المصل في زمن الشكيزوفرينيا

clip_image002_b1bdb.jpg

إقتربت

إقتربت جداً

هل هي النهاية؟

أم هو الموت قهراً؟

إن كانت هذه رغبتكم

أن تستعبدونا .. تذلونا

أحذيتكم فوق رؤوسنا لتسحقونا

فبالله عليكم .. إرحمونا

لتنحرونا .. خير وأشرف لنا

من أن تزرعوا شركم داخلنا

لنقتل أنفسنا بأيدينا

(سنموت .. سنموت .. كلنا سنموت هنا .. أكيد سنموت)

صيحة مدوية أطْلقها عجوز متهالك، سمعها جليّة وسط الضوضاء والزحام الشديد من جموع الشعب المتزاحم عند باب مكتب الصحة، وهكذا الحال عند كل مكاتب الصحة المنتشرة في أنحاء البلاد.

ورغم أن الساحة غير مغلقة .. شبه مفتوحة، فقط مسقوفة بغطاء معدني، ورغم الظل فإن الحرارة جاوزت الأربعين .. ورائحة عرق الجموع تسود الهواء .. رائحة عطنة مقززة، ومع الحرارة والرائحة الكريهة .. زاد الأمر سوءاً وسوداوية .. الزحام والتدافع كأنه يوم الحشر .. أو أنه هو بالفعل، لم تستطع هذه الجموع أن تنظم نفسها في طابور وحيد .. حتى يتم الأمر ويأخذ كلُّ مَصْله.

ليس هناك أيّ فائدة منهم، شعب جاهل أو يدّعي الجهل .. أو للصواب الحق تجهّل أو جهّلوه .. هؤلاء الآخرون .. الشعوب الأخرى.. المتحضرة والمنظمة التي يفصلنا عنها بحار ومحيطات، هؤلاء ومن المؤكد في نفس تلك اللحظة يقفون في طوابير منظمة عند مكاتب صحتهم لإتمام ذات الشيء، بدون عرق .. بدون حرارة .. ومن المؤكد بدون ضوضاء، بدون صُراخ العجائز وتنهدات الشباب المتحسرة.

إن ظل الحال هكذا بهذه الفوضى بدون تنظيم فسيظلون هكذا إلى يوم البعث، إلى أن يُقضى عليهم جميعاً ويتساقطون صرعى .. أموات بسبب هذا الفيروس اللعين، الذي اجتاح سكان الأرض في جائحة لم يعرف لها التاريخ الحديث مثيلاً .. ولن يعرف.

الأغلب أن هذه هي النهاية التي توقعها المؤرخون .. وأكدتها كتب الأديان .. واستهان بها أغلب البشر، الذين يقفون الآن متكدسين في كُتل فوضوية .. أو في طوابير منمقة حول العالم.

سعيد الحظ فقط هو من استطاع الوصول إلى غرفة الطبيب المختص .. كما يسمونه .. ليدخل ولينعم بهواء المُكيّف البارد، وليقضي ربع ساعة على أقل تقدير حتى ينتهوا من حقنة بالمصل ..

.. المصل ..

⸭ ⸭ ⸭

نعم .. المصل، هو الحل لأصل المشكلة والعقدة التي لوّنت حياة البشرية بالبؤس واليأس وانتظار الموت، مع بصيص من الأمل في النجاة .. وحتى النجاة لم يعد لها معنى بعد أن توقفت الحياة ولم يعد هناك من عمل أو وسيلة لجلب أيّ رزق، لإطعام بطونهم الخاوية .. المتضررة جوعاً.

هذه العقدة بإشكالية موضوعها لم يفهمها أغلب الموجودين هنا .. وربما أغلب سكان البلاد، بسبب الجهل السائد والضارب أطنابه، وربما كذلك الكثير من أهل تلك البلاد المتقدمة حضارياً .. البعيدة عنا ببحارها ومحيطاتها.

تنهد .. ورجع بالذاكرة لأول المشكلة .. أو هذه الجائحة، تلك الكارثة التي أوقفت حال الدنيا، وأوصلته بنتائجها لهذا الموقف بكل ما فيه من منفرات.

⸭ ⸭ ⸭

منذ عدة شهور ظهر أصل المرض في بلاد الجنس الأصفر، سمعوا عن مرض يسببه فيروس يقتل في غضون يومين أو ثلاثة، هذا الفيروس يصيب الجهاز التنفسي في مقتل، أصل الفيروس كما قيل من بلاد منبع المرض .. هو طبائع أهلها في أكل حيوانات غريبة مثل الخفافيش والفئران .. والصراصير وغيرها، كانت الصور والمشاهد الحية الموثقة .. مرعبة مريعة، الناس تتساقط صرعى على الأرض في عرض الطريق، في البداية حاولوا إخفاء الحقيقة أو إخفاء تفاصيلها، ولكن مع مرور الوقت بدأت الحقائق تتسرب عن أعداد مهولة من الآدميين فقدوا حياتهم، المرعب كان التخلص من جثثهم حرقاً، والأكثر رعباً على حسب تفسير العلماء من خارج بلادهم .. بلاد الصفر .. كان .. طريقة العدوى .. سهلة وسريعة ونافذة .. حتى عن طريق اللمس أو الاقتراب، ويكفي لشخص وحيد حامل لهذا المرض أن ينقل عدواه لمدينة بأكملها، ولذلك لم يكن هناك حل غير العزل.

