دماؤهم غسيل الظلام..!

الشمس تشق طريقها على الحائط الشرقي من الأفق وسط الغيوم الرقيقة، وليدة كطفل بريء لم يعرف بعد مغزىٰ المشي نحو المخاطر.. طفل.. قلتَ طفلاً..؟! ها أنت توقظ الانتباه، بعد رشفة من فنجان القهوة الذي أَعَدّته للتوّ الزوجة الأنيقة.. كان هناك عنوان صغير في صفحة داخلية تخفيه. وفي زاوية منسية بين الإعلانات البارزة الفاضحة التي تغدق على الصحيفة الآلاف.. لقد قَرأتَه بلا مبالاة، "طفل في الصف الأول يسقط صباحاً في رام الله.."! وإلى جانب هذا العنوان الباهت اصطفت حروف كبيرة وصور زاهية لبحر "شرم الشيخ"، تدعو الزبائن لقضاء يومين، تستريح فيهما العينان المنهكتان من الركض ، فتسرح البصر في اللازورد البحري، وتغذي "العقل" بحفلاتٍ حمرٍ وسودٍ وصفرٍ ليلية وأصائلية!!

وعلى الفور اسْتَعَدْتَ الصحيفة، وعُدْتَ إلى خبر الطفل، لتلقاك الحروف مهزوماً فوق مائدة الصباح، ترشف شراب البن في الشرفة "المُقَزّزة"، وتمتد بك الرؤيا، وتتراكض الصور بين ناظريك؛ فمن خبر استشهاد محمود ابن السنوات الست في فلسطين، إلى شهادة من نوع آخر في بغداد.. إلى صورة أطفال أفغانستان تصلهم ديموقراطية الـ(بـ 52) لتهدم منزلهم فوق رؤوسهم، وتزاحمت كلمات بين معترضين في ذهنك ، بينما كنت تَهمّ برشفة أخرى من فنجان الصباح ، تدحرجت بعضها فوق لسانك ، لتصل إلى شفتيك فتقول : لقد غادر غصن الزيتون كل البقاع، منذ انفصام الشخصية التي  تقمصته ، داخل عقول تعبأت بالعتمة من طول انتظارها على أبواب الضلال الذي يقبع صامتاً، وهو يشاهد منظر الأطفال السوريين، ينتشلون من تحت أنقاض بيوتهم التي هدمتها طائرات أسد، الذي يقولون عنه زوراً وبهتاناً: إنه عربي سوري. ويريد هذا الضلال أن يؤهله لقتل أوحش مما سبق.

وها أنت تستعيد قراءة الخبر الذي تقول مقدمته : هذا الصباح تاهت المراكب، فهي لا تهتدي إلا بالقتل ، ما عاد المكان آمناً.. لقد ضاع الإنسان في تفاصيل التضاريس الشائهة للوجوه الهمجية، التي جاءت غريبة، وظلت غريبة، لأنها فضّلت حروف النار، وتمسكت بالجنون والظلم والظلام على الدخول في عقد الأمان.. وبين الهجير وقباب القدس، وشواهق الجرمق.. وانبساط الأغوار وسهول حوران وحلب وإدلب، تنداح قصص الظلم والظلام...!

هل كان استشهاد محمود هو كل الحكايا..؟ لقد جاءك السؤال على حين غرة، وأنت تأخذ رشفة من الفنجان. وهنا حملقت مليّاً في سطور الصحيفة، وانتهيت إلى جملة تقول: بعد مجازر البارحة في الكبار يطل مقتل محمود الطفل اليوم ليتوج الوحشية بتاج من جهنم.. ويحضرك فوراً سؤال على السؤال يقول: -ولكن ها هي الشهور تمضي وقلبك ما زال متعلقاً بهتاف: "مات الولد" وعيناك ما زالتا مشدودتين إلى صورة محمد الطفل يحتضن "هدوم العيد"، ويختبئ خلف جسد والده، وهو يظنه جداراً فاصلاً يقع بينه وبين رصاص الهمج.. فلما فارقت الروح الجسد الصغير وهو يشد على ثياب العيد.. وقد ارتعش رعشة الحياة الأخيرة إذ ودعها بهمسة بريئة.. بابا بابا .. قتلوني يا بابا . هل سيأتي العيد ..؟! .. وفي هذه اللحظة سألت نفسك : متى كانت الجدران تنفع في صنع الأمان ؟! وهل تكون حكاية محمود هي النهاية ما دامت الجدران ترفع لتفصل الإنسان عن الإنسان ؟. ولكنك تحمل الأسئلة في صدرك بلا إجابات، فقد قتلوا ساعي الحياة في أول الطريق، ولم يفتحوا باباً للعزاء.. وها أنت تعود لتقرأ :

