زمن الشيخ تَاتُّو

حيدر قفه

قال أبي – رحمه الله – في اجتماع عائلي: يا أبنائي، تعالوا بنا نرحل من هذه القرية الظالم أَهْلُهَا، ونجد لن مكاناً أرحب في بقعة من أرض الله الواسعة، كما فعل أبناء قُدامة المقدسي عندما خرجوا من قرية (جمّاعيل – نابلس) مهاجرين إلى الله، فاستوطنوا سفح قاسيون بدمشق وبنوا الدير المبارك الذي جمعهم جميعاً، فأخرج هذا الدير جِلَّةً من العلماء، وسادة من الفقهاء.

وافقنا، وشددنا الرحال حتى حطت بنا عصاه في قرية نائية، اشترينا أرضاً واسعة، وبنينا – داخل سور كبير – بيوتاً تسعنا جميعاً، بعائلاتنا... زوجاتنا وأولادنا وبناتنا، ووضعنا حجر الأساس لمسجد نصلي ونتدارس فيه، ثم لا بد لنا من مكان يجتمع فيه الرجال عندما نستقبل ضيوفاً غرباء... بعض الناس يسميه "دِيوَانَاً" وآخرون "ديوانية" وغيرهم"مضافة" – نحن نسميه "مَقْعداً" مِنْ قَعَدَ... يَقْعُدُ... فهو قَاعِدٌ... وهم قُعُودٌ... وهو مَقْعَدٌ... أي مكان للقعود... للجلوس.

وهكذا هي الحياة، تمد أذرعتها إلى الخارج، وتدفعك إلى الآخرين، فكان لا بد من التواصل مع غيرنا... نسيت أن أقول لكم: كُنَّا خمسة إخوة: مصلح... ويكنى بأبي يَمَنْ، لأنه عمل في اليمن خمس سنين، وكان يحبها كثيراً، ويمدحها ويمدح أهلها، ويشتاق إليها فكُنّي بها، إلا أن أبي ناداه يوماً مداعباً "مصيليح" ليحد من غلوائه في التطلع إلى نفسه إعجاباً وغروراً، فغلبت عليه. وأخي عواد، وأنا – العبد الفقير إلى الله، وعبد الله، وعبد الرحمن...

ونسيت أن أقول لكم: كان في القرية قبلنا عائلة كبيرة متباهية بنفسها، متغطرسة، ولا تعترف بغيرها، تكاد تكون قد سيطرت على كل شيء، وفي مثل هذه الأجواء يصعب عليك أن تخترق كرة الشوك، لكن لا بد لنا من تثبيت أقدامنا في هذه القرية لنحمي أنفسنا من الذَّوَبَانِ، ولننشر ما نحمل من خير نريد توصيله إلى عباد الله، رسالة حُمِّلْنَاها ولا مفك لنا من تبليغها، لأن مستقبلنا ومستقبلهم ومستقبل الأجيال القادمة مربوط بها.

لما فرغنا من البناء، ودرسنا القرية وأهلها، وعلمنا الأجواء السائدة، والنفوس المسيطرة، كان لا بد لنا من خطوة أخرى للتواصل مع هذا المجتمع الجديد...

مات أبونا، وبصورة طبيعية تَسَنَّم قيادة هذه الدَّارَةَ الواسعةَ أخي "مصيليح" بحكم السن، إلا أنه كان يعتني بنفسه أكثر من أي شي آخر، ولا بد أن يُنْسب إليه الفضل في كل شيء، وأن تبقى الخيوط كلها في يده، ولا يؤمن إلا بما يراه هو، وإن استشارنا فمن باب تمرير ما يريد، وتبرير التقصير إن حدث، مفتون بالرياسة، مولع بالفخامة والعظمة، مع أننا لم نُـرَبَّ على ذلك، إلا أن لكل قاعدة شواذ، وهذه من الفروق الفردية...

سلمنا له القيادة، وجاء دورنا في توزيع الأدوار للنهوض بهذه الدار الوسيعة، وتأدية رسالتها، وترسيخها في الأرض، ومن التواصل مع الآخرين، وتحييد الأعداء والمتربصين... ولما كُنَّا نريد تعليم أبنائنا على حمل الرسالة من بعدنا؛ شجعناهم على مشاركتنا، فانصرفنا نحن أنا وعبد الله وعبد الرحمن للعمل الصامت الدؤوب، والمراقبة من بعيد، وكلفنا أخانا "عوادا" وابني "مؤمنا" بمُهِمَّةِ التواصل مع الآخرين، ودعوتهم لحضور دروسنا ولقاءاتنا وتجمعاتنا التي نبث فيها دعوتنا التي حملناها إلى الناس.