العزل الكامل لكل سكان بلادهم فلا يخرجون ولا يختلطون .. ومن يخرج لضرورة قصوى فعليه ارتداء الكمامة والقفاز، ومن يثبت عليه بالتحليل إيجابية حمله للفيروس .. فعليه ببساطة أن يستعد للنهاية .. سيدخل في حجر صحي معزولاً عن بقية البشرية لمدة لا تقل عن أربعة عشر يوماً، إما أن ينجو ويعيش .. وإما أن يهلك وبالطبع سيحرقون جثمانه ولن يبقى له ذكرى أو أثر.

عند هذا الحد كان الأمر رغم خطورته .. محصوراً في بلاد الصفر، وكان كل الخوف أن يتعدى حدودها لبلاد أخرى .. وهو للأسف ما قد حدث.

وبسبب حركات الطيران التي لم تتوقف تماماً، فر الفيروس من بلاد الصفر وبدأ في اجتياح القارات .. الواحدة تلو الأخرى، وحصد الأرواح بطريقة بشعة وفنية في ذات الوقت .. أبشع من الحروب ذاتها، ففي الحروب النووية مع هول تجربتها رأى العالم أن قنبلة صغيرة تستطيع أن تحصد في ثوانٍ فوق النصف مليون روح، مع دمار كامل للمكان بكل كائناته .. وكذلك بقاء الإشعاع الذري لمدة طويلة، ولكن هذا الفيروس يقتل ويصل لأكثر من هذا العدد من ضحاياه بشكل أنيق تدريجي .. بدون أي دمار أو تخريب، بل ويبقى في الهواء لمدة غير معلومة ليصيب ويقتل من تبقى من الأصحاء.

ما هو أشد وأقصى من الفيروس .. كان الهلع الذي اجتاح العالم كله، وشل حركة الأرض وألزم كل شخص على أن يتباعد عن أقرانه .. بل ويفر من أقرب الناس إليه.

⸭ ⸭ ⸭

شكيزوفرونيته أخبرته بكل ذلك من قبل، يا للسخرية القدرية، سخرية نافذة نكأت جرحه هو ..أو ما لبثت أن استكانت إلى كتفه لتربت عليه في حنان .. ثم تمسك بذراعه لترفعه عالياً .. معلنة انتصاره كبطل في حلبة ملاكمة، ثم تلتفت إلى الجماهير المشاهدة المحاصرة للحلبة .. لتستهزئ بهم كلهم ولتبصق عليهم واحداً واحداً.

نعم .. الشكيزوفرينيا أخبرته بكل ما يراه الآن وكل ما هو متوقع حدوثه، رغم أنها .. كما تسمى شكيزوفرينيا .. مرض عضال .. ولكنها أثبتت له الآن ولكل من يعرفه ويعرف تاريخه في هذا الزحام .. أنها بالفعل .. أحق الحقيقة.

يتنهد .. ويعود بالذاكرة لعدة سنوات مضت .. شاب يافع وسيم .. من طبقة كادحة، هي أقرب منها لطبقة الطفيليات التي تسعى للنجاة من الهلاك بالالتصاق بأيّ سطح من أسطح الطبقات الموسرة.

إستطاعت أسرته بكفاح مهلك أن يوصلوه للتعليم الجامعي، التعليم برمته في مثل هذا الوطن .. رغم أنه صار ترفاً في ذلك الزمان .. إلا أنه صُنف في عرف العالم .. بالتعليم الرديء، لم يستطع حتى استحقاق أن يدخل في التصنيف العالمي .. حتى ولو قبع في ذيل القائمة، لكنه كان متفرداً متميزاً متفوقاً، جاذب لانتباه كل أقرانه وأساتذته، وبالطبع لكل فتاة تراه، يجذبهن هذا الازدواج المتميز من وسامة وتفوق، كان يلوي عنق أفتن فتيات الجامعة، ولا حرج عليهن ولا لوم .. فوسامته تعلن عن نفسها مع تفوقه بكل ضراوة، ولكن ما لبثت أيّ منهن أن تعرف أنه فقير .. حتى تلوي عنقها للناحية الأخرى متحسرة على حظه، مصمصمة شفاهها ومتمتمة (لو لم يكن فقيراً .. لالتصقت به وتزوجته).

ولأنه كان الأول في جامعته، فكان لزاماً عليه أن يكون إلى حد ما مثقفاً، نهمه للثقافة لم يكن له حد .. كان بلا أيّ حدود سرمدية، فبالإضافة لكل الكتب المقروءة التي كان يلتهمها بمجرد أن تقع بين يديه، ساعدته تكنولوجيا العصر من وسائل اتصال وسرعة تناقل معلومات، على ازدراد ما كانت تقع عليه عيناه .. على الشبكة العنكبوتية.

ورغم فقر أهله .. فلقد نجح عن طريق عمله في أحد مراكز الانترنت على تدبير هاتف نقال مستعمل .. وجهاز حاسوب آخر مستعمل وعدة كماليات الكترونية أخرى.