علّقت أم محمود كيس الكتب في رقبة ابنها، وحمّلَته في يده شطيرة الزيت والزعتر، ووقفت تودعه عند باب كوخها المتواضع، وقد سار محمود في الطريق متردداً، فهو ييمم بوجهه صوب المدرسة حيناً، ويلتفت نحو أمه حيناً آخر، وقد اغرورقت عيناه بالدموع، فقد صعب عليه فراقها ولو لساعات ، بعد أن لازمها ست سنوات ، التصق خلالها بصدرها ثم بحضنها، ثم كبر ودرج فلازمها في المطبخ والغرفة الوحيدة التي تضمهما باقي الأوقات، بعد أن غاب الأب شهادة من أجل الرفض .

وفي التفاتة منه إلى أمه عثر قدمه فسقط على الأرض باكياً. خافت أمه عليه، فركضت نحوه، لكنها عندما وصلت إليه وجدته واقفاً، وقد سوى هندامه، ولملم أطراف شطيرته، ومسح دموعه، فقابلها بابتسامة ذات مغزىٰ، وهو يشير إلى حجرين أمسك بهما بصرامة في يده اليمنىٰ، فبادلته أمه بابتسامة اعتزاز هامسة..: "أبوك.. أبوك لا راح ولا أجا".. قبّلته، وودّعته، فانطلق هذه المرة بخطىً ثابتة، وبلا تردد ودون التفات.  

وعند آخر كلمة قرأْتَها أَلْقَيْتَ بالصحيفة جانباً، طارحاً على نفسك سؤالاً اعتبرته محيراً، إذ قُلْتَ في نفسك:

- هل نضج الأطفال قبل الأوان..؟..

- يبدو أن ذلك حقيقة.. ولكن كيف ولماذا..؟

وباغتك السؤال بسؤال:

- هل تراب فلسطين مختلف، إذ ينبت كل هؤلاء الأطفال..؟..

ولكن الأسئلة ارتدت إلى رأسك تحاور التاريخ.. لتقول: أليس هذا التراب تتفاعل فيه حياة عين جالوت وبيسان؟ أليس فيه روح القسطل ويعبد؟ ألم ترتد جحافل الظالمين فوق تراب عكا وعند جدران أسوارها المنيعة..؟.. فلماذا الحيرة إذن ، ولماذا لا تقول نعم إنه التراب مختلف فالذي أنضج كل هذه الانتصارات، وأنبت كل الأبطال ، هو هو الذي أنضج هؤلاء الأطفال / على وقع سيف صلاح، المنطلق من حلب ومن الشام، حاملاً نموذج طفليهما.

- ألم تلحظ تلك المعاني الفائقة التي تضمنتها كلمات الأم التي أثبتتها الصحيفة وقرأتها للتو..؟

- أية كلمات..؟ نعم.. أية كلمات..؟

وتصك أسنانك، ويصدر صرير حاد، وتستعيد الصحيفة فتقرأ الكلمات: أبوك.. أبوك (لا راح ولا أجا)، ويهز مشاعرك مشهد الأم قبل هذا البوح، إذ تبتسم الأم ابتسامة اعتزاز، عندما وجدت ابنها قد خرج من تجربة السقوط قوياً عزيزاً ثابتاً. فتنداح على شفتيك كلمات: "يبدو أني وأمثالي من الملايين الذين أخذتهم لقمة سائغة، وجلسة في شرفة أنيقة، ورشفة من فنجان قهوة محمصة بعناية فائقة، ونظرة مسلية إلى تلفاز يبث كل يوم صور المأساة ، حتى أصبحت الصور عادية" ، يبدو أننا جميعاً أصبحنا من ذوي العاهات الأخلاقية على الأقل.."!!..

وترسل ببصرك نحو الأفق من خلال زجاج الشرفة الأنيقة، كان غيم تشرين يتكاثر..، و تمد يدك لتعبث بخصلات شعرك الرمادية قائلاً: بعد كل هذه السنين وهذا النمط من الحياة.. فإننا لا نستطيع أن نفعل إلا النظر إلى التلفاز.. ثم الحسرة.. وبعضنا ممن لا يزال مؤمناً يتبع ذلك بالدعاء...