كان أخي "عَوَّاد" هادئ الطبع، متزن الخطوات، طيب القلب، وكم أوقعته طيبة قلبه هذه في مآزق شتى... وكان ابني "مؤمن" متسرع الخطوات، يطرب للنجاح القريب، دون النظر في العواقب البعيدة... قد تكون هذه طبيعة الشباب، أو جِبَّلَةً فيه، أو له هدف خاص به لا ندريه...

نسيت أن أقول لكم: إن ابني"مؤمنا" تخرج من جامعة الزيتونة الأردنية، في كلية التجارة – تخصص تسويق – ولما لم يجد عملاً؛ باع الأزهار على مفترق الطرق، والدَّوَّارات، وإشارات المرور، واشتغل في تنسيق الحدائق، وزَبْلِ الأرض، وتَقْليم الأشجار... واشتغل في مسرح العرائس المُتَنَقِّل بين المدارس... وفي تجارة مواد البناء... وتوزيع (البسكويت)... وشراء وبيع السيارات القديمة... وغيرها... وغيرها... وفي كل حرفة يحترفها يتصور أنها طريقه إلى المستقبل الزاهر... والمجد الباهر... ولذا يكاد يمتلك كُلَّ أدواتها التي تُيَسِّرُها عليه... من فؤوس ومقصات وأقنعة ودفوف ومثاقب ومطارق ومسامير وبراغي، وألوان وأصباغ، ومواد سريعة الاشتعال...

كانت"نافذة"كلما هاتفتني أو هاتفتها تسألني عنه، فهي موظفة في جامعة الزيتونة: كيف حال"مؤمن"؟! أقول لها: بَيْنَ بَيْن... لا تخطئ في اسمه، أما أستاذه في الجامعة نفسها الدكتور سليم، فكلما سألني عنه أخطأ فقال: كيف حال"مأمون"؟!... فأقول له:"مأمون" إن بقي على حاله سيتعبنا، وإذا لاح له عمل في الخارج سيسافر ويتركنا، وسيخلف لنا عبئاً ثقيلاً يرهقنا... فكلما مدَّ ذراعه إلى مكان جاء لنا بـ"كراكيب"ونحن ساكتون لعله ينجح ويوفق... لكن أين سنذهب بهذه "الكراكيب"؟ وكيف سنتخلص منها؟ إنها تُـجَمِّعُ الفئرات في الدار، وتَلْتقِطُ الغبارَ، ومُؤرِّثـَة إذا شَبَّتِ النار...

هل خرجتُ عن الخط؟! نعم... خرجتُ... وهذا ليس من طبعي... فلماذا اليوم أخرج؟! قالوا:"الحديثُ ذو شُجون"، وهذا من شَجَني الذي يؤرقني، فلنا تجارب في قريتنا السابقة – بل في كل مكان من هذا الزمان – لا تَسُرُّ، ولا نستفيد منها، ولا نعتبر بها، فحتَّام ننام؟!

أو كلنا لـ"مؤمن" وعمه "عَوَّاد" أن يدعوَا الناس إلينا، لكن"مؤمناً" لعمله سابقاً في الأزهار مولع بالألوان، فجمع باقة منها زاعماً أنها ستزين مجلسنا أو مَقْعدنا، منها الأحمر القان، والأحمر الفاقع، والأحمر الداكن، والأحمر السَّاكن، والأزرق، والأخضر، والأبيض، حتى السوسنة السوداء جاء منها بواحدة... خليط... لكن أغلبها لا رائحة زكية لها... مجرد منظر... هئنذا عدت للأزهار... خرجت عن الخط مرة أخرى... ماذا دهاني اليوم...

