تلَّـــةُ اللـــوز

هدأةُ اللّيل تنصت إلى أنفاس المكان؛ ولُجين البدر يتقاطر على الآكام كما الوهاد. السنديان، والصفصاف، وأشجار التّين مسحةُ النسيم تهدهد أوراقها والأفنان. ساحة الدّار فسحةٌ تلألأ عليها الحصى كأنّه نِثار البدر. أمّا صراصير الأرض فتغنّي للدّيجور في أعتاب صيف نثر القشّ عطاءً فوق الثّرى...

"فورار " صدّع رأس الحبيبة زينب :

- أمّي... متى تنتهين من خياطة محفظتي؟

 -  مهلا يا قطعة من قلب أمّك، ما تبقّى إلاّ الزّر سأثبّته في الحال .

    تحت نور القنديل الخافت مضت اللّحظات وفورار يستعجل زينب، وزينب تعارك الإبرة والخيط لا يهمّها الوخز، ولا عبئت بأوصال دكّتها أعباء النّهار ... المهمّ أن تكمل محفظة الذي غدًا سيحجّ إلى مدرسة الضّيعة في تلّة اللّوز .

فورار ذلك اللّحوح لا يسكت. من هناك... من تحت اللّحاف صاح "عمّي ميلود " وقد زُلزل في جفونه عرش الكرى :

-  لماذا لا تسكت يا ولد؟ غدًا أول يوم ولايهم إن أخذت المحفظة معك...

سيل الكلمات توقّف فجأة. أدخل " فورار " رأسه بحضن أمّه التي هامسته قائلة:

- محفظة ابني جاهزة. غدًا ستحملها معك.

خفق قلب الصّبي فتسلّلت من بين جفونه المغمضات عبرات ترسم على الوجنتين الأثر، أمّا الشّهقة والزّفرات فقد كتمها خوفا من غضب والده .

نفخت زينب بالقنديل فانطفأ. عمّت الظّلمة فنام ثلاثة رابعهم حُلْم أسعد الفتى في المنام ...

                                           ***

جاء الصّباح وَعانقت الشّمس قمم الجبال، فَتجلى الأوراس تحفة استأثرت بها تلك الأرض. جبين السّماء الأزرق، وعناقيد الشّجر في السّفوح الممتدة شطآنًا لحقول مالت بها سنابل حزيران؛ كلّها مفردات من حُسن المكان.

فورار صاحب القشّابية، والطّاقيّة غسل الوجه، والكفّين. ثمّ حمل محفظته التي خاطتها له أمّه من قماش سترة قديمة لوالده، وها هو يمشي في صحن الدّار مختالا، يحدّث نفسه حينا، وحينا ينادي سائلا:

- أمي متى يأتي أبي ليوصلني إلى المدرسة ؟ متى يأتي؟ مللت الانتظار ... سأذهب وحدي .

وَمن هناك... من مطبخها المتنفس دخانا، والمتلحّف بحمم النّار تنتفض زينب غضبا :

- لا ... إياك أن تذهب وحدك. والدك يعلم كيف ومتى يأخذك .

-  إيييييه ..متى يأتي ميلودك هذا؟

 -  أراكَ نسيت عنزاتك. أما اشتقت إليهن؟

 -  بلى... ولكنّني مستعجل؛ أريد رؤية هذه المدرسة التي يحدّثني عنها صديقي  مسعود كلّ يوم جمعة.

أنّ البابُ أنّةً ... ها هو عمي ميلود قد جاء بعد أن أوصل عنزاته السّبع لأحد الجيران ليرعاها. فالمحترم فورار سيقصد المدرسة منذ نهار اليوم.

قفز الفتى فرحا وكاد قلبه يشقّ صدره. وضع يده في يد والده وقال :

- هيا يا ميلود لنسرع لقد تأخّرنا...

 ضحك عمّي ميلود وَقال: هيا يا سي فورار... سنرى ما أنت فاعل بالمدرسة...

    سار فورار الولد الذي يعانق محفظةً لا تحوي جلالتها غير لوحة، وقطعة طباشير. مشى لا تغادر عيناه المدى. قدماه تتعثّران بالحجارة وتبعثران حبّات الثّرى، وَفِي قسوة تحطّمان قواقع الحلازين الخاويَة. والده من حين لحين يفلته فيتأخّر خلفه وينسى نفسه بينما يرسم خيالَه تلميذا في المدرسة. أووووه... سمع عنها الكثير تلك القلعة العجيبة ...

- أسرع يا ولد.