هبت ريح خفيفة، صاحبتها حبات رقيقة من المطر، التصقت بزجاج الشرفة ، لطالما أحببت المطر وما يأتي به من فرج . وهنا يجتاحك سؤال:

- لعل الفرج يكون في قطراته..؟ ويتبع ذلك السؤال سؤال آخر:

- هل شاهد محمود حباته الندية.. فرسمت فوق شعره وعلى جبينه كلمات الفرج..؟

- أوه.. إنك تبالغ.. رمقتك غيمة صغيرة تشبه الطفل محمود بنظرة عتاب وتأنيب في الوقت نفسه..

وهربت منها مسرعاً، فتناولت الصحيفة من جديد، ورغم أنك قد قرأت ما حدث للطفل، إذ لمحته مكتوباً في آخر الخبر، وهو الذي جلب انتباهك لمتابعة قراءة سطوره من بدايتها، رغم ذلك فإنك تابعت القراءة..".

ويتابع الطفل سيره الواثق . لم تكن المدرسة بعيدة، إلا أنها في تلك الأجواء المشحونة بالخطر كانت بعيدة في عيني أم محمود.. بل هي في تقديرها ببعد السنين التي فرقت بينها وبين أبي محمود، إنها بطول السنوات الست التي أَهّلَتْ محموداً لدخول المدرسة، وعاشتها تعدها بدقائقها وساعاتها قبل أيامها وشهورها تنتقل فيها بين ألغام الملاحقات والجرافات والرصاصات العمياء، أو الاحتجاز أحياناً والأسئلة السمجة المكرورة...

وفجأة وعند المنحنىٰ الذي يبعد عن كوخ أم محمود مسافة مئتي متر، برزت سيارة جيب مصفحة، وقد هرب أمامها بعض أطفال المدرسة الذين كانوا يَرْتَدُّون أحياناً ليطلقوا عليها أسلحتهم من الحجارة الصغيرة.

وعندما كانت السيارة قريبة من محمود أطلق عليها قذيفتيه اللتين لملمهما عندما سقط على الأرض قبل أمتار، ولكن يد الغدر عاجلته بقذيفة نارية، جعلته يهتز بشدة، ليسقط بلا حراك.. كفجرٍ حاول البزوغ، لكنه اختفى خلف الضباب الرمادي العاتم، فقد أتى ليسقط على قدمي والده...

وتوقفت هناك عن القراءة، فقد غزت عينيك دمعتان حارتان أحالتا الكلمات إلى أشباح من جنود همج.. وقد أخذت منديلاً، فأزلت الدمعتين متسائلاً:

- ولكن ماذا فعلت أم محمود.. وقد أقفرت الساحة من رحمة، إذ غيبتها من هناك عيون تتقد بالكراهية والحقد.؟! ولتجد جواب سؤالك عُدتَ إلى الصحيفة تقرأ:

عندما وصلت أم محمود إلى جثة ابنها مولولة مهرولة، تضرب بكفيها رأسها.. احتضنت الجثة تقبلها. وقد ألقت نظرة على المكان.. كانت سيارة المجرمين قد ابتعدت كثيراً، وكان بعض الأطفال قد تجمهروا حول الولد ووالدته.. وكان النهار قد تحول في عيني المرأة إلى مجزرة؛ وجه الطفل مغسول بالدم البريء، والشطيرة انفلتت من يده وقد غطاها الدم الأحمر القاني، وتناثرت محتويات كيسه المدرسي، لكن ثغره كانت تسكنه ابتسامة رضى، وعيناه ترتسم بداخلها صورتين واحدة للوالد الشهيد، وأخرى لحلم لم يكتمل بعد تخلقه ، وخصلات شعره كانت مبللة بنقاط من ندى تشرين .

- وصاحت الأم بالأطفال.. احتضنوه.. محمود لم يمت.. إنه ضوء الأمل في حياتي وحياتكم.. إنه إكليل الزهر. ونسيج الحلم.. الذي سيدمر تلك المصفحات...ذهب محمود وأبوه .. ولكني باقية، وقد جاء دوري ..

وطفرت من عينيك دمعتان حرتان مرة أخرىٰ، وتململت في جلستك فوق الأريكة المريحة، وأحطت جبينك بكلتا يديك، وألقيت برأسك بين كتفيك وهمهمت بكلمات وصل أذنيك منها: الدم البريء.. الدم البريء.. في رام الله.. في بيت حانون.. كيف لا يُسمع نداؤه في العواصم الآمنة.. أليس مكان الأطفال هناك في مدرسة.. في حقول يلاحقون الفراشات..؟ ويعظم ، يعظم في عينيك حلم الأطفال.. فدماؤهم غسيل الظلام.

ولنا .. لنا نحن المتفرجين العار!!مأم م

وسوم: العدد 813