وصار البحث والتنقيب عن كل ما هو جديد وكل ما هو مُتنبأ به، يلتهم أكثر وقت يومه، وتضاعفت ثقافته ومعلوماته إلى المنتهى الذي أضفى إليه هالة أخرى من الجاذبية، وأحاطت به هالة أخرى منفرة .. أبعدت عنه بعض الناس .. بسبب ما كان يردده من تنبؤات مستقبلية، ولم يعبأ أبداً بهم ولا بتحقيرهم له .. بل وازدرائهم في أغلب الأحيان، وكانت قناعته أنه سيستمر في تنبيههم وتذكيرهم جميعاً، لأن الناس أعداء ما جهلوا.

حتى أتى هذا اليوم المشهود .. عندما وقع بين نظره وسقط في براثن معرفته خبر بقصة .. أتت من أكثر من مصدر، تتبع كل منبع له .. قرأه .. درسه وفنده تفصيلياً، هالته الحقيقة وصعقته الصدمة.

في سنة التوأم سيجتاح العالم وباءٌ مُهلك، مصدره فيروس مرعب .. سيحصد أغلب الأرواح وسيسود الهلع والذعر .. ثم يأتي بعد عناء شهور .. ويأس من استمرار التنفس والاستمتاع بالحياة .. يأتي المصل.

اُعد بعناية مسبّقة، وبعد دراسات وأبحاث على طاولات من يحكمون العالم.

وما هو المصل؟

ببساطة .. سيُعطى إجباراً لكل سكان الأرض، وسيسبقه حملة إعلامية متقنة لغسل العقول وتحضيرها وتجهيزها لتقبل الأمر.

ومن سيرفض؟!!

سيُعْزل ويموت، لأنهم ببساطة سيمنعون عنه كل شيء، لا عمل .. ولا إعانة مالية ولا علاج .. ولا حقوق اجتماعية.

بكل بساطة .. كل كائن بشري لابد أن يأخذ المصل، ولهذا سيروّج له بكل وسائل الإغراء .. حتى يستحق رافضه الذهاب إلى الجحيم بكل هدوء .. مُشيّعاً بلعنات باقي أهل الأرض.

المثير والغريب والمرعب أن هذا المصل ليس إلا شريحة، تزرع في جسد المتلقي، في أي مكان مناسب حسب رؤية الطبيب، الشريحة يتراوح حجمها بين عُقلة الإصبع وحبة الأرز، لأنها ستكون بأنواع متعددة على قدر درجة الشعوب المصنفة مسبقاً على طاولة سادة العالم.

الشريحة بذاتها ستحمل المصل والعلاج في ذات الوقت، وبها أيضاً التاريخ الطبي لحاملها .. حالته المادية والاقتصادية، حالته الاجتماعية والميول الثقافية والدينية والمذهبية، كل شيء .. هذه الشريحة ستجعل كل من يحملها كتاب مفتوح سهل القراءة.

ولكن المصيبة الكبرى والخطب الأعظم الذي قرأه .. والذي أتى له بالشكيزوفرينيا .. هو هذه المعلومة المحققة والجرعة المدبرة، أنهم سيتحكمون إلكترونياً بالشريحة .. في كل شيء، نفسية ومزاج حاملها، أي أنهم بإمكانهم أن يجعلوا حاملها سعيداً أو مهموماً، مدمن للمخدرات أو الكحوليات، راغباً في قشور الدين .. مثرثراً بسفاسف عنه حتى تشيع عنه الفكرة الرديئة وأنه أساس التخلف فينصرف عنه الناس ويمقتوه، وفي المقابل سيدفعون البشرية بتحكمهم أن يزينوا العلمانية بكل لباقة .. حتى يتجرد الجميع من فكرة الدين في حد ذاتها ثم يكفرون بوجود الإله.

الشاب المتورد بازدهار الشباب رغم فقره، لم يستطع تحمُل وقع هذه الصدمة .. فكانت ردة فعله شجاعة ومطعونة في ذات الوقت، أخذ يجوب الشوارع والأزقة كالمجاذيب .. يحكي بصوت جهوري عما قرأه .. مؤكداً أنه عرف وتيقن من صِدقه.

كل أهله وأقرانه ظنوا أنه فقد عقله، أخذوع عنوةً إلى طبيب نفسي يعمل في الجامعة، في الخدمة العامة، أي أنه لا يأخذ أجراً .. فقط يريد أن يجمع حالات متفردة ذات طابع خاص ليسجل جلسات علاجها ثم يعرضها بعد ذلك في عدة مؤتمرات طبية دولية، وبعد أكثر من عشر جلسات خرج الطبيب بتشخيصه.

الشاب عنده أوهام اضطهادية مع أوهام عظمة .. مع وساوس قهرية، وكل هذا يشير إلى درجة من درجات .. الشكيزوفرينيا.

⸭ ⸭ ⸭

شيزوفرينيا .. شكيزوفرينيا .. إحتار العامة في نطقها، وتظاهر الخاصة والمثقفين .. أو مدعو الثقافة .. بفهمها، أياً كان منطوقها ومعناها .. فهو واثق ومدرك تماماً أنه ليس شيزوفرينيا، قناعته أكيدة ومتجذرة ولا تقبل الجدل حتى وإن أجمع كل مجتمعه على ذلك .. بأقرب الأقربين إليه.