صيحة من عمّي ميلود فكّت قيود الفتى، وحرّرته من أحلامه ... فاختصر المسافة واقترب من والده لاهثا، ويده المتعرّقة لا تغادر محفظته المقدّسة. فجأة سمعا من خلفهما زئير سيارة " السّي عيسى " جاءت من بعيد. غيمةُ غبار عظيمة تلاحقها، أو ربّما هي من كانت تلاحق غيمة الغبار. بُوقها الفظيع المرعب تستجيب له البهائم فتفسح الطريق كما يفسح البشر ...

 ما زالت المدرسة بعيدة بعض الشيء. لوّح عمي ميلود لصاحب السّيارة عساه يمنّ عليه فيتوقّف ... و كان له ما أراد. فرمل السّي عيسى فرملة ذكّرت فورار بفزّاعة الحقل فأحسّ بالغربان تنعق في أذنيه، وتنقر رأسه. ركب عمّي ميلود، وأركب الفتى فورار تلك الكومة المتحرّكة من القصدير، و الذي ما إن أدخل رأسه حتّى غمرته رائحة الزّريبة تذكّره بعنزاته " الأوانس العوانس ". انطلقت السّيارة من جديد، وإذ بالسّي عيسى يصيح بالولد:

- أوثق ربط حبل الباب وإلّا عدتَ إلى أمّك مسخ إنسان.

 بين الخوف والامتثال حاول فورار أن يُحكم غلق الباب لكنّه لم يستطع. فتسلّلت غيمة الغبار التي كانت تتبع السيارة إلى الدّاخل؛ لتجعل من فورار الفتى الأشهب. تدخّل عمّي ميلود وأوثق غلق الباب وكومة الخردة التي تأبى أن تموت؛ تتابع طريقها مُخلّدة آثارها بين الحقول، فهي السيارة الوحيدة هناك ...

  أخيرا شعر فورار بزلزال عنيف يرميه إلى الخلف؛ ثم يقذف به إلى الأمام ليرتطم بأنفه على حافة المقعد الأمامي؛ وكادت أنفه تطير منه. لقد فرمل السّي عيسى ونزل فورار ليبقَى مسمّرا في مكانه؛ إنّه في تلّة اللّوز أمام المدرسة؛ وها هو فناؤها عرشًا للأطفال. لم يسمع فورار قصديرة السي عيسى تغادر، ولا سمع والده يأمره بالاقتراب .... حتى جاءه هذا الأخير وساقه أمامه. في هذه اللّحظة بالذّات، دقّ جرس الدّخول؛ فتسارع التلاميذ إلى البوابة العملاقة؛ يستقبلهم معلّم بارز الكرش، تخين لا يكاد يقدر على الحراك، حاملا بيده عصا غليظة، أقلّ غلظة قليلا من عصا شيخ الكتّاب. وما أن صاح صيحته المعهودة حتى تلاشى اندفاع التلاميذ وصخبهم، ودخلوا فناء المدرسة بهدوء. اقترب عمّي ميلود من المعلّم البدين فأومأ إليه قائلا:

-أعلم أعلم، اتركه واذهب.

ترك السّي ميلود سفيره في المدرسة، وعاد من حيث أتى...

                                     ***

لم يدرِ فورار ما يفعل. قادوه إلى فصل من الفصول، أدخلوه مثل كلّ أترابه المنكمشين في مقاعدهم ينظرون ولا ينظرون. لحظاتٍ قلائل ودخلت الحجرة آنسة محجّبة؛ وجهُها كالبدر الفتان صفاءً ونورا. لا هي بالطّويلة المضحكة ولا القصيرة التي لا يَهابُها الصِّغار، لا هي بالبدينة ولا النّحيفة ...

 دخلت وأغلقت باب الحجرة. جلست خلف مكتبها ووضعت عليه أشياءها، ثمّ بدأت بكل اللّطف تتحدّث إلى الأطفال، وتسألهم واحدا واحدا عن أسمائهم، ثم عرّفتهم باسمها "الآنسة نادية ". بقيت عيون فورار مشدودة إلى التي تتكلّم؛ ونسي محفظته المبجّلة التي سقطت منه عند قدميه. وبين الكلمات، والابتسامات اقتربت منه الآنسة نادية فاحمرّت وجنتاه وسخنت رأسه وارتعشت فرائصه. ربّتت على كتفه ثم انحنت وحملت محفظته قائلة:

 - اممم ...محفظة جميلة مَن صنعها لك؟

لم يستطع فورار أن يجيب. فرّت منه الكلمات. عاودت الآنسة طرح السؤال فاستجمع الطفل قواه وقال :

-                                                                                                                                                                                                                                                                                                   أمّي . ولم يَزِد عليها كلمة، فاقتربت منه الآنسة نادية أكثر وسألته :

-                                                                                                                                                                                                                                                                                                   ما اسمك؟

و لم يخف هذه المرّة و قال: " فورار ".

