الصباح الغارق بالدم

 قال الراوي الذي نجا من مجزرة تدمر:

من الذاكرة تحضرني في هذه اللحظة همسة شاعر تقول :

ولهذا أصرخ بكل من لا يزال على الأرض حيّاً

(اضغط بقبضتيك على أعناق الجبال        فربما تتفجر في الأرض ينابيعها الجديدة)

كان الصباح يتثاءب أول تثاؤباته، فترسل الشمس طلائع ضفائرها إلى رمال صحراء تدمر الغافية على ألم ممضّ، يبثه سجنها التاريخي، المتحفظ على سره، فلا ينتقل مع أثير تثاؤبات الشمس ولا مع لظاها الحارق في ظهيرات السجن اللاهبة..

الزمان: صباح السابع والعشرين من حزيران (1980)

المكان: سجن تدمر الصحراوي في بدايات استيقاظه الحزين

الهدوء يخيم على الساحات، فلا يقطع صمتها المريب إلا صرير بعض أبواب المهاجع ، تفتح وتغلق، إذ يتفقد الجلادون الأسرى، ليتأكدوا أن الجميع في أماكنهم. لم تكن هذه عادة الجلادين اليومية، فالأسرى يذكرون أن هذا التفقد لا يكون إلا ساعة الاستراحة، التي تتحول إلى رحلة عذاب واستغاثات ، بل وموت زؤام.. تتناوش فيها "الكرابيج" و"الكابلات" و"القناوي" و"الخيزرانات" و"القبضات" القاسية أجساد الأرقام، التي حلّت محلّ الأسماء والكيان الإنساني.

-     اقترب الشيخ عبدالكريم الترعاني من الدكتور أيمن، وكان يجلس إلى جواره في المهجع (10)، وهمس في أذنه: يا ربّ استرنا.. الوضع غير طبيعي.. وقال أيمن له وقد سمع همسه:

-                   ما الذي تقول يا أبا أحمد..؟

-                   أظن أن تصرفهم هذا له ما بعده..

-                   توكل على الله يا رجل..

وتابع الشيخ عبدالكريم تلاوته، ولكن بصره كان لا يغادر باب المهجع، إلا ليختلس منه لحظات يتأمل فيها وجوه إخوانه المئة الذين يشاركونه المهجع ، الذي لا تزيد مساحته عن خمسة وعشرين متراً، حيث ينام الواحد منّا على جنبه، كي يتسع المكان للعدد الكبير المحشور في هذا الجحر، المعبأ عفناً ورطوبة.. تأملت معه بعض الوجوه، فمررت بمحمد السعدي المدرس الناجح يتلو ورده الشفوي اليومي، كان وجهه مكسوّاً بغيمة من القلق، كما شاهدت المهندس محمود خضر والطالب حسين في السنة الأخيرة من كلية العلوم يتهامسان، وقد تعبأت عيونهما بالتساؤلات الساكنة على باب المهجع. ولم يكد بصري يصل إلى الأستاذ الجامعي أحمد خضر، حتى وصلت إلى مسامع الجميع أصوات إطلاق نار قادمة من مهجع قريب، كانت عدة رشقات، تبعتها صيحات الله أكبر.. الله أكبر.. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.. وقد تبيّن لي من بين تلك الأصوات صوت أحد العلماء لم يحضرني اسمه.. لعل الموقف الراعب محاه من ذاكرتي .. كان الصوت متحشرجاً ولكن نبرته عالية، التقطت منه قوله: "ما الذي تفعلونه أيها القتلة..؟".. بعد تلك الجلبة عاد الصمت الراعف يلف المكان إلا من أصوات أقدام تتراكض، وهي تقترب من مهجعنا.. كان جميع من في المهجع واقفين.. قال الشيخ عبدالكريم:

-                   استعدوا أيها الإخوان.. ولا تنسوا الشهادة.. إنه القتل.. القتل يا إخواني..!

-                   وقال محمد السعدي: فليكن.. إنها الشهادة.. وهي خير من هذا الانتظار الوحشي.

-     وقال الدكتور أيمن وداعاً أيها الإخوان.. اللقاء "في مقعد صدق"، كانت كلماته متحشرجة، فقد ابتلت بدمعة وصلت إلى حلقه للتوّ إذ استحضر في مخيلته صورة أمه المريضة التي تنتظر رؤية وحيدها أيمن ، وساد المكان دويّ كدويّ النحل، فقد انشغل الجميع بالذكر والتلاوة.