على العكس تماماً .. فهو يرى أن مجتمعه كله يعاني من الشكيزوفرينيا، وإذا كانت الأوهام والهلاوس هي إحدى مظاهره الأساسية، فهو متيقن منذ زمن أنه يعيش في وطن بأكمله يعاني من الشيزوفرينيا.

وطن ضرب الجهل أطنابه بفئوس حادة .. وألقى في عمق تربتها بذوراً أنبتت بسرعة المسخ ذاته جذوراً صلبة غليظة، وانثنت كلها في باطن التربة بأظافر حديدية، لا تنوي أبداً أن تخلع نفسها حتى لا يضيع الجهل.

ولكن ماذا كان عليه أن يفعل أكثر من هذا؟ .. لقد نصح وتكلم وجهر بما يعرف، حتى وإن كانت طريقته شاذة .. فلقد سبقها إليه الأنبياء .. وما كان جزاؤهم إلا أن طردهم أقوامهم بتهمة الجنون، لهذا ما قيل عنه .. ووصمة بالشيزوفرينيا .. هو شيء هيّن ليس بالغريب ولا بالعجيب.

ولتمضي الحياة بينهما كما هي، هم كلهم .. يقولون أنه مصاب بالشيزوفرينيا، وهو وحده على يقين أنهم كلهم مصابون بال .. شكيزوفرينيا، هو ينطقها بشكلها الصحيح، تشخيصه أبلغ وأدق.

الذي كان يؤلمه حقاً .. أنه الوحيد الذي كان يعرف تاريخ بدء المصيبة .. رغم أصابع الاتهام الموجهة إليه على الدوام .. ونظرات السخرية الهازئة به بسبب اعتقادهم بمرضه وكذلك فقره، لم يثنه هذا عن الاستمرار في قص حكايته، بل وزاد من وتيرة قصِّه مع اقتراب ميعاد حدوثها، حتى كادوا أن يحبسوه ويقتلوه .. إلى أن بدأت المصيبة وتفشت وانفجرت .. وساد الهلع .. والذعر الأخرق.

وبدلاً من أن يصدقوه وقتها بعدما تحققت نبوءته، وبدلاً من أن يعزروه ويكرموه ويرفعوه على الأكتاف، وبدلاً من أن يستنطقوه ليعرفوا ما خفي عنهم وامتلكه هو حتى يحذروا مصائب الغد، بدلاً من هذا كله .. لفظوه مرة أخرى، وزاد تحقيرهم له وأهانوه في وجهه وقالوا (لولا شيزوفرينيتك .. ما أصابنا ما أصابنا، أنت نحس وشؤم وبلاء علينا).

كادوا أن يقتلوه .. ولكن وطء مصيبة الوباء عليهم .. ألهتهم عنه، وصار كل منهم يبحث .. كيف ينجو .. كيف يبعد ويتباعد عن أقرب الأقربين إليه، حتى لا يمرض ويموت مخنوقاً.

⸭ ⸭ ⸭

(سنموت كلنا .. سنموت هنا)

هذا العجوز المتباكي يكرر ندبه النائح بروح اليأس، في وسط الزحام رآه .. تعرف على ملامح وجهه .. يعرفه جيداً، كان من الأوائل الذين نادوا بقتله، لأنه كما ظن أو يظن الآن .. أنه بنبؤاته الشؤم النحسات .. صار لفيروس الوباء شأن وقيمة.

وفي الزحام .. يحدق في وجوه الآخرين .. لعله يتعرف على أحد منهم .. ممن اتهموه وطالبوا بالقصاص منه بهتاناً وأقلهم طالبوا بإقصائه من حياتهم، لعله يطالع في وجوههم ندماً على ما اقترفوه بحقه، أو على الأقل اعترافاً بالحق، ولكن الفضيلة ماتت منذ زمن في وطن غارق في الجهل.

ظل يطالع كل الوجوه في وسط الزحام، يتفحص كل منهم .. حتى تقاذفته الأجساد .. دفعته وتدافعت .. حتى وجد نفسه أمام مكتب المصل.

حارس ضخم بشارب كث .. وقبضة فولاذية حديدية تمسك بذرعه، قال له بصوت أجش (إنتظر حتى يأذن لك الطبيب بالدخول).

⸭ ⸭ ⸭

لا .. لا

من المستحيل أن يكون النظام هنا قد وصل لهذه الدرجة الفائقة التي تليق فقط بالدول المتحضرة المتقدمة، الدول التي أغرقت وطنه مع باقي العالم في مستنقع الفيروس اللعين.

أمعقول أن يكون هذا الطبيب بالداخل .. على علم بكل أسماء الموجودين؟ .. هل يُصدق أن معه قائمة وأنه سينادي على اسمه الآن بعدما عَلم بوصوله لباب حجرة المصل؟

لا .. لا .. بالطبع لا، هذا شيء لا يعقله ولن يعقله .. حتى وإن كان بالفعل يحمل الشكيزوفرينيا حية كهيكل عظمي بلحم وعضلات فوق أكتافه.