 فعلّقت الآنسة: اسم جميل هل تعرف معناه ؟

 فتوقّفت دواليب الطفل تماما لأنّه لم يفهم ماذا تريد. مرّت السّاعات مع الآنسة نادية وبسرعة بدأ حبّ المكان، و ألفة المكان تتسلّلان إلى قلب الصغير ...

أووووه! لقد دقّ الجرس غدا سيعود فورار بأدواته التي طلبتها آنسته. وغدًا دوام ليوم كامل ....

غادر الفتى المدرسة وَانساب بين الحقول مع بعضٍ ممن تعرّف عليهم من الأطفال.  ساروا كوكبة واحدة يغادرها بعضهم عند صخرة، وآخر عند النّبع، وآخران عند دكّان الضّيعة. ليبقى فورار وحدَه سائرا إلى بيته في السّفح، ينتظر لحظاتٍ تجمعه بأمّه ليحكي لها عن فسحة من الزّمن دافئة عاشها في تلّة اللّوز، وليَروي لها عن آنسته نادية. نعم عاد مشتاقا إلى أوانسه العوانس حتى يتلو عليهن تاريخ ذلك اليوم التاسع من سبتمبر....

 في الدّروب الضّيقة تلاشى الفتى لينهمر قطرة نور أمام الحبيبة زينب، والتي ما أن رأته حتى أمطرته أسئلة وهو يردّ وينسى، وتتوه كلماته التي أرادها. دخلت به إلى الدّار ... إلى مطبخها حين بدأت أسراب الشمس تميد بعيدا مع اقتراب المساء.

***

النّار بين الأثافي تأكل عيدانها. وإبريق أسود تلثمه ألسنة اللّهب، والجمرات ... عبق القهوة سبى الولد؛ كما ملأ الدّنيا نشوة وجمالا معلنا عن شيحٍ بريّ يغازل حبّات

قرنفل.

 جلس فورار. وضع محفظته والكلمات لا تريد السّكوت:

-                                                                                                                                                                                                                                                                                                   لو رأيت أمّي ... لو رأيت الفصول والطّاولات ... وليتك ترين الآنسة نادية ..

 ثمَّ صمت الولد وكلّ شيء فيه ينطق بالسّعادة. تسلّمت أمّه إبريق القهوة وسكبت له منها وقدّمت إليه كسرة من شعير:

- إياك أن تخذلني أريد أن يتحدّث عنك جميع أهل القرية. لا بدّ أن تكون فطنا... لا أريد أن تكون مثلي لا أعرف شيئًا ... حتى الصلاة أخجل من أن أصلّيها أمام النّاس...

خرجت زينب لبعض حاجاتها وهي تواصل لوم الزّمن الذي تركها لا تعرف من الحروف غير ألفٍ عوجاء ... وفي هذه الأثناء سمع فورار مأمآت أوانسه فأسرع إليهن. أدخلهنّ إلى صحن الدّار وهو يداعب هذه العنزة، ويحنو على هذا الجدي. وأخذ يروي لهنّ عن يومه الكنز الذي لا يغادره، وأعلنها صراحة وقد حمل غصن سنديان:

- هيا اعتدلن في صف واحد كفى حديثا ...مدّ الذراع ...هيا... هيا...

  ثمّ أفلت عصاه وغرق في نوبة ضحك، بينما العنزات لا يعبأن بكلماته ... هذه تلعق جديها، وتلك تنطح أخرى ... وأخرى تلتقط ما بقي من تبن مُلقى ...

دخل فورار غرفة أمّه وتمدّد على حصير الحَلفاء. ونام بعد نهار طويل من التّعب والصّخب والجمال والحب .

                                              ***

هوت الشّمس وراء الجبال العاليّة وتدفّق اللّيل وانسكب. سُحب كثيفة تحجب القمر والنّجوم، تلبّيها ريح آتية من الشّرق تراقص الصفصاف والصّنوبر والأغصان.

قِدْر السّيدة زينب يغلي. تعدّ كسكسا للعشاء. أي نعم ليس باللحم، وفقط ببعض البصل وحليب العنزات، لكنّه شهيّ طيّب.

عاد عمّي ميلود أشهبَ متثاقل الخطى؛ فعمل البنّاء شاق مضن يدقّ العظام ويفكّك الأوصال. سأل زوجته:

-  أين فورار؟

 فردّت:

- لقد نام من فرط التّعب. سأوقظه ليتناول طعام العشاء.

- نعم... نعم أيقظيه. أحضرت له ما سيجعله يطير فرحا...

