من ثقب الإبرة

qes8921.jpg

الجانب الآخر... عالم آخر

دار منه نَفِر... وبالفرار نجاهر

لكنه مكتوب في القدر منذ الأوائل

اننا سنعبر... كلنا اليه يسافر

حيث السكون والصمت

لكل من هو بحياة ما بعد الموت كافر

من ثقب إبرة نَمُّر

الي جنة بثمرها الوافر

أو... الي نار

لهيبها يبيد كل ذرة استنكفت أن تُسَبّحَ

لله ... ملك الملوك ... الغافر

ضوضاء ... ضوضاء كثيرة

وجلبة بغيضة يُحدثاها دائماً هذان الاثنان في كل مكان يذهبان اليه، كأنهما جروان صغيران لا يكفان عن النباح بعذر الطفولة.

حتى وانا معهما، حتى ونحن داخل السفارة الصينية.

مللت حقاً مصاحبتهما، ولا أتخيل أنني سأسافر معهما الي أقصي الشرق.

أوقعت نفسي معهما، أوقعت نفسي في فخ مصاحبتهما.

قيل في الأثر... الرفيق قبل الطريق، ولم انتبه لهذه المقولة الا الأن ... ولكن ما الحيلة؟

هذه أول مرة اذهب الي الصين، وهما لهما تجارب عديده وسفريات طويله الي أكثر من مدينه في الصين، وعندما سألتهما عن تفاصيل السفر الي هناك قالا في نفس واحد في لحظة نادرة من لحظات سكون ضوضائهما وهدوء جلبتهما (لتذهب غداً معنا الي السفارة، ولتسافر معنا ... فنحن في طريقنا الي الصين مرة أخرى، هي فرصة لنتسلى ثلاثتنا هناك ... لا تحمل هماً فنحن نعرف كل شيء هناك، كل ما تريد شراءه وبأسعار لا تتخيل رخصها، سنساعدك على إنجازه).

دولة الصين تفرض وجوب تأشيرة الدخول اليها، حتى على أقوي الجنسيات وجوازات السفر العالمية.

ظننت أنني بجواز سفري الأجنبي أستطيع دخولها بدون أي مشكله، ولكني قرأت الشروط على شبكة الانترنت وعرفت انه لابد من تأشيرة للدخول.

طمأنني كل منهما وقالا لي (لا تقلق، التأشيرة في منتهي السهولة، نحن حصلنا عليها مرات من قبل ونحن لا نحمل جواز سفر أجنبي مثلك .... وهنا ونحن في بلد غريبة أسهل ملايين المرات من أن تطلبها من السفارة الصينية في بلادنا .. لا تقلق ... سنحصل عليها في نفس اليوم).

*   *   *

هكذا عرفتهما ...

في بلد غريبة، في أقصى الساحل الجنوبي الغربي الأفريقي، ينتميان لموطني الأصلي، يحملان جذوري، يتحدثان أول لغة تعلمتها ومعقودة في جذور لساني وعلى وجهيهما لون بشرتي القمحية والتي تمثل أغلب أهل بلدنا بكل سكانها الذين قاربوا المائة مليون.

في الغربة وبعد سنين طويلة من الخبرات الحياتية، تعلمت أن اتحاشى هؤلاء الملايين العدة ... لأسباب كثيرة.

العُقَد والأمراض النفسية التي توشم أغلب أهل وطني بسمت عجيب تجعلهم يوقعون ببعضهم، يوشون بهم، يحقدون ويتآمرون عليهم، الا من رحم ربي.

ولذلك قررت الا اتعامل الا مع هذه الفئة (من رحم ربي)، عندما أعثر عليها أو أتعثر فيها مصادفة وبعد أن أتأكد تماماً أنها من الفئة الحميدة وليست الخبيثة الضارة.

الأحداث السياسية والتاريخية التي حدثت في قلب وطني الأم في آخر أربعة سنوات أفرزت كل أصناف الشعب، بعقلياته ونفسياته وبنتاج تصرفاته وأفعاله.

وللأسف الشديد، رأيت وأيقنت من تلوث وفساد وعفونة الأكثرية، وحمدت الله أنني ظللت بعيداً عن الوطن الأم كل هذه السنين، أحمل أكثر من جنسية أجنبية، لكني لا أصاب بوباء وعدوي الإصابة بكل هذه الأمراض النفسية والأخلاقية الخبيثة التي أصابت عصب الضمائر والسلوك.

لذلك قررت منذ فترة طويلة ألّا أتعامل مع أي شخص من وطني الأم الا للضرورة وبعد التأكد من نقائه من تلك الجراثيم النفسية التي طالت أغلب شعب الوطن.

*   *   *

ضوضاؤهما المخلوطة بالجلبة، ما لبثت أن تصاعدت حتى صارت جدلاً محموماً، وعلت اصواتهما ولفتا انتباه كل من في قاعة الانتظار.

خجلت من سلوكهما الأرعن ونظرات أكثر من ثلاثين شخصاً مصوبة الينا كفوهات بنادق تهدد بإطلاق نارها. أشرت اليهما بالسكون فهدئا للحظات ثم عاودا نقاشهما الذي التهب مرة أخرى وبدأ في التصاعد الساخن.

حاولت أن أثبّت تركيزي وسمعي داخل مضمون حديثهما لعلي أفهم سر الاختلاف، انهما يتناقشان حول نتيجة مباراة كرة القدم التي جرت بالأمس وكل منهما يشجع فريقاً ضد الآخر وبذلك حمي الوطيس.

يا إلهي ... ما هذه السطحية الفجة التي يتمتع بها هؤلاء.

تركتهما بذهني الذي شرد وأخذني غصباً لأذكر وأتذكر هذه السطحية والجهل الضارب اطنابه، ليس في شخص وعقل هذين الأثنين فقط، بل في شعب بأكمله ... أو شعوب كثيرة تمتد من المحيط الي الخليج.

لو لم أكن من المغادرين لموطني في مرحلة تكاد تكون مبكرة، كيف كان حالي ومصيري الأن وأنا غارق في هذا المستنقع؟

الموت هو الرحمة لي، بدلاً من أن أعيش هكذا بدون أي أمل في تغيير مصيري وأنا اعرف بثقة مطلقة أنني أهوي كل يوم لعمق سحيق ليس له أي قرار.

حمداً لله على كل حال.

استرسل في شرودي، يتوه نظري في تفاصيل بلاط الأرض في هذه القاعة الباردة المزدحمة.

نحن داخل سفارة دولة كبيرة اسمها الصين، دولة قفزت في سنوات معدودة لتصبح من أقوي دول العالم اقتصادياً، وشعبها استحق عن جدارة أن يكون نموذجاً للشعب المستحق للحياة... آه ... الحياة ....

فكرة استحقاق الحياة والموت اشتعلت في رأسي مرة أخرى.

هناك شعوب تستحق الحياة فعلاً بكامل استحقاقها، تتقدم وتنجح وتتحضر، شعب الصين من أكبر النماذج المعاصرة التي رأينا تطوره رأي العين، هناك شعوب أخرى منذ أن ولدنا وهي في مخيلاتنا وواقعنا في تحضر ورقي ولم تسنح لنا فرصة رؤية صعودها.

أما الصين، فهي حالة خاصة ... رغم عددهم الضخم ونظامهم السياسي الذي ما زال به مسحة من الشيوعية الميتة إكلينيكياً، فلقد تقدموا وتطوروا ... واستحقوا الحياة.

شعوب تستحق أن تحيا .. وشعوب ليس لها الا الموت، دول كثيرة كالأفراد لابد أن تحيا ودول أخرى كالنبت الضار لابد أن يُقتلع ويموت، دول ميتة بشعوبها .. ولم تكتف بكونها كذلك بل إنها تضر شعوباً أخرى أو من تبقى منهم وبه رغبة في الحياة، لتميته.

الخلاصة ... الحياة يستحقها من ينتج ويفيد ... من يكون سبباً في حياة الآخرين وإن كان شخصاً واحداً، أما الموت ...........

*   *   *

وكزني أحدهما بمرفق ذراعه، فأفقت من شرودي، ونبهني أنهم ينادون على اسمي لأذهب الي الكابينة الصغيرة المقابلة لنا لمحادثة القنصل، ليقر أمر تأشيرتي.

نظرت الي وجهه قبل أن أقوم من مقامي، استفيق من شرودي السابق بنظرات لاحقة حتى وإن كانت لوجه أحد الذين يستحقون الموت، كما كنت أفكر منذ قليل.

قلت لنفسي عندما بانت تقاسيم وجهه في لوحة بصري، وسط غمام الاستفاقة (لست وحدك من يستحق الموت يا بن وطني ... ليس ذنبك وحدك على أي حال).

رد علىّ بصوت هامس بعد أن أدرك استحالة نتيجة الجدل الأخرق مع رفيقه (لا تقلق ... سيعطيك التأشيرة ... فقط عليك أن تظل ثابتاً وأن تجيب اسئلته بثقه).

ابتسمت وقمت من فوري، وجدت مقعداً مقابلاً للقنصل الصيني، بيننا حاجز زجاجي نقي ... أمامه ميكروفون .. وسماعاته أمامي مباشرة ترتكن على وجه الحاجز الزجاجي المقابل لي، توصل صوته لي بنقاء واضح، وورائي بثلاثة أمتار ... رفيقاي يجلسان بعد أن صمتا تماماً في انتظار نتيجة مقابلتي.

ابتسم القنصل في وجهي ابتسامة مصطنعة، مكررة مع بعض من يمرون هنا ويجلسون على نفس مقعدي هذا، ابتسامة منتقاة لقلة من الزبائن، قال لي وهو يتصفح جواز سفري الأجنبي:

- انت سافرت كثيراً، ولكن هذه هي أول مرة تود الذهاب الي الصين

- نعم هذه هي المرة الأولى

- انت لا تريد الذهاب بغرض التجارة، بما أنني لا أري في أوراقك ما يشير الي اشتغالك بها أو     ملكيتك لأي شركه

- تجاره؟!! ... لا..لا.. مطلقاً انا لا أجيد التجارة

- كما هو مكتوب في أوراقك ... انت طبيب

- نعم، بالفعل انا طبيب وأريد أن أشتري أجهزة طبية حديثة سواء المحمولة باليد أو أخرى ثقيلة

- وهل اتفقت مع شركات الشحن؟

- بحسب رسائل مخاطبتي مع عدة شركات من التي تبيع هذه الأجهزة، اخبروني أن لديهم شركات شحن خاصة بهم .. أو أنهم متعاقدون معها لشحن أي بضاعة لأي مكان في العالم

- ولماذا اخترت الصين بالذات لشراء ما تحتاجه

- لرخص الأسعار مع الجودة

- حسناً يا سيد ....

وأخذ يراجع الأوراق امامه ويتطلع لصفحة جواز سفري التي تحمل صورتي، ثم ذكر اسمي ...وعاود

- الي أي مدينة انت ذاهب تحديداً في الصين، أو ما هي محطتك الأولي في الصين، اذا كان في نيتك أن تقضي بضعة أيام أخري للسياحة

حاولت أن أتذكر اسم المدينة الذي ضل عن ذاكرتي، فهذه هي المرة الأولى التي اتعامل بها مع أسماء صينية، ألقيت نظرة الي الخلف قليلاً حيث كانا يجلسان ... ناحية اليمين ليستطيعوا رؤية وجهي، وعلى ما يبدو كانا يستطيعان سماع الحديث بوضوح.

قالا همساً لعلي أسمع أو أفهم لغة الألسن هذه مع حركات الفم ... وتذكرت الاسم بعد مراجعة حركات الشفاه مع همسهما، عاودت الالتفات الي القنصل ونطقت الاسم

- شنغهاي ... شان غا هاي

ابتسم القنصل وهو يلملم اوراقي من على منضدته الصغيرة، وقال

- رحلة سعيدة يا دكتور، حاول أن تستمتع بوقتك في شنغهاي فهي مدينة جميلة

- اذن، فلقد حصلت على التأشيرة

- غداً في الفترة المسائية، تأتي لاستلام التأشيرة

- شكراً

*   *   *

ساعات السفر الطويلة بالطائرة تغري أي مسافر بالنوم ثم النوم حتى تنقضي، ولكنني لم أستطع النوم بسبب جدلهما المعتاد والضوضاء التي لا تنتهي عندما يجتمعان.

والله إني لأتعجب لهذين الاثنين اللذين يمثلان شعباً كاملاً وأمة بحالها تسعي لأن تحتضر ... أمة تستحق الموت.

بدلاً من أن يناما ويريحا جسديهما وعقليهما، أو على الأقل يتناقشا بهدوء راق متحضر، ظلا أكثر من خمسة عشرة ساعة في ضوضاء وجلبة وجدل أحمق ... حتى وهما يتناولان وجبة الطعام.

لم أستطع النوم، اقتربنا من سماء شنغهاي وبدأت أري المدينة من أعلى، لم أجد وقتاً للقراءة عنها قبل السفر كما اعتدت، كل شيء تم على عجل.

   لم اعتد على السفر هكذا، جاهلاً جهولاً الي مكان مجهول بالنسبة لي، كل ما أعرفه عنها أنها أكبر مرافئ الصين وتتركز فيها جُلَّ الصناعة وأذرع التجارة ولذلك فإن عدد سكانها يفوق الثلاثين مليون نسمة.

سافرت من قبل لليابان، وكانت لي تجربة مثيرة هناك ... ولكني أُخبرت أن الصين تختلف، وأن الشعب الصيني له صفات وعادات أخرى مختلفة تماماً. تعجبت لعلمي بتوحد جذور الشعبين.

عندما بدأت الطائرة في الهبوط التدريجي، بدأت معالم المدينة تتضح وتنجلي هياكل مفاصلها، راودني إحساس غريب دفين لم أستطع معرفة كنهه أو تعريفه.

فكرت وتساءلت، هل يحين أجلي وانا هنا في الصين على أرض شنغهاي؟

سافرت كثيراً جداً، في شبابي .. وفي ذروة استمتاعي بالحياة وولعي بمشاهدات السفريات واستمتاعي بملذاتها، لم أكن أعبأ كثيراً بفكرة أن أقضي في أي مكان اسافر اليه.

لكن، بعد أن مضت بي السنون فراسخ ومسافات، بدأت أفكر قبل أي رحلة في احتمالية موتي على أرض غريبة. عندها كان الوازع الديني والإيماني يستنفر ذاته ليذكرني بالآية الكريمة (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت).

ساعتها كنت أهدأ بعض الشيء، ولكن ابليس لم يكن يهدأ ابداً، كان يعاود وساوسه في أذني بنشاط غير مسبوق، لأفكر في حالي إذا مت هنا أو هناك.

وبينما الطائرة تستعد لملامسة أرض مطار شنغهاي، كانت وساوس ابليس قد بلغت منتهاها من الحدة الملتهبة، وضوضاء رفيقي رحلتي قد ازدادت الي أعلي مستوي سمعي مع احتكاك إطارات الطائرة بممر الهبوط.

وهبطنا أخيراً .. لنلامس أرض شنغهاي.

*   *   *

وصلنا أرض شنغهاي في السادسة صباحاً، في بواكير النهار وبداياته، ذهبنا من فورنا للفندق، كنت في أقصي درجات الإرهاق ولم أكن اريد شيئاً سوى حمام دافئ ومن بعده احتضن فراشاً وثيراً وأنام حتى يمل مني النوم.

وصلنا الفندق، وبالطبع حجز رفيقاي غرفة لهما ليواصلا جدلهما ونقاشهما المطعّم بالضوضاء والجلبة، كأنهما لم يصبهما أي ارهاق طوال رحلة امتدت لست عشرة ساعه. وعندما دلفت الي غرفتي، لم أستطع أن اقاوم أكثر من ذلك، غلبني ارهاق جسدي ... ارتميت على الفراش ونمت بملابسي، حتى أيقظني رنين تليفون الغرفة، كان رفيقاي يوقظاني ... قال أحدهما (ألم تستيقظ بعد، الساعة الخامسة عصراً ... انهض ... سنخرج بعد نصف ساعه، سنقوم بجولة في أسواق شنغهاي التجارية ... ستتعرف على المدينة ليلاً ... وكم هي جميلة).

بدأت أشعر بأمعائي تئن وتلح علىّ أن اواليها بأي شيء يؤكل. الجوع يقرص البطون عندما تتغير الأماكن والأجواء خاصة إن كانت للأفضل.

أخبرته أنني بعد نصف ساعة سأمر على غرفتهما لنخرج سوياً.

وبعد حمام ساخن، ازددت تنبهاً وتوهجاً .. ازددت استفاقة، خاصة بعد هذا القسط الوافر من النوم.

خرج ثلاثتنا من باب الفندق، سيراً على أقدامنا، كان الوقت خريفاً بنسمات باردة لطيفة متقطعة، بدأت تنتظم وتستقر مع حلول المساء.

بدت المدينة مضيئة وكبيرة، مزدحمة بهدوء ونظام، ولكن شيء ما بدأت أحسه بكل حواسي التي أمتلكها، حتى حاستي السادسة الموءودة في الأعماق بين جذور كل الحواس. كأن كل حاسة عندي تريد أن تبتلع الهواء والسماء وكل موجود تعرفه، كأنهن كلهن يودعن الموجودات.

احسست أنني رغماً عني ازدرد كل ما يحيط بي من روئ مبهجة ... كأنني لن أراها بعد قليل، أو أنه استمتاع الوداع الأخير.

حاولت أن أنسى هذا الاحساس المولود لقيطا ً كما ظننت، وأن استمتع بأول مشاهد يدركها بصري في هذا المكان الجديد، وأن يعبّها عبّاً.

ظللت أسير وسط المدينة على مقربة منهما وسط الأضواء البراقة والوجوه الأسيوية الصينية بعيونها المميزة، حتى وصلنا الي مدخل مركز تجاري كبير أو ما يسمي بال (مول).

أخبراني أنهما يعرفانه جيداً وأنه من المؤكد أنني سأجد ما يروق لي للشراء، دخلت معهما وظللت أتجول وأشاهد. المركز كبير جداً وبه كل شيء ممكن أن يفكر أي أنسان بشرائه، لم أكن أرغب بشراء أي شيء .. فقط المشاهدة والملاحظة ... والاستمتاع بالوقت وتمضيته.