الحارس الفولاذي الضخم يفتح عدة سنتيمترات من الباب ويمد رأسه داخل بهو الغرفة ليسمع أمراً محدداً .. ثم يخرج رأسه مجدداً ويسأله (ما اسمك)، وعندما أخبره باسمه عاود ليغرس رأسه مجدداً داخل حدود الغرفة هاتفاً باسمه، وهنا سمع الطبيب صريخاً واضحاً (دعه يدخل).

هو ذا إذن، كان عليه أن يخبره باسمه أولاً ليسمح له بالدخول، يدخل .. أول شيء ملحوظ هو أن الغرفة نظيفة رطبة، بها آثار طفيفة من رائحة عرق الجماهير بالخارج .. ولكنها باردة على أيّ حال، طاولة بضلعين متعامدين، الضلع الأطول يجلس عليه إثنان .. رجلٌ وامرأة، بمعاطف بيضاء ناصعة وأغطية طبية على رأسيهما كالتي يستخدمونها في غرفة العمليات الجراحية، يغطيان وجهيهما .. وأياديهما يعلوها قفازات طبية .. بلونٍ أصفر باهت، كل منهما يجلس أمام شاشة حاسوب كبيرة، هو لا يرى منها إلا الظهر، الأهم من ذلك أن هذان الطبيبان هما من بلاد الشمال .. من أوروبا أو من البلاد الأخرى عبر المحيط، وعلى ما يبدو أنهما أتيا خصيصاً للإشراف المباشر على حقن الأمصال، كل ما قرأ عنه وردده وجهر به بكل شجاعة .. تتكشف حقيقته الآن أمام عينيه، مباشرة وبدون أيّ وسيط.

أما الضلع الأقصر فيجلس عليه طبيب من بني وطنه، كذلك بغطاء الرأس الجراحي والقناع والقفازات الطبية، أمامه صينية معدنية صغيرة ووعاء كالتي يستخدمونها في العمليات الجراحية الصغيرة، وعندما دقق النظر .. صح ظنه وتأكد .. الصينية تحمل مجموعة من أدوات الجراحة الدقيقة.

من الواضح أن هذا الطبيب هو الذي سيتعامل معه شخصياً، أشار إليه بالجلوس عند زاوية ضلع الطاولة على مقعد مخصص لكل مريض عليه أن يتلقى هذا المصل على يديه.

سأله مباشرة بوجه ثلجي بارد وبصيغة الأمرالغليظ الذي لا يجرؤ أيّ مأمور أن يردّه .. (إسمك؟)

يرد باسمه الأول فقط، الطبيب يهز رأسه بعدم الرضا .. وبأمر آخر مختزل مختصر.. قال .. (الإسم خماسي)

كأنه في غرفة تحقيق في مسالخ الأمن الوطني، هنا يستكمل التحقيق الذي يسبق مراسم التعذيب والتنكيل وهتك العِرض في وطنه الشيزوفريني المسلوب.

مجرد المقارنة جعلته يهاب الرجل، نظراته تخلع القلب رغم كونه طبيب يرتدي زي الأطباء .. ولكنه لا يمتلك مسوحهم.

أجاب بخمسة أسماء منها اسمه الشخصي .. حتى جد جده، الطبيب يكتب ما سمعه في ورقة صغيرة بحروف لاتينية ويعطيها للطبيبة الشقراء على الضلع الآخر بعد أن اتجه إليها جالساً بمقعده المتحرك.

الطبيبة تمسك الورقة .. تقرأ الاسم بسرعة .. ثم تُريها لزميلها الأشقر، الاثنان يعبثان سوياً في أزرار لوح الحاسوب أمامهم، بينما ثالثهم من بني وطنه ينظر إليه شذراً بازدراء مريب .. ولسان حال نظراته يقول صراحةً (اصبر ولا تتعجل .. فمصيرك هو الهلاك أنت وأمثالك من الرعاع)، لكن نظراته لم تكسر ذاتها .. لم تنحن بذل، بل دخلت في مبارزة صامتة مع نظرات الطبيب.

(كأنك لست منا أيها النخاس، أراك نخاساً ليس إلا .. أتظن أنك ناجٍ بعد أن تحقن كل هؤلاء المنتظرين بالخارج؟ .. أتظن أنك ستفر من مصل هؤلاء؟ جسدك لن يسلم وسيزرعون به شريحتهم .. وستنضم لنا تحت لواء ما تسميهم الرعاع)

لم يرد الطبيب استمرار حوار نظراته الصامت، فلقد فهم جيداً ما يريد الشاب وسمع من قلب صمت نظراته ما قالته عيناه، أضفى الطبيب صمتاً حقيقياً على حوارهما الصامت أصلاً، واستمر في الإمعان بوجهه بكل الازدراء .. المتحفز، الجاهز للوثوب والانقضاض والفتك بفريسته البريئة.

لم يشق هذا الصمت سوى الطبيبة الشقراء وهي تنادي على زميلها بالانجليزية، تحرك إليها مجدداً بمقعده المتحرك، لتضع في بطن كفه علبة فضية صغيرة .. حملها برفق كأنها وليدة اللحظة وعاد بها لمكانه، وجه نظره إليه مرة أخرى وبنغمة الآمر الطاغوتي قال (ضع ذراعك هنا).