فاركا عينيه قال فورارمتثائبا:

- و ماذا أحضرت يا والدي؟

- انتظر حتى تفتح عينيك على الأقل. كنت أظنّك غاطّا في نوم عميق .

وقف فورار عند رأس والده : أرجوك يا أبي ماذا أحضرت؟

فطلب عمّي ميلود من زوجته أن تقرّب القنديل ليرى.

أفرغ "عمّي ميلود " محتوى جرابه؛ فتلألأت عينا فورار، وزادت المكان ضياءً غطّى على بعض النّور الذي كان قنديل الغاز يرسله منّةً على المكان .

خارجا التفّت الأشجار بأغصانها تشدّها إليها؛ والرّيح الهوجاء تحاول عبثا افتكاك الجذور من أرضها... زخّات المطر الدّافق تُبعثر الحصى و تجرف القشّ، ترسم السّواقي من السّفح تتدفّق غدرانا إلى الوديان .... اللّيل البهيم لا تعنيه الفصول يسبّح الرّب نائما لا عين ترى و لا أذن تسمع .

جثا فورار على ركبتيه مستفسرا : و لكن أبي لم أخبرك بما يجب أن تشتريه لي، حتّى أنّني خشيت أن أحمل غدًا أيضا قطعة الطّباشير واللّوحة فقط. لم ينتظر عاشق المدرسة جوابا. ترك نظره يسري بهجة إذ يرى أقلام تلوين، ودفترًا، وقلم رصاص، وقريصات وخشيبات...

زينب تسترق من الزّمن تلك اللّحظات التي ترى فيها - برغم الدّمع يغطّي المشاهد والصّوَر- ابنها فورار سعيدا حتى أنّ السّعادة توشك أن تخرق شِماله...

 مدّت يدها أزاحت دمعها، لكّنها العبراتُ يا زينب؛ عبرات الحبّ الأكبر لا يمكنك افتكاك وجناتك منها...

استلم فورار أدواته وأخذ يشمّها متغزّلا كابن الملوّح بعطرها. ذهبت به أخيلته إلى حيث وجْدُه لا يتوه عن الطريق ولا تبعثره الدّروب ... ينظر إلى جدران الفصل، وإلى بدر يشرق عليهم نهارا والشّمس تخطّ دربها في السّماء...

عمّي ميلود هو الآخر تَزلزل متنُه وتلاشت أشرعته، اعوجّ فمه لكنه أمسكهنّ ... أمسك دمعات ما ذاق ملحها إلّا يوم ودّع أُمّهُ بين القبور.

في تلك الحفنة من الدّمع والنّشوة قال " عمّي ميلود ": أين العشاء زينب؟

ومن لحظتها وعيونها لا تزال معبرا للنّازلات، أخذت تفرك حبّات الكسكس، وضعت منه في صحن من فخّار، ثمّ أضافت إليه الحليب السّاخن ثمّ قدّمته لرَجُليْها: زوجها والحبيب فورار.

قال فورار: أنا شبعان لا أريد أن آكل...

فأسرعت إليه زينب تستحلفه بكلّ غال أن يتذوّق ثم إذا شاء عاد إلى النّوم دون عشاء.

أخذ الولد بعض الملاعق بسرعة إلى فيه، ثم انتبذ من والديه مكانا قصيّا حيث ينام مع أمّه. وضع محفظته المحمّلة بكنوز الدّنيا بين أحضانه وراح يتململ تململ صبّ أذابه الهوى ...

 تواصل صراخ الرّياح يرادفه عواء الذّئاب؛ وأسدل فورار جفنه يحلم بغده هناك في تلّة اللّوز...

تساقطت خيوط اللّيل الغدافيّة واحدة بعد أخرى حتى أفناها الفجر هادئا. غاب الودق وصَمتَ العويل، وتثاءب المشرق باعثا فاتنة النّور ترسل أُولى أنفاسها فضّة فاضت في السّماء

زينب عند كانونها ... عند إبريقها السّحري و قهوتها المستبدّة لا يفلت من عِشقِها كائنٌ ما كان ... حليب العنزات في إناء من نيكل تدفّق زبدا يهشّم النّار، وينفض الدّخان غيمات ...غيمات ... فراح الرّماد يحتج بزفرة أيقظت فورار وأعادته إلى الكون من جنّة الرؤى والأحلام .

تمطّى الولد ثمّ انفجر سائلا: أين محفظتي يا زينب؟

 فردّت عليه: عند الوسادة، ألا تراها؟ ثم أين صباح الخير يا قاصدا تلّة اللّوز .