طلبت منهما أن نجلس في أي مطعم داخل هذا المركز للعشاء، أشارا الي الطابق السفلي ودعواني للتوجه والدعوة للعشاء، وبينما أنا في طريقي معهما صدم بصري لوحة على باب لمدخل عميق، مكتوب عليها بلغة انجليزية واضحة (اكسينجلاى ... هل جربت أن تموت لمدة نصف ساعه)

*   *   *

بالطبع وقفت في مكاني ولم أتحرك، اللافتة بمكتوبها اصطادت انتباهي كأنها خطاف صنارة حادة رشق في حلق سمكة عذراء بطُعم بسيط عُلِّق في طرفها الحاد وأخفاه.

رفيقاي انتبها لتسمري في مكاني بعد أن كانا قد سبقاني بعدة أمتار، عادا اليّ علي مهل ليريا عيناي وقد علقتا بهذه اللافتة المكتوبة، تماماً كالسمكة العالقة الذبيحة التي ليس لها مفر ولا مناص من صائدها وصنارته.

قرئا ما قرأته .. كانا يجيدان الإنجليزية المتكسرة لو صحت التسمية بحكم كثرة اسفارهما التجارية.

أراهن أن ما أصابني من شغف وفضول قد أصابهما هما الاثنان بالمثل، وبدئا في التشاور بينهما وبيني باقتراح مشترك بينهما بدا لي محبباً، بتصميمهما الخفي على أن ندخل.

قلت لهما بمكر سياسي أننا ممكن أن نتناول عشاءنا اولاً ثم نعود .. خاصة أن المكان قريب جداً من صالة الطعام التي تتجمع فيها كل المطاعم الموجودة داخل المركز، رفضا بتصميم ... وهذا ما كنت أريده تماماً، أن استفزهما برأي مخالف حتى يصلا بي الي رغبتي الخفية المشتركة معهما سراً، بأن ندخل هذا المكان ونري حقيقة هذا الإعلان،

....... الموت لمدة نصف ساعه..........

دلفنا ثلاثتنا بمنتهي الحماس الي ممر قصير ملتو، يفضي في نهايته الي باب ينفتح تلقائياً عند ظهور أي زبون. بمجرد أن تخطته أقدامنا أحسست بظلمة المكان وكآبته، خمنت على الفور أنها مؤثرات حسيه لتكملة الجو النفسي وتهيئته لأي زبون قادم لما هو مطلوب ومرتبط بالإعلان الملفت المثير ... الموت.

ومع اضاءة خافتة عند طاولة الاستقبال، وجدنا لوحة تعرض مشاهد متتابعة أعدت بعناية للعرض والاعلان الجذاب ويصاحبها صوت خفيض وترجمة مكتوبة بالإنجليزية ومقروءة بوضوح.

نهض رجل الاستقبال الصيني الموكل باستقبال القادمين وعلى فمه ابتسامة صفراء كالحة كلونه تماماً، اشتهر بها كل الجنس الأصفر الأسيوي، خاصة عندما يريدون بيع أي شيء لأي إنسان آخر من دون جنسهم. لم يمهلنا الرجل حتى نلقي عليه السلام بل بادر هو بالحديث بإنجليزية سليمة واضحة:

- اهلاً بكم وأرجو أن تقدموا على هذه التجربة التي نقدمها لكل زبائننا والزائرين الراغبين في المرور بهذا العرض المثير.

وضغط الرجل على زر بجانبه فبدأت الشاشة بعرض فيلم قصير يبدو أنه تم اعداده بعناية لشرح ما سيقوله الرجل بصوته الذي سيصاحب المشاهد المتتابعة، وعاود الرجل حديثه والغريب أن ابتسامته كانت ثابتة وهو يشرح كأنها مرسومة أو منحوتة على وجهه، أو أنه مرض عضال أصاب أحد أعصاب وجهه فتركه هكذا على حاله:

- ببساطه نحن نقدم تجربة غير مسبوقة في العالم كله، نحن نقدم جهاز محاكاة للموت، قطعاً الكل يخاف من كلمة الموت، ومن حدوثه، ونحن هنا نكسر حاجز الخوف المجهول بيننا وبينه، بأن نقوم بعمل تجربة صغيرة أو بروفه لمن يريد أن يجرب هذا الإحساس. ببساطه، من يريد أن يدخل خضم هذه التجربة عليه أن يستعد نفسياً في غرفة صغيرة مجاورة سيكتب فيها سبب رغبته في خوض هذه التجربة وسيكتب أيضاً وصية صغيرة مختصرة، وعليه ألا يتجاوز مدة عشر دقائق.

وعلى المشترك أن يستحضر الجدية في كل ما يكتب لأن المؤثرات الحسية التي صممت تحاكي فعلاً كل ما يحيط بالموت وربما يموت الشخص فعلاً أثناء التجربة، ولقد حدث أن مات بالفعل عدة أشخاص.

ثم يختار الشخص المشترك أي ملابس يريدها لكي يوضع في صندوق خشبي كأنه ذاهب للقبر فعلاً، كل شخص له الحرية في اختيار الملابس المناسبة حسب معتقداته الدينية.

ثم بعد هذا يخرج من الغرفة ويستلقي داخل الصندوق الخشبي ... تماماً كالميت، ثم يمضي داخل أنبوب طويل مظلم كأنه القبر ليري مشاهد متعددة ممكن أن يقابلها الميت في العالم الآخر لمدة نصف ساعة كاملة، ثم يخرج بعد هذا من أنبوب صغير ضيق على شكل فوهة رحم الأم لنعطي له الإحساس أنه ولد من جديد.

وصمت الرجل لبرهة، ليعطي الفرصة للمشاهد المرئية أن تلاحق وصفه بعد أن تتابعت بشكل مذهل مثير جذب انتباهنا نحن الثلاثة بدون أدني شك، وعاود بعد أن تأكد من وقوع ثلاثتنا في شباكه كفرائس سهلة مروضة.

- التجربة ثمنها سبعون دولاراً فقط بدون أي ضرائب وهو ثمن مستحق بسبب عمق وثراء هذه التجربة. والأن أيها السادة الضيوف هل من مغامر مقدام يبدأ معنا خوض هذه التجربة الليلة؟

نظر الاثنان الي بعضهما وصرخا في آن واحد (أنا)، وعادا الي الثرثرة والشجار والضوضاء البغيضة، كأن هذا الرجل الصيني بابتسامته البلهاء قد ضغط زر عبثهما الطفولي عن قصد ليعمل بمنتهي الكفاءة.

وعندما علا صوتاهما بدرجة مخجلة امام الرجل الصيني الذي أبدى اندهاشه رغم ثبات ابتسامته وملازمتها لعضلات وجهه، كان علىّ أن اتدخل وقتها وأُنهي هذا الشجار الطفولي، قلت:

(ليذهب احدكما ثم يتبعه الأخر بعد انتهائه مباشرة) .....

وافقا .... وصمتا.

تقدم أحدهما الي الغرفة الصغيرة بعد أن دفع المبلغ المطلوب، طلب منا الرجل أن ننتظر على مقعدين وثيرين بالخارج ثم على أحدنا أن يصاحب دخوله بالتابوت للجهاز في الغرفة المجاورة، واحد فقط له الحق في مصاحبة دفن التابوت، تماماً كواحد من أهل الميت.

وفي طريقنا الي غرفة كتابة الوصية .. كما قيل، كانا يتمازحان حول ما سيقومان به واحد تلو الأخر، كأن فكرة التجربة وهي الموت ليس لها أي قيمة في أذهانهم ... بلا رهبة.. بلا مهابة.

سمعتهما يقولان لبعضهما (مت بعنف وقسوة يا صديقي) .. ويرد الأخر (سنلتقي بعد قليل .. سنذهب سوياً لنادي الأموات لنحتسي كوبين من الشاي الثقيل الغامق).

دخل أولهما، وجلست مع الأخر على المقاعد الوثيرة الخالية ننتظر خروجه لينام داخل الصندوق ويبدأ محاكاة الموت. ساعتها، اقتحم هذا السؤال عرين رأسي:

لماذا لم أطلب الدخول أولاً؟!

انا لم أفكر اصلاً في خوض التجربة، جذبني عنوان التجربة، مسيرتها، فكرتها، آلياتها ... حتى طريقة تنفيذها، لكني لم أفكر في خوضها. بل واحساسي واعتقادي أنني لن أقدم عليها من بعد.

لماذا؟؟....

كان الموت دائماً بالنسبة لي فكرة مخيفة مرعبة رغم علمي بأنه أحق الحقيقة وأنه الشيء الوحيد الثابت حدوثه إن طال العمر أو قصر.

بل وليضيف ايضاً الي الخوف والرهبة لمجرد التفكير في الفكرة .. غموضاً وإثارة .... كان مجرد قدومه أو حدوثه أو ميعاد طرقه لأبوابنا، شيئاً مجهولاً لا نشعر بقدومه، يأتي فجأة بدون أي مقدمات وقلما يعطي علامات.

إن فكرة الانتقال من عالم نعرفه الي عالم آخر مجهول غيبي، هي فكرة مرعبة مخيفة فاقت كل عوامل إرهاب النفوس وتلجيمها.

حاولت أن استحضر بعضاً من ثقافة معتقداتي الدينية التي كنت أعرفها جيداً منذ صغري، ولكنها ضلت مني أو ضللت انا عن طريقها في زحام الحياة بأحداثها من نجاح واخفاق ومباهج تلهي أياً ممن تسول له نفسه وتفر منه ولو للحظات لتجعله يتفكر فيما بعد الحياة.

تنهدت بعمق وأسفت على ابتعادي الروحاني، تمنيت لو أنني عدت لطفولتي وصباي قبل أن انخرط في معترك تقلبات الحياة واستعيد جذوري الدينية الايمانية، ولكن خوفي من فكرة التجربة ما زال هو السائد والمسيطر، حتى وإن كانت القصة كلها ملهاة أو محاكاة.

ظللت صامتاً أفكر في القضية برمتها وأنتظر مع رفيقي الأخر، خروج الأول لأرى نتيجة التجربة عليه، بما أنه حمل الفكرة ببساطة .. وربما استهزاء .. على أي حال، لأرى كيف تصير الأمور.

مرت أكثر من عشر دقائق، بطيئة .. ثقيلة .. مملة، انزلق اليها الشيطان بوساوسه فأضاف اليها صفة الرعب من أن يكون رفيقي قد مات بالفعل قبل أن يبدأ محاكاة الموت.

الأخر الجالس بجانبي الذي كان يداعبه منذ قليل ويُذَكِّره بميعادهما في نادي الموت، أرى وجهه مصفراً من كثرة الخوف الذي تملكه كأنه رأى مشهداً من مشاهد يوم القيامة.

قال لي هامساً على استحياء (لماذا تأخر هكذا .. أيكون قد مات؟!).

وعندما هممت بالرد لأطمئنه كما يطمئن الطبيب أهل الميت قبل أن يعرفوا باحتمال موته القريب ... عندما بدأ لساني يتحرك، انفتح الباب وخرج منه رجلان يدفعان تابوتاً مفتوحاً على حامل متحرك، يجلس بداخله صاحبنا وقد التحف برداء مثل الكفن الإسلامي.

قال أحد الرجلين (من منكما سيصاحبه الي داخل الغرفة لنبدأ التجربة؟)

انزوى رفيقنا الثالث ... تضاءل وتصاغر خلف ظهري من شدة فزعه، بينما أمسك صاحبنا المقبل على الموت يدي ونظر اليّ نظرة المستعطف الذي يتشبث بالحياة رغماً عنها.

لم يستطع أن ينطق بشيء كأن لسانه قد أنعقد تماماً، وعلى وجهه رأيت شحوباً وصفاراً ... أو ... سمت الموت.

ليس هناك بد من أن ادخل معه لأودعه، كأنه ذاهب بلا رجعة.

*   *   *

دخلنا الي غرفة أخرى أكثر إظلاماً، اضاءة خافتة جداً تأتي من مصدر ضوئي سفلي مختبئ، وبانت لي فوهة أنبوب بدا لي أنه طويل عميق .. غائر لا أعرف منتهاه.

قال أحد الرجلين بإنجليزية سليمة (على السيد أن يستلقي الأن لأننا لابد أن نغلق التابوت ... رحلة طيبة الي العالم الأخر يا سيدي).

وبدءا يدفعانه برفق لكي يستلقي ليغطيا رأسه، لتبدأ المحاكاة ... وعندها ...

صرخ صاحبي بصوت عال وبدأ جسده في الارتعاش والتشنج كمرضي الصرع .. يداه .. قدماه .. رأسه .. زاغت عيناه وأخذ لسانه يغرغر مع سائل أبيض لزج يتسلل من شفتيه ...

(لا أريد أن أموت ... لا أريد ... لا أريد)

حاولت أن أُهدأه .. وأخبرته أن الموضوع برمته مجرد لعبة وملهاة وستمر سريعاً.

ازدادت صرخاته وتشنجاته، حاولت أن أُمسك بيديه ورجليه لكي أُجبره على الاستلقاء.

سألت أحد الرجلين (هل من الممكن أن نلغي التجربة الأن؟)

أجابني بثقة أكيدة وسط صرخات صاحبي (لا يمكن يا سيدي ... بقد بدأ تشغيل الجهاز .. ولابد أن يدخل أحد بداخله ... انتظر .. سأُحاول إقناعه بطريقة أخرى)

كان كلا الرجلين يلبسان قفازات يدوية، خلع محدثي القفاز من يده اليسرى والتفت الي صديقي المتشنج بصرع الموت وقال:

(أيها السيد ... انظر اليّ ... هل ترى هذا القفاز المخلوع .. هو نفسه القفاز الذي بيدي الأخرى، لن يحدث لك شيء ... كلاهما واحد، الفرق أن أحدهما يتحرك بأصابعي والأخر لا .. ولكن اذا ارتديته مرة أخرى سوف يتحرك مرة أخرى ... لا تخف ... لن يتغير في جسدك شيء من أثر التجربة ... اهدأ ... واستلقي من فضلك).

القى الرجل قفازه المخلوع على جانب الطاولة المتحركة، لم يسترع انتباهي ابداً قفازه الآخر الذي يحوي أصابعه كروح متقلبة، بل افزعني واحرق احساسي رؤية القفاز الأخر المُلقى .. بدون روح .. بدون حياة .. ميت قبل الموت.

كانت تشنجات رفيقي وارتعاشات يده تزداد قوة، بينما التابوت قد بدأ في التحرك على مجري اوتوماتيكي .. وانا أحاول بلا فائدة أن أثني جذعه ليستلقي ... لنغلق التابوت.

صرخاته تزداد وارتعاشات جسده تتعاظم ... تقوى وتشتد، حتى فوجئت به يمسك بتلابيبي ... ويقفز خارج التابوت ... ويلقي بجسدي الخائر داخله، ويغلق التابوت بقوة.

*   *   *

تماماً كما كنت في التاسعة من عمري، عندما كنت أذهب مع أبناء العمة والخالة الي مدينة الملاهي ذات الألعاب المثيرة، عندما كنا نصعد لمكان عال كأدوار البنايات العالية، وندخل داخل أنبوب مظلم ملتو، ... تهبط أجسادنا بسرعة ... كنا نحس أنها اضعاف سرعة الجاذبية الأرضية ... نهوي ونهوي، حتى تلامس أجسادنا مياه حوض السباحة وسط صرخات الإثارة والمتعة المستجلبة.

أهوي بجسدي بسرعة فائقة، تكاد تماثل سرعة الطائرة قبل إقلاعها، كنت أحس بها عندما اكون جالساً قرب الجناح.

كنت أتخيل نفسي رائد فضاء ... فُقِد وضَلَّ بين السماوات، وعندما أوقعه القدر وأوصله لمستوى الجاذبية، يندفع بسرعة تقترب من سرعة الضوء، لينتقل من زمن حاضر لزمن آخر تماماً ... من واقع موجود ملموس ... لواقع مغاير في مستقبل أو ماض، أو على أرض كوكب آخر ... تماماً كقصة أهل الكهف التي كانت تثير في خيالي ابعاداً متعددة كلما قرأتها.

المكان الذي انزلق داخله بهذه السرعة مظلم ... قاتم ... حالك السواد، لا أرى بصيص أو رائحة شعاع ضوء يتيم تفلّت عبثاً من بين شقوق الظُلْمة ... ولكنه ضيق، ضيق جداً، يكاد يطبق على كل حواسي، لا أسمع سوى صفير احتكاك جسدي بالهواء نتيجة هذه السرعة القاسية، أو ربما هي عظامي التي اقتربت من التهشم ... تعلن بداية نهايتها.

أستمر بسرعة اسطورية في هذا السقوط الخرافي، ولا أرى ولا أحس أي قرار أو قعر لهذا الأنبوب المظلم، المطبق على كل كياني، مُغلفاً إياي، أحس به يزداد ضغطاً علي أضلعي كلما زاد مروري فيه.

هل أسقط من كوكب أخر ومن زمن جغرافي لأخر في نهاية الكون؟

حتى قوانين الطبيعة التي تجعل من قوة الضغط سلاحاً يفجر شراييني، حتى هذا لا أحس به.

لا أدري يقيناً إن كنت ما زلت حياً أم أنني ميت بالفعل، أشك حتى بإدراكي لما يحدث في أجوائي الأن رغم سرعته، شك يؤكد على استحياء وخجل أنني ما زلت كائناً بشرياً بمكوناته العظمية واللحمية. أم أنني شيء أخر .. كائن مختلف ... كينونة جديدة ليست الا شظايا أو ذرات أو حتى عدة فقاعات هوائية؟

*   *   *

وفجأة، وبدون أي نوع من أنواع الإنذار... الصوتي أو الضوئي، أو ما يمكن أن يرتبط بأي حاسة مخلوقة...... وصلت للقعر...للقاع.

أرتطم بأرض شبه ليّنة ارتطاماً شديداً ثم أصعد وأرتمي مرة أخرى بسبب رد فعل الصدمة ...أصعد وأهبط ... ثلاثة أو أربعة ارتطامات تقل قوتها تدريجياً، ككرة مطاطية أُلقيت من أعلى برج على كوكب الأرض ... لتضرب الأرض، وتقفز عدة قفزات حتى تستقر... وكذلك حدث.

رائحة التراب تسود مع رائحة أخرى غريبة، أحاول أن أحدد هويتها. ظلمة المكان لا تسمح لي الا باستخدام حاسة الشم.

تجمعت كل رغباتي وحواسي عند مدخل أنفي لأُنقّي هذه الرائحة من كل الروائح المحفوظة بخواصها في ذاكرة عقلي.

أحاول أن أتعرف عليها ... الامسها بحدود قدرات أنفي، بكل عزيمة الشم وإدراك الروائح.