وبكل طاعة الطفل لأمه، وبانصياع التلميذ الضئيل لأستاذه العملاق .. يمد ذراعه، تماماً بنفس الطريقة التي كان يفعلها .. وتذكرها الآن، عندما كانت الممرضة تمسك ذراعه لإعطائه حقنة في الوريد .. أو للتبرع بالدم .. على الرغم من قلة مرات حدوثها.

الطبيب يقبض على ذراعه بيده اليسرى، وبطرف سبابة كفه الأيمن يمر على ذراعه .. يتحسسه، ويهبط ويصعد .. ثم يهبط ويهبط حتى يصل إلى ظهر كفه، وعند نقطة محددة بين الإبهام والسبابة، سمعه يتمتم بينه وبين نفسه (هنا).

وفي جزء من اللحظة انهار توافقه العضلي العصبي، أو ربما استيقظ فجأه مع رد فعل فوري متشنج .. قادم بموجات هادرة من أعماق تلافيف عقله وكذلك وجدانه .. سحب الشاب يده بسرعة عنيفة.

الطبيب يعاود القبض على ذراعه بكل عزمه، كأنه أم أمسكت بقدمّي وليدها الذي أصر أن يهرب من حجر أمه بعد أن رضع وشبع .. فقط ليحبو ويلهو، وبعينين قاسيتين صب شعاعهما في وجهه .. قال له:

                                ·هل تعرف عقوبة من يرفض أن يأخذ المصل؟                                ·نعم .. نعم أعرف                                ·العقوبات كثيرة جداً وقاسية، حتى سفرك خارج الوطن سيصبح ممنوعاً ومستحيلاً .. اعطني يدك

وبكل الاستكانة المستعبدة يمد يده، الطبيب يأتي بقطعة قطن مغموسة في الكحول ويمسح بها على المكان الذي اختاره، ثم يأتي بمشرط جراحي عجيب الشكل .. يُخرج ضوءاً مميزاً، تأكد أنه يعمل بأشعة الليزر، وعند المكان الذي حدده يقطع قطعاً بحجم نصف دائرة .. ليفتح في جلده ثقب صغير.

كانت العلبة الفضية الصغيرة مفتوحة أمامه وداخلها ترقد شريحته الالكترونية الصغيرة جداً، وبأصابع يده اليسرى أمسك بطرف نقطة القطع الجراحي لتظل مفتوحة بهذا القطرالصغير بحجم نصف سنتيمتر، وبيده اليمنى مد ملقاط جراحي .. أمسك الشريحة ووضعها داخل جسده بشكل فني احترافي، أغلق القطع الجراحي .. وضع عليه مرهماً برائحة مميزة، بدا له أنه مخصوص لإحداث الالتئام السريع .. وغطاه بلاصق طبي حديث له شكل جناحيّ البعوضة .. ليسارع من وتيرة الالتئام، وقال (تم الأمر.. انتهينا).

الطبيبة الشقراء تأتي بورقة كتبتها على عجل واعتطها للطبيب الذي استمهله حتى لا يقوم، انتابه إحساس أن المخدر تسلل من ذراعه لكل جسده، لم يكن ينوي القيام والانصراف، مازال في حالة دهشة ولسان حال ضميره يؤنبه موبخاً.

(هكذا انضممت لقافلة العبيد بأغلال الكترونية .. أطرافك حرة ولكن هذه الأغلال مزروعة داخلك الآن).

الطبيب يقرأ ما كتبته زميلته في الورقة .. ينظر إليه ويباغته:

                                ·هل أنت مصاب بالشيزوفرينيا؟

يريد أن ينكر .. أن يقول لا، ولكن دون رغبة منه وبتمرد من لسانه أجاب:

                                ·نعم .. نعم .. اسمها شكيزوفرينيا

وكأن نظراته الصامتة التي كانت تتصادم مع نظرات طبيبه منذ قليل، كأنها تحولت ومسخت بعد أن كانت شامخة وبرأس مرفوعة، أما الآن فشعوره أن كل كيانه قد انكسر، انحنى برأس خاضعة منثنية.

وبابتسامة الأذلاء الخانعين قال:

                                ·أيوجد أيّ مشكلة مع مرض الشكيزوفرينيا؟

ما هذا الذي يقوله؟ .. وما هذه الابتسامة؟!!

ما كان يريد إظهاره وقوله الآن هو النقيض تماماً، ما أراد قوله برجع صدى ضميره (أنا لست مريضاً بالشكيزوفرينيا .. أنتم كلكم مرضى بها)

وبدلاً من ابتسامته الخاضعة .. كان يعد قسمات وجهه لعبوس مستطير الشرر.

الطبيب ينظر إليه ويبتسم لأول مرة ابتسامة المنتصر .. المتحكم في مصير عدوه بعد إعلان سحقه ويقول:

                                ·لا شيء على الإطلاق .. اذهب الآن.                                ·أمرك.

ما هذا الذي يقوله؟ .. لم ينوي إظهار إذعانه وإطاعة أمره!! ما الذي يحدث؟!! .. هذه الشريحة اللعينة بدأت في العمل، تطيح برغباته وتزيح سكناته وتسيطر على جوانحه بكل افتراس.

الطبيب يشير إليه أن يخرج كأنه حشرة أو كائن هلامي اقتحم مجلسه وسرق من وقته الثمين أكثر مما يجب.