تفقّد فورار محفظته المقدّسة ثم تلا تحيّة على مسامع أمّه ... بعدها استدرك : أين أبي يوصلني إلى المدرسة وأين قدح الحليب؟

والدك غادر باكرا ، ستذهب وحدك كما عدت بالأمس. أمّا الحليب فها هو فنجانك وهذه الكسرة...

شرب فورار الحليب سريعا ينفخ ويتأوّه، زينب تشير عليه بالتّأنّي ولكن لا وكلّا فشوق الولد للمدرسة لا يتركه وشأنه أبدا .

حمل الصّبي محفظته وانتعل حذاءه ذا الثّغور تكشف أصابع القدم ، وخرج مسرعا وزينب تناديه :

- انتظر... انتظر هاك بعض الكسرة وحبّتي بيض مسلوق ... انتظر هذا غداؤك .

استدار فورار غاضبا : سأتأخّر يا زينب سأتأخّر ... هاتي ..هاتي أسرعي .

هرول الولد تارة، وتارة مشى الهُوينى، الوحل عقّد من مهمّته وأشقاه في معراجه إلى مدرسته .

وها هو في آخر ارتقاءاته للصّخور والرّوابي، يطلّ على فناء المدرسة وقد اكتظّت كما كلّ صباح بأطفال يلعبون تحت أشجار اللّوز، يتسلّقونها، ويحومون حولَها أو يجلسون القرفصاء عند الأسوار. .

اختلط فورار بالأولاد وبدأ يروي الحكايا كما يستمع إليها. صفّر صاحب الكرش والعصا فهرع التّلاميذ إلى طابورهم، وانسابوا بهدوء إلى السّاحة ثم توزّعوا في نظام وصمت إلى فصولهم وكأنّ على رؤوسهم الطّير...

اعتدل فورار مع زملائه في الصّف أمام حجرة الدّرس. جاءت الآنسة نادية تزيد الصّف وجاهة وكمالا. بعدها أمرتهم بالدّخول منبّهة إياهم بإلقاء التّحيّة " السّلام عليكم "

دخل فورار، أسرع إلى مكانه ووضع محفظته في درج الطاولة. واعتدل في جلسته ينظر إلى الآنسة نادية تخطّ كلمات على السّبورة. ثمّ التفتت إليهم وبدأت تلقّنهم أوّل شيء : " تاريخ اليوم " .

 بعدها أمرتهم بإخراج أدواتهم المطلوبة، وراحت تدوّن على كلّ كرّاسة اسم صاحبها، حتى بلغت فورار فكتبت اسمه ثم قالت :

- لكن أين الغلاف الأحمر كما طلبت؟

 فامتقع لون فورار ودون شعور منه أخذت عيناه تذرفان الدّمع. نظرت إليه الآنسة نادية مبتسمة وقد ضمّته إلى صدرها : لا ... لا... لمَ البكاء يا فورار؟ لا تخف سأعطيك غلافا من عندي. .

كان الأطفال ينظرون إلى فورار ضاحكين من حاله، فنبّهتم الآنسة : سكوت.

فسكتوا .

وكما قالت، فعلا أحضرتْ غلافا أحمر غلّفت به كرّاسة فورا، وربّتت على رأسه قائلة : أنا مثل أمّك لا تخف منّي أبدا فقط ابقَ هادئا كما أنت. اتّفقنا؟

هزّ صاحبنا رأسه وتراجعت الدّمعات وعادت الأنفاس كما كانت.

                                      ***

أيّام والمعلّمة تقدّم الدّروس حروفا، أرقاما ،ألوانا ... حوارا و قرآنا ... مضى الفصل الدّراسي الأوّل وفورار الألمع، والأهدأ، والأكثر فصاحة في نطق الحروف والكلمات، له من آنسته بطاقة استحسان حينا، وحينا قلم، وحينا مصافحة وثناء.

        فورار لم يطلّق حبّ عنزاته الأوانس العوانس. بل كلّ مساء كنّ يستمعن لدروسه، وكثيرا ما يؤنّبهن على عدم الانتباه واللّامبالاة ...لكنّهن لا يثرن على صياحِه ولا على تأنبيه. كنّ ينظرن إليه ماضغاتٍ تبنا أو محدّقاتٍ مستغربات... تحوّلت حجارة بنيان صحن الدّار إلى مخطوطات بحروف، وأرقام من ألوان مختلفة وأحجام.

و في آخر أسبوع من الفصل الأوّل؛ فُوجئَ فورار ذات صباح بصاحب العصا يخبرهم أنّ الآنسة نادية غائبة، وأنّها لن تحضر، وما عليهم إلّا العودة إلى بيوتهم.

