متى تعودون ؟!

أدَّتْ ( مؤمنة ) فريضةَ الفجرِ في غرفتها ، وتناولت مصحفها تتلو جزءَها اليومي من كتاب الله الكريم ، كعادتها كلَّ يوم . وقبلَ أن تقوم بمتابعة دروسها لمنهج السنة الأخيرة في كلية الشريعة ، رفعتْ يديها إلى ربِّها تسألُه التوفيق والسترَ لها ولوالديها وإخوتها وأخواتها ، وخصَّت منهم بالذكر ( خالدا ) الذي شرد أو كاد ... عن محيط الإيمان والمآثر الذي تحافظ عليه أسرته طيلة حياتها . وراحت تلظُّ بالدعاء ، وتتضرع إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعل شبابَ خالد وحيويته المتدفقة ونشاطه الدؤوب في طاعته وفيما يرضيه تبارك وتعالى .

وبينما كانت الوالدة تجهز ملابسَ خالد وحاجاته استعدادا للسفر في زيارة إلى روسيا ... سمعت مؤمنةٌ مايدور بينهما من أحاديث لم تعرْها كثيرَ اهتمام ، فهي تعرف أخاها وأفكارَه منذ أن كان طالبا في الجامعة ، ومنذ أن تخرَّجَ منها ، وصار أستاذا مرموقا في مدارس مدينته . إنه يحمل عبء اتجاهٍ سياسي أغنى اللهُ بقية إخوانه من مشاويره العابثة ، وأفكاره المتداعية ، وأمانيه الجرداء من ربيع السعادة الذي ينشده البشر . ولكن لابدَّ لخالد من أن يلحق الأذى بأخته مؤمنة ذات الحجاب والسيرة الفاضلة، من خلال تهكمه على كليتها كلية الشريعة والعلوم الإسلامية ، رغم أنها أحرجته ذات يوم بعد أن رأته مع إحداهن حيث قالت له : ماذا تفعل لو رأيتني مع شاب بمثل الحالة التي رأيتك فيها مع ... ومع استغراق الأم بالحديث مع ابنها اضطرت مؤمنة أن تتدخل بأدبها الجم وحُسن منطقِها وقوة حجتها حين عاب على أخته دخولها هذه الكلية مرةً أخرى قبل سفره   : واللهِ مااخترت كليةَ الشريعة إلا لأعيش على بينة من ديني ، ولكي لاتأخذني دنياي بعيدا عن سبب وجودي في هذه الحياة . ولعل الله يقبلني في الصالحات ، ويعينن لكي أُبيِّنَ لكل مسلمة ماتبيتونه لهن من أسباب الإلحاد والفجور ، ها أنتم تحاربون الحجاب ، وتدعون إلى السفور والاختلاط والانحلال ، وتعادون شريعة الله التي أنزلها رحمة للعالمين . كان الوالد متكئا على أريكته الخاصة ، وقد امتدَّ بع العمر بعد أن جاوز عامه الثمانين ، وراح يبتسم مسرورا لكلمات ابنته مؤمنة ، وردَّ خالد عليها بنبرته المعهودة ، ونظراته الحادة التي تكاد تقطِّعُ الحبال الصوتية في حلق أخته : كفى ... كفى ... كفاك تهرفين بما لاتعرفين ، لقد أصبحتِ فيلسوفة يا ... وانطلق صوتُ الوالد رخيما هادئا محكما : اسمع ياخالد : كلام أختك هو الحق ، وأنا عنها راض ، وأسأل الله لك الهداية يابنيَّ ، فأنت على سفر ، استعن بالله ولا تغتر بقوة الشباب . شعر خالد بالخجل الحرج أمام كلمات والده الذي منح الأسرة عمره وتعبه وسيرته الحميدة بين الناس . وقال : تدعو لها ولا تدعو لي !! اعتدل الوالدُ على أريكته وقال : لا ياولدي . أنتم أبنائي ولن أُفرِّقَ بينكم أبدا ، بل ربما أدعو لك أكثر منهم ، حين أراك على ما أنت عليه ، فينتابني الحزن ، وخصوصا عندما تهب الأسرة كلها تلبي صوت ( أبي هشام )وهو ينادي آخر الليل : حيَّ على الصلاة ... حيَّ على الفلاح ... أطرق خالد غير قادر على الإجابة ، بل ربما شتم المؤذن الذي نغَّصَ عليه لذيذ غفوته آخر الليل . انتهزت الفرصة مؤمنة فأيقظتْه من غفلته ، محاولة جرَّه من مكائد شياطين الإنس والجن ، فقالت : مالك يا أخي ؟ أجب والدي . واستدرك الأمرَ إبراهيم  أخوهما  وكان محاميا بارعا : دعيه يامؤمنة ، فموعد سفره قد قرب ، وهو ذاهب إلأى أقوى القوتين العُظميين في عصر ضلال الطقوس الحضارية ... قاطعه خالد : حتى أنت يا إبراهيم !! تدخل الوالد مرة أخرى قائلا : لاأُحب لأحدكم السفر إلأى بلاد الكفار ، ولكنها أسبوعان يا خالد ، وأسأل الله ربي أن يحفظك وترجع إلينا ، وأسأل الله أن يجعل لك في سفر هذا خيرا ، فإن في الأسفار فوائدَ ومقاصد َ . ردَّ إبراهيمُ وأين الخير والفائدة في السفر إلى روسيا بلاد الانحلال والإلحاد !! كظم خالد غيظَه ، وتحاشى أيَّ ردٍّ تنكرُه عليه تربيةُ هذا البيت الصالح ، فما زال يتحلى ببعض قيمه رغم ما اعتراه من ضلال وفساد . وانتهز المحامي إبراهيمُ هذه الفرصة ليبلغَ أخاه بما يثوقظُ إحساسَه فقال : لعلك لم تقرأ ياخالدُ ماقاله المستشار الأول في السفارة الروسية في إسرائيل ، وقد نشرته صحيفة ها أرتس الصهيونية بنتاريخ 14/2/1965م . وجم الأب ، واشرأبت عينا الأم وأصغت آذان بقية أفراد الأسرة ،يترقبون إنكارا من أخيهم خالد ، ولكنه التزم الصمت مرة أخرى ، قالت مؤمنة : قل يا إبراهيم ، بالله أخبرْنا ، نظر إليها خالد بحنق ، وقال لإبراهيم : أسمعها لتزداد ثقافتُها وثرثرتها ... وهنا انطلق الوالد بحديثه موجها كلامه لخالد : لقد سمعنا الكثير يابني عندما كنا نجاهد الصهاينة عام 1948م ، ثم عدنا مقهورين من غير إحراز أي نصر . قال إبراهيم : عندي النص كاملا في كتاب ( حركات ومذاهب ) الموجود في مكتبتي . فقد قال السفير الروسي بكل صراحة و وقاحة : ( لم نقدم السلاح لبعض الدول العربية إلا بما يكفي لحاجات الدفاع لا الهجوم . وعلى الشعب في إسرائيل أن يتذكرَ أن الاتحاد السوفياتي كان أول مَن دعا إلى حظر توريد السلاح إلى الشرق العربي عام 1957م . ونحن مستعدون لحظر السلاح عن المنطقة العربية ... لكن حركات التحرر اليسارية في العالم العربي تحتاج إلى السلاح لتكافح الرجعية العربية ، وتقضي عليها  ، وعلى كل من يساعدها . إن القضاء على الرجعية العربية سيزيل خطر العدوان العربي على إسرائيل ، لأن الأنظمة والحركات التقدمية اليسارية في البلاد العربية لاتريد العدوان على إسرائيل ) . هزَّ الوالد الوقور المجرب رأسَه ، وقال لخالد : إذن كيف تذهب لزيارة مَن يدعمون اليهود ؟ والله يابني لقد سمعتُ بعض الضباط الذين شاركوا معنا في قتال 48م يقولون : إن الأسلحة الدفاعية عند إسرائيل لهي أشد فتكا وقوة من ما يسمَّى بالأسلحة الهجومية عندنا ، والسلاح كله مستورد كما نعلم من دول أوربا وأمريكا وروسيا . قال إبراهيم : أجل يا أبي إن لليهود نفوذا غريبا عجيبا في مراكز القوة والحكم في تلك الدول ، ويكفي أن نعلم أنَّ قيصر روسيا ( نقولا الثاني ) الذي أطاحت به الثورة البلشفية أراد الإقامة في إنكلترا للصداقة التي تربطه بالعائلة المالكة فيها ، ولكن معارضة ( سوفيات بطرسبرج ) رفضت طلبه ، وأجبرته على الإقامة في منطقة ( ايكاترنبرج ) جنوب روسيا ، حيث أمر المفوض المحلي  وهو يهودي  بإعدام القيصر وعائلته ، وبدأ المفوض بإطلاق النار على القيصر ، وهب جنوده يقتلون أفراد عائلة القيصر ، ثم صبُّوا الزيت على الجثث وأحرقوها ،ثم أُلغي اسم المنطقة من التقسيمات الإدارية ، وأُبدل باسم ( ياكوف سفردلوف ) الذي كان رئيسا للجمهوريات السوفياتية يوم إعدام القيصر ، وهو يهودي ماسوني أيضا .

