حكايات مجنون

"أي تشابه أو تطابق بين أسماء شخصيات القصة، وأسماء الأشخاص في الواقع هو من قبيل الصدفة لا من قبيل الواقع"

الحكاية الثالثة

كانت السماء ملبدة بالغيوم السوداء ، والجو شديد البرودة، ظل الفلاقي كعادته عند كل مساء وهو جالس فوق تلة معشوشبة يراقب تكاثف السحب و أسراب الطيور والحمام العائدة إلى أعشاشها في انتظار مجيء رفيقه "أبو الفانوس"" الصياد الوحيد الذي يصطاد السمك بالنهر ويحمله الى سوق المدينة من أجل بيعه وإطعام صغاره ... تعرف عليه الفلاقي عندما نزل الى النهر هاربا من الشرطة، و"أبو الفانوس" هذا رجل في الأربعينيات من عمره متوسط القامة نحيف الوجه غائر العينين أسمر البشرة، بدأ الشيب يغزو شعررأسه، وكانت له مكانة خاصة عند الفلاقي، يحدثه، وينصت إليه باهتمام، ويساعده على جمع السمك ووضعه في السلة، أومراقبة شبكة الصيد وهي في مياه النهر، لأن "أبا الفانوس" كان الوحيد الذي يحمل للفلاقي الطعام، ويقتسم معه سجائره وقهوته، وأحيانا كثيرة يجود عليه ببعض الأسماك لكي يجعل منها وجبة غذائه أو عشائه..عندما طال انتظار الفلاقي ويئس من ظهور" أبو الفانوس" وفتك به الجوع .انسل كعادته إلى ضيعة ولد الحوات ونسي أن خبره قد شاع بين الكل، وتجاوز البلدة إلى البلدات المجاورة، وأن الأعين مفتوحة عليه في كل مكان بما فيها عيون الشرطة التي لا تنام..وولد الحوات أوالعرايشي جاءت به إلى ضفاف وحقول نهر اللوكس زهور بنت العتال التي ورثت عن والدها ضيعة أشبه بجنة فيحاء على الأرض، وهي مازالت في رعيان شبابها تفيض حيوية وجمالا تعرفت على ولد الحوات كما تشاء الصدف ذات مساء ممطرحزين ، وهي تركب الحافلة عائدة من المستشفى الإقليمي، بعد زيارة لوالدها المشرف على الموت نتيجة مرض لم ينفع معه علاج، تبادل أطراف الحديث أثناء الرحلة فأعجبت بأدبه، ومغامراته في البحر، واشتعل الحب في قلبيهما ونمى وترعرع مثل الأغصان المورقة المثمرة، فتعددت اللقاءات على شرفة أطلنتيك. ومن هناك عرفته على والدها الراقد بالمستشفى، كما لو أنها تريد له أن يموت، وهو مطمئن عليها. وفي المقابل عرفها حسن على أسرته بديورالحواتة، وهوحي يسكنه البحارة يقع بالقرب من ليكسوس التي شيدت على جهة اليمين من مصب نهراللوكوس من المدخل الشمالي لمدينة العرائش، بالقرب من هضبة " التشوميس" المطلة على البحر، ومصب النهر حيث موقع أنتيوس، ومعركته ضد هرقل، وحدائق الهسبريسات بتفاحها الذهبي..

كان والد حسن بحارا، ورئيس مركب للصيد، ومسؤولا عنه نيابة عن مالكه، يتمتع رغم كبر سنه ببنية قوية وقامة شامخة كأشجار النخيل، جميل الوجه والعينين تزين محياه ابتسامة لاتفارقه أبدا ، تنتابه حالة شرود كما الشعراء كلما اجتمع مع أسرته أو جالسه أحد على المائدة.. وقد ورث عنه حسن كل شيء بما فيه حب البحر، وركوب أمواجه. ومنه تعلم الشيء الكثير عن البحر، والصيد ، والمرأة التي كان يشبه جمالها، وعمقها، وتقلب أحوالها ومشاعرها بسحر البحر وتقلب أمواجه ...غير أن الشرط الذي وضعه العتال والد زهور من أجل القبول به كزوج لابنته قلب حياته رأسا على عقب. فقد طلب منه أن يترك الصيد ويهجرالبحر ويعيش مع زهور بالضيعة المطلة على النهر.