الرائحة قميئة ... مقززة ... تنمو وتتعاظم كعدة أذرع شيطانية ظهرت فجأة امام بصيرة رجل صالح لم يرى في حياته أي مخلوق ناري ملعون.

عرفتها أخيراً .... إنها رائحة الجيفة.

وكأنني ولدت بهذه الرائحة، أتنشقها منذ أن خرجت من رحم أمي، اعتدت عليها ... تعطرني برائحتها الخبيثة ... أو هكذا كنت أتخيل ... أنها الطيب ذاته، حتى أتى الوقت الذي أكتشف فيه خبثها وعفنها الذي يدفع أي حاسة سوية لأي إنسان حي ما زال يتنفس ويدب على الأرض ... تدفعه للتقيؤ.

أكتشفها الأن ... كم هي قميئة مقززة.

أحاول أن أمد ذراعي لأنفض عن جسدي غبار تلك الرحلة السريعة عبر المكان والزمان كما أتوقع، أحاول أن أُزيح عن جسدي بيدي ما علق بي من هذه الرائحة، لعلي أتخلص منها بعد طول الأزمان العتيقة التي صبغت كياني بهذا الخَبَث.

لا أجد لي ذراعاً أو طرفاً أحركه ...

أرغب أن أحرك يدي ولا أجدها ... لا يمنى ولا يسرى، أتمنى أن أحرك ساقاي وقدماي ولا استشعر وجودهما.

لا توجد مرآة في هذا المكان .. فقط الظلام ورائحة الجيفة المنبعثة من أعماق قبور العالمين على مر الدهور.

ماذا حدث بالضبط؟

لا يعقل أن أكون ما زلت داخل أنبوب هذه اللعبة البغيضة التي كنت أنا من اختار نبش أغوارها، ودفعت رفيقاي لخوض تجربتها، بل وبخبث خبيث دفعتهما ليكونا كبشي فداء أو قل فأري تجارب لما كنت أريد معرفته، حفرت الحفرة ووقعت فيها لسوء نيتي، ظننت دائماً أنهما من المخلوقات الأدنى ... لذلك حق عليهما أن يكونا فأري تجارب لأي تجربة بشرية جديدة.

اين انا؟؟

الرجل الصيني قال قبل التجربة أن هناك أشخاص ماتوا بالفعل اثناءها ... هل انا ميت الأن؟؟؟

صوت قوي يرد على خاطري، يأتي من كل الأركان والأنحاء حولي، يتردد صداه .. كأنه ينبعث من مكبرات صوت كبيرة في عطفة صغيرة في أحد الأحياء الشعبية، محتفياً بزفاف جارين من نفس المكان، وبلغة عربية سليمة سمعت:

(هل أَلِفْت رائحة الموت أم ما زلت تحتاج لبعض الوقت)

الصوت الرخيم يدخل داخل جسدي بكل عنفوانه المسموع ... يتخبط داخله، بل يطرق حوائطه عمداً ليكسرها، ارتجف من شدة الهلع الذي تولد بداخلي ولم أحس به أثناء هذه الرحلة السريعة بهبوطها الأسطوري، وأشعله هذا الصوت داخل جسدي المسكين الذي لم أعد أحس بأطرافه.

أحاول أن أُجيبه ... أُحرك لساني بضعف متلجلج متلعثم:

(اين انا؟؟ .. هل ما زلت داخل هذا الانبوب الصيني ...؟ هل ما زلت داخل جهاز محاكاة الموت؟)

جاء الرد قهقهة مرعبة كأنه سيد الجن والأشباح يريد أن يرعب كل من يحضر ويسمع بضحكة ساخرة آمرة، تنهر وتقمع لتجبر أي مستمع على الخضوع والانحناء والانصياع مرتعداً لما يقول، وبعد انتهاء قهقهته جاء صوته رخيماً مرة أخرى:

(أنت ميت يا عزيزي منذ زمن طويل)

*   *   *

لابد أن هذا مزاح ...

أكيد هذه مزحة ثقيلة من نتاج المؤثرات الحسية لهذا الجهاز ... زال الخوف تماماً من داخلي وتهذبت نفسي منه، خلعته كرداء رث قديم وألقته بعيداً غير مأسوف عليه.

صرخت بلهجة آمرة واثقة (أيها السادة ... أكتفي بهذا الحد من هذه التجربة .. وهذه اللعبة، أرجوكم أريد أن أخرج الأن ... هل هذا ممكن ... لا أريد أن أستمر نصف ساعة كاملة في هذه المحاكاة ... أعترف لكم بالمهارة والاحترافية ولكني لا أريد أن أكمل، سأترك لكم السبعين دولاراً ... بل ادفع لكم فوقها مائة أخرى، ولكن أرجوكم دعوني أخرج).

جاء نفس الصوت هادراً زاجراً هذه المرة

(الم تفهم، الم تعي ما قلته، هل تظن أنها مزحة ... قلت لك .. أنت ميت ... ومنذ زمن طويل جداً).

ما زلت مقتنعاً أنها مزحة، وأن كل هذا ليس الا مشهد تمثيلي أُعد بكل عناية، بمؤثرات حسية ونفسية فائقة الجودة، ما زلت محتفظاً بشجاعتي التي استرددتها بعد أن أقنعني أنني مستمر في محاكاتهم البغيضة.

صرخت في محدثي بتعال وصلف ... اتعالى بنبرتي فوق هديره الذي كنت أخشاه

(إذن أنتم لا تريدون إخراجي، سأخرج وحدي .. حتى ولو كنت داخل أنبوب ضيق .. سأحطمه وأكسره ...ولن أتحمل المسئولية، كنت أريد أن اتحاشى اتلاف أجهزتكم، ولكنكم أنتم الملومين ... وعلى نفسها جنت براقش ... بما أنكم تحدثونني بالعربية فمن المؤكد تعرفون قصة براقش)

حاولت أن أحرك ذراعي أو ساقي، أي طرف من أطرافي، أريد أن أنزع نفسي من المكان، لا أستطيع، لا أحس بوجود أعضائي ... ماذا حدث؟؟

أصرخ مرة أخرى (أخرجوني من هنا أيها الأوغاد ... ماذا حدث؟؟ هل قيدتم أطرافي ... اعلموا أنني بمجرد خروجي سأقاضيكم .. وستدفعون لي تعويضاً ضخماً .. و ..)

قاطعني الصوت بحدة (يا عزيزي .. أنت بدون أطراف .. كما قلت لك، أنت ميت منذ زمن طويل .. وبما أنك مقبور بين قرضة الأرض، فأنت مأكول هالك تفتت منك كل لحمك وعظامك ... ولم يبق منك الا عجب الذنب)

- ماذا؟؟ ماذا قلت؟؟ عجب ماذا؟

- الا تعرف ما هو عجب الذنب، كنت تدعي الثقافة طيلة عمرك وتنعت غيرك بالجهل وباستحقاقهم الموت، واستحقاقك للحياة دونهم، ولا تعرف ما هو عجب الذنب .. سأخبرك إذن ..

كل إنسان يأكله التراب بعد الموت الا عجب الذنب، منه خُلق ومنه يُركّب .. هي الخلية الأولى المكونة لجسم الإنسان بعد تمام خلق جميع أعضاء الجنين، تستقر هذه الخلية في العمود الفقري ... في آخره .. في العصعص، هي في حجم حبة العدس، هذه الخلية تظل حية بعد موت الإنسان لتكون البذرة التي سيبعث منها الإنسان.

الا تحس بأنك صغير في حجم الحبة ... بدون أي كيان ... أنت ميت منذ زمن يا عزيزي، الأن أنت لست الا حبة عدس صغيرة .. أنت الأن لست الا عجب الذنب.

*   *   *

بعد المصائب، دوماً يأتي الشعور بالهبوط، يعتريني هذا الإحساس الفيزيائي العجيب أنني فارغ، خاوٍ بلا وزن ... هذا ما أحس به تماماً الأن. لا أدري هل هو ليقيني الشبه مؤكد بأنني فعلاً ميت منذ زمن طويل، أم لأنني صرت فعلاً كحبة العدس الصغيرة بلا وزن.

تغيرت نبرة صوتي، أحاول أن أرفع نبرته المهزومة المبحوحة، الرافعة لراية الاستسلام البيضاء

- منذ متى وأنا ميت؟

- هل هذا هو ما يهمك الأن!!؟ ... على أي حال هو وقت طويل جداً ... تعدى مئات السنين

كان رده بمثابة المفاجأة الكبرى أو أم المصائب التي أطاحت بي تماماً وبأي أمل واهم تخلق خلسة في نفسي، أن أكون ما زلت داخل هذا الجهاز البغيض المحاكي للموت

هبوط الفراغ الذي يعتريني بحقيقته المرة، استحال دموعاً ونهنهات لنحيب متشنج كالذي رأيته على رفيقي منذ دقائق أو دهور سحيقة كنت فيها نافقاً. وسط نحيبي سألته

- كيف يعقل هذا، لقد كنت منذ دقائق معدودة، أقف امام رفيقي الذي اقتحم تجربة محاكاة الموت بمنتهى السخرية، ثم تطور حاله الي أن صار مرعوباً مرتعداً، كنت أحاول مستميتاً أن أهدأه حتى يكمل التجربة ولم يصبر على اتمامها، بل قفز من تابوتهم الخشبي ... لا أدري كيف استطاع فعلها ... وبقدرة أعجب من قفزته، أمسك بي وألقاني كورقة مطوية ملوثة بشخابيطها ... ألقاني في التابوت وأغلقه.

- تماماً، هذا هو ما حدث ... ولكنك مت في نفس اللحظة. أتدري ماذا حدث؟

دخل التابوت بجسدك متحشرجاً داخل الأنبوب، ولأن الجهاز لم يكن مبرمجاً لاستقبالك ... تعطل وخسر، وظلوا أياماً يحاولون إصلاحه حتى أخرجوا منه التابوت وبه جسدك .. مستلق، مفارق للحياة. لقد كنت على موعد مع الموت يا عزيزي، ملك الموت بدأ يحوم حولك منذ أن قرأت لوحة الإعلان عن الجهاز ... أتاه أمر قبضك في تلك اللحظة.

بدأت استجمع بعضاً من شجاعة صريعة، بدأت أمنطق ما أسمع .. سألته

- من أنت؟

- ليس مهماً أن تعرف من أنا، .. ولكن لكيلا يقتلك فضولك ... تستطيع أن تشطح بخيالك الذي اشتهرت به أثناء حياتك وتتخيلني في أي صورة أو شخصية يصورها لك عقلك.

وصمت لبرهة ثم عاود ...

ممكن أن تعتبرني واحد من الموتى المدفونين بجوارك، وحيث أن الأرض قد ذابت فواصلها بمرور الدهور والقرون ... فها أنا ذا بجانبك.

- هل دُفنت في الصين، أم نقلوني الي مكان أخر... الي موطني

- إكرام الميت دفنه، الا تقولون هذا في دينكم، نعم أنت دفنت في الصين .. تولى صديقاك هذه المسألة.

- هل أنت مسلم؟

- ليس تماماً

- ولكني لا أراك .... أسمع صوتك فقط

- لا تستطيع رؤيتي يا عزيزي ... أولاً لأنك إن رأيتني ستموت مرة أخرى هلعاً .. وللأبد، وثانياً أنت صغير جداً لكي تراني

- ماذا تعني؟؟ .. تقصد أنني رددت حياً وأن لي ميتة ثانية؟

- يا عزيزي كلنا نحيا في قبورنا بعد موتتنا الأولى، أنت تعرف هذا جيداً ... بعد الموت نذهب الي دار الحق .. والقبور إما جنات نعيش فيها ونستمتع ..وإما هلاك حتى يأتي الهلاك الأكبر... الا تعرف هذا؟

- لكني لم أمر بمراحل ما بعد الموت، تحت الثرى كما كنت أعرف وأسمع من موروثات العقيدة والمجتمع.

- لعلها ستبدأ الأن ... تأخرت بعض الشيء ولكنك مقبل عليها.. هل أنت مستعد؟

نبرة صوته تعلن تحدٍ جاد ليس به أي هزل، وعلى أثر هذا التحدي بدأت استشعر الرعب مرة أخرى بعد أن كنت قد استرددت واستجمعت بعضاً من شجاعة.

أحسست تماماً كما لو كنت ذبيحة أخبرها جزارها قبل الذبح بدقائق أنه سيذبحها، حتى بدون أن يستل أي سكين.

- ان كان هذا اعلان ما قبل تنفيذ حكم الإعدام ... فهل لي من طلب

- أنت خائف؟؟

- أنا لا أعرف من أنت ولا أدري حجم قدراتك، ولكني أستشعر من لحن صوتك ما تفوقني به، وربما ما يمكنك أن تنكل بي من بطش خارق لا أستطيع رسم حدوده، كما إنك تدعوني الي أن ادخل في تجربة ما بعد الموت من مشاهد أكاد أعرف تفاصيلها سلفاً منذ صغري ولكني لا أدري كيف ستكون نتيجتها معي ... لذلك لا أخجل من الاعتراف بأنني خائف.

قلتها وانا أرفع راية استسلامي .. قلتها وانا أمزج بين استدرار العطف وملازمة الواقع ... مع استخدام الحيلة والسياسة كما تعودت أثناء حياتي التي أراها الأن منتهية، لا جدوى من الاستغراق في هذا الجدل العقيم داخل عقلي الذي يوحي اليّ بأنني ما زلت داخل جهاز محاكاة الموت.

إذا كان حساب ما بعد الموت قد جاء وأقبل حتى بعد فوات سنين طويلة، بالحضور الأساسي للملكين .... فأنا شبه متيقن من الرسوب.

قال لي وقد أناخ صوته ممهداً بشيء من الليونة لقبول طلبي:

- ماذا تطلب إذن؟

بمنتهى الحبور والسعادة تيقنت أنني بإمكاني التفاوض وعرض طلبي ... قلت:

- هل لي عودة الي عالم الحياة ولو لمدة قصيرة

- أنت ذكي ... وتتذاكى حتى وأنت في قبرك، لماذا تريد العودة؟، لتصلح ما أفسدته من قبل فتعود للحساب نظيفاً من الذنوب، متألقاً كتلميذ يختال بدرجاته العالية، لينجح في حساب الملكين

- فعلاً هذا ما أريده، ولكن هناك شيء أخر

- ما هو؟

- إذا عدت الي حياتي بعد تجربة إحساس الموت ... فشوقي سيكون أكبر من قبل لاستجلاء ما كنت أفكر فيه اثناء حياتي بدون موت ... الا وهو... معرفة سر الموت.

ما قلته للتو كان به جزء من الحقيقة ولكني مارست الخبث كما كنت أتصور، لعله إذا قبل واستطاع هذا المجهول إعادتي للحياة بأي طريقة، ساعتها من الممكن أن أتشبث بها، ولا أجعلها تفر مني ولا أفر منها.

صمت تماماً هذا الصوت المجهول، كأنه قد انصرف أو غاب عن المكان تقززاً من سؤالي، ساد السكون المخيف مرة أخرى، ظننت أن ما قاله لم يكن الا استهزاء بالضحية قبل سفك دمائها، وأنني الأن مقبل على حساب الملكين بعد أن أعلن عن معرفته المتفقة مع يقيني بأنني راسب.

بدأت أرتعد في انتظار القادم الكئيب، أحس بأنني أرتعش وأهتز رغم أنني بلا جسد ... بلا أطراف، ثم جاء صوته أخيراً ... رخيماً عميقاً كما سمعته في البداية

- لك هذا ... سأعيدك الي الحياة ... لوقت قصير، لن أعلمك بمداه ... سأعيدك بصورة غير مرئية، لن يراك أحد ولكنك ستستطيع رؤية كل شيء من كائنات حية ... كبيرة وصغيرة ... حتى وإن كانت دقيقة متناهية الصغر ... بصورتك الغير مرئية ستتشكل حسب ظروف المكان الذي ستوجد به.

ما ستمضيه من وقت ليس بالقصير ولا الطويل، ولكنه كاف لتلبية طلبك الذي طلبته، ثم ستقبض فجأة ... ستغادر الحياة مرة أخرى ... وستعود الي هذا المكان علي صورتك الأولى التي أتيت بها ... وعندها سيبدأ حسابك.

لقد فهم غرضي هذا الذي يحدثني، كأنه قرأ ما بداخلي من نوازع ورغبات، سيعيدني الي الحياة بشكل غير مرئي ... ما الفائدة إذن؟؟ ولكن لأعود على أي حال، ثم بعدها لكل حدث حديث، لأعود اولاً الي الدنيا.

قطع تفكيري بصوته المفاجئ كسكين حاد

- هل توافق ؟؟

متلجلجاً متلعثماً، بلا حول ولا قوة أجيبه

- نعم ... نعم أوافق ... بالطبع أوافق

*   *   * 

بدون أي إنذار أو نذير، لأستعد لهول قادم آت، وكما حدث من قبل مباشرة عندما اُلقي بي في التابوت .. وانزلقت داخل أنبوب الجهاز، أراني أُسحب لأعلى كأنني أُشفط داخل أنبوب ضخم أو كأنني أُرفع لأعلى في بطن السماء، داخل بوتقة لزوبعة اسطورية.

كشريط فيلم سينمائي يُعرض عكسياً ويحكي القصة عائداً للخلف بالأحداث، وبسرعة فائقة لا يمكن استيعاب أي جزء يسير من تفاصيلها، وبإضاءة قوية فاقعة تعمي بصر كل من يتجرأ على التطلع ... أراني أتجمع وأتكون مرة أخرى.

تراب كثير يتجمع من كل الاحداب ليتشكل في هياكل تمثل عظامي ... عظمة، اثنتان .. ثلاث .. سيقان، أذرع .. قفص صدري، هيكل عظمي كامل يتكون، لونه الكالح يستعيد بريقه، بنضرة وتورد ويصل الي درجته الاصلية النهائية الداكنة، مقابض العضلات تنبت من جديد، حمراء مزهرية، كأنها نباتات تتسابق للتقافز بكل العجلة، تترعرع بزهو وخيلاء، أوردتي وعروقي تظهر وتتشعب أزرقها وأحمرها كألعاب نارية تضيء سماوات المدن المظلمة بإبهار وفخامة.

أنسجتي ولحمي الهالك يعود على بدء، يتراكم فوق بعضه طبقات .. ملتحمة ملتئمة بدون أن يحيكه خيط حائك، جلدي يعود متقشراً كموجات رقيقة لبحر هادئ ثم تنطلق كاسحة ممتدة كموجات تسونامية بعد الزلزال.