كانت الأسرة تصغي باهتمام إلى حديث ابنها إبراهيم ، واغرورقت عينا الوالدة بالدموع متأثرةً بما سمعت . وقالت لخالد : والله إني لخائفةٌ عليك ياولدي . بينما افترَّ وجهُ مؤمنة بإشراقة نصر فكري ، يؤكده تاريخ الإجرام اليهودي منذ عهد النبوَّات ، حيث المكر والخبث ... وقالت البنت لأمها : لاتخافي على خالد فإن الله يحميه !! نظر إليها خالد ، وكتم في صدره حديثا ربما خبَّأه لوقت آخر . وأيَّدَ كلامَها إبراهيم وهو يقول : آمين ... آمين . لقد تكفل الله بحفظ الأمة وشبابها وقرآنها . خرج خالد من حيرته الفكرية ، وكان لابد وأن يردَّ ولو بسؤال بارد : مابالُ المسلمين تخاذلوا وتقهقروا أمام المغول والتتارالذين اجتاحوا البلاد ، واستولوا على العراق ، وانحدروا إلى بلاد الشام ، وحاولوا المسير إلى مصر بنصف مليون جندي !! تبسَّم إبراهيم وقال : زدْ على هجمات التتار ، تلك الموجات الحاقدة من الصليبيين . ثم أعد السؤالَ على نفسِك لتجد الإجابة ، وأحب أن أُذكرك أن التتار قد أسلم ملكُهم ( ناصر الدين بركة خان ) ودعاهم إلى الإسلام ، وله الفضل بعد فضل الله سبحانه في كبح جماح هولاكو الذي اجتاح بغداد كما قلتَ ياخالد . امتقع وجهُ خالد ، وأخفى فورةَ غيظه ، ولم يحر جوابا . وتابع الأستاذ المحامي إبراهيم حديثه قائلا : واقرأ إذا شئتَ ماكتبه مؤرخكم  عفوا مؤرخهم  الروسي ( كارامزين ) حين أكَّدَ هذا المؤرخ : ( أن التتار لما قبلوا دين الإسلام ، أقبلوا عليه بالكلية ، ولا سيما الملك ( بركة خان ) فإنه أعلن نفسَه بأنه حامي القرآن والشريعة والدين وخادمُها ، فأسلم قومُه التتار كلُّهم تبعا لسلطانهم ) . وهل تعلم ياخالد أن ( بركة خان ) هو من أبناء جنكيز خان ؟! وهو ابن عم المجرم السفاح هولاكو الذي قتل الخليفة العباسي المستعصم بالله ؟! تبسَّم خالد ابتسامة الحائر المنهزم في معركة تمحيص الذات ، وكشفِ الحقائق ، ثم قال : أنا لستُ عدوا للإسلام يا إبراهيم ... وإنما ... قاطعه إبراهيم : ولكن ماذا ؟ وإنما عن أيِّ منطلق تريد أن تكفَّ إشراقات الحق ، أنتم ياخالد عندكم عقدة الانبهار بالحضارة المعاصرة ، بمعطياتها الجيدة والقبيحة القذرة ، ونسيتم أن روحَ الإسلام إذا هزت القلوب وأوقدت جذى المشاعر فإنها تذيب جليدَ انبهاركم بالايديولوجيات الاستعلائية  رغم هوانها وخوائها  وتقلب دولاب اندفاعاتكم المستهترة بقيم الإسلام العظيمة رأسا على عقب ، وتعيد وجه الحاكمية ومحياها البسيم إلى مسيرة صحوة البداية المشرقة لمآثر الجيل الأول الذي تربَّى على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولعلك من هنا تعلم الإجابة عن سؤالك حول أسباب تقهقر المسلمين في تلك العصور وفي هذا العصر . واليهود هم اليهود ، والتاريخ يعيد