وهكذا تحول حسن من العيش في البحر إلى العيش على ضفاف نهراللوكوس معتبرا ذلك تضحية منه في سبيل الحب، ومنذ وطئت قدمه ضيعة زهور بنت العتال أصبح حسن معروفا لدى العسس، و أصحاب البساتين والضيعات خاصة خوسيه بولد الحوات العرايشي ... وخوسيه هذا راود أكثر من مرة زهور على نفسها..وكانت زهورامرأة قوية وجذابة إضافة إلى غناها ...تشتغل في الضيعة بلا رحمة ولا هوادة إلى أن حولتها إلى جنة فيحاء على الأرض.. لا تراها تضحك إلا ساعة جني الغلة. وكان الكل يضرب لها ألف حساب أكثر من زوجها .خاصة العسس ، وخوسيه الذي إذا جمعته معها الصدفة يحييها بأدب، و يطرق برأسه إلى الأرض ويشبك يديه خلف ظهره احتراما لها، وحبا لسواد عينيها كما يقول العسس، وهم يتغامزون عليه...... وعندما فشلت خططه، عرض عليها الزواج، قبل أن تتزوج بولد الحوات، وقد كانت ترد على رسله من العسس دائما بجملة واحدة قائلة :" ياك ما انقرضوا المغاربة وبقا غراسبانيولي بورقعة هذا تزوج به زهور" .

مرالفلاقي بحرص شديد بجانب صناديق النحل، وحظيرة الأبقار، واسطبل الخيول، والبئرالمغطاة بدالية العنب، وأشجار الرمان المتدلية فروعها وأغصانها على الأرض القريبة من سور القصب، والباب الخلفي للضيعة المفضي إلى أحياء المدينة، ومقبرتي النصارى واليهود ببلعباس.. وقبل أن يصل إلى أشجار البرتقال والتفاح بخطوات قليلة باغتته ضربة قوية من الخلف من عصى غليظة لإحدى العسس نزلت على كتفه كالصاعقة فسوته بالأرض .. حضرحسن ولد الحوات مع عسسه وأشبعوا الفلاقي ركلا ورفسا وسبا، وألصقوا به كل ما التهمته مؤخرا الثعابين، وسرقه العسس من الضيعة من حجل وحمام وبيض وفراخ ورمان .... وانضمت إليهم زهوركعاصفة هوجاء.. قالت بصوت مسموع وهي تقف على رأس الفلاقي: "كنا نظن أنك تبت وجننت بعد واقعة خوسيه لكنك ربما مازلت بعقلك وتحتاج مرة أخرى لمن يربيك..وسوف أحسن تربيتك وستكون آخر درس لك. لأنها سوف تكون آخرمرة تطأ فيها قدماك ضيعة بنت العتال" .