أظافري تلمع من جديد بعد ارتقائها لمستوى مسام جلدي، عيناي تهب لأعلى وتجحظ مثل كوكبين متألقين في سماء الملكوت، الشعر يعاود صبغ أغلبية جغرافية جسدي كما كنت عند استيقاظ شبابي.

ملابسي .... يا الله ... ملابسي نفسها التي خرجت بها من الفندق في هذا اليوم المشئوم قبل تلك التجربة المشؤمة جالبة النحس، تتربع فوق صدري وفخذي وتمتد، خيط يخالف جاره ونسيج يعقد أخر، لأعود تماماً كما خرجت يومها .. أنيقاً مهندماً منذ مئات السنين و..........

تتوقف الصورة عند هذا الحد ويتجمد المشهد.

أنا الأن في نفس اللحظة التي دخلت فيها هذا التابوت الخشبي، أستطيع أن أتلمس حدودي وأحك جدرانه التي تحيط بي، ليس ضيقاً كما كنت أتصور، لم يسعفني الوقت يومها حين رأيت رفيقي بداخله، لأتفحصه وأتمعن في أبعاده، وحينما إبتلعني الصندوق بفعل من فعل، انزلقت عبر الزمن الي ما آلت اليه أموري.

الهدوء والسكينة يشوبان المشهد، ولكن هناك صوت مكتوم يزوم في عمق الادراك، أحس به كأنه في البعد الرابع أو ما يليه، كريح تتنفس وتشهق شهيقها الأخير قبل أن تهجم بشراسة لتبيد كل من يقابلها، إنه هدوء ما قبل الكارثة، دائماً ما يخبر عن كنهه ... دائماً ما يحذر، ولكن قليل من يفطن، نادر من استطاع أن يدرب بؤرة شعوره على التقاط هذه اللحظة الشحيحة.

احساسي أن هناك حدث هائل قادم، يد اسطورية تقترب مني لتباغتني، لا أراها ولكني أشم رائحتها.

وفجأة ... انقلبت وتكورت، تماماً كما لو كنت مروحية ورقية صغيرة بيد ساحر، خرق منتصفها بعصاه ليلفها ويديرها كما يشاء بسحره، بسرعة تفوق سرعتي الأولى التي رأيت خلالها استعادة جسدي جزءاً جزءاً، هذه المرة لا أقدر... ولن أستطيع أن استوعب ما يحدث لي، سواء كنت جسداً أو روحاً أو عجب ذنب، كأنها سرعة إلهية .... ملايين السنين، كأنني أُرَد الي بدء الخليقة ومشهد خلق أول مخلوق ...يا الله .. الا ينتهي ما انا به من غموض وتخبط .. وسرعة تفوق المقدرات الكونية؟

الا أنتهي من كل هذا؟ حتى ولو كانت النهاية لقلب الجحيم؟ ... لأنتهي إذن إن كانت هي النهاية ... لأستقر ...لأموت لثالث ..أو لرابع مرة .. أو حتى لمليون سنة قادمة.

*   *   *

متكوم في حجرة تشيع في أجوائها رائحة الدواء والمرض، مختلطاً بالهواء المعقم، أكتشف بعد قليل أنها حجرة في مستشفى.

الرؤية غائمة في بصري، تنقشع غمامتها ببطء لتنجلي رؤية الأشياء والأشخاص من حولي، يأتيني هذا الصوت لهذا الرجل المجهول ...مرة أخرى، يطن في أذني ويصدم سمعي، كأنه هاتف مفروض علىّ وعلى وجودي

_(أنت الأن غير مرئي، لا يراك لا إنسي ولا جني ولا حيوان، ممكن أن تكون كبيراً بحجم أكبر المخلوقات وممكن أن تتشكل وتصغر الي حجم الكائنات الدقيقة، هذه الكائنات هي وحدها التي تراك وتستطيع أن تخاطبك، امامك القليل من الوقت هنا لتستجلي أسرارك)

انتهى الرجل من اخطاره وانذاره المتحدي، لينقشع كل ما كان ضبابياً وتظهر الصورة واضحة، جلية ... تامة ... حادة بكل خطوط كائناتها.

أختاي، الصغرى والكبرى .. وبينهما سرير طبي ... وعليه ... يا الله ... يا رحمن ..

أُمّي .. عجوز امتد بها العمر، أوثقوا كلتا يداها بقضبان السرير المعدنية، محاليل طبية معلقة بجانب السرير، موصولة بأنابيب شفافة، ينتهي كل منها بإبرة رقيقة حادة، مغروسة في عروق وأوردة ذراعيّ أمي، بقع ونقط زرقاء تنتشر على كل جسدها، ذراعيها وساقيها من كثرة وخز وغرس الإبر الطبية الباحثة عن الأوردة.

أمي تصرخ كل دقيقتين صرخات متتالية، لا تتكلم ... أختاي تتحدثان معها راجيتان منها الرد.. ولا فائدة، تصرخ وتصمت ثم تصرخ مرة أخرى.

يا الله .. يا الله، ما أبشع ما أري، يدمى قلبي واحاسيسي ويهلك مشاعري.

تذكرت الأن كل التفاصيل التي أحاطت بهذا المشهد. لم أحضر وفاة أمي، في مرضها الأخير كنت خارج البلاد ولم أستطع رؤيتها، لم أستطع لمس يديها ولا تقبيل قدميها لمدة ثلاث سنوات ونصف السنة.

منذ أن حدث ما حدث في بلادي من انقلاب عسكري دموي، وقف ورائه و دعمه كثير من الجهلاء والدهماء ممن كنت أحسب أنهم لا يستحقون الحياة كرفيقي سفري.

ولأن هؤلاء العسكر الذين تحكموا في مصائر البلاد والعباد لم يعرفوا رحمة ولم يعترفوا بدين أو مذهب إنساني، فقد قتلوا بلا رحمة كل من رفع رأسه حراً رافضاً لانقلابهم.

ولم يكتفوا بهذا، بل أخذوا ينكلون به وبأهله وبكل من يعرفه من أقارب وأصدقاء، وخوفاً من هذا كله غبت عن بلادي وأهلي وأمي ثلاث سنوات ونصف كاملة، كانت أمي تتمني فيهن أن تراني ولو للحظات قليلة.

آآآآآه ..... كم يغمرني إحساس القهر الأن، كم أبكي من أعماقي محروقاً بنار الحزن ... مكلوماً بهَمِّ الظلم والجور. لكم تمنيت يا أمي أن أجاورك في هذه اللحظات العصيبة وما قبلها، لكم أردت أن أمرغ رأسي تحت قدميك حيث تكمن الجنة، لكم حلمت أن أمسك بيديك .. أقبلهما ولا أمّل حتى تملّي من وجودي ... رفقاً بي كما كنت دائماً.

آه يا أمي .. لكم دعوت الله وقتها أن أقهر تتابع الزمن في ثنايا جسدك، أن أعيدك لشبابك فلا تشيخي ولا تهرمي ... بلا عجز أو ضعف، أن أعيدك عبر الزمان لسنوات ما قبل الولوج الي الشيخوخة، فتسعدي بي وبوجودي جانبك.

بكيت وتنهنهت، قهرني مشهدك هذا، دعوت الله أن يرحمك وأن يأخذ من صحيفة حسناتي ليعطيها كلها لك، هذا كل ما أملكه من هذه الدنيا بعد مرورها.

ادعوك يا الله .. يا مجيب الدعوات، أن تنزع كل حسناتي من صحيفتي .. وتمنحها لأمي، لكي تضمن جنتك، وأن تبلغها مني السلام في مرقدها، وأن تجعل قبرها روضة من رياض الجنة ... يا الله ...يا الله.

أولم يكن لي أن تمنحني القدرة والسطوة على ما أدي بأمي الي هذا الحال .. الشيخوخة .. العجز. هذا الجين داخل كروموسومات الجسد البشري الذي يرد كل منا الي أرذل عمره، الذي ينكسه في الخلق بعد أن عمّر.

يا الله .. الا تمكنني منه، أو على الأقل أقابله ... أسأله وأُسائله، صراحة عن سره، كيف يمسخ الشباب شيوخاً ... كيف يُجعّد جلودنا بعد أن كانت ملساء ناعمة؟، كيف يمسخ وجوهنا بسمت أخر، وكيف يحني ظهورنا، كيف يحول بيننا وبين أوائل الحياة؟

*   *   *

معتاداً على المفاجآت والتقلبات والانتقال من كل عالم معروف مشحون بالتخوفات والإنبهارات، وجدتني تصاغرت مرة أخرى ... مجروراً من طرفي ... من كياني الدقيق الذي أكاد أقسم أنه لا يُرى بأي عين ... بأي بصر... بكل بصيرة.

أُقذف داخل جسد أمي، سابحاً في فراغ يتباهى بإظلامه الا من أضواء شحيحة، بدون جاذبية ... كرجال الفضاء السابحين بين الأرض والقمر، أصطدم بمخلوقات عديدة متناثرة سابحة في فضاء هذا الفراغ مثلي، أحاول أن أتذكر أين رأيتها من قبل ... تمر من فوقي ومن تحتي .. يمين ويسار، كنيازك مقذوفة من مجرات فضائية غاضبة.

صوت الرجل يأتيني مرة أخرى

- (طلبت مقابلة كائن ما ... لك ما طلبت)

أُقذف مرة أخرى من مكاني المعدوم الجاذبية الي بقعة أخرى، منطلقاً كصاروخ باليستي لأستقر في فراغ أخر، أكثر وضوحاً .. بإضاءة مبهرة ومخلوقات أخرى سابحة أيضاً ... بانت لي كديدان ملتوية. أتصاغر أكثر... وأُقذف ناحيتها، وأخترق قشرتها ...

أزواج من خيطان ملتوية متوازية بينها شرائط أو حبال موصولة، بدت لي كسلالم معلقة منحرفة في التوائها.

أنا الأن أصغر من أصغر مخلوق يتنفس ويعيش.

أحد هذه الحبال الرقيقة الموصولة ينفلق الي نصفين ويترك مكانه ويأتي اليّ سابحاً، مسيطراً على انعدام جاذبية فراغنا المحيط ... يتوقف امامي مباشرة، يمسكني ويثبت كتلتي .. والأعجب أنه يتحدث

- أهلاً بك، طلبت مقابلتي .. وها أنا ذا

لم يعد هناك وقت لا للذعر ولا للانبهار ... سألته مستفسراً

- أين أنا ... من أنت ... ما هذا المكان

- على رسلك .. نحن هنا في عالم الكروموسومات البشرية، أنت تعرفها جيداً كما أخبروني، نحن الأن داخل جسد والدتك وأنا جين الشيخوخة الخاص بوالدتك، هذا الجين يوجد داخل كروموسومات كل كائن حي. منذ عدة سنوات وأنا ناشط فعّال، ولكن هذه الأيام وصلت لذروة نشاطي، وأمك في نزعها الأخير .. لا ندري متى يحين أمر الله، ولكن ما أعرفه وتعرفه بقية المخلوقات الصغيرة مثلي أن النهاية اقتربت .... ستموت أمك .. وسنموت كلنا معها .... طلبت مقابلتي أيها السيد .. ماذا تريد أن تسأل؟

أصابت كلماته شرودي الحزين .. استجمع بعضاً من منطق لأرد عليه، لأسأله واستفسر منه ... كلماته كلها وصلت لمجامع حسي رغم الشرود

- أنت إذن من فعلت هذا بأمي

- ما فعلته عن أمري، أنا مأمور به

- أترى حجم الجرم الذي ارتكبته؟

- أيها السيد، أنا لم أرتكب أي جرم ... إنما هي سُنّة الخالق والخليقة

- الا ترى جسدها المتهالك، الا تبصر كيف تنحى عنها الأهل والأقارب؟ .. بعد أن كانت مركزهم وملجأهم، بعد أن كانت هي الملاذ لنا جميعاً، لا تنام قبل أن تطمئن على حال أولادها، تستيقظ في جوف الليل لتفكر كيف تحل مشاكل أبنائها و أبناء أبنائها وبناتها ..... الان كل أولادها يتمنون لها الرحمة ... أو ما يسمى بالموت .. الا ترى ما فعلت أيها اللعين.

كنت بعيداً عنها، أدعو لها وانتظر معجزة، أن تشفى أو أن يُرد اليها جزء من عافيتها وصحتها، كنت أتمنى أمنية مستحيلة، معلقة في سحاب الملكوت ... أن تُنزع أنت من جسدها ... لكنك بقيت ... لتعبث وتعيث فساداً وهلاكاً .. يالك من وضيع.

- أيها السيد تأدب في حديثك ... أنت وأنا لسنا الا خلق من عبيده، هو الله .. ماض فينا حكمه وسنته. كلنا سنشيخ، لابد لنا أن نشيخ لكي يأتي الموت، كلنا سنموت ... لابد لنا أن نموت يوماً ما.

وكأني أسمع ما أنتهي من قوله لأول مرة ..

حكمة مأثورة تسللت منه لتصدمني .. لأُفيق إن أردت الاستفاقة.

رآني أنظر اليه بدون حركة، بدون ارتعاش للطرف، عاود كلامه لما استشف قابليتي للاستجابة لنصحه وأمره

- سيدي ... اعرف أنك مبعوث هنا لغرض واحد كما علمت وأُخبرت، أنت تبحث عن سر الموت، وهو أمر خال من أي سر، هو حقيقة واقعة يتناساها كل البشر الا من رحم الله. كلنا الي فناء .. ولا يوجد تفسير لهذه الحقيقة لأنها ببساطه حقيقه، الحقائق لا تُفسر .. ولا تحتمل توضيحات فلسفية أو ميتافيزيقية.

من الأفضل لك ولي ولنا جميعاً الّا نفكر في الموت، لأنه آت لا محالة، بدلاً من أن نفكر فيه، علينا أن نفكر فيما بعده، هذا إذا كنت تبحث عن سر الموت كما علمت، أما إذا كان لك غرض أخر... نية أخرى .. لا أعلمها، كالرغبة في الفرار من الموت أو الرغبة الواهمة في الخلود، فأنصحك الّا تستمر في هذا الطريق، أنت ميت يا سيدي منذ زمن ... وأمك ستموت وأنا سأموت معها، علام هذا التمسك بالدنيا والرغبة بالبقاء فيها إذا كنا متأكدين غاية التأكد من فنائنا.

اسمع نصيحتي أيها السيد، عُد من حيث جئت واستعد لما بعد موتك، لعله تأخر عنك بعض الشيء لحكمة ما ولكنك حتماً ملاقيه.

دموعي تترقرق وتنساب، هذا هو ردي الفوري على منطقه الذي لم أغلبه، لم أجد بديلاً عن دموعي لأتحدث به.

الملم أملاً ووهماً .. اتشجع وأحرك حنجرتي لأخاطبه بعد كلامه المعصوم

- أتعني أنه ليس هناك من أمل

- في ماذا؟

- أمل في أن تعود أمي الي عافيتها، وأن أعود أنا للحياة .. أتشمم الجنة تحت أقدامها وأضمن النجاة

- فات الوقت أيها السيد، أنت ميت منذ زمن طويل، والأن أنت في زمن مستعاد، برهة قصيرة قبل وفاة أمك ... لا أدري وقتها تحديداً.

تتصاعد حرارة غضبي الي قمة رأسي الهلامي .. المستخفي عن البصيرة، كأناء طعام محكم الأغلاق يغلي بما في داخله، ما لبث أن انفجر وتطاير كل ما في داخله، ليحرق كل من حوله الي أبعد مدي دائري ممكن

- أنت قاتل .. قاتل .. أنت السبب في موت أمي، قلت لك كف عن فعلك ... عن شَرّك، لكنك أبيت الا أن تقتلها عمداً وتحرمني من رؤيتها، أيها الملعون كيف لي أن أمسك بك وأقضي عليك.

أحاول أن أهجم عليه، أن أمسك بأطرافه المتفتقة .. ولكني هلام ... هواء ... فراغ، لا أقوي ولا أقدر ..، وهو يضحك ساخراً

- أما زلت تهذي بوساوس الشيطان .. لا حول ولا قوة الا بالله، أخاف عليك أيها السيد من حساب موتك المؤجل.

على أي حال أقولها لك للمرة الأخيرة ... أنا لست الا سبب للموت، تعددت الأسباب والموت واحد، هناك من يموت بسببي ومنهم من يموت بسبب المرض ... الانتحار...أو حتى الاستشهاد في سبيل الله، هل فهمت .. أدعو الله أن يكون ما قلته لك قد أصاب عصب عقلك وقاع فؤادك.

الي اللقاء أيها السيد .. نلتقي في الأخرة إن أراد الله.

يتباعد بكتلته الصغيرة عني، وأنا كذلك أبتعد عنه بفعل قوة أخرى مضادة ... يتضاءل ... يختفي، وأنا كذلك أتضاءل .. وأغادر هذا العالم .. جسد أمي ...

الي المجهول مرة أخرى.

*   *   *

عالمي يظلم مرة أخري وصوت الرجل المجهول يقتحم ظلمته ويثير هلعي مع أنني كنت أنتظر سماعه:

- هل تكتفي بهذا القدر من التحري والبحث السقيم عن السر الذي ليس وراءه أي سر... أعرف ردك مقدماً، على أي حال أنت لا تستطيع الكلام الأن، ستستمر في جولتك المغامرة يا صديقي حتى تنتهي فجأة لتعود للموت الذي تفر منه.

أحاول أن أرد عليه، أن أقارعه، وأجدني بالفعل معدوم القدرة، مبتور الإرادة، وبعد صمت لعدة ثوان ... عاود قائلاً:

- الأن .. ستحل في مكان تعرفه جيداً وتعي ما دار في اجوائه، لأنك كنت طرفاً غائباً فيه، انتظر منك أي إجابة على تساؤلك واستفسارك، مع يقيني بعدم عثورك عليه ... وتأكدي من عبثك الغير مجدي، لأنني أكاد اعرف ما يدور في رأسك، ولكنني انتظر أي إجابة منك، لعلها تشفع لك فيما هو آت.

انقطع صوته فجأة وأُضيء العالم من حولي كذلك بمنتهى المفاجأة، آلاف المصابيح تفجر ضوئها في وجهي لتفتت ظلام حالك عميق.

دقيقتان ليعتاد بصري على واقع الضوء الباسل العنيف، أبدأ في تحسس المكان ببصري ... أعرفه ... أعرفه جيداً، إنه بيتنا حيث تربيت ونشأت .. هذه غرفة الجلوس، وهذا أبي يجلس علي مقعده الذي لا يجلس عليه غيره، صورة أمي وراءه وقد أتشح طرفها الأعلى بوشاح أسود .... ماتت أمي .. رحمها الله.