نفسَه ... ويُطرق بابُ الدار ، ويقوم خالد ليفتح الباب ، ظانا أن أحد رفاقه قدم ليخبره بموعد الرحلة إلى روسيا . ولكن الطارق كان عبدالحكيم  صديق الأسرة ، فرحَّبَ به ، بينما قامت مؤمنة وأخواتها مع أُمهن إلى الغرفة الأخرى . ألقى عبدالحكيم السلام ، وناول إبراهيمَ كتابا قائلا : هذا هو الكتاب ، وقد أشرت على بعض صفحاته التي تحتوي على شهادات أعداء الإسلام ، لِما في الإسلام من خير وسعادة للبشرية . اشرأبت عينا خالد صوب عبدالحكيم تستطلعان المزيد من الأنباء والأفكار ، وقال : أسمعونا ... فما زلنا في ميدان المعارك الفكرية ( يضحكون ... ) . قال الضيف : ياخالد لم يخلُ الغرب من منصفين ، ابتعدت نياتهم عن الحقد والسوء  ، ولم يجانبوا الحق ، تبسم خالد وقال : أسمعونا ... أسمعونا . ردَّ إبراهيم وآثار الجِدِّ بادية على نبرات لسانه : إنها بالفعل كلمات كلمات ضمير حيٍّ للكاتبة الفرنسية ( آن ماري ديلكامير ) التي ألَّفتْ كتابا عنوانُه ( الآيات الملائكية ... محمَّد ... كلام الله ) بيَّنت فيه عظمة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ، وأنصفت الدين الإسلامي ، ونادت إلى تآلف وتعارف الناس في ظلال فطرة الله عزَّ وجلَّ ، والبعد عن الحماقات والأحقاد واحتواء الآخر ... وأتم الحديث عبدالحكيم : وهناك غيرها الكثير ممن يتطلعون إلى زوال همجية الصراع القائم على العناد والتلبيس والقهر ، ولهم مواقفُ مشهودةٌ ، وأقوال محمودة ، فهذا المفكر الإيطالي ( سيرجيو نوجا ) وهو أستاذ اللغة والأدب العربي بالجامعة الكاثوليكية ( بميلانو ) يقول : ( إن الإسلام بعيد كل البعد عن أن يكون دين ظلامية ) ، رشف عبدالحكيم آخرَ فنجانِ القهوة ، بينما تبسم الوالد الشيخ وهو ينظر إلى ابنه خالد قائلا : ماذا عندك ياخالد بعدما شهدت بفضل ديننا الأعداء !!

استأذن عبدالحكيم ، ورافقه خالد حيث حان موعد لقائه مع بقية الرفاق ، ثم افترقا لينضم خالد إلى المجتمعين الذين حدَّدوا ساعة الانطلاق إلى المطار صباح الغد ، وفي الصباح استيقظ خالد بكامل نشاطه وحيويته ، و ودَّع الأهل ، ليمتطي متن الطائرة فوق سحب الربيع البيض التي تتناثر في الفضاء الرحيب ، واهتز قلبُ خالد وهو يرى من عَلٍ وجه بلاده يفوح بعطر النبوات والأمجاد ، ولا يعرف كيف داهمت عينيه أطياف حيِّه الجميل ، ودخل إلى أُذُنيه صوتُ المؤذن أبي هشام ، ولاحت لعينيه عينا أمه وهما مغرورقتان بدموع ساعة الفراق ، وبسمات والده المحملة بالعطف الأبوي ، وطرقت مسامعه كلمات طالبة كلية الشريعة أخته مؤمنة ، وتهز أعماق أعماقه أحاديث أخيه إبراهيم ، وشواهد صديق العائلة عبدالحكيم ... وكأنه غاب في حلم جميل ، أيقظته منه كلمات رفيقه سركيس الذي كان يجاوره في الطائرة : أين سرحتَ ياخالد ؟ لم نصل بعد إلى أجواء بلاد الحرية والقوة والاشتراكية . ردَّ خالد : أين أسرح وأنا في قبضة الإبداع الحضاري ألا ترانا فوق السحاب !! ضحك سركيس وقال : بهذه الحضارة ستتقدم يلادنا إلى مصاف الدول الراقية القوية ، ذات النظام الذي يحمي العمال والفلاحين ، وسوف نتخطى الموروثات القديمة البالية ... غاب خالد مرة أخرى في أحلامه ... ولا يعرف كيف عادت إليه نفس الأطياف ... أمه ، أبيه ، مؤمنة ، إبراهيم ، عبدالحكيم ... وأخيرا صوت المؤذن أبي هشام آخر الليل !!  وعاد سركيس يحدثه عن مكانة روسيا العالمية ... هزَّ خالد رأسه ، واستغرقا في أحاديث خاصة ، وتنزل الطائرة التي تقلهما على  أرض مطار موسكو ، بين المستقبلينوالمرحبين من الجنسين بنين وبنات ، وليحاط الوفد العربي بحفاوة روسية ، وينتشي خالد شوقا لرؤية مظاهر حضارة إحدى أقوى القوتين العظميين على وجه الأرض !! ولتناغمه أحلام مستقبل برمجة عنفوان شباب لايأبه بالعقابيل ، ولا يرضى بغير القوة التي تفرض ماتشاء على مَن تشاء . وتمضي الساعات جميلة سلسةً بأحلى اللقاءات ، وأوثق الصلات ، ومطلق الحريات لتكوين المفاهيم وبرامج العمل التي يجب أن يعود بها الوفد إلى بلاده المنكوبة ، ليبشر بها كصوت نهضة متميزة ، تدعمها مظاهرات التأييد  عفوا التهريج  والتصفيق الحار ، والهتافات التي تشق الفضاء ... وفي اليوم الثالث انتظم الوفد لزيارة مقابر القيادات العليا للفكر الشيوعي ، ويلمح سركيس شيئا  ما  في وجه رفيقه خالد  لم يعهدْه من قبل  ، وفي  صباح اليوم التالي انطلقت بهم السيارات إلى إحدى المناطق الأثرية ... أشعة الشمس المتوردة على خدود عشرات المعمرين من أبناء تلك المناطق ، الذين اشرأبت أعناقُهم يستطلعون خبرَ القادمين . يتفحصون الوجوه ، ويتعرفون على لغة الزائرين ، وقف المترجم يشرح للوفد عن تاريخ هذا البناء الشامخ الراسخ ، لقد كان مسجدا لأمثال هؤلاء الرجعيين ( يشير إلى الرجال المسنين ) ، فأخذناه منهم وحولناه كما ترون إلى مخزن لعلف الحيوانات ، والقسم الآخر منه جعلناه اصطبلا لبعض الخيول . ويتقدم نحو الوفد شيخ عجوز جاوز الثمانين من عمره ، يسأل المترجم عن هؤلاء الزوار . ومن أيِّ بلاد الدنيا هم ؟ فأخبره المترجم أنهم عرب ، ظنا من المترجم أنه يثبت لهؤلاء الطاعنين بالسن أن مبادئ الإلحاد وصلت إلى ديار المسلمين ، وازداد وجهُ الشيخ السائل توهجا وبهاء وفخرا ، وتقدم نحو خالد ومَن حوله من رفاقه ، يردد جملة واحدة ويعيدها على أسماع قلوبهم ، وعيناه تهملان ، والمترجم يدفعه بقوة إلى الخلف ، ويأبى الشيخ إلا أن يُسمعَ هؤلاء الغرباء صوتَه ، حاول خالد أن يتفهم ماذا يقول الشيخ ، وسأل المترجم ، فردَّ عليه : يهذي إنه يهذي أيها الرفيق .

