني أميٌ ،  وأمي تقول عني أهبل سمِّه سكري  ، أو سكرين أو ملحين ، المهم الرجل الأولى راحت والتانية لحقتها والله يحمي التالته ، وبعدين شوف لك ابن أخوي ترى الرجل التانية مقطوع منها أربعة أصابع ...... هاه .

قاطعه الرجل مستفسرا : من أية مدينة هاجرت ياعم ؟

أجاب أبو علي بعد أن تنحنح وفتل شاربيه : بكل فخر من بلد الحضارات ؟

قال السائل : كل واحد منا يقول عن بلده أنها مهد الحضارة .

فانتهره أبو علي : أنا بتحداك إذا كانت مدينتك أقدم من مدينتي وشقد بتدفع رهن والشباب الحاضرين شهود أنا مني عشرون ديناراً .......... ههههه

قال الرجل : ياأبو علي أنت قلت جاي عند صاحب المحل تطلب مساعدة طبية ، بس شايفك انقلبت مقامر ونسيت رجلك الأولى والتانية وكمان شوية بتنسى الرجل التالته . خلينا في بلدك ، أنت من وين ؟؟

قال أبو علي : طيب بلا المراهنة : احزر أنت وأنا من عندي  أحلى كروز دخان وأجنبي كمان .

قاطعه الرجل : ياأبو علي الله يهديك شايفني رجل ملتحي وأنا لاأدخن لاأريد دخان فالتدخين حرام شرعاً .

قاطعه ثانٍ : أنا أعرف الحاج أبو علي من لهجته فتلكم لهجة شمال سوريا فإما أن يكون من إدلب أو من حلب .

صفق أبو علي وتهلل وقام على رجل واحدة يريد تقبيله فسقط على الأرض قائلا : ولك أبوس وجهك أنت الوحيد اللي حزرت ، ياسيدي لك على وجه الشباب الطيبين مو كروز دخان لأ ياسيدي كيلين حلو أصلي من حلب ..... ولك آه على حلب .... ثم رجع أبو علي إلى الانتحاب وشهق شهقة سمعه بها كل الجوار وبكى حتى غرق في دموعه وشرق بلعابه وكاد أن يقضي على نفسه من شدة الوجد ، ثم صرخ :

أهين عللـِّي انكتب

سطرين فيهم عجب

السطر الأول نار

بعدي عنك يادار

والتاني كلو مرار

محروم شوفة حلب

وآهيــــــــــــــــــــــــــن

وبدأ أبو علي يرتل القدود الحلبية والجميع حوله آذان صاغية منهم من جلس القرفصاء ومنهم وقف على رجلين وآخر على رجل واحدة وأبو علي مفترش الآرض مادٌّ رجله المقطوعة ومحركٌ إصبع رجله الوحيد مع موسيقى الأغنية التي يرددها .. وما هي إلا ثوان حتى صار المحل جوقة قدود حليبة لتحسبَ أن صباح فخري يقف أمام قلعة حلب وهو يغني يامال الشام ويالله يامالي طال المطال ياحلوة تعالي  ..

كان كل الذين يمرون من أمام المحل يقفون هنيهة ، منهم من يلحق بركب صباح فخري وقدوده  - أقصد أبي علي طاووش الرجل الحلبي ، ومنهم من يستهجن الموقف ظانا أن مجموعة قد هربت من مشفى المجانين وآخرون يمرون سراعا لايلوون على أحد .

استمر الغناء والشجن مدة نصف ساعة وأبو علي يشدو أهازيجه في حب بلده ، وبدأ الموجودون ينفضَّون الواحد تلو الأخر وقد أمضوا قرابة ساعة عجيبة غريبة ، وأبو عليٍّ يصف لهم منزله الذي هدِّم معظمه في حي الكلاسة بحلب بفعل القصف الجوي بالبراميل المتفجرة ،  ويعدهم غداءً من الكبب الحلبية الشهيرة والمحاشي اللذيذة ويمنيهم بالكنافة الحلبية المشهورة بين النارين ويغلظ عليهم الأيمان .

كانت قد انقضت ساعة أشبه بالفيلم الهندي الملون الكل ينظر يمنة ويسرة ويدققون بوجوه بعضهم بعضا ولايكادون يصدقون .

قال أبو علي : أنا ياأبو محمد جئتك لكي تساعدني في وصفة طبية ولكني الآن صرت محتاجا لرجل صناعية .

قال أبو محمد صاحب المحل : وماعلمي بها ياأبا علي ؟

قال أبو علي : دبر نفسك ، أنا مو شغلي ترى ، انكسرت أمام باب محلك ، والله لاأخرج من محلك إلا أن تعدني برجل بديلة .

أبو محمد : خير إن شاء الله ياأبا علي علَّ الله يسوق لنا من يساعدك .

رفع أبو علي يديه إلى السماء داعيا : يارب لم تعودني البته أن تخيب رجائي فلا تكلني في بلد الغربة إلى من يذلني أنت أعلم بمدى حاجتي فلا تردني عن بابك مكسور الجناح .

عاد أبو علي أدراجه إلى بيته مهيض الجناح وقد أضناه الهم والدمع معا . ولم تمض سويعة إلا وقد رجع إلى محل ذاك التاجر رجل يحمل البشرى من متبرع كويتي برجل الكترونية لاعادية .......  فزغردت أم علي لحظة سماعها الخبر وسقط أبو علي مغشيا عليه من شدة الفرح وتقاطر عليه المهنئون من كل حدب وصوب وهم يتلذذون بأكل الكبة الحلبية والكنافة الشهية فانبرى قائلهم : اسمع ياأبو علي ترى أنا بحلف يمين  ......... لأ وكمان شمال بالقرآن ثم بالإنجيل وبكل الكتب السماوية  ......... وغير السماوية أنك أنت الذي كسرت الرجل العادية لتبدلها بألكترونية فقاطعه أبو علي بشدة : ولك اخرس والله صار لي أسبوع ومو عارف أشغل الالكترونات اللي فيها وكل مابدي أقوم وأقعد أنادي أحفادي لكي يشغلوها لي .. الله يخرب بيوتكم .... حتى على رجل صناعية تحسدوننا !!