أبي أتى عليه الدهر و أنتزع صحته .. هيكله وهيئته، يبدو عليه المرض وتكسوه ملامح العلّة.

أين هيبتك يا أبي، أين قامتك المرفوعة بكل العزة التي طالما تعلقت بها وتعلمت أن أبقيها منتصبة، مقلداً إياك منذ الطفولة؟

ظهرك هذا الذي تقوس، لم أكن أجرؤ أن أراه على هذا الحال الا عندما تركع في صلاتك التي علمتني إياها وكنت تقسو علىّ حتى لا أُضيعها؟

أين رائحتك العطرة التي كنت اضمخ انفي وجسدي بها وبعطورك ومسكك التي كنت تهديها اليّ حتى أتبع السُّنة؟

ما هذا الذي يتسلل من قاع سروالك يا أبي؟ بول؟!! ... براز؟!!

يا الله .. يا رحمن ... ارحم أبي

أبي .. أبي .. أنت لا تتحكم في بولك وبرازك ؟؟

أبي يمسك بهاتفه الجوال ويتحدث، إنه يحدثني ... كنت أتحدث معه من على بعد آلاف الأميال راجياً رؤيته، لم أجرؤ على العودة لأُملِّي وجهي بقسمات وجهه، خوفاً من بطش الطاغوت في بلادي وفتنة من أيدوه ممن كنت أنعتهم دوماً بعدم أحقيتهم في الحياة.

الأن تذكرت هذه المحادثة، كأنها بالأمس ... هذا الحوار الذي طُبع وحُفر كختم أبدي في ذاكرتي، أسمع صوتي مع صوت أبي وشفتاي تتحركان بنفس الكلمات، أسمع صوتي الذي كان منذ مئات السنين ... أنطقه الأن بلا صوت.

- كيف حالك يا ولدي .. كيف صحتك؟

- صحتك أنت يا أبي هي الأهم

- ماذا أقول لك يا ولدي ... آلام شديدة لا أستطيع تحملها، لا أستطيع الجلوس، فقط استلقي على ظهري ... الدواء المُسكن للآلام يأخذ وقتاً طويلاً ليبدأ مفعوله، والأهم من ذلك نفسيتي ليست على ما يرام، كنت أُفضل الّا أعلم بمرضي بهذا الداء اللعين ... السرطان .. ولكن الحمد لله قبل وبعد كل شيء.

أغالب دموعي المخنوقة حتي لا تفضحني، ويهتك سري .. صوتي

- الصبر يا أبي ... الصبر كما علمتني إياه هو مفتاح الجنه

- أنا صابر.. ومحتسب .. الحمد لله ... الجديد في أمري أنني لا أستطيع التحكم في بولي ولا فضلاتي

الي هذا الحد، فرّت عدة دمعات من عيني المقهورتين، أحمد الله أن أبي لا يري وجهي في تلك اللحظات الحزينة، أحاول أن الملم مشاعري ... أن الجمها وأسيطر عليها وأن أظهر له أن هذا أمر طبيعي بسبب العلاج الكيميائي ... هل أكذب؟ ... نعم لأكذب

- هذا شيء طبيعي يا أبي في هذه الحالات، هناك حفاضات كحفاضات الأطفال تستخدم في مثل هذه الحالات، ممكن أن تبعث في شرائها أو تطلبها من أي من أخواتي

وتنهد الرجل تنهيده احسست بمدى جرحها الغائر

- آه يا ولدي ... كما قال سبحانه وتعالى ومن نعمره ننكسه في الخلق

- لا تقل هذا يا أبي، أطال الله عمرك

أحاول أن أغير مجري الحديث وإن كان يدور في نفس الفلك، فلك المرض اللعين .. السرطان

- وماذا عن أخر زيارة للطبيب، ماذا قال بعد انتهاء العلاج الكيميائي

- في غضون شهر من الأن لابد أن أجري عملية جراحية، أنا غير مطمئن يا ولدي لهذه الجراحة ولا أريدها، إحساسي أنها آخر خطوة قبل الوداع ... كنت أود أن أراك قبل أن أودع هذه الحياة ولكنها إرادة الله.

الي هنا لم أحتمل أكثر من هذا، فاضت عيناي بالدموع وتحشرج صوتي

- يا أبي نحن لا نفترق بالموت، نحن نغادر محيانا لوقت قصير الي أن نتقابل في الجنة إن شاء الله، الفراق الحقيقي هو أن يكون أحدنا في الجنة والأخر في النار والعياذ بالله

- إن شاء الله يا ولدي ... لعلي القاك في دار الحق، لعلك داخل الي الجنة قبلي، إن كان قدرك أن تطأها فأدعو لي يا ولدي

- يا أبي أنا أدعو لك ليل نهار، وعلي يقين باستجابة الله

- لا أريد أن أطيل عليك يا ولدي فأنا أعرف مدي تكلفة المكالمات الهاتفية البعيدة من مكانك ... ألك حاجة؟؟

آه يا أبت حتى وأنت في عز مرضك تسألني عن حاجتي!

- ألك أنت حاجة يا أبي

- الدعاء ... الدعاء ... أستودعك الله .. السلام عليكم .. لا إله الا الله

أجيبه وأنا أكاد أنهار كلياً وقد حطّت علىّ الكآبة وتملكني الحزن ووجهي مبلل بالدموع والعرق

- محمد رسول الله

*   *   *

الأن تحتلني كل الشجاعة ويغزوني كل العزم، أحبالي الصوتية ترتج بكل عزمها كأعنف صوت يخرج من أكبر كونترباص، أضخم الآلات الوترية ..

أستطيع أن أشق السكون بصوتي، أصرخ منادياً صوت الرجل المجهول

- (أدخلني جسد أبي، أريد أن أمسك بهذه الخلية السرطانية)

وعلى الفور .. تسعفني إجابته (لك ما تريد)، وكأنه كان يجلس داخل نفسي، ممسكاً بتلابيب عقلي.

ويحدث ما كنت أنتظره، ... مرة أخرى أتصاغر وأتصاغر الي ما بعد حجم الكينونة الدقيقة وأُسحب كلية الي داخل جسد أبي، لم أعد أستغرب ولوجي وخروجي من هذه العوالم، أعتدتها منذ بداية هذه التجربة المقيتة، هذه المرة أنا الذي أسعى للولوج داخل هذا العالم الكامن في أعماق جسد أبي المتهالك.

أتدحرج وأتقلب ككرة جليدية كُتب عليها الهبوط غصباً من أعلى قمة جبل حتى سفحه ..... الي أن هدأت سرعتي وأستقر كياني ... أعتدل ... أنتصب لأري ما حولي.

مباشرة أجدها امامي ... أعوذ بالله .. إنها هي .. خلية بيولوجية كما درستها أيام دراستي الأولى في المدرسة وكذلك أيام دراستي الطبية الأولى، عندما كنت أراها تحت الميكروسكوب المجهري ... ولكنها ممسوخة ... مشوهة ... ليست طبيعية.

وبسبب خلفيتي الطبية التي استعادت ذاكرتها وكل مرئي درسته .. في لحظات، وبسبب رغبتي في رؤيتها منذ أن أنهيت حديثي القديم مع أبي، ... عرفتها من فوري .... إنها الخلية السرطانية، بداية المرض وأساس البلاء الذي حل بأبي.

لم أطق صبراً ولم أنتظر، فقد جئت خصيصاً لأنتقم ولأقتص منها، قفزت عليها .. أمسك بها، أحاول صرعها .... تتخلص مني بمنتهى السهولة كأنها تلقي بورقة مخصوصة بعد أن استخدمتها إحداهن في مرحاض عام، .... وتنطق اللعينة

- لولا معرفتي بغرض مقابلتك لكنت امسكت بجسدك ولا أتركك حتى أصيبك بوبائي وأتكاثر في بصيص من وقت، بدون أن تدري فتهلك كما سيهلك أبوك

- أيتها اللعينة .. أهكذا فعلت بأبي

- لم أفعله عن أمري يا هذا ... أنا مأمورة

- أيتها القاتلة .. أنت تقتلين أبي كل دقيقة، تتكاثرين عبر دمه لتستقري هنا وهناك، وفي كل ركن من احشائه تنشئين مستعمرة من نسلك .. بأولاد وأحفاد ومخلوقات لعينة مثلك ... أيتها السافلة، لا يشفي غليلي الا قتلك

- لن تستطيع، وإن فعلت وقتلتني أنا فيوجد داخل جسده من أمثالي ملايين

- في غضون أيام سيُجري أبي جراحة لاستئصالك أنت والباقين

- فات الوقت، لن تجدي هذه الجراحة، لقد انتشرت في كل الأركان والأنحاء، ولم يبق على هلاكه الا القليل

صراخي يعلو مختلطاً بنحيبي ودموعي التي كانت تسيل مخنوقة منذ قليل

- أيتها السوءة الخارجة من أرض السوء، لماذا كُتب علىّ أن اتحمل فعلتك المشينة، لماذا تحرمينني من أبي؟ ..

كنت أخطط للعودة رغم خطورة عودتي، لأراه بعد أن ماتت أمي، أن أنحني امامه مقّبلاً يديه ... كم كنت استمتع بتقبيل يديه وأن أمسح وجهي بقشر جلدها، أن أطالع ابتسامة وجهه وهو يسحب يديه خجلاً من التصاق شفتيّ بها، كم كانت سعادتي عندما كنت أجالسه ... أبادله الرأي والرؤيا ... كم هو جميل أن أصلي خلفه واستعيد بدايات حياتي عندما علمني الصلاة وأنا ابن خمس سنين ... وكنت أشنف سمعي بقراءته العذبة لصغار السور، كأنني استمتع بمضغ الحلوى على لساني، يبتلعها حلقي راضياً محباً ... أيتها القبيحة ما أقبحك ... ما أقبحك .. أنت تنسفين أبي

- لتسمعني إذن بكل انتباهك ... نعم أنا لعينة قبيحة .. فاتكة .. قاتلة، كل ما قلته وأكثر، ولكنني مأمورة .. أنا لست الا سبب يا هذا، لتنفيذ القدر واستجلاء المشيئة، ولا تنسي أنك أنت السبب في مرض أبيك

- أنا ؟؟!! .. كيف؟ ....أنت لست فقط قاتلة، بل وكاذبة كذوبة

- على رسلك ... ولا تنعتني بالكذب، المخلوقات الكثيرة الدقيقة مثلي لا تكذب، ولا تعرف كيف تكذب، فنحن مسخرون فقط لتنفيذ إرادة الرب، على أي حال سأشرح لك

كنت أنت من دعوت الله مراراً وتكراراً، كل يوم تقريباً، دعوت على كل من وقف بجانب الباطل ... كما سميته .. أو الطاغوت في بلادك الذي منعك من العودة اليها سالماً آمناً ... دعوت عليهم بالفقر والجوع والمرض والذل والمصائب، وها قد استجاب الله لدعائك، أنت تعرف أن أباك وأمك كانا ممن أيدوا الطاغوت وقد أصابتهما دعوتك

- كانا مخدوعين .. ولم أقصدهما مطلقاً، لم أقصد أن أدعو عليهما .. أقسم لك .. لم أقصد ولم أرد هذا أبداً، كنت أفضل أن يصيبني السوء، أن تغزوني أنت بسمومك وخبثك، ولا يمسهما أي مكروه

- ولكنه حدث، ولا تنسى مجادلتك أو قل مجادلاتك المتعددة معهما لنصحهما بأن لا يركنا للباطل، وأصرا على رفض ما تقول ودحضه

- أقسم لك أنني لم أقصد ايذائهما بدعائي، أقسم لك ... كانا كمعظم مؤيدي الطاغية، مغيبين .. منقادين وراء سَحًرة الباطل الذين حللوه في أعين الناس، واسترهبوهم بالمكر والخديعة .....

أنا دعوت الله لهما كثيراً قبل موتهما وبعده

- سبق السيف العذل يا هذا ... حال الله بين كل هؤلاء وقلوبهم، فلا دخل يقين الحق إليهم ولا خرج من قلوبهم ضلال الركون للطاغوت

- ولكن أبي يموت الأن ... يفنى امام عينيّ ..... يحتضر، وأنا عاجز مشلول بسببك

- نعم، أنا سبب، ولكن الإرادة من الأعلى، من الخالق الأوحد

- أليس هناك أي أمل في أن تكفي نشاطك حتى يبرأ أبي

- للأسف لا ... فات الوقت

- ألا يمكنك على الأقل أن توقفي تكاثرك فتهدأ آلامه قليلاً... إنه يموت كل يوم مائة مرة قبل الموت

- مع أسفي الشديد، لا يمكن

- أبي يموت ... يموت

- لماذا كل هذا الحزن يا هذا؟ كلنا سنموت ... أنا سأموت داخل جسد أبيك عندما يموت .... وأنت ستموت، أو إنك ميت بالفعل كما أُخبرت، إذا كنت تريد كما أري .. بكائية ومبكاة لكل ميت يغادر الحياة فاذهب الي هؤلاء الضحايا من الأطفال، قتلي الحروب، الزهرات التي يقطفها القصف الغاشم لطواغيت كثيرة في هذا العالم استحلوا ذبح الشعوب.

وإذا رغبت أن تزيد من بكائك، فاذهب الي سجون الطواغيت لترى كيف يقضي شباب في مقتبل أعمارهم، تحت التعذيب الذي يفوق كل خيال ... ساعتها ستبكي

اذهب الي مناطق الفقر في انحاء الأرض لترى أم في نفاسها بعد وضعها صغيرين توأم ومعها أطفال صغار، لا يتعدى أكبرهم السنوات الخمس وليس لهم أي عائل أو مصدر رزق ..

لا ناصر ولا نصير

يا هذا ... لقد عاش أبوك عمراً مديداً واستمتعت أنت بوجوده وتعلمت منه، وحان وقت رحيله كما سنرحل كلنا .... بما يسمى الموت. أنصحك أن تذهب من حيث جئت وأن تستعد لحساب لك مؤجل بعد موتك لم تستوفه بعد ...

اذهب وكفي مزاحاً .. كفي بكاءً .. واستعد لحساب صغير الأن، قبل أن يأتي حساب أكبر ... مهول ... مريع.

وكأن ما قالته هذه اللعينة، حجر كبير ثقيل، حملته بمنتهى الخفة وألقته علىّ، ليخترقني ويذوب داخلي ثم يتمدد بثقله مرة أخرى فيطبق على روحي وأنفاسي، أجد صدري ضيقاً ... أتنفس بصعوبة ... أنحني وتتدلى رأسي ... يتداعى جسدي الذي لا أعرف شكله أو وصفه.

أنا الأن كائن متداع أدرك أن لي جسد وعقل وقلب لا أعرف شكل كيانهم ... ولكنني واثق من أنني على درب هلاكهم وفنائهم.

أستدير وأتركها .. أمضي متثاقلاً كالمهزوم الذي عاد بخُفيّ حنين، أشعر بتساقط كياني كلما خطوت، باقتراب هامتي المجهولة من الأرض.

وبعد أن غبت عن نظر الملعونة السرطانية، تركلني قوة مجهولة بعنف مؤلم ... فأطير ... سابحاً ... الي المجهول مرة ثالثة .. أو رابعة .. لا أدري، بدون أي ادراك للنهاية .. وما بعد النهاية

*   *   *

ألفت الظلام، تعودت عليه ... اكاد أكون قد احببته دون أن أدري، بدأت أحس بالانسجام مع الحيز الضيق وتتحسسه أطرافي الوهمية .. المفقودة.

يبدو أنني ميت بالفعل ... وأن أي نسبة ضئيلة من أمل تشع بالرغبة في العودة للحياة، هو أمل واحتمال ميت هو الأخر.

خيالي الميت هو الأخر أوحى اليّ بهذيانه وأوهامه أنني ما زلت داخل جهاز محاكاة الموت، وأنني غائص، مغروس ... مفقود داخل تجربة مريرة، لعبة من العاب السحر النفسي البغيض ... طالت أكثر من اللازم.

أوهام ... أحلام كالسحب الهشة المتداعبة .. ليس لها أعمدة، حتى وإن كانت معبئة بكل الأمل، ابداً لن تلامس الأرض.

أنا ميت ... وهذا هو عالمي مع كل أسفي البائس الحزين.

صوت الرجل الغامض المجهول يقتحم هذا العالم مرة أخرى ... برائحته، كأن صوته قد علق في ذهني ملتصقاً برائحة مميزة، هي أقرب للاشمئزاز الذي يثار داخلي، كلما سمعته.

أقر بأنني قد اعتدت على مذاقها اللاذع، حتى صار عادياً كرائحتي أنا تماماً، كأنني ولدت بها بعد موتي .... في قبري هذا ... عالمي الذي أسكن به، كنت أنتظره وقد جاءني بلا حياء ولا استئذان

- هل مللت؟ ... هل تريد إيقاف كل هذا؟ .. هل أنت مستعد لحسابك؟ .. تكلم ... الأن يمكنك أن تتكلم

- ليس بعد ... أريد أن اخوض أكثر في مستنقع الموت، لم أمل بعد، رغم مرارة ما أريتني ... رغم انفطار قلبي

- إذا كنت تظن أنك تضيع وقتاً حتى لا تخضع لحساب قبرك فمن الأفضل أن تكف الأن ........

- لا.. ارجوك ... ليس هذا غرضي، أعطني فرصة أخرى، ارجوك أن تمد لي في عمري هذا، الفارغ ... الساقط بين الأزمان ... أريد فعلاً أن استجلب من دنياي الفائتة، التي فاتت كل الأخرين كذلك ... أريد أن استعيد بعضاً من حسنات نافعة ... أريد أن اكتنز ما نسيته من دار الممر الي دار المقر.

احسست أنه يدرك تماماً أن نصف ما اتحدث به هو الكذب ذاته، أو أنني أُخفي عنه نصف الحقيقة، فرغم كل الشواهد الجازمة بموتي منذ الأزل، ما زال هذا الهاتف يأتيني من أبعد وأعمق أفق نفسي، يخبرني أنني ما زلت حياً .... قاطع أفكاري المستورة المكشوفة له كما ظن حدسي

- استعد إذن .... سأجعلك تمر بتجربة مثيرة، هذه المرة ستظهر بكل جسدك وكيانك، سيراك الأخرون أو الأخران كما سأشرح لك .... إنساناً كاملاً بحجمك الطبيعي كما كنت، ستتحدث وسيسمعك أي انسان حيّ بسمعه وسيراك كل من له بصر

رقص قلبي فرحاً ... سأبعث كما كنت للمرة الأولى، أستطيع أن أفر إذن، هي فرصتي الوحيدة الأن منذ أن تورطت في هذه القصة العفنة منذ البداية.