هو يريد أن يحدق النظر فيه، يريد أن يخبره أنه سيحمل هذه الشريحة يوماً ما لا محالة .. سيزرعونها بداخله، يريد أن يسبه .. أن يلعنه، يريد أن يصرخ في وجهه (أنتم كلكم لستم إلا حثالة من الشيزوفرينيين .. أنتم مرضى ولا تريدون أن تواجهوا تلك الحقيقة .. وستدفعون الثمن غالياً).

يريد ويريد ولا يستطيع، فقط يطيع ويفعل عكس ما يريد .. هوة كبيرة بين إرادته وبين مقدرته.

هذا هو بيت القصيد إذن، هذه هي بؤرة المقصد .. أن يتحكموا في الحالة النفسية والعصبية لكل حامل لتلك الشريحة، قرأ عن هذا كله وصرخ به في الطرق والأزقة، لكنه لم يتصور أبداً بعد بدء التجربة العملية أن يكون تأثيرها بهذا العنفوان، لكن سؤال اللحظة الذي ينازع موجاتهم الالكترونية المتدفقة .. الساقطة على كيانه، إلى أيّ شيء سيدفعونه؟ .. إلى أيّ مدى سيصل تحكمهم بجهازه العصبي؟

ماذا ينتوون فعله معه؟ .. ومع غيره؟

أراد الخروج، رغبة تتوافق مع موجاتهم الموجهة، لذا فتح الباب وخرج برغبة توازي وتتوافق مع مقدرته.

خرج بسلاسة وفي نيته العميقة رغبة أخرى .. تتألم وسط معاناة مقاومة سيطرة شريحتهم .. رغبة تردد بإصرار حتى تتلاشى تحت جذور موجاتهم

    (أريد أن أرى آخرين يحملون الشريحة .. أريد أن أتحدث إليهم .. أين هم؟ .. من هم؟)

⸭ ⸭ ⸭

خرج .. ليرى العالم من حوله ممسوخاً .. كئيباً بكل القتامة، كان كئيباً قبل أن يدخل لحقنه بالمصل .. ولكن ليس إلى هذه الدرجة، أيمكن لهذه الشريحة أن تُغير مقدرته البصرية كذلك؟!! .. وإن نفذت إلى بصره .. فهل تستطيع أن تلوث بصيرته؟

الجو يبدو أكثر سواداً .. كأنه غمام السماء المتجمع قبل أمطار طوفان نوح، يقينه الداخلي العميق جداً .. يوخزه ويتسرب إلى ضميره وسط إنهمار موجات شرائحهم، إيمان هارب متسلل يطمئنه بأن ما يراه الآن .. ليست هي الحقيقة.

كيف تحولت عيناه إلى ماسح الكتروني .. ليرى كل إنسان أمامه مكشوفاً بغير ستر؟ .. كيف يرى أمخاخهم وقلوبهم وكل حوايا أجسادهم؟، هذا يحمل الشريحة في كف يده .. وهذا يحملها عضده .. وهذا في عضلة ذراعه .. وهذا في فخذه، الشرائح كلها فضية اللون .. تلمع وتبرق في نظره كعملات النقود في العصور البائدة.

أكثر من ثلثي هؤلاء يحملون نقاطاً حمراء كثيرة تسري في رئاتهم، إنه فيروس الوباء الذي اخترعوه ليتخذوه ذريعة لزرع شرائحهم، وهكذا دبروا المؤامرة وأحكموا تنفيذها.

المؤامرة .. كيف سقطت هذه الكلمة في قعر ضميره؟ والآن تحديداً !! من المؤكد أنها لم تأت من دفقات موجات شريحتهم .. إنه هو .. الذي يفكر ويحلل ويصارع بضميره تكنولوجيتهم.

كمن يحاول أن يصد موجة عاتية آتية من زمان طوفان نوح بعلو الجبال وهو يحاول صدها .. فقط بدرعه.

يتهادى إلى وحي ضميره صوت قادم من بعيد .. إنه صوت شريحتهم ولا شك .. الصوت يزداد ويقوى، كأنه يهبط مختالاً من قمة جبل إلى سفحه .. حتى إذا ما وصل .. إختل السفح وسحق كل الهامات.

الصوت يتكلم بكل النقاء وكل الوضوح (نعم .. نحن مَن خلّقنا الفيروس، نحن مَن نشرنا الوباء .. ونحن ألزمنا البشرية بزرع الشريحة، سكان الأرض تكاثروا .. هناك ازدحام وتصارع وتقاتل ومصادر الطاقة  لا تكفي .. الغذاء لا يكفي .. المياه لا تكفي، لابد أن نبيد نصفكم أو ثلثكم .. لابد .. لابد)

ينقطع الصوت ملحوقاً بصرخاته .. عالية مدوية (كفى .. كفى)، كل من حوله في الطريق ينظرون إليه، بعض من يعرفونه منهم يمصمصون شفاههم ويقول أحدهم (أعذروه .. فهو مريض بالشيزوفرينيا .. أعذروه إنها الشيزوفرينيا).

لقد اتضحت المؤامرة جلية ساطعة، وبما أنهم صارحوه بالحقيقة .. فهي النهاية إذن، لقد اختاروا له أن ينتهي في خضم دراما نهايات مؤامراتهم.

