التَّهيئة ...

تذمَّرتْ نفسي كثيرا من حالة انقلابِ حركة التَّقنيات على نفسِها ، فقد كانت خسارة فادحةً لي ـ على الأقل ـ  إن لم تتعدَّ إلى مساحة أوسع ، آهٍ ... تعبي ، جهدي ، سهري ، إنتاجي بل  كلُّ  مآثري  انهارت انهيارا كاملا ،واحدٌ وثلاثون مجلدا ، وفي كل مجلد أكثر من مئتي صفحة ملأى بالعلوم والمعارف ... لم يبق لي منها  شيءٌ . كنتُ أعتبرُ معلوماتي المخزَّنة في ( الفلاش ...

Flash mamory – LG-2G ) هي صروح مجدي وفخري وكنزي ، وفجأة باتتْ هذه المآثر مجرَّدَ سحابةٍ جميلةٍ مغدقةٍ تبخَّرت في مبهم الأجواء الَّلامتناهية ، ولن تعود ... آهٍ ثمَّ آهٍ ولعلها لاتدخل عالَمَ النسيانِ ، وهذا تقديري ، فبابُ النسيان رغم امتداد مصراعيه لن يستطيع استقبال تلك المآثر ، ستبقى ولكنْ ... في غياهب كآبتي ، أو في ردهات قلبي الذي سقط من قِمَّةِ الأشواق إلى أوجاعِ صدمةٍ قاسيةٍ ... الرُّؤى الجميلة ، الطُّموحات المجنَّحة ، المواهب المتألقة ، اللذّأت الروحيَّة ... صدِّقوني كلُّها سكنتْ خزانةَ آهاتي ، ولجأتْ مذعورةً !! آهٍ ... ذكَّرتْني بالمذعورين ، وشعرتُ وقتئذٍ فقط بصدقِ كلامِ ( رجعي باشا ) في حاجة مآثري هذه إلى رعاية أكثر ، أو إلى ماترمي إليه كلمتُه الأخرى التي لم أسمعْها جيدا لشدَّة انفعالي بل لحُمقي ، أعترف أني كنتُ متعجرفا معه ، ولكنْ لوعةُ شوقي إلى مافقدْتُ أسقطتني إلى أحناء الألم ، فما عادت مخيلتي لتقبلَ المشاعر الرافضة لكلِّ محترقٍ على صدرِ كظيم ، صدِّقوني ـ مرَّةً أخرى ـ أنَّ الوحشةَ تأكلني ، وتكاد أنيابُها تمزِّقُ بقيَّةَ ثباتٍ رخْوٍ  على لججِ إبحاري في هذه الحياة . أتمنَّى من كلِّ قلبي أن يُعادَ إرسال قيمي ومآثري إليَّ !!