قاطع الرجل تفكيري كأنه يقبع داخل عقلي، عليه اللعنة

- اياك أن مفكر في الهرب أو الفرار، أعرف أنك تمني نفسك به، على أي حال لن تقدر ..... المهم .. سأجعلك تري أثنين من اصدقائك القدامى، كنتم جميعاً رفقاء الدراسة منذ الطفولة .. مروراً بالصبا والشباب حتى بدايات عهد الرجولة ... أولهم اختار أن يعيش في نفس الوطن الذي تمنيت الموت لأغلب أهله، والأخر ذهب الي أقصى الشمال الي بلاد التحضر .. الي من يستحقون الحياة كما كنت تظن وتقرر.. الي السويد، ... هل أنت مستعد؟

أحاول أن أتذكر عمن يتحدث الرجل لكي أتغلب على إحباطي الذي تسبب به، بعد أن فضح عقلي وأقر باستحالة هربي.

وعندما بدأت أشحذ ذاكرتي قليلاً قبل أن يفعل ما اعتاده ... انتقلت بفعل السحر الي المكان الذي اختاره.

*   *   *

عرفته ... تذكرته بمجرد أن رأيته امامي، مباشرة فور أن القاني الرجل الغامض ذو الصوت الأجش في مجلسه ... أراه بوضوح تام.

كان رفيق دراستي منذ الطفولة وحتى نهاية الدراسة الجامعية، رغم اختلاف نهج دراستنا، لكننا ظللنا متلازمين ... وكان معنا رفيق ثالث، هاجر مباشرة في اليوم التالي لاستلام نتيجة آخر عام دراسي جامعي، الي احدى الدول الاسكندنافية، وتقطعت اتصالاتنا بعدها وشغلتنا أمور الحياة.

الأن تذكرت ما قاله الرجل الغامض ومن كان يقصد، رفيقي هذا القابع امامي يبدو عليه الهم والعجز والتقدم البالغ في السن رغم أنه في نفس عمري، تغير كثيراً وجذرياً عن أخر مرة تقابلنا فيها. الرجل يبدو عليه البؤس وكره الحياة، منزله متواضع للغاية ... خاصة هذا المجلس أو الغرفة التي أُوجدت فيها ورأيته، الغريب أن امامه جهاز كومبيوتر يبدو عليه قدم الاستعمال وعلى شاشته علامة أحد برامج الاتصال السريع بالكاميرا و...... و ياللعجب، يظهر رفيقي الثاني ... مواطن بلاد الشمال على شاشة الجهاز، هو الأخر تغير كثيراً، ولكن للأفضل رغم ملامح تقدم العمر ... والشعيرات البيضاء التي تزين رأسه.

مفاجأة لي أن اكتشف انهما ما زالا على اتصال مباشر حتى الأن رغم بعد المسافات، وإن كنت قد تألمت بعض الشيء لاستئصالي من وصلهما الذي بدا لي أنه لم ينقطع منذ زمن، ولكن لماذا الومهما؟ لقد كنت أنا من بادر بقطع الاتصال منذ وقت بعيد، فلماذا الغضب؟ .. أم أنها مشاعر الغيرة الغير مستحقه.

على أي حال ... وجدت نفسي داخل المشهد، بينهما مرة أخرى، وعلىّ أن استغل الفرصة لاستعادة أواصر الصداقة المفقودة ..... هذا الرجل الغامض يعرف عني وعن حياتي الكثير.

قمت من مجلسي لأقتحم حديثهما المرئي عبر البحور والقارات، وبمجرد أن رآني رفيقي الثاني المهاجر .... بدأ الحديث

الأول:   أتري يا عزيزي ... ها قد جاء كما قلت لك، احساسي لا يخيب

الثاني:   فعلاً ... احساسك لم يخب ابداً

         وجه نظره نحوي وعاود حديثه

أنا:     منذ زمن طويل لم ألتق بكما ... هل كنتما على علم بقدومي؟

الأول:   قدرك الذي ارتبط بكلينا في أوله، ابى الا أن يعود الي قدرنا المشترك في نهايته، سيق

         الينا لتشهد أنت تنفيذ أهم قرار اتخذناه

الثاني:   قررنا وبملء ارادتنا أن نغادر هذه الحياة وللأبد

الأول:   سنتخلص منها قبل أن تتخلص هي منا

الثاني:   هلا شاركتنا ... هل تنضم الينا ... تشاركنا انتحارنا كما شاركتنا أحلى لحظات حياتنا

         في عنفوان شبابنا البائد

أقف مذهولاً بين أحدهما وصورة ثانيهما المتحركة الكترونياً، تنتابني رغبة في أن أطيح بكلماتي ما استغلق علىّ فهمه، ولكني أخشى ولا أريد الزلل

أنا:     ما الأمر؟ ... هل أنتما أحياء؟ أم أموات مثلي!!

يقهقهان بضحك ساخر

الأول:   أموات؟!! ... كلنا أموات يا عزيزي على هذه الأرض، نحن فقط ننتقل من مساحة مربعة

         ميتة لمساحة مضلعة أكثر موتاً

الثاني: هل انتحرت قبلنا يا صديقنا العزيز؟ ... إن كنت فعلتها، فأنت تخيب ظني السيء بك،

         طالما اعتبرتك عديم الرؤية .. أرعن.. لا تنظر لبواطن الأمور، إن كنت فعلتها حقاً قبلنا

         فهنيئاً لك رجاحة عقلك الميت المستريح، ولتشهد معنا هذه اللحظة التاريخية

وجهت رأسي وجسدي كله لمواجهة شاشة الكومبيوتر وكاميرتها .. لأركز حديثي معه، صديقي المهاجر

أنا:     منذ أخر مرة تقابلنا منذ ما يقارب عقد من الزمان وأنا أعرف أنك تعيش في أقصى شمال

         الأرض، في السويد، في أقصى شمالها، أقصى بردها وأقصى نعيمها ورغد عيشها.

         أريتنا صوراً وأفلاماً لمنزلك المتناهي في الفخامة، بطوابقه الثلاثة، كالقصر المنيف  

         المذكور في الأساطير الهندية، بحديقته الغنّاء وحوض السباحة المهيب، وكلابك وقططك

         وباقي الحيوانات الأليفة التي أخترتها لتصاحبك في قصرك.

         وأخبرتنا عن حياتك الناعمة التي لا ينقصها شيء، عندك ولد من زواج سابق، إن لم

         يخونني تقديري .. فهو الأن في منتصف عقد الشباب، ولا تبالي بالزواج مرة أخرى فكل

         النساء هناك ملك يمينك إن أردت، تأتي باجملهن لمنزلك إن شئت، وتصرفها في صباح

         يومك التالي ... إن كرهتها.

              لا تعاني ولا تفكر في الحاجة والعوز، كل ما تريده من خدمات صحية واجتماعية ونفسية، موفور لك إن شئت.        

       كل هذا ليس ميزة مخصوصة حباك بها مجتمعهم، ولكنها ملك لكل الشعب كما أخبرتنا .. لكل

       من يعيش على أرض تلك الدولة.

       لا أفهم ولا أدري حقيقة، علام رغبتك في التخلص من حياتك؟

اقترب رفيقي من الكاميرا، عابساً بوجهه، مقبلاً على حديث جاد، لا يريدني أن أفوته

الثاني:   لهذا السبب يا عزيزي أريد أن أغادر الحياة، لم يعد لها أي معني .. لم يعد هناك أي شيء

         لأفعله، لم يعد هناك أي هدف صعب لأقاتل حتى ابلغه ... سئمت كل شيء، كل ما أريده

         موجود ... متوفر، لم يعد لأنفاسي أي معنى

أنا:     أجربت أن تنشغل بالدين ... بالعقيدة .. بذكر الله .. بمساعدة الأخرين، هناك أشياء كثيرة    

         تستطيع أن تمضي بها وقتك بإيجابية ... تسعدك وتسعد غيرك

الثاني:   لا يوجد هنا من يحتاج للمساعدة .. أما ما تقوله عن الدين والعقيدة .. فهو

تلجلج الرجل .. تعثرت كلامته، وعاود

         فأنا لست متأكداً من مصادر أي دين .. ولا حتى ديننا، وما ذكر به لوصف ما بعد

         الموت، إن كنت قد سرت على نهجه الصحيح كما يقال، لست متيقناً من صدقه، هو بالنسبة

         لي غيب مجهول لا أعرف مدى صحته، وإن كنت اشكك في صحة ما ذكر برمته.

أنا:       لا حول ولا قوة الا بالله ... وهل بانتحارك أو قرارك هذا بمغادرة الحياة، هل تأكدت

         وتيقنت من أفضلية ما أنت ذاهب اليه؟ .. هو أيضاً غيب لا تعرفه

الثاني:   سيكون مغايراً على أي حال لعالمي الممل هذا

اعوج فمي واشمأزت نفسي وبان على وجهي علامات التقزز، وبدأت اقلب كفيّ بحسرة.

هذان هما كفاي، لأول مرة منذ بداية هذه التجربة أرى يديّ وتتحسس كلاهما الأخرى

لم أستطع أن أكمل حديثي مع هذا المعتوه المهاجر الذي كان لي يوماً .. صديقاً الجأ اليه واشمله بصحبتي.

نحيت نظري عنه تماماً ووجهت وجهي الي الأخر القابع امامي منذ بداية حديثي مع صديقنا الثاني، كان قد أشعل سيجارة وأخذ ينفث دخانها، بدا لي كمجرم محكوم عليه بالإعدام، ينفث دخان آخر سيجارة بتلذذ، قبل أن يغادر الحياة.

وأنت أيها الرفيق الرابض على أرض الوطن بدون مفارقة، ما سبب قرارك بأن تنهي حياتك؟ إنها ليست ملكك .... إنها ملك أولادك وبناتك، عندك ستة من الأبناء على ما أذكر... بالتأكيد لن يكون سببك هو رغد العيش ورفاهيته المملة كصاحبنا ساكن السويد، ما بالك أنت؟!

لوي الرجل رقبته، ودخان سيجارته يتلوى خيوطاً بيضاء، تقطع رسم وجهه البائس.

لا أدري لماذا شممت من ريح وجهه المختلط بالدخان، شممت بواكير الموت، أو بالأحرى شممت أنفاسه في نهاياتها الأخيرة، مستسلمة لكل ما له صلة بالموت.

الأول:   غبت عنا كثيراً يا عزيزي، أخر مرة رأيتك واجتمعنا ثلاثتنا كان منذ عشرة سنوات، وكان ابني

         السادس والأخير ابن أيام سبعة، ولهذا دعوتكما لحضور الاحتفال بمولده، مع كل أسفي

         واعتذاري لأولادي، فأنا السبب في شقاءهم كما كنت سبباً في ايجادهم، كان علىّ أن أحدد نسلي

         وذريتي ... أن أكتفي بأثنين ... أو ثلاثة، لكنه غبائي ...

         واجهت خلال هذه السنوات اصنافاً من المعاناة، وغلبة الدَيّنْ وقهر الرجال، أنت كنت بعيداً  

         غائباً ولم أجرؤ على ملاحقتك أو أن اطلب مساعدة منك، وصديقنا هذا في أقصى الشمال

         ساعدني مشكوراً أكثر من مرة، بل وحاول أن يستقدمني بكل العائلة ولكن هذا الأمر كما تعرف

         أمر معقد، والأن ... حالي كما ترى، يمكنني أن اشرح لك ما استخفي من مصائب أكثر

قتامة، أب لستة من الأبناء، غارق في الديون ... ذو نفسية محطمة، وليس عندي أي حلول          

         ... أي انقاذ يخرجني من مستنقع حياتي البائسة العميق.

         تسريتي الوحيدة في هذه الأيام الأخيرة هو هذا الكومبيوتر الذي أرسله لي صديقنا من السويد

         لكي يراني بشكل يومي، أولادي فرحوا بهذا الضيف القادم الجديد أيما فرح، كانوا يظنون أن

         هذه الأشياء يمتلكها فقط الموسرين ولكن حتى بامتدادها وانتشارها الشعبي بين العامة من

         الناس، لم أكن أقدر على ثمنه أو مصاريفه.

       لو كانت مقادير حياتي قد استقرت عند هذا الحد ببؤسها، ديونها وسوء حالها ... لكان خيراً،

       ولكنني اكتشفت أنني مريض، مصاب بمرض خبيث .... يحتاج علاجاً دورياً مكلفاً على الأقل

       مرتين كل أسبوع وأنا لا أملك شيئاً كما ترى، حتى إذا بعت كل ما أملك، وحتى إذا بعت جسدي

       قطعة قطعه .. وحتى إذا بعت أولادي، فليس هناك أمل في شفائي، وليس هناك حد أو قاع

       لمصاريف علاجي ...ماذا أفعل إذن؟ هل عندك حل؟؟

       اختمرت الفكرة في رأسي وتبلورت، أن أغادر كل هذا البؤس، أتركه للأبد .... ولحظي الذي

       ابتسم لي لأول مرة، وجدت رفيقنا السويدي يشاركني نفس الرغبة، كان له أسبابه وأنا بالطبع

       معروفة أسبابي ....

       اتفقنا وحددنا اليوم والساعة لنفارق الحياة سوياً ... وها أنت قد جئت لتشاركنا تلك اللحظات

       الفارقة، ببساطه نحن نفر من عالم بائس يكاد يقتلنا الي عالم أخر غامض ممكن أن نحيا فيه

       بشكل أفضل ... بدون مرض أو ذل أو بؤس حزين.

أنا:     وأولادك وأسرتك؟؟ ... الي من تتركهم

الأول: لا أدري، ولكن بكل تأكيد سيكون حالهم أفضل، فلا يوجد أسوأ من حالهم الحالي في وجودي،

         لعل غيابي عنهم يغيّر حالهم لغد مغمور بكل الأمل

أنا:     وماذا عن العالم المجهول الذي تود أن تنتقل اليه بعد انتحارك ... هل أنت واثق أنه مغاير

         لواقعك الحالي، بأي حسن جميل أو فضيلة مندوحة ... هو في الأول والأخر عالم مجهول

         لك

الأول:   لن يكون أسوأ ولا أقبح مما أعانيه الأن، هو مجهول صحيح .. ولكنه بالتأكيد أفضل مما

         أنا فيه الأن من بؤس

أنا:     وما يدريك

الأول:   لا تصدع رأسي بجدلك الفلسفي هذا، طالما صدعت رؤوسنا في أيام صبانا وشبابك بهذيانك

         هذا ولم نستفد منه شيئاً، فلا ترهقنا بجدلك العبثي ونحن في طريقنا لأن نعبر برزخ اليأس

       .... اتركنا لحالنا

أنا:     والدين؟! والعقيدة؟! والايمان بالغيب؟! وما بعد الموت الذي قدره الله؟!

الأول:   وماذا أعطاني الدين؟ ... وما هي منحة العقيدة لي؟

         هل أحضرا لأولادي رغيف خبز ساخن؟ هل كسيا احدى بناتي بثوب جديد؟ هل شفاني الدين

         من الم مرضي؟ هل عافتني العقيدة من ذل السؤال وغلبة الدين؟

أنا:     الأمور لا ينظر اليها هكذا ... هكذا هي الدنيا لا تستقر على حال واحد فلا هي دوماً في

         الحضيض، وعندما تصعد محلقة لأعلى السموات، لابد لها من سقطة ... الي حين حتى

         تتصاعد مرة أخرى

نفث آخر جرعة من دخان آخر جزء من سيجارته التي أوشكت على النفاذ في وجهي، كأنه ينهي آخر ما تبقي له من علاقة مع الحياة ويقطع آخر امدادات ملذاتها

الأول:   ولكن في حالتي أنا، الأمور السيئة ... الغارقة في السوء، مستقرة عند عتباتي منذ فترة ولا

         تريد الحركة، رابضة في سكون وثقه ولا أظن أنها ستتحرك

أنا:     ألست خائفاً؟ الا تهاب هذه النقلة؟ أن تنتقل في طرفة عين الي مجهول لا تعرفه؟ انا لا

         أعرف الطريقة التي أخترتها لتموت، ولكنني أظن أنك تريد الخلاص بسرعه، أليس كذلك؟

الأول:   نعم يا عزيزي ... أنت محق، فراستك أصابت وتعدت ... وحقيقة أنت تضيع وقتي ووقتك

         ووقت رفيقنا في شمال العالم

أطفأ سيجارته التي بدأت في احراق فلترها، أطفأها بعنف على خشب مسند مقعده، قام من مكانه مستنفراً، واجه كاميرا وشاشة الكومبيوتر، كان صاحبنا الأخر يتابع كل الحديث منتظراً إشارة صديقه، قال

الثاني:   حان الوقت يا صديقي أليس كذلك؟

الأول:   نعم، بل أؤكد لك أننا أضعنا كثيراً من الوقت لكي تحين هذه اللحظة

الثاني:   هل أنت مستعد؟

الأول:   بالطبع ... منذ زمن

الثاني:   إذاً هيا ... ولكن لا تنفذ حتى أعد الي ثلاثة، لنطلقها سوياً،

أخرج كل منهما مسدساً مخبأ بين بطنه وسرواله، وضع كل منهما فوهة مسدسه عند رأسه ... وصاح المهاجر

الثاني:   لنتقابل بعد قليل في عالم أخر أفضل يا صديقي،

         واحد .. اثنان .. ثلاثة ...............

وأطلقا في نفس اللحظة رصاصتيهما، لتنفجر رأساهما وتتطاير قطع من مخ الذي كان بجانبي، وليختفي الأخر من على مربع الشاشة، دمه يلطخ المشهد المرئي الكترونياً من أقصى شمال العالم، ودم رفيقي الأول تناثر وأختلط بدم الثاني على نفس الشاشة

الأرض من تحت قدمي تتلون باللون الأحمر ورائحة الموت تسيطر على المكان، بدون شك استطيع أن أميزها، ولكن الغريب أنها كانت رائحة كريهة .. عفنة، كأن نوع الموت الطازج في المكان، هو نوع واحد ... فريد ... من أنواع الموت، ويتسم بصفة واحده ....... القذارة      

ما أروع وأبهى وأعذب هذه الرائحة العطرة الذكية التي تغزل كل نسيج من حولي، ما أجملها وهي تسيطر على أنفي وتزين ملكة الشم في جسدي، ما أطهر هذا المكان المضيء المبهر بنوره، المتلألئ كالسهل الممتنع، ضوء قوي يأتي من كل الأنحاء لا أعرف له مصدراً، يشع كحبات الماس واللؤلؤ وكل الأحجار الكريمة المسخرة، بنور صاف شفاف، وفي نفس الوقت لا أشعر بأي حرارة كأن أغلفة من ثلج في صورته الأولى تغلف كل ما حولي بسحب ضوئية متشابكة لا يستبين عمقها.