ولكن لا .. لن يستسلم، مازال عنده الفرصة والوقت ويملك الحيلة والعقل، نزع اللاصق الطبي وأخذ يخدش جرح قطع الشريحة، اللعنة .. لقد التأم الجرح في عدة دقائق، هؤلاء الأشرار .. إنهم يمتلكون عصارة الحداثة ويمسكون بناصية علوم الأرض.

لن يستطيع إخراج الشريحة، استقرت ودفنت داخله وللأبد، مازال هناك أمل ووقت.

أخذ يطالع كل مَن حوله في الطريق، يريد كل مَن يحمل الشريحة .. ويراها هو بماسحه البصري، فضية تبرق داخل الأجساد.

أمسك بكتف أحدهم وصرخ مجدداً بصوت عالٍ

(انتبه يا رجل .. لقد زرعوا شريحتهم داخلك .. مثلي، إنهم يريدون قتلك وقتلي، هلا ساعدتني لننجو.. وننقذ باقي البشرية؟)

الرجل ينفض ذراعه عن كتفه بوقاحة ونفور ويرد عليه بصوتٍ مسموع (أنت مريض شيزوفرينيا .. أنت تستحق الموت)

يتركه ويمسك بكتف آخر .. فيزيح يده عنه ويعيد كلام الأول

(أنت شيزوفريني .. الموت أكرم لك)

ثالث ورابع، خامس وسادس، كلهم يكررون نفس الكلمات .. الشيزوفرينيا ثم الموت.

المؤامرة بكل خيوطها تتشابك وينعقد غزلها بعقدات منيعة .. عاصية على الانفكاك.

يصرخ كأنه نداؤه الأخير لهم، كأنه أحد الأنبياء وقد بُح صوته في آخر رمق لينبه قومه قبل أن يستحقوا هلاك الله

(أيها الحمقى .. لا تظنون أني سأموت وحدي، كلكم ستموتون .. سيقتل بعضكم بعضاً وستقتلون أنفسكم، لن أوصم وحدي بالشيزوفرينيا .. ستلاحقكم لعنتها .. كلكم ستنعتون بها)

لا فائدة .. كلهم لووا رؤوسهم، انفضوا عنه ورجع صدى كلماته الأخيرة يتردد في أذنيه (ستقتلون أنفسكم .. ستقتلون أنفسكم)

⸭ ⸭ ⸭

سكين حاد .. وجده على طاولة تعترض طريقه، تعثر به ووجده هو قاصداً .. بلا أي صدفة محظوظة، هؤلاء زارعو الشرائح لا يلعبون .. يخططون لكارثة المؤامرة ويحبكون أدق تفاصيلها.

يريد أن يركل تلك الطاولة ويطيح بالسكين بعيداً عن أيّ نظر، ولكن يده تأبى وتتمرد وتمسك بالسكين.

استعاد ما قاله ضميره العاجز منذ قليل (ستقتلون أنفسكم)، تخطيطهم أن يقتلوا ثلثي سكان الأرض .. والكيفية؟؟؟ .. أيكون كما شطح به خيال ضميره؟

يريد أن يلقي السكين من يده .. ولكنها تأبى .. تمسك وتتمسك بمقبضه المترجرج بين ارتعاشات يده

ذراعه ترتفع بالسكين إلى منتصف صدره .. وهو يصرخ فيه (اهبط .. إنزل .. لا تفعل)، موجات الشريحة تقرع في رأسه بكلمات كأنها رؤوس سهام انطلقت إليه بلا رجعة .. وهو أعزل بلا درع (ستموت .. يجب أن تموت .. أنت مصاب بالوباء)

عيناه برأسه يسقطان على صدره .. ليرى كرات الفيروس الحمراء تلهو وتتقافز في رئتيه.

يعاود رفع رأسه مع استرجاع صوت الشريحة .. ( هل رأيت؟ .. هل صدقت؟ .. ثانياً أنت شيزوفريني .. مصاب بالشكيزوفرينيا كما تقول .. يجب أن تموت)

ليس له إلا أن يصرخ .. كل ما يستطيع فعله .. هو أن يصرخ (لا .. أنا لا أستحق الموت .. وإن كنت شكيزوفرينياً، أنتم مَن تستحقونه أيها المجرمون، أنتم من تزرعون وهم الشيزوفرينيا مع شرائحكم)

الهوة بين الإرادة والقدرة تتسع تتمدد.

ذراعه يتحرك بنصل السكين نحو قلبه .. بارتعاشات زلزلية مقاومة لحركة ذراعه، يصرخ (لن أكون قاتلي .. لن تفلحون .. لن أقتل نفسي .. لن أفعلها)

يأتيه الرد من باطن صوت الشريحة (فات الوقت)

ذراعه تنهال بطعنات متعددة على مركز قلبه تماماً .. ليسقط وينهار .. ولتخفت أنفاسه مع دفقات دمه الفائرة

آخر ما جادت الشريحة على سمعه

(لتمُت أنت وغيرك .. وليمُت الوباء بفيروسه .. ولتبقى الشريحة .. ولتحيا .. الشيزوفرينيا).

وسوم: العدد 881