دعا "عَوَّاد" وابن أخيه "مؤمن" الناس إلى مَقْعدنا... وفتحا الباب على مصراعيه، فجاء أناس ما كانوا يخطرون لنا على بال، منهم شيخ شابٌ أمردٌ يلبس جُبَّةً ولا يَعْتَمُّ بعمامة، ولا يثبت "كوفيته" بعقال، ولا يلبس في رأسه طاقية، كهيئة شباب اليوم، لكنه يضع"كوفيته" والمزركشة بخيوط الحرير المتماهي مع نسيجها على رأسه هكذا... حرة... طليقة... شفتاه – لكثرة ما يمضغهما بأسنانه ويبللهما بلسانه-كأنهما مصبوغتان باللون القُرمزي... وقال بعض المتندرين: إنه وشمهما بـ "التاتو" هذا الوشم الأحمر الجديد الذي يُحقن تحت الجلد فتكتسب الشفتان حُمرة دائمة ثابتة لا تزول، كأنها خِلْقَةٌ ربانيةٌ لا بفعل فاعل، وكان هذا الشاب نرجسياً معجباً بنفسه لحد الهوس... وصولياً لا يكاد يتعرف على أحد إلا وقد وضع في ذهنه ومقدمة أولوياته ماذا سيستفيد منه... مولعاً بالولائم والأعراس، بل "له في كل عرس قرص" كما يقولون في الأمثال، سلوكه الخفي لا يتفق مع المشيخة التي يُسَيِّجُ بها نفسه، لذا أطلق عليه هذا المتندر
"الشيخ التاتو" ثم درجت التسمية، وضحك لها الشيخ نفسه فترسخت لكنها أمست " الشيخ تاتو" ... وكان "الشيخ تاتو" ماهراً في نصب الشِّبَاك، واصطياد الفرائس، واقتناص الفرائد، لكنه سرعان ما ينكشف أمره فالبخل أوهى من بيت العنكبوت، والفسق داء لا يموت، فإذا انكشفتِ الأستارُ، وزكمت الأنوفَ الأسرارُ، لم يعد يغسله مياه الأنهار ولا أمواج البحار، فَيَنْفَضُّ الناسُ من حوله، والمعجبون به أولاً يعودون لا آبهين به تالياً.

ومع أنه فهم زمانه، وناسَ زمانه، وأتقن أصول اللعبة، وعرف مداخلها ومخارجها، إلا أنه مُتلون مع كل وسط يعيش فيه، فهو مع النصارى نصراني، ومع المسلمين إسلامي، ومع اليساريين يساري، ومع اليمينيين يميني، وإذا كان مع العلمانيين جاراهم كأوسع ما تكون الخطوات، يجد سعادته في الجو الأزرق الذي يمتلئ بالدخان، ويطرب للأشعار ترافقها رنةُ الأوتار، يصافح الرجال والنسوان، ويبتسم لهذا ويغمز ذاك، ويَعِدُ... ويمني... ويُنيلُ... وللمياه يُقَنِّي... فإذا جاء عند الإسلاميين خفض جفنيه تخشعاً، وكفَّ يده عن مصافحة النساء تمنعاً، ومضمض فمه حتى لا تفضحه (السجائر)، وانتحى ركناً قصياً مبدياً عدم رغبته في الكلام، ومتحرزاً من اجتراح الآثام!! وأخرج سبحته يطقطق بحباتها مسبحاً الرحمن.

كان "الشيخ تاتو" مكشوفاً لذوي البصائر، لكنه يخادع الأغرار، فهو يصاحب الأشرار، ويستحلب طيبة الأخيار، يُوجد لنفسه في كل تجمع معجبين ومُطَـبِّلِينَ ومزَمِّرِين، يخطط لذلك تخطيطاً ماكراً، مستغلاً جسده وصوته وضحكاته وغمزاته وآهاته بشكل متقن، حتى يبدو للناظرين أنه جاء طبيعياً بلا تعمد ولا تخطيط، الحب عنده لعبة وتسلية وعربوناً لخدمات تؤدى له عن طيب خاطر من عدد من المغفلين... ويقع طيبو القلوب في الفخاخ المنصوبة... وكل واحد لا يعلم بمن ركب القطار قبله، وإن كان يمسي على يقين أن عربات القطار مهيئة لركوب عشرات بعده... تلك هي المأساة... حرباء... حيّة... عقرب... سمِّه ما شئت، لكنه أصبح من أركان مقعدنا... كيف؟! غفلة ممن أنيط بهم هذا العمل... أو بتخطيط لا ندري ما وراء أكمته.

امتلأ مقعدنا، وفرح السذج بالكثرة، مع أنهم يعلمون جيداً أن الله لم يذكر الكثرة بخير، راجعوا القرآن إذا شئتم... أليس من الأجدى لو أن أخي"عواداً"وابني"مؤمناً"ركزا على النخبة لا على الكثرة، لكنهما في غفلة من صنائع التاريخ، وطيبة القلب والتسرع من أخطر مزالق التجمعات...