هل أعادوني للحياة بعد مروري ناجحاً مظفراً من هذه الاختبارات الصعبة التي مررت بها غصباً؟

هي مكافأتي إذن؟

كنت أعرف منذ البداية أنني ما زلت انبش بأظافري في جدار الحياة، وأن القصة برمتها ليست الا لعبة من العاب العصر الحديث، المتبجح في وقاحته.

ولكن يبدو أنه ليس كذلك، ... هذا الجو الحالم المتسامي على كل الأجواء لم أر مثله على الأرض قط

أتكون أعتاب الجنة؟ .....

يبدو أنني ما زلت ميتاً، في حالة من الموت النادر، على قائمة الانتظار.. وأنا الذي أنتظر.

إما العودة لحياتي بدون قيد أو شرط، أو الاستقرار في بقعة النعيم بدون حساب ولا اختبارات صعبة، يكفيني ما مررت به حتى الأن

الصوت الأجش للرجل الغامض المكروه، لم يأتني حتى الأن. نقلني فقط الي هذا المكان بعد مرارة ما رأيته مؤخراً من هذين المخبولين.

هذا المكان يختلف عن كل سابقيه، حيث اعتدت سماع صوته، عندما يأتيني كهادم لكل ملذة، يقض مضجعي، ليذكرني بهول ما أنا مقدم عليه.

- هل تأخرت عليك؟

جاء من كنت أخشاه ولا أتمناه، اقتحم خلوتي وانسجامي مع نقاء المكان، ليته غاب للأبد وتركني هنا لآخر الآباد

- استأخرت قدومك .. هل أستطيع الكلام كالمرة السابقة؟

- بالطبع .... لم أتأخر عليك سهواً بل قصداً لأتركك تستشعر جلال المكان

- هي الجنة إذن

ويضحك الرجل، للمرة الأولى أسمع ضحكته

- لا .. لا .. ليس بعد، هذا المكان هو أخر تجربة ستمر بها قبل حسابك، كنت قد أخبرتك في البداية

   أنك ستفاجأ بسحبك الي حسابك بدون انذار، ولكني أخبرك الأن لتعرف وتستعد.

   هذا المكان سيشهد آخر تجوالك، سواء كنت تريد أن تفر الي حياتك من جديد وهو المستحيل ذاته،

   أو لتعرف سر الموت كما كنت تَدَّعِى كذباً، وأعتقد أنك وصلت الي سره أو كدت تصل اليه بدون

   قصد أو رغبة منك، وأرجو أن يساعدك هذا فيما أنت مقبل عليه من حساب.

   أما عن نقاء وطهر المكان فله سبب وعلّة، سترى شخصية هي أفضل ما يحب أن يراها أي ميت،

   بل ويتعلقون ويتشبثون بها لعلهم يصحبونها الي أبهى الأماكن، أبهى من مكانك هذا بكثير

- هل أعرفه؟

- نعم، تعرفه شخصياً، لم تقابله حين غادر، سمعت خبر موته فقط، ولكني أعطيك الفرصة لتعود الي

   حضرته، لتلامس جسده الحي حتى الأن وتجني ثمار صحبته ولو لدقائق لعلك تفوز بصحبته؟

   وتتمكن من عبور تلك العقبة التي تخشاها ... الحساب

- حقاً؟! ... هل يمكنني ذلك؟

- بالطبع ... كل شيء ممكن

- آتني به إذن، أرجوك .... بسرعه

يضحك مرة أخرى، هذه هي ضحكته الثانية ... فأل حسن أم نذير بالهلاك؟

- لأول مرة أراك متعجلاً .. مقبلاً على ما أفرضه عليك

- اذا كان به خلاصي، نجاتي وفوزي .. فأسرع، أريد أن أنتهي من هذا كله ... الي الراحة

   والاستقرار .. الي الخلد

رانت عدة لحظات صمت، لا أدري لماذا ترائي لي وجهه ... كأنه ينظر اليّ محدقاً بعد كلمة الخلد هذه، كأنه يعيد كل حساباته معي ويحولها من رسوب الي نجاح بدرجات فائقة.

- استعد إذن ... ستقبل على آخر مرحلة، آخر مكان ... آخر انسان، وأرجو أن أراك بعدها حيث

   تستحق ... الي اللقاء ... أيها المرحوم

*   *   *

انتقلت على الفور لمكان أخر

ازدحام شديد .. ناس كثر، خيام منصوبة، رؤوس مرفوعة الي السماء بأعناق مُشرئبة وأياد داعية مرتفعة، تطلب النجاة.

العجيب أن نفس الجو المحاط بنقاء النور الطاهر والرائحة العطرة، أو سمات الجنة كما توقعتها، موجود الأن .. رغم كل هذا الازدحام، كأن هذه الأجواء السامية قد انتقلت معي، أو أن هؤلاء البشر قد جاءوا اليّ وتخللوا بأجسادهم كل هذا العبق العنبري الرائحة الذي يملأ المكان، والأعجب أنه كلما أزداد عدد الحضور كلما ازدادت قوة الرائحة، مختلطة بنكهة جديدة .. هي رائحة المسك إن لم يخطئ أنفي.

الازدحام يزداد والأجساد تكتظ كأنه سوق كبير أو أنه يوم الحشر، أجساد الناس تتلاصق وتتلاحم .. خوفاً من شيء ما ... من خطر ما يحدق بهم ويحوم فوق الرؤوس.

ما لبث أن طال سمعي صوت انفجارات وفرقعات استطعت أن أميزها وسط صرخات بعض النسوة والأطفال، إنها طلقات رصاص، وتيرتها تزداد كثافة وقوة، وكذلك مناجاة كل هؤلاء الذين لا أرى آخر مداهم البشري على مرمي بصري.

استجارتهم بالله ومناجاتهم له بألسنة لاهثة مستغيثة، لا تتوقف ... والحالة الدرامية لكل الموقف الذي يحاصرني الأن تزداد سخونة .. وترتفع لأعلى مراتب الالتهاب.

هذا المكان ليس غريباً عليّ، رأيته كثيرا على شاشات التلفاز، ومررت عليه كثيراً في صباي، بل أكاد أجزم أن هذا الموقف تحديداً بازدحامه الكثيف هذا وامواجه البشرية، رأيته على شاشات التلفاز ومواقع الأخبار العالمية، في وقته وعاصرت بدايته ونهايته الأليمة، كنت بعيداً آلاف الأميال عنه ... خارج حدوده وحدود الوطن كله، ولكن قلبي كان معلقاً به .. متصلاً بوريد دموي خالص مخلص، كانت مذبحة ومقتلة رهيبة لأكثر من خمسة ألاف انسان.

هذا المكان بدون ادني شك وبكل تأكيد هو.... رابعه.

آآآه .... يا رابعة .. يا من أدميت قلبي وأنا بعيد.

لماذا أتيت بي الي هنا أيها الرجل المجهول؟

لماذا تفطر قلبي بإعادة هذا الحدث في ذاكرة عقلي ومركز فؤادي ... لماذا؟

اندحرت كل مقاومتي عندما تابعت مأساتها عن بعد، فما بالي أحضر وأتواجد داخل آتون لهيبها الذي يكاد ينفجر قبل المقتلة بدقائق.

الأن فهمت لماذا كانت رائحة المسك والعنبر وكل تلك الروائح الزكية تشبّع كل الهواء، إنها رائحة الهواء قبل بدء استشهادهم، أنهار دماءهم العطرة تبخرت مقدماً لتتصاعد فوق الرؤوس .. تجري بدون حائل، مسيطرة على كل ذرة هواء نتنفسه.

أجول وأتجول في شوارعها، أُملّي عينيّ بما لم اطله قبلاً، أضمخ أنفي بعبق طيبها وارتداد انفاس أهلها.

شكراً لك أيها الرجل الغامض على منحتك هذه، أعطيتني فرصة ثمينة، أن أعود الي رابعه ... مكان مقدس ترفرف حول أكنافه أرواح الشهداء، ... لابد أن اخلع نعلي.

مساكين كل هؤلاء، لا يدركون أنه بعد دقائق سيبدأ المجرمون في ذبحهم بدم بارد.

ولكني لا أعرف من هذا الذي سأقابله، أم أن الرجل أرسلني لأري مشاهد الذبح والقتل فقط؟

لا أستطيع .. ولا أقدر، اذا كنت لم أقو علي رؤية ذلك وأنا حيّ بعد المقتلة، كيف إذن سأقدر على فعلها وأنا بين ظهرانيهم.

هاتف التسامي وتقديس المكان يلح على سمعي، يحثني أن أخلع نعلي، قدماي تركل إحداهما الأخرى ... برفض واستنكار أن يستمرا ينتعلان الحذاء في حضرة هذا الرحاب الطاهر، اثنيت ساقيّ لأخلع الأيمن ثم الأيسر، عندها وجدت يداً من خلفي تمسك بذراعي قائلة:

- ليس هذا وقت صلاة يا أخي ... لا تخلع نعلك

نظرت خلفي بخجل مرتبك لأحاول تبرير ما كنت أفعله، بأي مبرر ... فاذا بي اواجه شاباً يافعاً، جميل المحيا، تتطاير من قسماته اشعاعات عجيبة، تعلن بصراحة فجة أنه ابن لموت قريب.

ادقق النظر في ملامحه، اظن أنني أعرفه إن لم تخني ذاكرتي، نعم أعرفه بكل تأكيد، كان أحد تلاميذي الذين يتعلمون مبادئ المهنة في عيادتي الخاصة قبل أن أغادر الوطن، لا أتذكر اسمه، لكنه تذكرني من فوره، احتضنني بشوق عميق قائلاً:

- استاذي العزيز ومعلمي، أنت هنا!؟ معنا في رابعه، آمنت بالله الذي جمع كل الأتقياء والأصفياء والأطهار في مكان واحد، اسمه رابعه .... الا تتذكرني

- أتذكرك بالطبع ... انت .. انت

- أنا فارس ... تلميذك المخلص المحب. هل أنت مقيم معنا في رابعة منذ البداية؟

- جئت الأن فقط

- يأبى الله الا أن يجمع ويحشر كل أتقياء النفوس الي الجنة، حتى ولو كان قبل القيامة بثوان.

   قف هنا بجانبي ولتجدل ذراعك بذراعي معاً ومع أذرع كل الأخوة هنا، يجب أن نكون درعاً بشرياً

   سريعاً للدفاع عن النساء والأطفال، نحن مقبلون على ملحمة يا استاذي، إما أن ينتصر فيها الحق

   وإما أن يكرمنا الله بالشهادة في سبيله، أنا أرجو الشهادة، أحلم بها وأتمناها حتى لو لم يشأ

   الله نصرة الحق الأن.

- أتدري يا فارس ما الذي سيحدث الأن؟

- لا أعلم بالطبع تفاصيل ما نحن مقبلون عليه، ولكن وبكل تأكيد هذا يوم الفرقان، بين كل الحق

   وأشتات الباطل.

- أنت لا تدري شيئاً يا فارس، هذه الفرقعات التي تسمعها من على البعد ليست الا البداية لمقتلة رهيبة

   ومذبحة سيتذكرها التاريخ بدموع من دم.

- هي لله .. هي لله، يا مرحى يا مرحى هذا ما كنا نرجوه وندعو به المولى سبحانه وتعالى، إما

   النصر أو أن يرزقنا الله بالشهادة، دعني أقبل رأسك يا استاذي، أنت البشير بالشهادة، اليوم أبيت

   في الجنة وأترك الأرض الفانية.

- اسمعني يا فارس، أنا جئت لأنقذك من محرقة رابعة، أنا أعرف ما لا تعرفه أنت، ستكون كارثة

   .... محرقة بكل المقاييس، أطعني وأنجو بنفسك الأن.

- أهرب ؟؟ !!! ... أتولي يوم الزحف؟ !!!

- نحن لسنا في حرب وليس هذا بالزحف العسكري

- بل هي حرب منذ الأزل، بين الحق والباطل، وهذه الجموع هي زحف كتائب الحق، انضم الينا يا

   استاذي لعلك تنعم معي بالشهادة، (هي رصاصه وبس ثانية ومش هاتحس)

- هل أنت واثق من استشهادك اليوم يا فارس؟

- وأنا أحدثك الأن، تتراءي امام عينيّ أبواب الجنة، وابتسامات وجوه ملائكتها تداعب بصيرتي بكل

   بشاشة.

- ألست خائفاً يا فارس؟

- مما أخاف وممن؟

- أنت ستموت .. ستنتقل من هذه الدنيا الي عالم آخر مجهول لا تعرفه

- لا أعرفه يقيناً هذا صحيح، لكني أمنت به غيباً، وترسب في قلب عقدة عقيدتي، لم ولن يخرج منها

   وما لم أره يقيناً يرسله الله الي بصيرتي بهواتف خاصة ليترسخ إيماني ويطمئن قلبي

- أتعرف الي أين ذاهب بعد موتك؟

- لا اسميه موتاً بل هي الشهادة، الشهيد حيّ عند ربه يرزق، لا تمسه الأرض، حُرِّم جسده على كل

   كائناتها، يظل بجسده الرطب ينزف مِسكاً بلون الدم حتى تقوم الساعة، ومن فور خروج روحه من

   جسده يصعد حياً فرحاً، مخترقاً كل السموات، والملائكة تفسح له الطريق حتى يستقر بين ثنايا

   الجنة الفسيحة العامرة، ليلتقي بكل الشهداء والصديقين والأنبياء.

- يا فارس ... أنت شاب ذكي، ماهر ... طيب القلب ولا تستحق الموت، تستحق الحياة لتعمر

   وتزدهر بأمثالك.

نظر اليّ بابتسامة صافية واثقة

- أتذكر قولك دائماً، بأن أكثرية شعبنا لا يستحق الحياة، كان عندك جزء كبير من الحق ورؤية

   للحقيقة، ولكن يشاء المولي عز وجل أن يعيش أهل الباطل أكثر مما ينبغي وأن يلحق أهل

   الحق بسموات الله العلي، لكن الله ناصر الحق بدون أدني شك، حتى لو شهدنا علو الباطل

   وتسيده، نحن لسنا الا شهداء على أقدار مكتوبة حتى نختار طريق الحق ونثبت عليه، اللهم

   ثبتني على الحق حتى أخر أنفاسي.

- يا فارس أطعني ... أنا أخاف عليك من الموت ....

   لنترك فكرة الموت، وما يدريك أن تموت من فورك؟ الا يمكن أن تصاب بعاهة مستديمة، الا تفكر

   في أي الم أو عذاب قد يلحق بك، قد يقصر أو يطول حتى يأتيك الأجل

- أستاذي، أقدر خوفك علىّ، ولكني ذاهب الي من هو أفضل مني ومنك، أنا ذاهب الي الخالق، الي

   المكان النهائي الذي يرجوه ويأمله كل عابد، الجنة ... وهي أفضل بلا شك، يكفي أننا سنبقي فيها

   للأبد بدون نهاية ... أبد سرمدي، الا تستحق الجنة منا أن ننسي أي شيء في سبيلها؟

   ما قيمة أي الم أو معاناة طالت أو قصرت.

   إن طالت فالله هو من يلهمنا الصبر والاحتمال وستنتهي على أي حال، اما إن قصرت فالألم الذي

   ذكرته هو مجرد لحظة واحدة فقط .. نشعر بها كوخز الابرة، ثم تفيض أرواحنا وتصعد محلقة الي

   الجنات.

- هل كل من هنا يفكر بنفس طريقتك؟ هل ينتظرون الموت كشهداء؟ هل كلهم مثلك يا فارس؟

   ..... أنا مثلاً

- أتمناها لك يا سيدي، وأرجو أن تتمناها أنت داخل سريرتك، الكل يتمناها هنا ولا شك، ولكن الله

   سبحانه كما قال ..... يتخير منا من يستحقها، وإن كان هناك من لم يستحقها الأن فربما فيما

   بعد.

- وما هي في رأيك شروط الشهادة؟

- لا أدري يقيناً ما هي شروطها، فالله أعلم بسريرة وقلوب العباد ... ومن يستحقها بعاجل أو آجل حياته

   ولكن على حد علمي البسيط وفطرتي فإن من ينال الشهادة يُعْرَف عنه في حياته الأرضية نقاء

   السريرة، وإغاثة كل ملهوف، ومساعدة كل محتاج، والدعاء بالخير للجميع حتى من يؤذيه، وتحاشي

   المراء والبعد عن الجدل حتى ولو كان محقاً، ولا ينتقم من أي شخص حتى ممن آذوه، كأن الغل قد

   أُنتزع من قلبه نزعاً، كتمهيد إلهي ليكتسب صفة أهل الجنة كما ذكرها الله (ونزعنا ما في قلوبهم من

   غل).

- خلاصة قولك أنك ترفض الحياة، .... رابعة ستحترق بعد قليل ... أنا أعرف ما لا تعرفه يا فارس،

   أنا قادم اليك من سحيق الأزمان.

- على العكس يا استاذي، أنا أطلب الحياة، الحياة الحقيقية التي ليست موجودة هنا، ليتك تنزع عن

   نفسك هذه النظرة المادية القصيرة للحياة، ساعتها سترى الأمر كله بشكل أخر، هو الحقيقة ذاتها،

   وقتها سترجو ما أرجو.

   إذا كنت كما ذكرت أنك آت اليّ من زمن فائت مسحوق، فهيا بنا سوياً الي زمن أخر ... تحت

   العرش، لا يدخل في رحابه انس ولا جن الا من أذن له الرحمن، لا يصيب أهله أي مكروه، زمن

   لا يطوله سحق ... يعتلي كل الكون.

   هيا يا استاذي معي ... هيا ... إجدل ذراعك معي، ولنفتح صدورنا سوياً لنحمي الحق ولنظفر

   بالشهادة ... هيا.

أمسك فارس بذراعي، ثم شبكه بذراعه حتى لا أتركه، كالخيط يقبض ثقب سم الخياط، اشتبك ذراعي الأخر بذراع شاب آخر على يساري.