ذبلت سعادة الفتى وخبا بريق عينيه رغم أنّ باقي التّلاميذ قفزوا فرحا ومن لحظتهم تفرّقوا مغادرين تلّة اللّوز كلٌّ في اتجاه. .

كان الجليد قد غطّى الحقول في ذلك الصّباح، لم ينتبه إليه فورار حينما جاء. أمّا عائدا فقد جمّد البرد جسده بالكامل. شعر بإعياء شديد، ونفخُ الرّيح يدفعه والحجارة ترسم له في الدّرب العثرات.

لا يدري فورار إلى أين يسير، قدماه تقودانه وقد ألِفتا الدّرب جيئة وذهابا. شعور غريب يقتل الفتى إنّه مشتاقٌ إلى آنسته التي تأخذه إلى عوالم كثيرة فتقذف به مرّة إلى المدينة، ومرّة إلى المزرعة، وأخرى تشركه في جَني الزّيتون، وأخرى تعلّق برقبته سلّة لجمع غلال العنب ... إنّها مَن شرحت له معنى اسمه " فورار اسم أمازيغي يعني شهر فيفري ". هذه الكلمات الأخيرة تلاها فورار جهارا دون أن يشعر وأخذ يردّدها حتى تفاجأ بأمّه تمسكه من يديه المتجمّدتين و تسمّي الله سائلة، ضامّة حبيبها الصّغير إلى صدرها : ما بك فورار ، لماذا تكلّم نفسك؟

رفع فورار رأسه، نظر إلى أمّه ثم عاود غرسها في صدرها وأخذ يبكي كما لم يبكِ قبل اليوم. تقدّمت به أمّه إلى غرفتها، أدخلته، أجلسته قرب الكانون حيث النّار متأجّجة تقضم العيدان والأغصان، نزعت عنه محفظته والرّعبُ بادٍ على محيّاها تمشي تولول وتسأل: ما به ولدي ...؟

بسرعة أخذت تُعدّ له مشروب رعي الحمام السّاخن. أمّا هو فيبكي ثم يرتشف دمعه ثم يبكي ثمّ يسكت... ثمّ يعاود البكاء من جديد...

قدّمت إليه زينب فنجان المشروب لكّنه أبى. ألحّت عليه فرمى الفنجان بعيدا، ولم يفعلها من قبل أبدا .

زاد خوف زينب فأخذت تهزّه وتسأله : ما بك يا ولد ،هل ضربك أحدهم ... لا جواب بلغ مسامعها. تدلّت رقبة الفتى بين ذراعيها وتسارع خفقان قلبه. حملته أمّه ومدّدته على الفراش وغطّته ببرنس والده، وهو الغائب تماما عن الدّنيا. زينب تبكي وتضرب رأسها بيديها متضرّعة إلى الله ألّا يُخطف منها وحيدها فورار. تبكي مستنجدة بالكريم مطلقة نذُرها، متوسّلة متضرعة...

لم تعرف زينب الهدوء. إلى أين تلجأ؟ لا جار لهم غير السّفوح البيضاء بلثم الجليد والوديان ممالك الثّعالب والذّئاب. من وقت لآخر تخرج تراقب درب العودة هل عاد ميلود ثم تهرول عائدة تراقب أنفاس النّائم بدمعه الرّاكد في الجفون.

تهاوت اللحظات جبالا على كاهل زينب التي تفتّت داخلها حتى أصبح رذاذا نشرته مع الزّفرات. نهار طويل ذلك النّهار. حمرة المغيب أخيرا ترسل عمّي ميلود عائدا إلى بيت أسفل الجبل...

وما كاد ينتصب طوله في الأفق حتى أسرعت إليه المعذّبة زينب تستنفره: أسرع فورار يموت ...

 رمى العائد عن كتفيه أتعاب النّهار وراح يشقّ الفضاء شقّا صائحا: ابني الحبيب .

دخل الغرفة ودنا من ابنه، أيقظه برفق فاستيقظ. ونظر إلى والده ثمّ همّ بالكلام ومعاودة البكاء فقاطعه والده: أعلم أعلم الآنسة نادية لم تأتِ نهار اليوم... لقد أخبرني السّي عيسى ...

فسأل فورار عاتبا : و لماذا لم تأتِ؟

- إنّها مريضة وهي الآن في مشفى المدينة .

جلست زينب واستقرّ بها المكان بعد ما رأت وسمعت. لم تصدّق أنّ كلّ الذي حدث كان مَردُّه إلى معلّمةٍ غابت عن الفصل. بقيَت المسكينة تجوب بنظراتها صورة ابنها الجالس، المتحدّث ... وما استوعبت بعدُ أنّ فورار بخير وهي التي كانت تظنّ أنّه الرّاحل لا جدال.