بدأنا نحس أن لهم مطالب ومطامع، فذاك يريد أن يكون، وذلك يريد لابنه أن يكون، وهذا بعمله مفتون فلا بد من توسعة طريق المجد أمامه... ومع أننا نعرفهم جيداً، إلا أن السُّذَّج ما زالوا سادرين في غيهم... نبهنا... حَذَّرْنَا... صرخنا... لكن الطمأنينات المريبة لم تفلح في نزع الخوف من قلوبنا، حتى كادت تشغلنا عن مُهمتنا الأساسية، وسبب هجرتنا إلى هنا من الأساس... نرى في سلوكهم ما يؤكد مؤامراتهم، ولكن الموكَلَيْن بالأمر ماضيان في الربت على ظهورنا تطميناً، تأتينا الأخبار التي لا مرية فيها على انحرافهم، وبقائهم على ضلالهم... بَلْهَ كراهيتهم لنا، وولعهم بتقويض مَقْعدنا جهاراً نهاراً، بل محاولة إغراء الناس بنا، وتأليبهم علينا... والمولعون بتسجيل الانتصارات حقيقة أو وهمية يفتخرون بالعدد ويصفقون للكثرة وطلب المزيد.

عقدنا اجتماعاً مفصلياً لكبار السن من رجال العائلة، وتدارسنا الموضوع، ورغم إقرارهم بتخوفنا ومشاركتهم لنا في الخوف من المجهول القادم، إلا أن الاجتماع لم يلبث أَنْ درستْ معالمه، ولُحِستْ توصياته، بعدما اطمأن محبو الظهور إلى استمرار الأضواء عليهم، بل بدأت تتكشف بعض النوايا عندهم في تسويق أنفسهم هنا وهناك، واستغلال بؤرة الضوء المركزة عليهم لجني المنافع الخاصة، بادئين بمغازلة الخصوم، والتمسح بالتخوم، والتردد على مضافاتهم، ومشاركتهم ليالي أنسهم، وكلما عجبنا واندهشنا لهذا التناقض قالوا: لمد الجسور، وتهيئة الأمور!!

وما زادنا عجباً أن هؤلاء يحاربوننا، ويحاربون كل غريب عنهم علانية، ولا يعترفون بنا ولا بغيرنا، إنهم وحدهم في القرية، ولا يقبلون بغيرهم، وينكرون كل فضل لغيرهم، فلماذا أقبلوا على مقعدنا كل هذا الإقبال، وبهذه الكثافة المريبة؟!

دعك من الأسئلة الموجعة للقلب، فلو عدت لسؤالي الأول: لماذا خرجنا من القرية الظالم أهلها أصلاً؟ ولماذا جئنا إلى هنا أساساً؟ هل بقي لنا تميز نفخر به؟ هل يبقى الأبيض أو الأخضر نقياً صافياً معلناً بتحدٍ عن بهاء لونه إذا اختلط بالأحمر أو الأزرق أو الأسود؟! قالوا: إذا غلب الأبيض أو الأخضر بقي الصفاء، وفي ذوبان الألوان الأخرى يحتمل الرجاء!! قلنا: أرأيتم لو أن العكس حدث – وهو حادث لا محالة – كيف يكون المستقبل؟!

المولعون بتسجيل المكاسب بأسمائهم، غطت الكثرة على عيونهم... ساروا... مضوا... صمّوا آذانهم... حتى جاء يوم شعرنا فيه أن الأرض تتزلزل من تحت أقدامنا، وأن مَقعدنا بدأت جدرانه يعلوها سِنَاجُ الدخانِ، وتزكم أنوفنا رائحة الأيدي التي لا تُغسل بعد الخروج من الحمام، وكثر في أجوائه الجدل العقيم، والتراشق بألفاظ الشيطان الرجيم، فَحَمِضَتِ القلوب، وأوغرت الصدور، وفار التَّنُّور، وبدأ العراك بالألسن أولاً، ثم بالأيدي، ثم بالأرجل، ثم بكل ما تصل إليه قوة عضلات الموجودين.

لم تمض ساعة حتى انقشع الزحام عن ركام، وبان لنا الأمر عن فاجعة لم نكن نتصورها، تحطم مقعدنا بكراسيه ومناضده ونوافذه وستائره... حتى لوحاته وكتبه وخزائنه... تحطم كل شيء... وخرج من كان فيه... كلٌ يبحث عن نفسه... ويهتم بحاله... يضمد جراحه... وبعضهم يحتفل بنجاحه...

قعدت وأخي عبد الله وأخي عبد الرحمن نفكر فيما آل إليهِ أمرنا... مقعدنا ذهب إلى غير رجعة... لا أقول أثاثه ورياشه... بل سمعته وناسه... فقد انْفَضَّ الجميع عنا... بقاؤنا هنا صعب، وأصعب منه العودة إلى قريتنا الأولى، فلم يعد لنا فيها مكان أيضاً.