وما هي إلا لحظات قليلة ، حتى تدافعت الأقدام عند باب المهجع من الخارج.. ودار المفتاح في "الغال"، ثم دُفِع الباب بشدة، فإذا بعشرة من الشياطين مدججين ببنادق "الكلاشنكوف" سريعة الإطلاق، يقفون أمام المئة العزل إلا من الذكر، وكان الشيخ عبدالكريم في المقدمة، يقف وقفة تحدٍّ وإباءٍ، وخلال ثوانٍ استدرج شريط ذاكرته العديد من الأيام السالفة، الزوجة الصابرة المحتسبة، والأولاد الذين ينتظرون عودة أبيهم، وقد طال انتظارهم حتى غُمس باليأس، وقد مرّت في الشريط صورة ولدي الأصغر "أنس"، الذي كان متعلقاً بي ، لا يكاد يفارقني إلا للنوم، فهو يتمسح بجسدي، ويطلب مني الطلبات، وفجأةً مرّت صورة مسجدي، الذي كان يلازمني ، حيث ألقي فيه الدروس، تذكرت يوم هاجموا خليل الحمدو، وقتلوه على باب المسجد بدم بارد، لا لذنب إلا لأنه ذكر الاستبداد مرة في حلقة مسجدية، وأشار في كلمته إلى الحكم.. كانت آخر كلماته أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.. تابعوا ولا تيأسوا، ومرّت في الشريط صورة الأستاذ الجامعي حسن محمد، وهو يُهان ويُهزّأ عند باب قاعة الدرس في الجامعة من قبل أعضاء اللجنة الحزبية في كلية العلوم في جامعة حلب.

عدت من سرحتي على صوت انفجار في مؤخرة المهجع، وصيحات الله أكبر، وأشهد أن لا إله إلا الله، استدرت بوجهي قليلاً إلى الخلف، فإذا بالدم الطاهر يغطي الجدار، وتماوجت الصفوف الواقفة، بحيث دفعتني قليلاً إلى الأمام، فأصبحت وجهاً لوجه أمام أحد المسلحين من سرايا الدفاع، والتقت عينانا.. وبعثت عيناي سؤالاً مستنكراً، إلى عيني الأداة الواقفة أمامي مصوبة بندقيتها إلى صدري، يقول السؤال: من أنت..؟

-                   هل تعرفني أيها ال ( ..... ) ؟ وردّت نظرات المتوحش:

-                   لا.. أنا لا أعرفك..

-                   وأنا لا أعرفك أيضاً.. لم نلتقِ من قبل، ولا تعاملنا، ولا حدث بيننا ما يجعلك تحقد عليّ حدّ الموت ..

-     ولكنه التاريخ يا هذا.. أنا الرقيب عيسى في سرايا الدفاع، علوي، والدي ابراهيم فياض، ووالدتي جميلة، من محافظة اللاذقية، إن الدور لنا اليوم..!

-     ها أنت تعترف.. اسمك عربي.. ومواطن سوري من محافظة عزيزة، وأنت لا تعرفني وأنا لا أعرفك، ولكني مواطن عربي سوري مثلك، ولا ذنب لي سوى أن لي رأياً لا يروق لمن أرسلوك.. فهل تقتلني، ولا شئ بيني وبينك، أتبيع كل شئ بدنيا غيرك..؟!

جالت في عينيه موجة من حيرة وتردد وقلق، فواجهته بسؤال جديد:

-     قل لي: لمن يجب أن تصوّب هذه البندقية..؟ لي ولهؤلاء النخبة الأطهار الممثلين لأعلى مستويات العلم والثقافة والأخلاق في البلد، ولا ذنب اقترفوه، إلا أنهم يحملون رأياً لا يناسب من أرسلوك.. أم لمن اشترى شعبنا هذه البندقية لتصوّب إلى قلوبهم الآثمة التي اغتصبت فلسطين والجولان..؟

بعد هذا السؤال، احمرّت حدقتاه، ثم أغمضهما، وأعطى الإشارة بيده لمن معه، فانهالت رصاصات الغدر، وسقطت القامات الرفيعة، توحد ربها .. كان جرحي في كتفي.. سقطت ولكني بقيت حيّاً، وحضر أحد الضباط من قادة هذا الإجرام، هرع إليه أحدهم قائلاً:

-                   ملازم رئيف عبدالله.. لقد قتلنا المجرمين جميعاً في هذا المهجع..

-     أبطال يا عيسى أبطال.. جميع المهاجع حدث فيها مثلما حدث هنا.. أكثر من ألف من هؤلاء المجرمين سقطوا.. وقد قمت بتفقد الجرحى وقتلهم.. هل تفقدتم هنا..؟

-                   لا لم نفعل..

-                   اتركوا المهمة لي..

قلت في نفسي: لقد جاء الدور عليّ.. هل أموت هكذا بلا ثمن..؟ لا.. لا.. لن يكون ذلك..

استغلّ الدكتور أيمن وكان جريحاً انشغال القتلة برواية ما فعلوا والتباهي بالبطولات..!! فانقض على بارودة أحدهم، فخطفها، وناول صاحبها الرصاصة الوحيدة المتبقية في المكان القاتل، وسمعتهم يصيحون مذعورين.. يا قرد.. هذا الجريح قتل الرقيب إسكندر أحمد، عندها هبّ الضابط رئيف قائلاً:

-                   ألم أقل لكم يجب تفقد الجرحى، ولكن لم يبق لدينا وقت، اخرجوا..

 وبسرعة فائقة تناول أحدهم بارودة زميله ورشّ منها الجريح أيمن ، فاختلط صوت رصاصاتها بصيحة الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله.. سنلتقي في محكمة الله.. إنه العدل الأعظم.. وقد أتبعت الصيحة بهمسة تقول: يا قبضة ابني أنس اضغطي على أعناق الجبال فلعلّ ينابيعها الجديدة تتفجر من بين شقشقات هذا الصباح الغارق بالدم ..

 

وسوم: العدد 813