وقف فورار وأمسك والده من ذراعه وقال: هيّا أبي لنذهب إلى الآنسة نادية ما دامت في المستشفى .

فشدّه والده إليه وأجلسه : الآن لا يمكن، لكن غدا صباحا سنذهب معا لزيارة الآنسة نادية .

جلس فورار مغرورقةً عيناه بالدّموع قائلا: هل ستموت آنستي كما ماتت " نانَا ياقوت " في المستشفى؟

امتدّت يدا عمّي ميلود بكلّ الحنان والرأفة تمسحان عبَرات ذُرفت قائلا : لا ... لا ليس كلّ من يدخل المستشفى يموت، ثمّ إنَّ الآنسة نادية عِلّتها بسيطة، ما هي إلا نزلة برد وستذهب إلى حال سبيلها .

هدأ روع الفتى وسكن اضطرابه فقال عمّي ميلود لزينب : هاتي بعض الحليب السّاخن والكسرة لابننا الغالي .

وما هي إلاّ دقائق معدودات حتى بدأ فورار يلوك كسرة يابسة مع بعض الحليب ناظرا إلى غدٍ رآه بعيدا ... بعيدا جدّا .

خرج عمّي ميلود ثمّ عاد منبّها زوجته : حضّري بعض " الرْفيس " نأخذه للمعلّمة نادية غدا إن شاء الله.

سمعت زينب هذه الكلمات فوقفت إلى زوجها هامسة : وهل فعلا تنوي الذّهاب إلى المدينة غدا؟

-طبعا سأذهب ولِمَ تسألين؟

-  في هذا البرد. ومع تلك الطّريق الطويلة، لا أظنّ فورار يحتمل عناء سفرة كهذه .

- لن أخلف وعدي للولد ثمّ أما رأيت في أي حال هو؟ أم تريدينه أن يموت فعلا؟

- لا ... لا ولكن ...

- عندما أنظر إلى كلّ حجر، وكلّ صخرة، وكلّ جذع شجرة فأجد حروف وأرقام ولدي تسكنها، تعتريني الفرحة والغبطة. فلولا أنّ الآنسة نادية ملائكيّة الرّوح لما ملكت وجدان طفل صغير إلى هذا الحد. معلّمة بهذا الشّكل تستحقّ أن نزورها أينما كانت .

وفي الحال وضعت زينب قصعتها وغربالها وعلى الأثافي نصبت طاجينها، وراحت تُعدّ حلواها التّقليديّة التي لا تأباها نفس أبدا .

مرّت السّاعات... كلّ شيء مُعدٌّ للسّفر غدا. غار فورار في أحضان أمّه التي لم يعرف الكرى طريقا إلى أجفانها، تارة تمسح على رأس ابنها وتارة تقبّله وتارة لا تدري ما تفعل لتحتويه كلّ الاحتواء.

جاء الفجر واستيقظ الجميع. لبس فورا أجمل ما عنده من أسمال باليَة؛ من فوقها قشّابيّة صوفيّة شاويّة. صوفها غزلته زينب وخيوطها حاكتها زينب وروحُ زينب .

أكمل عمّي ميلود صلاته وشرب فنجان قهوة ثم نادى :

- هيّا فورار لابدّ من الإبكار وإلاّ فاتتنا الحافلة في القرية .

لبّى الصبيّ نداء والده وهمّ بالخروج خلفه فدعته أمّه:

- ألن تسلّم عليّ قبل الذهاب ؟

عاد فورار باسما وأخذ يطبع القبل على خدّي حبيبته زينب، ثم انفجر إلى الخارج مهرولا ...

الثّلج غطّى القمم والسّفوح، وحلكة اللّيل بعدها جاثمة على صفحة السّماء. أمسك عمّي ميلود ابنه من يده وراحا معا يخترقان جسد العتمة والبرد. يدكّان قصور الثّلج تحت الأقدام...

تعب فورار. توقّف لاهثا فقال له والده :

- لم يبقَ إلّا القليل ونصل إلى طريق السّيارات. ما كاد يكمل كلماته حتى جاءت من هناك المستغيثة في دلال " قرقوجة السّي عيسى " يسبقها أزيزها وضجيجها وأضواؤها في النّزع الأخير، وفرملت عند عمّي ميلود دون أن يلوّح أو ينادي. تشرّف فورار مرّة أخرى بولوج ذلك الكون الآخر؛ حيث العجب العجاب والعطر النّفّاذ سارق الألباب. انطلقت السّيارة الخارقة لا يصدّها ثلج ولا يردّها حجر .

فورار يستعجل الزّمن ليلقى الآنسة نادية، وليكلّم الآنسة نادية، وليقول لها كم اشتاق إليها .

