المقامة المراريَّة

حدثني بمن هو الأحداث خبير, وفي علم الرجال أمير :

 بأنَّ رجــلًا ألــمَّ بـه المرض , وكاد من فَـــرْطِ الـتـلوِّي أن ينقرض , وطاف على كثيرٍ من الأُساة والحُكماء , وعدد من أساتذة الأطباء , ولـــم يَــدر- مع ذلك- سببَ المَغـــص , وعِـــلَّة الأَرَقِ والهَوَس , حتى بات نومُه كنوم السَّليم , مُتلفتًا كالســـارق اللئيم , فأنشدتُ له :

  لا زَعزَعَــتْـــكَ الـخُطـــوبُ يــا جَـبَـــلُ

        وبالعـــدا حـــلَّ لا بـــك العِــــلـل

ثـــم أردفــتُ قــائــلًا : هل كان داؤك كهيام البعير؛ فإنه الشر المستطير , أم زيارة لبنت الدهر ؛ فهي تقصم الظهر .

قال:

عطفتُ على جرَّاحٍ ماهر , له في الطِّــب أمر ظاهر , وبعد ان طَــلب الأشعة مرّتين , وأعاد البصــــرَ فيها كرَّتين :  قال جازمًا بلا شـــــكٍّ وتـــردُّد : لابُــــد من استئصال المرارة يا ســيِّــد .

فقلت : إذن أفــيـــد من التأمين , فإنه يخسف الراتب مذ سنين , فقال , دعـــك من هـــــذا الهُـــراء , فإن الروتين قـــلقٌ ووبــاء , والحوصلة تــئنُّ وتــشتــكي , ولا تحتال عليَّ يا ذكـــي , فقلت :

هل مشفاك جاهزة ؟   وماذا عن فاتورتك الباهظة ؟

   قال : لا تسل عن المباني والأجهزة , وثِــق في هذي الأيدي المائزة , أما عن المعدود , فمبلغٌ فوريٌ محدود, يتجاوز راتبك الشهري بأضعاف , ولا أريد سماع الإلحاف, وظللتُ أفكر في الأمر والتصريف , مُرددًا قول الرضي الشريف :

    يأتي الحِــمــام فيُنسى المرءَ مُنيته

                        وَأعضَلُ الدّاءِ ما يُلهي عَنِ الأمَلِ     

وانتهى الأمر إلى الاستئصال , ولقد شهدت بعد نزعها الأهوال , والحمد لله على كل الأحوال , قــلتُ , وكيف أصابها الـــدّاء اللعــيـــن , وأنـــتَ تــبـغـــض الـــدُّهــــن والــسَّــمـين  ؟!

أجاب الخبير :

الأمر ليس بالأكل يا صديق , بل من الهم والقلق والأرق والضيق , ونُكرانِ الرفيق , وبُعــد الـشــقيـــق , وملأ الحُزن الــــرُّبَــى وابيضت العينين , وبلغ السيل الزُّبى وجاوَز الماء الطُبييْن .

فقلتُ : أراكَ قصدتَ نهر النيل , فقد فاض بالشهــادة والـدليل , وزادت رُقــعـــة المطـــــر, والماء قــــد انسكــب وانهمــر؟ قال : نعم , لكن الضيف لم تُــحــسن ضــيافــتُه , ولم تـــكُ طـيبةٌ وِفادته ؛ فأَغرق بعض النبات والزرع , وأهـــلـكَ شيئًا من الحــرث والنَّســل والضَّرع  , .... , قلتُ : ليس هذا  من الأخطار ؛ فإنه يحدث في كل الأمصار .

قال : أرأيت ما فُعـــل بشاب مسكينٍ مــكــمــود, ركــب القطار وليس معــه دراهـــم أو نقــود ؛ فألقاه قائد القطار تحت العجلات , ففاضت روحُــه , وفي الحال مات !

 أم رأيتَ من يأكل من القمامة , ولا يعرف شيئًا عن الزعامة والإمامة , وليس له دخل يكفيه , ولا مبيت يأويه , ولا مشفَى يُــــداويــه , ولا رحيم يواسيه ! أم رأيتَ حال التعليم , والفصل به من الأطفال مئين , أم رأيت المشافي بائسة , والأدويــة فيها نادرة وناقصة ؟!

أم رأيـــــتَ الــمــرضَ والــوبــــاء ؟!

وجنونَ الأسـعــــــارَ والغــــــلاء ؟!

وانتشارَ البغــــيَ والـفــحــشـــاء ؟!

وازدراءَ الأســـــاتـــذةَ والعــلماء؟!

وتـَــصَـــدُّرَ الرويبضةَ والسفهاء؟!

             وظل يُردِّد الرزايا , ويُعدِّد البلايا ,

  فنصحته أن يهدئ من روعه , وأن يُـــخـــفِّـــف من فزعــــه , فللكون ملك يدبر شئونه , وربٌ ينظم أموره , ودعـــوتُ له بانشراح الصدر , وتيســير الأمر , وظللتُ أُهَـــمْهِــم :

    و كم نعمة ٍ للهِ في صرفِ نقمة ٍ

                                    ترجى ومكروهٍ حلا بعدَ إمرارِ

      وما كلُّ ما تَهوى النّفوسُ بنافعٍ             

                                  وما كلُّ ما تَخشَى النّفوسُ بضرّار

وسوم: العدد 849