عاد الوفد إلى العاصمة ، وأسلموا رؤوسهم لنوم عميق ، إلا خالدا فقد جافاه النوم ، وعادت إليه أطياف الأحبة من جديد ... أطياف لايعرف كيف جمعتها عيناه في وجه الشيخ العجوز الذي كان يهذي  كما أخبره المترجم   وسأل نفسَه : ماذا أراد الشيخ أن يقول ؟ عمَّ يسأل ؟ ولم دموعه ؟ وتهالكه للوصول إلينا ؟ ألأننا عرب ؟ يجب أن أعلم من المترجم غدا فحوى سؤال هذا الرجل ابن طشقند . وتُختتمُ الزيارة ، ويعد الوفد عدته للعودة ، ويهرع خالد إلى المترجم متظاهرا بأنه يستهزئ بحال ذاك الشيخ العجوز : قلْ لي ماذا كان يقول الرجل العجوز عند زيارتنا لمخزن العلف واصطبل الخيل ؟ انقبض وجه المترجم وتجهم ، ولكن لابد من إخبار هذا الرفيق ، لاعليك كان يهذي كما قلت لك ، وكان يردد ( متى تعودون إلينا بالإسلام ؟؟ ) ... يهذي أيها الرفيق ، أليس كذلك !! اهتز قلبُ خالد من جديد وعادت إليه نفس الأطياف ، ودخل إلى أعماق حنايا نفسه صوت المؤذن أبي هشام في جوف الليل : الله أكبر ... الله أكبر . وغشيته سحابة ظليلة موحية ، وأمطرته حشدا من الأسئلة التائقة إلأى أجوبة تجلوها الحقائق ، ويطرزها اغتذاؤُها من أُرومة المجد الباسق لأمة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم . وحين راح الرفاق يتحاورون في معطيات الحضارة ، وبرامج الزيارة وتقاريرها ، لم يجد خالد فيها تألأق القيم التي ترجمتها لهفة الشيخ الطاشقندي ودموعه المدرارة  ... يالها من خسارة ياخالد !! يالثلاثين عاما وقد ابتلعها سراب الشعارات وبريق الأمنيات !! وتلمس صدرَه وكأنه يجس جرحا غائرا سخينا أصابه يوم زيارة الآثار ( الميمونة ) في الشيخ الطاشقندي . أحس بالألم ، وشعر بالندم ، وبوخز حروف الشيخ التي جمعتها ( متى تعودون إلينا بالإسلام ؟! ) .

وتحط الطائرة في مطار بلدته ، فوق أرضه الفوَّاحة بالنبل والإخاء والرحمة والمآثر والمكرمات . تيَّاهةً بالسؤدد رغم أوجاع السنين المتتالية ، ورغم أعاصير الرزايا وعجاج الأحزان ، وصخب المنتديات المتبلدة . وتستقبل الأسرة ابنها العائد من بلاد الدب الأبيض ، وهو لايعلم أعائد هو من موسكو أم من طشقند ؟! وحمد الجميع ربَّهم على سلامة العودة ، وحاولوا معه أن يحدثهم عمَّا شاهد وسمع ، ولكن الوالد الحنون أشار إليهم أن دعوه يستريح من عناء السفر . فالساعة قاربت الثانية عشرة ليلا .

ويرتفع صوت المؤذن أبي هشام : الله أكبر ... حيَّ على الصلاة ... حيَّ على الفلاح ... الصلاة خير من النوم ... هبَّ خالدٌ من فراشِه ، معتزًّا بعودته إلى الله وبعبوديته له جلَّ وعلا ، وقد سبق بقية أفراد الأسرة إلى مكان الوضوء ، وجمت مؤمنة ، وترقرقت الدموع من عينيها ، كما تعجَّب كلُّ أفراد الأسرة ... قالت مؤمنة : أنا في حلم أم في حقيقة !! تبسم خالد وقال : بل أنت بكامل وعيِك ، وعلى بساط الحقيقة التي أنارت فؤادي ، دعونا نلحقْ جماعة المسجد ، ثم أحدثكم لتعرفوا كيف وجدت الحقيقة في طشقند . قالت مؤمنة : في موسكو أم في طشقند !! هزَّ رأسَه والبسمة تعلو وجهه الوضيءَ بنور الوضوء والتوبة والإقبال على الله ، سأقول لك بعد أداء الصلاة .

اجتمعت الأسرة على مائدة الإفطار ، واسترسل خالد يروي لأهله جمالَ وجلالَ ما خلّفه المسلمون في طشقند وبخارى وسمرقند ، وحدَّثهم عن سؤال الشيخ الطاعن في السن ، ذلك السؤال الذي فجَّر مكامن الإيمان في فؤاده . وعما فعله الصهاينة حكام روسيا من قتل لرهافة الحس الإسلامي  في صدور المؤمنين . والتفت إلى أخيه إبراهيم قائلا له : لقد صدق صاحبُك عبدالحكيم عندما قال : إنَّ الشيوعية هي البِكرُ المدلل للصهيونية . قال إبراهيم : لم تذكر لنا سؤال الشيخ الطاشقندي ! تنهد خالد وترقرقت الدموع من عينيه ، وقال : إنه السؤال الصَّعب ذو التبعات الثقيلة ، وذو الانتماء إلى نسيج الربانية لأمة مازالت تقول لأبنائها : ( متى تعودون بالإسلام من جديد ؟! )

وسوم: العدد 828