ويدخل ـ بعد استئذان وتحيَّة  ـ ( رجعي باشا ) مرَّةً أخرى في نفسِ اليوم على صديقِه ( تقدُّمي بك ) فالأمر جلل ، والخطب بحاجة إلى عزاء ، وأيُّ عزاء ... أجل ( ياتقدُّي بك ) وأنا ـ والله ـ  أتمنَّى أن تُعادَ إلى نفسِك كلُّ أسفارِ فطرتك الميمونة ، ومعها المآثرُ والقيم ، وأتمنَّى أن يعود إلى قلبِك يقينُك بخالقك الذي قدَّر ماشاء ، وقضى بما شاء ، والخيرُ كلُّ الخير فيما قدَّم . ولعلك لم تأخذْ بأسبابِ الصيانة والرعاية لجهازك الحضاري ، فأنا أسمع ممَّن يتعاملون مع هذه الأجهزة أنها بحاجة إلى صيانة وتهيئة . ففي التهيئة تتجدَّدُ نضارة الوسائل الألكترونية ، وتثبتُ فيها القدرة على مواجهة الموجات التي تؤثر عليها ، ولا أقول إنها تؤثر فيها . ألا ترى الواحد منَّا إذا نأى عمَّا يأنسُ به لفترة طويلة يكاد ينساه ؟! ولا سبيل إلى إعادة ذلك الأُنس إلا بتهيئة النفس حتى تندفع تبحث عن وسائل إعادة أسباب الأنس ، ولا تشعرُ النفسُ بأهمية ومكانة التهيئة  إلا إذا دخلتْ من بوَّابته الرحبة ، وسعتْ تشارك كلَّ الدَّاخلين مشاعرَهم واهتماماتهم لكسر الأيدي الخفية التي أبعدتْ مساحات الأُنس بخبثِ خبيث ، ومكر لئيم . تلك الأيدي ( ياتقدُّمي بك ) حدَّدتْ أهدافَها ، ورسمتْ مساراتها ، واختارت وسائلها ، وآلتْ على نفسِها إلا أن تلتزم بتنفيذ الخُطوات ، والتقدُّم بها نحو الأمام ،وبالعبرية يقولون ( كاد يما ) أو نحوها !! وجم ( السَّيد تقدُّمي بك ) وقال : ماذا بعدُ ؟ . استطرد ( الباشا ) بحديثه قائلا : نفَّذتْ جميعَ برامجها ، مستخدمة ما أُتيح لها من وسائل ظاهرة وخفيَّة ، مباحةٍ أو محرَّمةٍ محليَّا أو دوليا ، واستطاعت أن تُصحِّرَ القلوبَ وتسلبَها طهارتَها وسُمُوَّها ،وتملأ النفوس بالكدر والمرارة ، فانهارت صروحُ الأُنسِ ، تماما كما انهارت مآثرُك التي أسلمك انهيارُها إلى ما أنت فيه الآن . وابتلعتها التقنيات الحديثة بلا حياء ، وقذفتها في مجاهيلها بلا خوف ، ولم ترحمْ صاحبَها الذي شغف حبُّها قلبَه النَّضير !! أنت فرد اكتنفتْك هذه المصيبة !!فما بالك بملايين الأفراد من أبناء هذه الأمة ؟؟ وما بالك بانهيار مآثر خيرِ أُمَّة أُخرجت للناس ، مآثر يمتد عمرُها على آفاق خمسة عشر قرنا من الزمن ، ستكون التهيئة مريرة وقاسية وطويلة ، فالعقبات تأثيرُها فعَّال ، والصُّعوباتُ أكثر فاعلية في بعثرة جهود الأوفياء المخلصين ، لأنَّ صُنَّاعها جنود إبليس ، أعداء النُّبوات . ولكنَّ العزاءَ أنَّ قلوب أبناء هذه الأمة مازالت مؤهلةً ـ بفضل الله ـ للتهيئة وللتغيير ، على عكس حافظة التقنيات لديك ياسيد ( تقدُّمي بيك ) . كان ( بيك ) مشدوها حائرا مُصغيًا يتلقى حديثَ ( رجعي الباشا ) بقلبٍ مقهورٍ ، ولكنه لم يعترف بهزيمته أمام خيبة أمله في تقنيات وثورة المعلومات المعاصرة . ولم يكن يظنُّ أنه سيقعُ في حفرتها الخرساء ، قال بعد أن بدا متلهفًا : وكيف ؟! أجاب ( رجعي الباشا ) : أنا قادم إليك بالجواب الشَّافي ... خطر ببالي أن أُهيِّئَ نفسي لاستقبال مآثر وفضائل يوم الجمعة ، وكان ذلك ليلة الإثنين ، فاستيقظتُ عند السَّحر ، وتوضأتُ كوضوء رسولِ الله r ، إذْ قرأتُ عنه في الصِّحاح ،وصليتُ ركعتين كصلاة رسول اللهِ r ، كما وردت الكيفية في الصِّحاح أبضا ، ولا تسأل عمَّا فيها من خشوع وخضوع وتدبُّرٍ ومناجاة  ، ثم أكلتُ لقيماتٍ على نيِّة صيام يوم الإثنين ، وتابعتُ بكلِّ نشاطي وهمتي للقيام بعناصر التهيئة ، فختمْتُ القرآن الكريم في أربعة أيام ، وأكثرت من ذكر الله ، ومن الصلاة على نبيِّه r ، ورحلْتُ بنفسي وبقلبي ومشاعري  ـ مؤقَّتًا ـ عن عالمي المألوف ، واعتزلْتُ الناسَ ـ مؤقتا ـ  لعلي أحظى بثمار التهيئة ، التي طالما حدَّثني عنها أبي يرحمه اللهُ ، ووجهني إلى منهجها الرباني أساتذتي من العلماء العاملين جزاهم الله خيرا ، وكسرت كلَّ (الديكورات ) الاصطناعية التي كانت تجذبني في بعض المناسبات ... توجهتُ بقلبي المكسور وعيني الدامعة ونفسي الوجلة  إلى الله بصدق لم أجدْ مثلَ قوته في قلبي من قبل ، أُصرِّح لك ـ أيها الحبيبُ ـ وأتمنَّى لك أن تنال مثل مانلْتُ ... أجل :لقد كلأتُ نفسي في تلك الحقبة بما لم أُهيئ لها من قبل ، حتَّى ليُخيَّلُ لمَن يراني أني لاأحبُّ إلا نفسي . ولكنْ لاضيرَ ، ففترة التهيئة جديرةٌ بكلِّ هذا التعاطُف مع النفسِ ، وحطَّ  رفرفُ أشواقي عصرَ يوم الجُمُعَةِ الموعودة . وليس لي أن أبوح بما حباني به الله من فيوضات ، ومن مشاعر تعرَّفْتُ عليها آنذاك ، وعرفتُ من خلالها أجوبة السائلين عن أسباب الفتح والنصر في أيام أمتنا الغابرات . آهٍ ... أيُّها الأخ الحبيب ، وأقولها بملءِ قلبي وفمي آهٍ يا أخي الحبيب لو ذقتَ هناءة التهيئة الناجحة الموفقة ، والتي تؤتي ثمارَها بإذن ربِّها ، إنَّ استثمارَ حكمة العقل السليم يجلب الموعظةَ ، فتتلقَّاها النفسُ بالقبول ، ويكتنفها المنهج الرباني بسؤدد القيم ، ويمنحها القوة التي تتخطى العقبات ، وتنهار أمامها العراقيل ، وينقلب المكرُ السَّيئُ على أهلِه ، وذلك كائن بقدر الله ، وتتوارى عوامل الفشل ، لأن التهيئة أوجدت الرباط الوثيق المقدس بين النفس ، وبين موعد المؤانسة .

