دوامة

عصام الدين محمد أحمد

نحتسي الشاي،يقرأ قصة.

تخط حروفاً،تتناسل الأوراق فوق الطاولة المقابلة.

يفرغ من قراءة القصة معجباً ببلاغتها.

صديقي شغوف بفك طلاسم الامارات،استرعاه مشهدها؛فقال:

ماذا بها؟

أطبق علينا الصمت،يستغرقنا التأمل؛ثلاث بنات تلهين فوق الرصيف،ملابسهن متعددة المشارب،أعمارهن متقاربة،الكبيرة تربت علي كتف الصغيرة في آلية،تهدهدها فوق حجرها بحبور،تبتره نظرات الرواد،تناوشههها بالسكاتة في تماوج حذر،يخرج من الصمت قائلاً:

خائن من يخبررر   هههذا المشهد ولا يكتب إلا عن الانجازات.

مازال قلمها ينزف،تمسح الفراغ بعيون ذاهلة،والمقهي يزدحم،يصطخب.

علي الرصيف تنغمس السكاتة في بركة المياه الآسنة،تنقعها الكبري فى القطرات المترسبة بين جنبات الشقوق،تشير علينا،ترفل الصغري في عثراتها،تواجهنا،تمد يديها.

أفتش جيوبي،أركن في يدها ما عثرت عليه من فكة،أقول منقدح الذهن:

ماذا تعني:وما كان ربكم بظلام للعبيد؟

يتمنهج مجيباً:

الكل يُبتلي.

نضب قلمها،تطوي الأوراق،تفردها،تطويها ثانية،تلصق طابع بريد فوقها،تتفرس الداخلين والخارجين،أفكر بصوت عال:

حذاؤها ذهبي،فستانها كستنائي.

يشاطرني التفكير:

ألهذا دلالة ما؟

أجيب مبحلقاً:

ربم!!

أستدرك:

وجهها مبقع بآثار الأظافر.

استحلب شاي الحليب،تساءل:

أمتأكد أنها تشخبط؟

أتفلسف مضفياً عليها شبهة العقل:

يجلدها تاريخها.

تغادر البنت الوسطي ذات السنوات الأربع الطوار،يغلفه صمت العوز،تمص حلوي متسخة،تتسمر قبالتي،أنظرها:وجه متعفر،عينان مشدوهتان،أطلال دموع جافة،أقلّب بطانة الجيب،تنكسر نظراتها رهقاً،ترنو أكثر،أتجاهلها،رسخت قدماها،صككت وجهي قائلاً:

عجوز سقيم.

يقاطعني:

أطلاق الأحكام عجز.

قلت:

في مسيرتها ذئاب.

يستريب:

أتعرفها؟

أتلفت،أنكس الرأس،تختبر قدماي شقوق الحذاء،أستمطر الذاكرة:

كلما ذهبت إلي مقهى وجدتها،لا أحد يزاحمها الطاولة،تكوم أوراق صحف مهترئة،ينتابني خوف ما!

ماذا لو فضحت إمعاني التلصص عليها؟

أدعي أتساخ طاولتي،أنتقل للطاولة المجاورة لها،تقمط عينيها،أرتل بهمس تسمعه:

في الحكاية ينمحي العجب.

تنفرج سحنتها عن نتوء غائر،تنتفض قائمة،تتبعثر الأوراق،ألمها،لا شيء فيها سوى رموز مبهمة.

تقنط البنت،تخنع إلي أمها الصغيرة،تمسها بأياد متصدعة،تربت كتفيها كالعادة،سرعان ما تشير إلي طاولة أخرى.

أحضر لي النادل نارجيلة،أهمس في أذنه:

أتعرف العجوز هذه؟

يقتضب:

سمسمة،أرملة نصر،ذهب إلي سيناء ولم يعد،تاركاً علي يديها طفلين،وفي أحشائها ثالث،بيتها كان يقبع مطرح هذا البرج،كلما ضاقت عليها حلقة المصاريف استدانت،تردد دوما:

في كل بيت حق اشتراه زوجي بدمائه.

ضاق بها الأولاد،فأودعوها مصحة،باعوا البيت لعربي بعقود عمل هناك حيث الصحراء والزيت،ومن يومها لم نسمع عنهم شيئا،ومنذ سنوات ذاعت الصحف انتحار مدير المصحة أسفا علي نزلائه.

أعوف الشيشة،ننهض،يدفع صديقي ثمن المشاريب،يقترب من البنت الصغيرة ذات العامين،يدس في يدها جنيها،ألاحقه بالسير،تهرول خلفنا الوسطى،أتمتم لها:

حظك سيء.

يعقب:

قد تفهم معنى حظ،ولكنها لن تفهم معني سيء.

تمت بحمد الله

وسوم: العدد 820