بعد مسير نصف ساعة أو يَزيد، فرمل السّي عيسى بغتة ليُرجّ الولد في جوف كومة القصدير رجّا. توقّفت تلك الخرق المعدنيّة المتهالكة والعجيب أنّها تصل بك حيث شئت. عجوز هي تقاوم صدأً أبلاها لأجل شيخ وفيٍّ لها أحياها .

نزل فورار ونزل عمّي ميلود ومدّ يده ببعض الدّنانير لأسير عشق القصدير. ثم مال إلى ولده فأمسكه من يده قائلا:

- عجّل يا ولد إنّها الحافلة المتّجهة إلى المدينة ، هيا أسرع .

لحق المسافران بالحافلة وركباها. قلّة هم الذين سافروا ذلك اليوم. ألزم الثّلجُ النّاسَ بيوتها. نظر عمّي ميلود بعمامته الصّفراء الفاقعة إلى ابنه قائلا:

- ها أنت ذا ذاهب لزيارة الآنسة نادية ما رأيك؟

-أنا في غاية السّعادة يا والدي سأحكي لها ... وهنا امتدّت يد عمّي ميلود الخشنة بكلّ اللّطف والحنان :

- لا يا حبيب والدك الآن ستنام فأمامنا ساعتان أو أكثر قبل أن نصل إلى حيث تريد .

سكت فورار، وما أن تحرّكت الحافلة حتى بدأ يتمايل ذات اليمين وذات الشّمال ودون شعور منه أغمض الجفون ونام ... نام تاركا وراءه نور الشّمس يخترق أجنحة السّحاب ليزرع بعض النّور في جسد المكان .

نام عمّي ميلود أيضا، ولم يستيقظ إلّا على صوت أبواق السّيارات، وأزيز المحرّكات، ونداء صاحب الحافلة :

- المحطّة الأخيرة... المحطّة الأخيرة .

أسرع عمّي ميلود وأيقظ فورار الذي انتفض فرحا : أين الآنسة نادية ؟

فضحك عمّي ميلود: لا زالت أمامنا حافلة أخرى للنّقل الحضري فالمستشفى بعيدة عن قلب المدينة. نزل عمّي ميلود بعد أن دفع أجرة الحافلة وقد استقبلتهم المدينة بشمسها بعد أن انقشعت السّحب وتلاشى الضّباب...

فورار يُحكم مسك يد والده. أخافته تلك البقعة بضجيجها وزحامها. سار مع والده متعثّرا في أقدامه وكم زاد رعبه حين قطعا الطّريق فصرخت السّيارات واحتجّت الحافلات وعلت الأصوات لكن عمّي ميلود لا يشغله إلّا امتطاء باص ينقله وفورار حيث الآنسة نادية .

وصلا إلى محطّة النّقل الحضري وهناك سأل عمّي ميلود عن الباصات التي توصل إلى المستشفى فأشاروا عليه بالانتظار قليلا؛ فموعد وصولها قريب وتحمل الرّقم " صفر صفر أربعة ".

أخذ فورار يردّد: لا تخف يا أبي أنا أعرف هذه الأرقام .

على مقعد بالقرب من أحد العجائز وضع عمّي ميلود قفّته وأجلس فورار وهو يحدّث نفسه: لا بدّ أن أحضر هلاليّة للولد. .

نظر السّي ميلود إلى العجوز ثمّ قال لها مستأذنا:

- هل يمكنني أن اترك معك هذا الصبيّ لأحضر له هلاليّة من إحدى المقاهي؟ فنظرت إليه : طبعا طبعا إنّه في الحفظ يا ولدي .

انحنى عمّي ميلود إلى فورار قائلا:

- سأعود في الحال انتظرني هنا يا بطل .

 سار عمّي ميلود يبحث عن مقهى؛ وما كاد يبتعد حتى خطفَ سمعَهُ انفجار عنيف هناك حيث ترك فارسَ تلّة اللّوز. استدار ليجد سحابة قاتمة في كفٍّ من نار وانطلقت صيحته سبقتها دموعه:

- اِبني فورار ...

توارى جسد الفتى وتوارت معه قفّته. لا أثر للجسد والرّوح ... يد مجرمة غرست قنبلة لتقطف روحا أحبّت الآنسة نادية حُبّها لتلّة اللّوز، تلك التلّةُ التي سكنت زينبُ فِناءها، تنتظر تدفّق فورار إلى أحضانها... ولكنْ تزهر اللّوزات وتتجرّد من أزهارِها وفورارَ الغائبِ أبدا وكلّ مساء .

النهاية

وسوم: العدد 828