كان ( تقدُّمي بيك ) واقفا على أوجاع قدميه ، فجلس ، وجلس قربه ( رجعي الباشا ) ففتح ( البيك ) فاه لتتحدَّر منه : كأنك تريد أن تقول ... قاطعه ( الباشا ) بلطف ، وقال : نعم أُريد أن أقول : إنَّ وحوش هذا العصر أكلتْ أُمتنا ، وقطَّعتْ جسدَها ، ونحرت إباءَها ، وجرَّت بقاياها إلى مستنقعات نتنة ، فهي ... واستدرك (البيك ) : هي بحاجة إلى التهيئة المحمودة ، تهيئة الروح والجسد والمشاعر . إنَّ الدنبا ضاقت على الأمة رغم امتداد الآفاق ، واتساع الرحاب ، قال ( الباشا ) : تماما مثلما ضاقت عليك دنيا نفسك حين خسرتَ المجلدات التي أغنيتها بجهدك وسهرك . سيكون صبرُك نعمةً تعوض عليك أحسن ممَّـا فقدْتَ ـ إن شاء الله ـ  فهيئْ نفسَك لانطلاقتك الجديدة ، فالتهيئة نبضٌ جديد في القلب المتجدد ، وعزيمةٌ في الأحناء لاتقهرُها الأكدارُ والأذيَّاتُ ، وخسارةُ الأمة لو كانت في أعراض الدنيا الفانية لعُوِّضتْ ، ولكنها خسارةٌ فادحةٌ حين فقدت الروحَ الوثَّابةَ التي لاترضى إلا بالقِمم ، وحين تراجعت مصداقيتُها مع دينِها الذي اختارها الله له ، فضعفتْ شخصيتُها ، وضاعت هُويَّتُها ، فلم تَعُدْ كما كانت قدوةً للأمم ، بل ليس في مقدورِها اليوم أن تستوعب معنى أهميتِها في هذا العالم الحائر ، ولا تستطيع النَّظر في عيون الآخرين ، لأنها لم تعُدْ ــ أيضا ــ تحسنُ إيصال رسالتها إلى الناس . فالمسافة بعيدةٌ بين الأمةِ وبين ميادين قيمِها ومُثلِها وربَّانيتها ، ومسافة التأثير باتتْ أشدَّ بعدًا ، وأكثرَ تعقيدًا ، والاقترابُ من هذه المكانة لايكون إلا بالتَّهيئة ... قال السيد (البيك ) صدقتَ ، وتقاطرتْ بين ثنايا إشراقات وجهِه دموعٌ ، أجبرت ( الباشا) على البكاء معه ، وليس التباكي من أجله !! و قال : وأنا الآن عرفتُ . وكان منفعلا ، يعيشُ دوَّامة تكفير خطاياه في لحظات تَبتُّلِ روحِه التي خرجتْ للتَّو من ظلمة الغفلة واليأس المقيت ،  واستنارتْ بإشراقات المصافاة المتلألئة على الصَّفحة الأولى من منهج التهيئة . حقيقة كان منفعلا بل في أشدِّ حالات الانفعال لأنه رَهَنَ ابتساماتِه العذبةَ من قبلُ لزمنٍ آخرَ بغيضٍ ، ومع ذلك ماغفل عن سؤال صاحبِه : عن تهيئة ماذا ؟! قال (الباشا) : مثلك ياصاحبي يجب أن لايسألَ مثل هذا السُّؤال ، لأنك يجب ألاَّ تغفل عن رعاية الأجهزة التي لايُستغنى عنها ، حتى تعمل على الوجه المطلوب . قال ( البيك ) : يعني !! أجاب ( الباشا ) : يعني لابدَّ من ثورة على نفوسِنا الأمارة بالسوء والفحشاء والمنكر من أجل التَّغيير الشَّامل لأنماط حياتنا المترهلة فوق الدنايا والشهوات والموبقات ... و ...و ... ونقل الأنفُس والمشاعر إلى ميادين إشراقات النُّبوةِ ، وإعادة النصِّ المقدس الثَّابت الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إلى حياتنا ، والاستماع إلى صوت الحقِّ الواضح ، وإلى مفرداته الغنيَّة بجلال الوحي ، وعدم التَّنازل مطلقا عن حقِّ الله على عباده ، في تبليغ العباد ، فهي رسالة الأمة إلى البشرية ، رسالة الأمة الأبيَّة ذات المجد والسؤدد ، والتي لسانُ حالها يردِّدُ :

وسوم: العدد 826