أخذت أراجع في عقلي وذاكرتي الطازجة ما قاله فارس منذ لحظات عن صفات الشهداء، أُقيّم نفسي وأقارنها بأي صفة منهن، أجد صعوبة في إيجاد أي تماثل ولو ضئيل.

اذا كان ما قاله فارس هو الحق فأنا أريد مصاحبته .. أريد أن أنجو...

الأن فقط تأكدت أنني ميت وأنني أُعرض على حياة سابقة ومشاهد لم أشهدها، لاستعرض زلاتي ... التي سأسأل عنها بعد قليل.

فارس ... أيها الفارس المغوار، الا تأخذني معك، الا تمسك بعنقي غصباً وتسحب جسدي معك ولو سحلاً على أي أرض تمشي عليها وتعطر ثراها بقدميك ... الا تأخذني الي الجنة؟

هل تظل هكذا عاقداً ذراعك بذراعي حتى أشم ريح الجنة كما شممتها بجسدك المتعطش للشهادة؟

الا تُنقِذَني من موت فاجئني وحياة عارضة نادمة؟ استنكفت من قبل وها هي تطأطأ رأسها الأن خجلاً؟!  

يا فارس أجبني ... يا فارس قبل المقتلة .. أجبني

أصوات الرصاص تقترب وتزداد ويعلو ضجيج نارها

نظرت الي يميني، فارس يرفع رأسه الي السماء بابتسامة نقية صافية ويهمس (الله أكبر)

رصاصة تخترق رأسه ... بين عينيه ويسقط.

أسقط معه ... كل من حولي يسقطون ... يختلط المشهد وتنتثر الدماء ... ويتسيد عطر المسك كل الأجواء.

*   *   * 

لابد لكل شيء من نهاية

لكل نهاية موت، موتة واحدة تنهي ذات النهاية.

حتى ملك الموت عندما يقبض كل الأرواح، لابد له من نهاية، تقبض روحه ... هكذا عرفت وتعلمت

واثق من موتي القديم؟

نعم أثق. ولم يعد للشك أي خاطر مخالف مزاحم.

أنتظر حساباً مؤجلاً، لم يقض قضاؤه في أمري؟

نعم أنتظره ... وأقبل عليه يروح مرتجفة من حساب عسير، أحلم بمروري منه غانماً، بشائر الغنيمة تتواري وتقدم بدلاً منها نذر الخزي والهزيمة.

محظوظ بمروري السابق بأثر الرجوع لحياة فائتة؟

مررت .... ولكن هل حالفني الحظ فعلاً، أم غمرني تطير الشؤم؟

كنت كالسجين الخارج من سجنه تحت نظر العدالة، شمموه هواء الحرية ليدلي ويشرح تفاصيل جريمته التي أقر بها بجهل منه، خرج تحت أعينهم في مهمة محددة، ولوقت معلوم حده، مبطناً في نفسه نية الهروب.

ولكن سجانوه يعرفون قرارة نفسه أكثر منه، أحكموا حركته، ليعود .. وليلقي مصيره ... الإعدام شنقاً وهي أكثر أحكامهم رحمة.

كنت أبحث عن ثقب صغير، حتى وإن كان ثقب إبرة، لأفر عائداً الي الحياة، وكذبت بقولي انني أريد أن أعرف سر الموت.

رغماً عني أُخبرت بسر الاثنين معاً، الحياة والموت ولكن بدون حياة.

ما أنا فيه الأن، غارق في وحله، رافض لوجوده، خائف مرتعد من حسابه، هو الموت ثم الموت وفي نهايته ... الموت.

ماذا سيحدث لي بعد قليل؟

أين صوت الرجل الغامض؟

أنا في الظلام مرة أخرى، ولكن أحس بجسدي كاملاً مكتملاً، بارد لحمه ... طازج، كأنني ميت للتو، لم أعد عجب ذنب كما كنت.

متوتر ... خائف، أصابع يدي وباطن كفي يتعرقان بعرق غزير فياض، كأنني في عنفوان الحياة.

أستطيع أن احرك أطرافي، ذراعي .. يدي، كفي، ساقي، أصابع قدمي.

ما دلالات ذلك كله؟ هذه الاحتفالية الجسدية بإحداثياتها ... لا أستشعر الخير ... قلبي يخفق ويخفق كأنني حيّ، أو ربما أنا فعلاً حيّ ... أم ماذا؟

اصرخ من داخل عقلي باستغاثة باسلة ...

ماذا تنتظرون؟ ... ما هو القادم؟ ... أريد النجاة

- هل أنت مستعد الأن؟

أخيراً ... الصوت الأجش للرجل الغامض، ظهوره لي رحمة من عذاب القلق والمصير الغامض المنتظر

- كنت أنتظرك

- هل أنت على استعداد لحساب قبرك؟

- نعم ... قطعاً ... بالطبع أنا مستعد

أقولها بتردد مرعوب وباصطناع مكشوف، أكذب مرة أخرى لأداري عيبي وعورة نقيصتي

الكِبْر.... الكبر هو مفتاح خراب النفس البشرية، هو الذي تسبب في بداية قصة الحياة، عندما تكبّر إبليس ورفض أن يسجد لأدم

- هل استزدت من رحلتك أو رحلاتك القصيرة لتستعد لما أنت مقبل عليه من مشهد مصيري فاصل

- نعم ... استزدت

لا أدري لماذا بدأت نفسي تخلد للراحة والهدوء، بدأ لساني يتحرك بدون رنين التردد الخائف، لقد وصلت الي أعتاب النهاية، وليكن ما قدر الله ... هو الرحمن ... وهو الرحيم .. وهو الأعلم بحياتي .. سريرتي وحالي.

كيف تسارعت هذه الكلمات اليّ قفزاً في هذه اللحظات الأخيرة قبل ما قبل النهاية.

حلت على السكينة كاملة، الثقة الواثقة والأمل في الرحمة .. وتراءى امام عينيّ ميزان حسناتي مائلاً نحو الصلاح والفوز

- هل تريد أن تعود مرة أخرى، لتكتسب حسنة أو لتحط عنك خطيئة أو لتمحو ذنباً قد ارتكبته

- لم يعد بي حاجة لذلك، لقد فهمت سر اللعبة ... سر الحياة وحكمة الموت.

   خذني الي حسابي، أنا استبشر كل الخير.

   لأمر من هذا الحساب الأخير، لأرقد بنعيم ونعمة الله في خيره وجنته، حتى يُنفَخ في الصور لنحشر،

   ويأتي الحساب الأكبر الذي ليس بعده حساب

- أنت واثق إذن من نتيجة الحساب

- أنا مستبشر بالخير، أأمل برحمة الرحمن، مُسَلِّم بقدره، حامد لقضائه، ناظر الي جنته، أصرف نظري

   عن ناره وأغضه عن مشاهد عذابها

- أحسنت الإجابة ... سأتركك الأن، لا أجد ما أقوله لك الا ... استودعك الله وأتمني أن أراك قريباً

   في أحسن حال

- ألن تذهب معي؟ أتتركني؟ .. ظننت أنك تعرف مصيري؟

ماذا فعلت بحق السماء !! ... أفسدت كل ما قلته للتو، لوثت لحظاتي الأخيرة المزدانة بنفحتها الايمانية، تماماً مثل نبي الله يوسف عندما رأى ساقي الملك وهو خارج من السجن فقال له (أذكرني عند ربك، فلبث في السجن بضع سنين).

اختفي صوت الرجل واختفي أثره من هواء ثقيل كان يطبق على المكان، وأنا أحاول أن أزيل أثر آخر خطيئة ارتكبتها بفعل وساوس إبليس، حتى لا أظل في سجني هذا أكثر من ذلك ...

لساني يتحرك بذاته، خارجاً عن طوعي ... ناطقاً ..

استغفر الله ... استغفر الله ... استغفر الله ...

*   *   *

غارق مستغرق في تسبيحي، غير مبال بسكون قبري وظلمته، انتظر المجهول الذي يخافه كل مؤمن متيقن ويجهله كل من ارتمي في أحضان هواه طيلة عمره.

تسبيحي يزداد ويعلو، يزيل أثر الظلمة والسكون، لذلك لا أبالي بهما.

هدوء غريب يكسوني وسكينة تمتد بأمواجها لتلون نفسي بالثقة والطمأنينة واليقين من أنني سأجتاز هذا الامتحان رغم قمة صعوبته.

الأن ... أسمع قرع نعالهما يأتي من بعيد، من أفق قبري الذي لا أحس لظلمته أي بعد

... حانت اللحظة ....

وقع خطواتهما يزداد ويقوي، يعلو و .. يقترب

جسدي كله يتعرق بحبات عرق باردة، وقلبي يكاد يخرق صدري ليفر، ولكن في داخلي ما زال الهدوء هو السائد ويقيني هو المسيطر.

وفجأة من عمق ظلام المكان العميق، قنبلة ضوئية كأنها قنبلة ذرية تغير شكل الظلمة ولا تترك ذرة سواد فيها.

شظايا ضوئية كثيرة كثيفة تعمي البصر وتفزع البصيرة، ثم تخبو .. وتهدأ حمية الضوء المتوحش وتستقر على خليط من الظلمة الخافتة والضوء الكافي.

... وأفاجأ بهما ...

عن يميني ويساري، كائنان عملاقان كأنهما اخترقا سقف القبر المتدني أو أن سقفه قد استطال وتمدد ليسعهما.

تخاف رأسي وتأبي أن تلتف لتتحقق من أي منهما، ما استطعت لمحه هو لونهما الأزرق المختلط بالسواد، عيونهما تتوهج كمراجل نحاس منصهر، أظافرهما الحادة تلمع كأنياب حادة لحيوان اسطوري لم أره من قبل ولم أتخيله.

عماد اللحظة وعصب الموقف يدعو للرعب والموت قبل حساب الموت، ولكني هادئ ثابت.

أمسكا بذراعيّ وكتفيّ، مقابض حديدية أمسكت بعظمي لتطحنه طحناً، رفعاني لأعلى وتركاني في وضع الجالس ورأسي مسندة .... الي ماذا؟ لا أدري ولكني استشعر حاجزاً صلباً حديدياً من خلفي يكاد يقسمني الي نصفين.

الأن أستطيع أن أراهما بوضوح وأن استجمع ملامحهما المرعبة، القاتلة بالرهبة بدون أن نموت.

من على يميني يمسك برقبتي، ابتلعها تماماً داخل كف يده الحديدية .... ويتكلم، كأنه الرعد فرغ من تسبيحه وأعلن غضبه ليبيد كل الكائنات هلعاً

- أتدري من نحن؟

- انتما المبشر والبشير

الأيسر يقبض على صدري، أحس أظافره تصل لحواف قلبي وتعصره، الم شديد ... ولكني ما زلت أتحلى بالثبات أو أنني ازدان به ولا أدري كيف؟ .. كيف في مثل هذا الموقف ..... ويتحدث الأيسر

- خطأ، هو منكر وأنا نكير

   منكر لمن أنكر هذا اليوم وهذه اللحظة، ونكير لمن فاته الثبات.

رقبتي وقلبي ما زالا بين اياديهما الحديدية واظافرها الحادة ... ويعاود الأيمن

- من أين لك هذا الثبات؟ .. الا تخاف؟

- ألهمني الله الثبات والاستعداد لمقدمكما

ويعاود الأيسر

- عندما قُبضت روحك لم تكن بهذا الثبات

- أُكرمت باسترداد ما فاتني بعد الموت حتى القاكما، مُبَشر بالخير وبشير بجنات العفو

الأيمن يعصر رقبتي، تكاد رأسي تنخلع وتسقط، يهزني كغصن شجرة يابس في منتصف الخريف، تتساقط كل أوراقه.

زلزال يضربني من داخلي، أري ظلمة القبر المستنيرة تتأرجح كذبذبات ريختر، يصرخ فيّ بعنف، صوته أحسه يحطم كل الجنبات

- ما دينك؟

وبكل التمكن والثقة المسترخية أُجيب

- أنا مسلم ... ديني الإسلام

ويهزني الأيسر ممسكاً بقلبي الذي أظنه قد تمزق بين أظافره

- هل أنت متأكد؟ ... ما دينك؟

- كنت أعرف أنكما سترددان السؤال، أخبرني الله بذلك وثبتني ... أنا مسلم، رأسي الواثقة بقبضة مبشر

   وقلبي الثابت بين رحى أصابع البشير

تتراخي قبضتيهما شيئاً بسيطاً، ولونهما الأزرق القاتم يبدأ في التغير الي لون السماء الصافي المزرق بحياء، وملامحهما تتغير الي الأبهى وخُيّل اليّ أنهما يبتسمان.

الأيمن يهزني مرة ثانية لكن بعنف أقل

- من ربك؟

- ربي الله ولا إله غيره، هداني اليه وألهمني معرفته

ويهزني الأيسر هو الأخر بعد أن قَصُرت أظافره وأناخت

- هل أنت متأكد؟ .. من ربك؟

- ربي الله يا أخوتي، وهو ربكما وهو من يثبتني امامكما

الضوء المبهر يبدأ في غمر الظلمة التي أراها في طريقها للتواري والانقشاع.

الاثنان يتغيران كليةً بعد ذكر اسم الله، الي صورة أخري أكثر رقة وليونة ويتحولان الي اللون الأزرق المشبع بالضوء ... في طريقهما الي اللون الأبيض.

ملامحهما .. ذاتٌ أخرى وهوية مختلفة

أري بشاشة وجهيهما بدون شك.

الأيمن يهزني بمنتهى الليونة أظنها هزته الأخيرة، كأني كفل في مهد يرقد في حضنه

- من هو الرجل الذي بعث فيكم؟

- محمد ... أحببته دون أن أراه .. صلى الله عليه وسلم

الأيسر يمسح على رأسي برفق، بيد ناعمة، ويهدهدني بالأخرى بعد أن نزعها من صدري

- أعد لي ذكر اسمه

- محمد ... محمد ولا شك، أقولها وأثبتها وأقرها

الأثنان يمسكاني برفق وحرص وقد تغيرا كليةً الي كائنين مختلفين،

يمسكان بتلابيبي وهما يهزان الهزة الأخيرة ... وبصوت واحد

- ما اسمك؟

- اسمي ... اسمي ... أنا ... أنا

*   *   *

- من أنت؟؟ ... قل من أنت؟

يسألني ثم يصفعني بقوة، يسألني مرة ويصفعني ثلاث مرات وأنا لا أجيب.

لا أراه، أسمع صوته وأحس وقع أصابع يده الفظة على وجهي، أريد أن أجيب ولكن سؤاله الذي يلاحق صفعاته لا يمهلني.

- من أنت ... أفق .. أفق

ويصفعني ثانية صفعة أقوى من كل سابقاتها جعلتني أفتح عينيّ

الدنيا غائمة ... ملبدة ... قاتمة

تنقشع غيومها ببطء لأرى فوق رأسي وجوه عديدة كلها غريبة، ذات ملامح أسيوية، صينية بالأخص.

وجهان مألوفان لدي ذاكرتي، أحدهما لم يلاحظ بزوغ بصري فهوى بكف يده الغليظة مرة أخرى على وجهي قائلاً:

- أفق ... من أنت؟

عندها انفتحت عيناي على مصرعيهما، قال الأخر بصوت ووجه مألوف أيضاً

- الحمد لله لقد استفاق

أحرك رأسي يمنة ويسرة، سعلت بقوة كأنني كنت أغرق في عمق بحر عميق غائر غامق، أحاول أن استجمع كل الصورة بكل من يحيطني.

إنهما رفيقاي اللذان سافرا معي الي الصين ...

أحاول أن أتكلم .. أحرك لساني بصعوبة، ابذل مجهوداً كأنني استمسك بلوح خشبي ينجيني من الهلاك غريقاً وسط أمواج محيط معترك الأمواج في عنفوان عاصفته الموسمية .... أخيراً أنجح في النطق

- أين أنا؟؟ ... هل أنتم جميعاً أموات مثلي؟ هل أنتم معي الأن في الجنة؟

   أين المبشر والبشير، اختفيا مباشرة قبل أن يفتحا الباب الذي يفضي الي روضتي الخالدة، القادمة من

   الجنة.

تنغم أحد رفيقاي وتنحنح وقال:

- حمداً لله على سلامتك، عندما دخلت الي الجهاز .. تعطل وتوقف عمله، وظل الصندوق الخشبي

   محشوراً داخله، معيقاً لسير دورة الجهاز لأكثر من ستة ساعات.

   صديقنا الذي خاف من دخول الجهاز والقاك داخله، ها هو ... نادم على ما فعل، لا تدري ماذا فعل

   لإنقاذك، أقام الدنيا وأقعدها ... الشرطة والمطافئ .. مصورو الصحافة والتليفزيون ... كلهم هنا،

   الخبر انتشر في كل مكان، حتى السفارات والبعثات الدبلوماسية.

   المحطات الإخبارية الكبرى تنتظرك لتحكي عن تجربتك.

- هل أنا حيّ؟ .. هل أنت متأكد؟ .. لم أمت بعد، أم أنني ما زلت داخل الجهاز في مرحلة أخرى ..

   نفق أخر؟

نظر الي وجهي رفيقي الأخر بقسمات يكسوها الخجل

- سامحني ... اغفر لي .. لم أقصد ابداً ايذائك، أنت حيّ يا أخي .. تتنفس مثلنا، لم أكن لأسامح

   نفسي ابداً لو كنت مت داخل هذا الجهاز اللعين، الحمد لله .. اللهم لك الحمد.

نظر اليّ رفيقي الأول وقد استرد أنفاسه واستعاد لون وجهه على ما يبدو من زرقة وسواد الرهبة الي لونه القمحي المعتاد

- هيا يا صديقي .. انهض، قم .... أنت حيّ بفضل الله، قم لتحكي للعالم الذي ينتظرك بالخارج،

   تجربتك ... تجربة العودة للحياة بعد موت مؤقت متمدد غير مبرمج، من المؤكد أن شخص مثلك

   بثقافته، عنده الكثير ليحكيه.

نظرت الي رفيقي .. وأدرت رأسي لأرى الأخر، مسحت كل المكان بعينيّ كل الوجوه المتطلعة المشرئبة

ابتسمت نصف ابتسامة مكسورة، وقلت بهدوء ويقين ثابت، تماماً مثل الذي كان يعتريني منذ دقائق معدودة

- نعم ... سأحكي، سأحكي مروري من ثقب الابرة، من الموت الي الحياة ثم الي الموت مرة أخرى،

   لأنتظر أن أعود الي الحياة الحقيقية ثانيةً ......

   من نفس ثقب الابرة.

وسوم: العدد 892