كان الفلاقي ينظر إليها، وفي عينيه حزن وغضب طفل لا يعرف لماذا يتناوب عليه الإنسان والزمان بهذه القسوة. ولماذا يصران على تعذيبه وإذلاله كل مرة، فامتزجت آلام جسده مع آلام روحه فزادته سخطا وجنونا على الكل.... وعقابا له على تجرئه وجسارته عروه من ثيابه، وكبلوا يديه، ورجليه بأسلاك صدئة، ثم لفوا عليه حبالا قوية وأنزلوه ككيس من الأكياس الثقيلة إلى قاع بئرعميقة ، شديدة الظلمة والبرودة. حيث تقبع الثعابين، وتعيش الضفادع، والحشرات. ظل الفلاقي مكبلا عاريا تصطك أسنانه من البرد والخوف من ظلمة البئر. يزيده رعبا وخوفا احتكاك جلد الثعابين والضفادع بجسمه ... تجمدت أطراف يديه، ورجليه وبدأ يغيب عن الوعي شيئا فشيئا، فتراءت له الخيول تركض في النهرجامحة، تظللها أسراب طيور بألوان، وأحجام مختلفة، وخلفها عيشة تعدو، وتمرح كطفلة، وهو ينادي عليها بصوت خفيض متقطع منكسر " عيشة.. ع.. ي.. شة.. عي...شة." فسمعت صوته فمدت له يدها، وهي تقول له ضاحكة والريح تعبث بخصلات شعرها من فرط الهوى: " أنا منك وأنت مني فلا تخف من النار، ولا من الماء، ولا من جنوني. فأنا الناروالجنون ، ومنك الماء يفيض علي كالنهر، وينتشر.فأرتوي منه وأغتسل" فهم بها وهمت به، ومن عشقها له ضمته إلى صدرها فانتشر الدفء في أوصاله واشتعل البئرنارا متوهجة فغاب الفلاقي عن الوعي كما يغيب الماء في رمال صحراء مقفرة ..ظل في مياه البئر المثلجة لليلة كاملة ..عند مساء الغد، وتحت أمطار غزيرة باردة أخرجوه ، وألقوا به على العشب المبتل بجانب النهر، محطما ومكوما على نفسه بلا حس، ولا وعي، ولا حركة.. قابضا بأسنانه على لسانه كخروف مذبوح ... وعادوا من حيث أتوا من غير إحساس أو شعور بالذنب ..صدم" أبو الفانوس" من ما رأت عيناه.. وانتابه سخط جارف كالشلال، وهو يقول مستنكرا :" لو كانوا يهودا ما فعلوا به هذا المنكر" ودعا على العسس بالجحيم والخسران.. لم يعرف "أبو الفانوس" ما الذي حدث للفلاقي. نزع بسرعة عن ظهره معطفه البني الثقيل، وغطى به الفلاقي ثم شرع في البحث عن بعض الأغصان، والقصب وجذوع الأشجار، والأشواك اليابسة التي لم يقربها المطر.. جمع كومة من الحطب وأضرم فيها النار بعود ثقابه تحت شجرة الكاليتوس الباسقة ، وقرب الفلاقي منها... ظل الفلاقي على تلك الحالة أكثر من شهر يمشي على يديه ورجليه كحيوان خرافي، ويرتجف من البرد، وانتشرت في جسمه الحمى كالنارفي الهشيم، واشتد عليه عند نزول الليل السعال الشديد، واحمروتقرح جلده، وانتفخ وجهه كأن نحلا لسعه، وظهرت عليه دمامل صغيرة يسيل منها القيح.. رق "أبو الفانوس" لحال الفلاقي فصار يطعمه، ويعالجه بالأعشاب، والمراهيم الطبية، وبعض أقراص الحبوب المضادة للتعفن إلى أن تحسنت صحته....

غضبت عيشة غضبا شديدا من ما فعله ولد الحوات بالفلاقي فألقت بزهور ذات صباح باكر في قرارة البئر، ولم يعرف أحد ما الذي حصل وكيف. وهناك من العسس من أشاع عنها بأنها انتحرت.. ولأن ولد الحوات لم يقدرعلى فراقها جن، وتشرد في شوارع العرائش، وشرد معه أبناءه بعد أن باع الضيعة برخص التراب لخوسيه، وندم ندما شديدا بعد أن بذرثمنها في شرب الخمر، ولعب القمار، والسهر في محاولة منه لنسيان كل شيء... وتداولت ألسن العسس حكايته، ووصلت إلى أهالي المدينة، ومرشدي الشرطة. فمنهم من قال: " انتقمت منه عيشة على ما فعله بزوجها الفلاقي فقتلت زوجته زهور، وجننته وشردت أولاده في الشوارع والأزقة" ومنذ ذلك الوقت لم يعد أحد يقترب من الفلاقي أو يمنعه من دخول البساتين أو يمد يده عليه مخافة أن يلقى نفس المصير الذي لقيه ولد الحوات وزوجته وأبناؤه. وتلك حكاية أخرى .

(يتبع)

وسوم: العدد 884